الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الأنبياء» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الآية ٣].

أقول : أكثر النحويون في الكلام على هذه الآية فقالوا : «الواو» فاعل ، و «الذين» بدل.

وقالوا : «الذين» فاعل ، «والواو» ليس ضميرا.

وقالوا : هي لغة.

أقول : القول إنّها لغة مقبول ، ولكنّي أقول أيضا : إنّ هذه المسألة ليست «لغة» ومعنى ذلك أنها شيء خاصّ ، بل ربّما اتّجه القول اتّجاها حسنا ، لو قلنا إنّ مجيء الفاعل اسما ظاهرا ، مع تحمّل الفعل «إشارة» أو «علامة» لهذا الفاعل في أنه مثنّى أو جمع ، أسلوب من أساليب العرب ، أخذ في الزوال والنقص في عصر القرآن ، فجاء منه شيء قليل ، والآية شاهد على ذلك.

٢ ـ وقال تعالى : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) [الآية ٥].

والمعنى : أنّ الكافرين قالوا : إنّ القرآن تخاليط أحلام ، رآها النبيّ (ص) في المنام.

وأريد أن أقف وقفة قصيرة على قوله تعالى : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) فأقول : «الضّغث» : قبضة حشيش مختلطة الرّطب باليابس ، وهذا يعني أنّ «أضغاث الأحلام» رؤيا لا يصح تأويلها ، لاختلاطها.

والقول البديع في هذا التركيب ، إضافة المادي إلى المحسوس. وهو

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٨١

«الأضغاث» إلى المعنويّ ، وهو «الأحلام» بمعنى الرؤيا للشبه بينهما وهو الاختلاط.

٣ ـ وقال تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) (١١).

أريد ب «قرية» أهل القرية ، ومن أجل ذلك وصفت بأنها «ظالمة» ، ثم قال تعالى : (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) (١١).

أقول : ودلالة «القرية» على «أهلها» كثير في القرآن ، ومنه :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) [الأعراف].

وقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢].

وأمّا دلالة القرية على المكان فكثير أيضا ، وقد ورد في آيات كثيرة.

٤ ـ وقال تعالى : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) [الآية ١٣].

والمراد : وارجعوا إلى ما نعمتم فيه من العيش الرّافه ، أي إلى نعمكم التي أترفتكم.

٥ ـ وقال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ) [الآية ١٨]. أي : أنّنا ندحض الباطل بالحق ، واستعار القذف والدمغ تصويرا لإبطاله ، وإهداره ، ومحقه.

وأصل الدّمغ الشّجّ ، يقال دمغه حتى بلغت الشّجّة الدّماغ.

أقول : واستعارة «الدمغ» في هذا الخصوص استعارة جميلة ، لإحكام تصوير حقيقة محق الباطل بالحقّ.

٦ ـ وقال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩).

وقوله تعالى : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩).

أي لا يعيون ، عن قتادة والسّدّيّ.

وقيل : لا يملّون ، وقيل : لا ينقطعون ، مأخوذ من البعير الحسير ، المنقطع بالإعياء.

٧ ـ وقال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الآية ٢٢].

أقول : الضمير في قوله تعالى : (فِيهِما) ضمير الاثنين يعود إلى (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في الآية ١٩ : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

فقد عدّت «السماوات» أحد جزأي المثنّى نظير «الأرض» فجاء الضمير

٢٨٢

كناية عنهما ، ولم يلتفت إلى أن «السماوات» جمع.

ومثل هذه المسألة ما ورد في الآية ٣٠ : من السورة نفسها ، وهي :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما).

٨ ـ وقال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الآية ٣١].

أي : كراهة «أن تميد بهم».

أقول : وحذف المصدر المبيّن للسبب ، وهو المفعول له ، ورد في لغة القرآن التماسا للإيجاز ، وهو مطلب من مطالب البلاغة ، وأنه يلمح في المعنى ، ومن ذلك قوله تعالى :

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥ ولقمان : ١٠].

أي : كراهة أن تميد بكم.

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) [الإسراء : ٤٦].

والتقدير كراهة أن يفقهوه.

٩ ـ وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣).

وفي قوله تعالى : (يَسْبَحُونَ) (٣٣). إضافة فعل العقلاء إليها ، سوّغ مجيء الواو والنون ، كما قال سبحانه : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) [يوسف].

١٠ ـ وقال تعالى : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الآية ٥٧].

أي لأدبّرنّ في بابهم تدبيرا خفيّا يسوؤكم ذلك.

والفعل «كاد يكيد» فعل متعدّ ، كما في الآية ؛ وقد يطوى المفعول به ، كما في قوله تعالى :

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) [يوسف : ٧٦].

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً) (١٦) [الطارق].

والكيد التدبير بباطل أو حقّ.

والكيد الخبث والمكر.

١ ـ وقال تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) [الآية ٧٧].

«السّوء» : بفتح السّين هو المصدر ، أمّا الاسم فهو السّوء بالضّمّ.

١٢ ـ وقال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ

٢٨٣

إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) [الآية ٧٨].

وقوله تعالى : (نَفَشَتْ) ، أي : تفرّقت ليلا. ونفشت الغنم والإبل : رعت ليلا بلا راع ؛ وهذا معنى نادر للفعل «نفش» ، لأنّ النفش تشعيث الشيء بأصابعك حتّى ينتشر.

والنّفش ، بالتحريك ، الصوف والخصب.

١٣ ـ وقال تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [الآية ٨٧].

أي : أنّه «مغاضب» لقومه ، فقد أغضبهم بمفارقته ، لخوفهم حلول العقاب عليهم.

أقول : والمزيد «غاضب» ممّا لم يتيسّر لي أن اقف عليه في غير لغة التنزيل.

١٤ ـ وقال تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦).

الحدب : النشز من الأرض ، أي : المرتفع.

وقوله تعالى : (يَنْسِلُونَ) (٩٦) ، أي : يظهرون ويسرعون.

أقول : وفي لغة المعاصرين يقال : جاءوا من كل حدب وصوب ، أي : جاءوا من كلّ جهة ، وكثيرا ما يخطئون فيسكنون الدال من «حدب».

وكأنّ أصل العبارة ، أنّها قابلت بين «الحدب» وهو النشز المرتفع قليلا ، وبين «الصّوب» الذي يدل على الانصباب والانحدار ، وهو ضدّ التصعيد ، وهو الإصابة والتصوّب أيضا.

١٥ ـ وقال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨).

قلنا : قرأ ابن عبّاس : حضب جهنم بمعنى الحصب. وهو ما يحصب به ، أي يرمى كالحصى ، وهو المحصوب من باب فعل بمعنى مفعول مثل السّلب ، والحلب ونحو هما.

وقرئ : «الحصب» بإسكان الصّاد ، وهو من باب الوصف بالمصدر.

وقرئ : حطب بالطاء.

ومن المفيد أن نقول : إن «حضب» بالضاد المعجمة ، هو الحطب في لغة اليمن.

٢٨٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الأنبياء» (١)

قال تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) [الآية ٣] كأنّه قال (وَأَسَرُّوا) ثم فسّره بعد فقال : هم (الَّذِينَ ظَلَمُوا).

وقال تعالى : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣) بتذكير الأصنام ، وهي من الموات ، لأنّها كانت عندهم ممّن يعقل أو ينطق.

وقال تعالى : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) [الآية ٨٢] بتذكير الشياطين ، الذين ليسوا من الإنس ، إلّا أنهم مثلهم في الطّاعة والمعصية. ألا ترى أنك تقول «الشياطين يعصون» ولا تقول : «يعصين» وإنّما جمع (يَغُوصُونَ) و (مِنَ) في لفظ واحد لأن (مِنَ) في المعنى لجماعة. قال الشاعر (٢) [من الكامل وهو الشاهد الثامن والأربعون بعد المائتين] :

لسنا كمن جعلت إياد دارها

تكريت تنظر حبّها أن يحصدا (٣)

وقال (٤) [من المتقارب ، وهو الشاهد التاسع والأربعون بعد المائتين] :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو الأعشى ميمون. ديوانه «الصبح المنير ١٥٤» واللسان «منن». وقيل هو المتلمّس «الصحاح» «منن».

(٣). في الصحاح واللسان ، ومعاني القرآن ١ : ٤٢٨ و ٤٠٣ و ٣ : ٢٥٦ ب «حلّت» بدل «جعلت» ؛ وفي الخصائص ٢ :٤٠٢ و ٣ : ٢٥٦ ب «ترقب» بدل «تنظر» ؛ وفي المخصّص ١٣ : ١٨٩ ب «تمنع» بدل «تنظر» ، وفي الديوان «إياد» و «تمنع».

(٤). نقله في البحر ٦ : ٣١٣ ، والجامع ١١ : ٢٨٩.

٢٨٥

أطوف بها لا أرى غيرها

كما طاف بالبيعة الرّاهب

فجعل «الراهب» بدلا من «ما» ، كأنّه قال «كالذي طاف» وتقول العرب : «إنّ الحقّ من صدّق الله» أي : «الحقّ حقّ من صدّق الله».

وقال تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٣٧) يقول : «من تعجيل من الأمر ، لأنّه سبحانه قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] فهذا العجل كقوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل / الآية الأولى] وقوله سبحانه (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٣٧) فإنّني (سَأُرِيكُمْ آياتِي) [الآية ٣٧].

وقال تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً) [الآية ٣٠] باعتبار أن السماوات والأرض صنفان ، كنحو قول العرب (١) «هما لقاحان سودان» وفي كتاب الله عزوجل (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] وقال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخمسون بعد المائتين] :

رأوا جبلا فوق الجبال إذا التقت

رؤوس كبيريهنّ ينتطحان (٢)

فقال «رؤوس» ثم قال «ينتطحان» وذا نحو قول العرب «الجزرات» و «الطرقات» فيجوز في ذا ، أن تقول : «طرقان» للاثنين «وجزران» للاثنين. وقال الشاعر (٣) [من الكامل وهو الشاهد الحادي والخمسون بعد المائتين] :

وإذا الرّجال رأوا يزيد رأيتهم

خضع الرّقاب نواكسي الأبصار

والعرب تقول : «مواليات» و «صواحبات يوسف» فهؤلاء قد كسروا فجمعوا «صواحب» ، وهذا المذهب يكون فيه المذكّر «صواحبون» ونظيره «نواكسي». وقال بعضهم «نواكس» في موضع جرّ ، كما تقول «جحر ضبّ خرب».

وقال تعالى : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٧١ ، والجامع ١١ : ٢٨٢.

(٢). ورد عجزه في الخصائص ٢ : ٤٢١ ، والخزانة ٢ : ٢٠١ ؛ وورد بتمامه في ٢٠٢ بلفظ «رأت» بدل «رأوا».

(٣). هو الفرزدق همّام بن غالب. ديوانه ١ : ٣٧٦ ، والخزانة ١ : ٩٩ ، والكتاب ، وتحصيل عين الذهب ٢ : ٢٠٧.

٢٨٦

أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الآية ٨٧] أي : لن نقدر عليه العقوبة ، لأنه قد أذنب بتركه قومه ، وإنّما غاضب بعض الملوك ، ولم يغاضب ربّه ، كان بالله عزوجل ، أعلم من ذلك (١).

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٧٧ ، والجامع ١١ : ٣٣٠.

٢٨٧
٢٨٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الأنبياء» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الآية الأولى] ، وصفه بالقرب ، وقد مضى من وقت هذا الإخبار زمن طويل ، ولم يأزف يوم الحساب بعد؟

قلنا : معناه الأوّل : أنه قريب عند الله تعالى ، وإن كان بعيدا عند الناس ، كما قال تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً) (٧) [المعارج] وقال تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧) [الحج]. الثاني : معناه أنه قريب بالنسبة إلى ما مضى من الزمان. كما قال (ص) «إن مثل ما بقي من الدنيا في جنب ما مضى ، كمثل خيط في ثوب». الثالث : أنّ المراد به قرب حساب كلّ واحد في قبره إذا مات ، ويؤيّده قوله (ص) «من مات فقد قامت قيامته». الرابع : أنّ كلّ آت قريب ، وإن طالت أوقات استقباله وترقّبه ، وإنّما البعيد الذي وجد وانقرض ؛ ولهذا يقول الناس إذا سافروا من بلد إلى بلد ، بعد ما جعلوا البلد الأول وراء ظهورهم : البلد الثاني أقرب ، وإن كان أبعد مسافة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الآية ٢] والذكر الآتي من الله تعالى هو القرآن ، وهو قديم لا محدث؟

قلنا : المراد أوّلا محدث إنزاله. ثانيا : أنّ المراد به ذكر يكون غير القرآن ، من مواعظ الرسول (ص)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٨٩

وغيره ؛ ونسب إلى الله تعالى لأن موعظة كلّ واعظ بإلهامه وهدايته. ثالثا : أنّ المراد بالذكر الذاكر ، وهو الرسول (ص) ، ويؤيّده قوله تعالى في سياق الآية (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الآية ٣]. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) [الآية ٢] أي إلّا استمعوا ذكره وموعظته.

فإن قيل : النّجوى المسارّة ، فما معنى قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) [الآية ٣]؟

قلنا : معناه بالغوا في إخفاء المسارّة ، بحيث لم يفطن أحد لتناجيهم ومسارّتهم ، تفصيلا ولا إجمالا ؛ فإنّ الإنسان قد يرى اثنين يتسارّان ، فيعلم من حيث الإجمال أنّهما يتسارّان ، وإن لم يعلم تفصيل ما يتسارّان به ، وقد يتسارّان في مكان لا يراهما أحد.

فإن قيل : لم قال تعال لمشركي مكّة : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [الآية ٧] يعني فاسألوا أهل الكتاب عمّن مضى من الرسل ، أكانوا بشرا أم ملائكة؟ مع أنّ المشركين قالوا ، كما ورد في التنزيل : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سبأ : ٣١].

قلنا : هم وإن لم يؤمنوا بكتاب أهل الكتاب ، ولكن النقل المتواتر من أهل الكتاب في القضيّة العقلية ، يفيد العلم لمن يؤمن بكتابهم ، ولمن لا يؤمن به.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) ، والاستحسار مبالغة في الحسور وهو الإعياء ؛ فكان الأبلغ في وصفهم ، أن ينفي عنهم أدنى الحسور أو مطلقه ، لا أقصاه؟

قلنا : إنما ذكر الاستحسار ، إشارة إلى أنّ ما هم فيه ، من التسبيح الدائم ، والعبادة المتّصلة ، يوجب غاية الحسور وأقصاه.

فإن قيل : قوله تعالى : في وصف الملائكة (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦). إلى قوله تعالى : (مُشْفِقُونَ) (٢٨) يدلّ على أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، فإذا كانوا لا يعصون الله تعالى ، فلم يخافون حتّى قال سبحانه : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢٨)؟

قلنا : أولا : لمّا رأوا ما جرى على إبليس وعلى هاروت وماروت من القضاء والقدر ، خافوا من مثل ذلك. ثانيا : أنّ زيادة معرفتهم بالله ، وقربهم في محلّ كرامته ، يوجب مزيد خوفهم ، ولهذا قال أهل التحقيق : من كان بالله أعرف ، كان من الله أخوف ؛ ومن كان

٢٩٠

إلى الله أقرب ، كان من الله أرهب. وقال بعضهم يا عجبا من مطيع آمن ، ومن عاص خائف.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الآية ٣٠] وهم لم يروا ذلك؟

قلنا : معناه : أو لم يعلموا ذلك بأخبار من قبلهم ، أو بوروده في القرآن الذي هو معجزة في نفسه ، ونظيره قوله تعالى للنبي (ص) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٤١] وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] ، ونظائره كثيرة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الآية ٣٠] مع أن الملائكة أحياء والجنّ أحياء ، وليسوا مخلوقين من الماء ، بل من النور والنار ، كما قال تعالى (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) (١٥) [الرحمن] وكذا آدم مخلوق من التراب ، وناقة صالح مخلوقة من الحجر؟

قلنا : المراد به البعض ، وهو الحيوان ، كما في قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] وقوله تعالى : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) [يونس : ٢٢] ونظائره كثيرة. الثاني : أنّ الكلّ مخلوقون من الماء ، ولكن البعض بواسطة ، والبعض بغير واسطة. ولهذا قيل إنه تعالى خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء ، وخلق الجنّ من نار خلقها من الماء ، وخلق آدم من تراب خلقه من الماء.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٣٧) بعد قوله سبحانه : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الآية ٣٧] وكأنه تكليف بما لا يطاق؟

قلنا : هذا ، لما ركب فيه الشهوة ، وأمره أن يغلبها ؛ لأنه أعطاه القدرة ، التي يستطيع بها قمع الشهوة ، وترك العجلة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) (٤٥) مع أن الصمّ لا يسمعون الدعاء إذا ما يبشّرون أيضا؟

قلنا : اللام في الصّمّ إشارة للمنذرين السابق ذكرهم ، بقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الآية ٤٥] فهي لام العهد ، لا لام الجنس.

فإن قيل : لم قال إبراهيم صلوات الله عليه ، كما ورد في التنزيل : (بَلْ فَعَلَهُ

٢٩١

كَبِيرُهُمْ هذا) [الآية ٦٣] أحال كسر الأصنام على الصنم الكبير ، وكان إبراهيم هو الكاسر لها؟

قلنا : أوّلا : قاله على طريق الاستهزاء والتهكّم بهم ، لا على طريق الجدّ. ثانيا : أنه لما كان الحامل له على كسرها ، اغتياظه من رؤيتها مصفوفة مرتّبة للعبادة ، مبجّلة معظّمة ، وكان اغتياظه من كبيرها أعظم ، لمزيد تعظيمهم له ، أسند الفعل إليه ، كما أسند إلى سببه ، وإلى الحامل عليه. ثالثا : أنه أسند إليه معلّقا بشرط منتف ، لا مطلقا ، تقديره : فعله كبيرهم هذا ، إن كانوا ينطقون. فإن قيل : لم خاطب تعالى النار ، بقوله : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩) والخطاب ، إنّما يكون لمن يعقل؟

قلنا : خطاب التحويل والتكوين لا يختصّ بمن يعقل ، قال الله تعالى (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] وقال تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] وقال تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) [هود : ٤٤].

فإن قيل : لم وصف الله تعالى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بكونهم من الصالحين ، بقوله تعالى (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) [الآية ٨٥] ، مع أنّ أكثر المؤمنين صالحون ، خصوصا في الزمن الأول؟

قلنا : معناه أنهم من الصالحين للإدخال في الرحمة ، التي أريد بها النبوّة على ما فسّره مقاتل ، أو الجنّة على ما فسّره ابن عبّاس رضي الله عنهما ؛ ويؤيّد ذلك قول سليمان صلوات الله عليه ، كما ورد في التنزيل : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩) [النمل] أي الصالحين للعمل المرضيّ ، الذي سبق سؤاله.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الآية ٩١] وقال في سورة التحريم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢].

قلنا : حيث أنّث أراد النفخ في ذاتها ، وإن كان مبدأ النفخ من الفرج الذي هو مخرج الولد ، أو جيب درعها على اختلاف القولين ، لأنه فرجة ، وكل فرجة بين شيئين تسمى فرجا في اللغة ، وهذا أبلغ في الثناء عليها ؛ لأنها إذا منعت جيب درعها ممّا لا يحل ،

٢٩٢

كانت لنفسها أمنع ، وحيث ذكّر فظاهر.

فإن قيل : قوله تعالى (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٩٥) يدل على أنه يجب أن يرجعوا ، لأنّ كل ما حرّم أن لا يوجد ، وجب أن يوجد ، فما معنى الآية؟

قلنا : معناه : واجب على أهل قرية ، عزمنا على إهلاكهم ، أو قدّرنا إهلاكهم ، أنهم لا يرجعون على الكفر إلى الإيمان ، أو أنهم لا يرجعون بعد إهلاكهم إلى الدنيا ، فالحرام هنا بمعنى الواجب ، كذا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما ، ويؤيّده قول الشاعر :

فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا

على شجوة إلّا بكيت على عمرو

وقيل لفظ الحرام على ظاهره ، و «لا» زائدة ، والمعنى ما سبق ذكره ، والحرمة هنا بمعنى المنع ، كما في قوله تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [القصص : ١٢] وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠) [الأعراف].

فإن قيل : قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١٠١) وقال في موضع آخر : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] وواردها ليكون قريبا منها لا بعيدا.

قلنا معناه مبعدون عن ألمها وعذابها ، مع كونهم وارديها ، أو معناه مبعدون عنها بعد ورودها ، بالإنجاء المذكور بعد الورود ، فلا تنافي بينهما.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) مع أن النبي (ص) لم يكن رحمة للكافرين ، الذين ماتوا على كفرهم ، لأنّه لولا إرساله إليهم ، لمّا عذّبوا بكفرهم ، لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥) [الإسراء].

قلنا : أوّلا : بل كان رحمة للكافرين أيضا ، من حيث أنّ عذاب الاستئصال أخّر عنهم بسببه. ثانيا : أنّه كان رحمة عامّة ، من حيث أنه جاء بما يسعدهم إن اتّبعوه ، ومن لم يتّبعه فهو الذي قصّر في حق نفسه ، وضيّع نصيبه من الرحمة ؛ ومثله (ص) كمثل عين ماء عذبة ، فجّرها الله تعالى ، فسقى ناس زروعهم ومواشيهم منها فأفلحوا ؛ وفرّط ناس في السقي منمها ، فضيّعوا ؛ فالعين في نفسها نعمة من الله تعالى للفريقين ورحمة ، وإن قصّر البعض وفرّطوا. ثالثا : أن المراد بالرحمة

٢٩٣

الرحيم ، وهو (ص) كان رحيما للفريقين ، ألا ترى أنهم لما شجّوه يوم أحد ، وكسروا رباعيّته حتّى خرّ مغشيّا عليه ، فلمّا أفاق قال اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون؟

فإن قيل لم قال تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (١٠٩) مع إخباره تعالى إيّاهم بقرب الساعة ، بقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل / الآية الأولى] وقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر / الآية الأولى] ونحو هما.

قلنا : معناه ما أدري أنّ العذاب الذي توعدونه وتهدّدون به ، ينزل بكم عاجلا أو آجلا ، وليس المراد به قيام الساعة. ويردّ على هذا الجواب ، أنّه قريب على كل تقدير ؛ لأنّه إن كان قبل قيام الساعة ، فظاهر ، وإن كان بعد قيام الساعة ، فهو كالمتّصل بها ، لسرعة زمن الحساب ، فيكون قريبا أيضا.

فإن قيل : إذا كان المؤمنون يعتقدون أنّ الله تعالى لا يحكم إلّا بالحقّ ، فما فائدة الأمر والإخبار المتعلّق بهما ، بقوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الآية ١١٢]؟

قلنا : أوّلا ليس المراد بالحق هنا ما هو نقيض الباطل ؛ بل المراد به ما وعده الله تعالى إيّاه ، من نصر المؤمنين وخذلان الكافرين ، ووعده لا يكون إلا حقّا. فكأنّ السّياق : عجّل لنا وعدك وأنجزه. ونظيره قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩) [الأعراف]. الثاني : أنّه تأكيد لما في التصريح بالصفة من المبالغة ، وإن كانت لازمة للفعل ، ونظيره في عكسه من صفة الذّمّ ، قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [آل عمران : ١١٢].

٢٩٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الأنبياء» (١)

قوله سبحانه : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) [الآية ١١] وحقيقة القصم ، كسر الشيء الصّلب. وجعل هاهنا مستعارا ، للتعبير عن إهلاك الجبّارين من أهل القرى ، أصلب ما كانوا عيدانا ، وأمنع أركانا.

وقوله سبحانه : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥). وفي هذه الآية استعارتان : لأنّه سبحانه جعل القوم الذين أهلكهم بعذابه ، بمنزلة النبات المحصود ، الذي أنيم بعد قيامه ، وأهمد بعد اشتطاطه واهتزازه.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : (خامِدِينَ) (١٥). والخمود من صفات النار ، كما كان الحصيد من صفات النبات. فكأنه سبحانه ، شبّه همود أجسامهم بعد حراكها ، بخمود النار بعد اشتعالها. وقد يجوز أيضا ، والله أعلم ، أن يكون المراد تشبيههم بالنبات ، الذي حصد ، ثم أحرق. فيكون ذلك أبلغ في صفتهم بالهلاك والبوار ، وامّحاء المعالم والآثار ، لاجتماع صفتي الحصد والإحراق. وقال سبحانه : (حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥) ، ولم يقل خامدا ، كما قال تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) [الشعراء] ولم يقل خاضعة. لأنّه ، سبحانه ، ردّ معنى خاضعين على أصحاب الأعناق. وكذلك يجوز ردّ معنى خامدين على القوم الذين

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٩٥

أهلكوا ، لا على النبات الذي به شبّهوا.

وقيل معنى قوله تعالى : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي سلّطنا عليهم السيف يختليهم ، كما تختلى الزروع بالمنجل. وقد جاء في الكلام : جعله الله حصيد سيفك ، وأسير خوفك.

وقوله سبحانه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨). وهذه استعارة. لأنّ حقيقة القذف من صفات الأشياء الثقيلة ، التي يرجم بها ، كالحجارة وغيرها. فجعل سبحانه ، إيراد الحق على الباطل ، بمنزلة الحجر الثقيل ، الذي يرضّ ما صكّه ، ويدمغ ما مسّه. ولما بدأ تعالى بذكر قذف الحق على الباطل ، وفّى الاستعارة حقّها ، وأعطاها واجبها ، فقال سبحانه : (فَيَدْمَغُهُ) ولم يقل فيذهبه ويبطله. لأن الدّمغ إنّما يكون عن وقوع الأشياء الثقال ، وعلى طريق الغلبة والاستعلاء. فكأنّ الحقّ أصاب دماغ الباطل فأهلكه. والدماغ مقتل. ولذلك قال سبحانه من بعد : (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) والزاهق : الهالك.

وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الآية ٣٠]. وهذه استعارة. لأن الرّتق هو سدّ خصاصة الشيء. ويقال : رتق فلان الفتق ، إذا سدّه. ومنه قيل للمرأة : رتقاء ، إذا كان موضع مرّها من الذّكر ملتحما. وأصل ذلك مأخوذ من قولهم : رتق فتق الخباء والفسطاط وما يجري مجراهما ، إذا خاطه. فكأنّ السماوات والأرض كانتا كالشّيء المخيط الملتصق بعضه ببعض ، ففتقهما سبحانه ، بأن صدع ما بينهما بالهواء الرقيق ، والجوّ الفسيح.

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، عليه‌السلام ، معنى أن السماوات كانت لا تمطر ، والأرض لا تنبت ، ففتق الله سبحانه السماء بالأمطار ، والأرض بالنبات (١).

وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الآية ٣٢] وهذه استعارة. لأن حقيقة السّقف ما أظلّ الإنسان ، من علوّ بيت أو خباء ، أو ما

__________________

(١). نسب الشريف الرضي الكلام للإمام علي بن أبي طالب. وهذا التفسير منسوب لا بن عباس رضي الله عنهما ؛ انظر «مناهل العرفان في علوم القرآن» للزّرقاني ج ١ ص ٤٨٣. ورواية الإمام السّيوطي في «الإتقان» تؤيّد قولنا ، انظر ص ١٨٧ ج ٢ من كتاب «الإتقان في علوم القرآن» للسيوطي.

٢٩٦

يجري مجرى ذلك. فلما كانت السماء تظلّ من تحتها ، وتعلو على أرضها ، حسن أن تسمّى سقفا لذلك. ومعنى «محفوظا» : أي تحفظ ، مما لا يمكن أن تحفظ من مثله سائر السقوف ، من الانفراج والانهدام والتشعّث والاسترمام. وقد قيل : معنى ذلك ، حفظ السماء من مسارق السمع ، وتحصينها بمقاذف الشهب.

وقوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣). وهذه استعارة ، لأنّ أصل السّبح هو التقلّب والانتشار في الأرض. ومنه السّباحة في الماء. ولا يكون ذلك إلّا من حيوان يتصرّف. ولكنّ الله سبحانه ، لمّا جعل الليل والنهار والقمر والشمس مسخّرة للتقلّب في هذا الفلك الدائر والصفيح السائر ، تتعاقب فيه وتتغاير ، تتقارب وتتباعد ، حسن أن يعبّر عنها بما يعبّر به عن الحيوان المتصرّف ، وزيدت على ذلك شيئا ، فعبّر عنها بما يعبّر به عن الحيوان المميّز. فقيل : «يسبحون» ، ولم يقل : تسبح ، لأنها ، في الجري على الترتيب المتقن والتقدير المحكم ، أقوى تصرّفا من الحيوان غير المميّز. ولأن الله سبحانه أضاف إليها الفعل على تدبير ما يعقل ، فحسن أن يعبّر عنها بما يعقل ، مثل قوله تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) [يوسف]. ومثل قوله سبحانه : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] فقال سبحانه : (ادْخُلُوا) ولم يقل ادخلي. لأن خطابها لمّا خرج على مخرج خطاب من يعقل ، كان الأمر لها على مثال أمر من يعقل. وقد مضى الكلام على ذلك فيما تقدّم.

وقوله سبحانه : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الآية ٣٧]. وهذه استعارة. والمراد أنّ الإنسان خلق مستعجلا بطلب ما يؤثره ، واستطراف ما يحذره. والله سبحانه إنّما يعطيه ما طلب ، ويصرف عنه ما رهب ، على حسب ما يعلمه من مصالحه ، لا على حسب ما يسنح من ماربه.

وقيل ذلك على طريق المبالغة في وصف الإنسان بالعجلة ، كما يقال في الرجل الذكيّ : إنّما هو نار تتوقّد ، وللإنسان البليد : إنّما هو حجر جامد.

فأمّا من قال من أصحاب التفسير : إن العجل هاهنا اسم من أسماء الطين ،

٢٩٧

وأورد عليه شاهدا من الشعر ، فلا اعتبار بقوله ، ولا التفات إلى شاهده ، فإنه شعر مولّد وقول فاسد (١).

وقوله سبحانه : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٤٦). ولفظ النفحة هاهنا مستعار. والمراد بها ، إصابة الشيء اليسير من العذاب.

يقال : نفح فلان فلانا بيده. ونفح الفرس فلانا بحافره. إذا أصابه إصابة خفيفة ، ولم يبلغ في إيلامه الغاية. فكأنّ النّفحة هاهنا قدر يسير من العذاب ، يدلّ واقعه على عظيم متوقعه ، وشاهده على فظيع غائبه.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (٦٥) وهذه استعارة. والمراد بها وصف ما لحقهم من الخضوع والاستكانة والإطراق ، عند لزوم الحجّة ، فكأنّهم شبّهوا بالمتردّي على رأسه ، تدويخا بنصوع البيان ، وإبلاسا عند وضوح البرهان. وقوله سبحانه : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) (٧٤). ولفظ القرية هاهنا مستعار. والمراد به ، الجماعة التي كانت تعمل الخبائث ، من أهل القرية. وكشف سبحانه عن ذلك بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) (٧٤). وفي هذا الكلام خبر عجيب ، لأنه تعالى جعل ما يلي لفظ القرية مؤنّثا ، إذ كانت مؤنّثة ، فقال : (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ). وجعل بقية الكلام مذكّرا ، فقال : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) (٧٤) لأنّ المراد به مذكّر ، فصار الكلام في الآية على قسمين ، قسم عائد إلى اللفظ ، وقسم عائد على المعنى ، وهذا من عجائب القرآن.

وقوله سبحانه : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩) ويسبّح هاهنا استعارة. وقد مضى من الكلام في «الرّعد» على قوله تعالى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [الرّعد : ١٣] ما هو بعينه تأويل تسبيح

__________________

(١). أمّا الشعر الذي أنشدوه ، ليثبتوا به أن العجل هو الطين ، فهو قول الشاعر :

والنبع في الصّخرة الصمّاء منبته

والنّخل ينبت بين الماء والعجل

انظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ج ١١ ص ٢٨٩.

٢٩٨

الجبال هاهنا. وقد قيل في ذلك وجه آخر ، يخرج به الكلام من حدّ الاستعارة. وهو أن يكون قوله تعالى : (يُسَبِّحْنَ) هاهنا مأخوذا من التسبيح ، وهو الإبعاد في السير ، والتصرّف في الأرض. لا من التسبيح المعروف. فكأنه تعالى قال : وسخّرنا مع داود الجبال يسرن في الأرض معه ، ويتصرّفن على أمره ، طاعة له. ونظير ذلك قوله سبحانه في «سبأ» : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] أي سيري معه. والتأويب السير.

وإنما قال تعالى : (يُسَبِّحْنَ) عبارة عنها ، بتكثير الفعل من السّبح.

وقال سبحانه : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) [المزّمّل] أي تصرّفا ومتّسعا ، ومجالا ومنفسحا.

وقوله سبحانه : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الآية ٩١]. وهذه استعارة. والمراد هاهنا بالرّوح : إجراء روح المسيح (ع) ، في مريم (ع) ، كما يجري الهواء بالنّفخ. لأنه حصل معها من غير علوق من ذكر ، ولا انتقال من طبق الى طبق. وأضاف تعالى الروح إلى نفسه ، لمزيّة الاختصاص بالتعظيم ، والاصطفاء بالتكريم. إذ كان خلقه المسيح (ع) ، من غير توسّط مناكحة ، ولا تقدّم ملامسة.

وقوله سبحانه : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (٩٣). وهذه استعارة. والمراد بها : أنهم تفرّقوا في الأهواء ، واختلفوا في الآراء ، وتقسّمتهم المذاهب ، وتشعّبت بهم الولائج (١). ومع ذلك فجميعهم راجعون إلى الله سبحانه ، على أحد وجهين : إمّا أن يكون ذلك رجوعا في الدنيا ، فيكون المعنى : أنهم ، وإن اختلفوا في الاعتقادات ، صائرون إلى الإقرار بأنّ الله سبحانه خالقهم ورازقهم ، ومصرّفهم ومدبّرهم. أو يكون ذلك رجوعا في الاخرة ، فيكون المعنى : أنّهم راجعون إلى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال ، وموفى الثواب والعقاب ؛ وإلى حيث لا يحكم فيهم ، ولا يملك أمرهم ، إلا الله سبحانه.

وشبّه تخالفهم في المذاهب ،

__________________

(١). الولائج : جمع وليجة ، وهي بطانة الإنسان ، ومن يتّخذه معتمدا عليه من غير أهله.

٢٩٩

وتفرّقهم في الطرائق ، مع أنّ أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ، بقوم كانت بينهم وصائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثمّ تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق ، وشذّب تلك الوصائل ، فصاروا أخيافا (١) مختلفين ، وأوزاعا (٢) مفترقين.

وقوله سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨) هذه استعارة ، لأنّ الحصب هو ما يرمى به من الحصباء ، وهي الحصى الصّغار. يقال : حصب فلان فلانا ، إذا قذفه بالحصى. ويقولون : حصبنا الجمار ، أي قذفنا فيها بالحصبات ، فشبّه ، سبحانه ، قذفهم في نار جهنم ، بالحصباء التي يرمى بها من ذلّ مقاذفهم ، وهوان مطارحهم.

وفي ذلك أيضا معنى لطيف ، وهو أنّه سبحانه لما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) والمراد هاهنا ، والله أعلم ، ب (وَما تَعْبُدُونَ) : الأصنام ، والأغلب عليها أن تكون من الحجارة ، حسن أن يسمّى الرمي بها في نار جهنم حصبا ؛ وتسميتها حصبا إذ كانت حجارة ، ومن جنس الحصباء ، وجاز أن يسمّى قذف العابدين لها في النار أيضا بذلك ، حملا على حكمها ، وإدخالا في جملتها.

والفائدة في قذف الأصنام مع عابديها في نار جهنّم ، أن يكون من زيادات عقابهم ، ورجحانات عذابهم ، لأنّهم إذا كثرت مشاهدتهم لها في أحوال العذاب ، كان ذلك أعظم لحسرتهم على عبادتها ، وندمهم على الدّعاء إليها.

وقد قيل أيضا : إنّها إذا حميت بوقود النار ، نعوذ بالله منها ، لصقت بأجسامهم ، فكانت من أقوى أسباب الإيلام لهم. وعلى هذا التأويل ، حمل جماعة من المفسّرين ، قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) [البقرة].

وقوله سبحانه : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الآية ١٠٤]. وهذه استعارة والمراد بها على أحد

__________________

(١). الأخياف : المختلفون : يقال : هم إخوة أخياف ، أي أمّهم واحدة والآباء شتّى.

(٢). الأوزاع : الجماعات. ولا واحد لها.

٣٠٠