الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

المبحث الأول

أهداف سورة «الإسراء» (١)

سورة الإسراء سورة مكّية ، نزلت في السنة الحادية عشرة للبعثة قبل الهجرة بسنة وشهرين. وتسمّى سورة «الإسراء» ، نظرا لذكر الإسراء في صدرها ، كما تسمّى سورة «بني إسرائيل» ؛ لأنها تحدّثت عنهم ، وعن إفسادهم في الأرض ، وعن عقوبة الله لهم على هذا الفساد.

وعدد آياتها ١١١ آية ، وهي من أواخر ما نزل من السّور في مكّة ، وقد تميّزت آياتها بالطول النسبي ، وبسط الفكرة ، والدعوة إلى التحلّي بالآداب ومكارم الأخلاق.

فسورة الإسراء اشتملت على خصائص السورة المكّية ، ومن ناحية أخرى ظهرت فيها صفات من خصائص السورة المدنية ، لأنها من أواخر ما نزل في مكّة فهي ممهّدة للعهد المدني ، أو هي ممّا يشبه المدني ، وهو مكّي.

الإسراء

بدأت سورة الإسراء بقوله تعالى :

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١).

وخلاصة الإسراء : أن الله تعالى ، أكرم رسوله محمدا (ص) ، بمعجزة إلهية ، هي الانتقال به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالشام ، ثم صعد إلى السماوات العلا ، ورأى من كل سماء مقرّبيها ، ورأى سدرة

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٦١

المنتهى ، وجنة المأوى ، وآيات ربّه الكبرى ، ثم فرض الله سبحانه عليه الصلاة ، لتكون صلة بين المخلوق والخالق ، ورباطا بين الإنسان وربّه ، وعاد (ص) إلى مكة قبل طلوع الفجر.

والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، رحلة مختارة من لدن اللطيف الخبير ، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى ، من إبراهيم وإسماعيل (ع) إلى محمد خاتم النبيين (ص) ، وتربط بين الأماكن المقدّسة لديانات التوحيد جميعا. وكأنّما أريد بهذه الرحلة العجيبة ، إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدّسات الرسل قبله ، واشتمال رسالته على هذه المقدسات ، وارتباط رسالته بها جميعا ؛ فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ، وتتضمّن أكبر من المعاني القريبة ، التي تنكشف عنها للنظرة الاولى.

والإسراء آية صاحبتها آيات :

(لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا).

والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، في الوقت القصير ، آية من آيات الله ، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود ، وتكشف عن نعم الله على الجنس البشري ، الذي كرّمه الله وفضّله على كثير من خلقه ، واصطفى من بينهم رسلا وأنبياء ، يوحي إليهم ويخصّهم بالنبوّة والهداية ، والمعجزات الباهرة.

هذا الإسراء آية من آيات الله. وهو نقلة عجيبة بالقياس إلى مألوف البشر ، والمسجد الأقصى ، هو طرف الرحلة ، وهو قلب الأرض المقدّسة التي بارك الله حولها ، بركات مادية ومعنوية ، فحولها الأشجار والثمار ، وإليها يتحرّك الحجيج ، وقد زارها الأنبياء والمرسلون.

واتفق جمهور العلماء على أن الإسراء كان بالروح والجسد ، يقظة لا مناما ؛ وذهب بعض العلماء إلى أن الإسراء كان بالروح فقط ، وكان في النوم لا في اليقظة ، لقوله تعالى في سورة الإسراء :

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [الآية ٦٠].

وقد رد جمهور العلماء بأن هذه الآية ، تشير إلى رؤيا رآها النبي (ص) ليلة غزوة بدر الكبرى ، قال تعالى :

٦٢

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) [الأنفال : ٤٣].

أو تشير إلى رؤيا رآها النبي (ص) بدخول المسجد الحرام حاجّا معتمرا قبل صلح الحديبية ، قال تعالى :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (٢٧) [الفتح].

واستدل الجمهور ، بأن الله جعل الإسراء آية كبرى ، وقال (أَسْرى بِعَبْدِهِ) والعبد مجموع الروح والجسد ، ولو شاء لقال : «أسرى بروح عبده».

ثم إن كفار مكّة أنكروا الإسراء ، وارتدّ بعض ضعاف الإيمان بسبب الإسراء ، ولو كان الإسراء مناما ، لما أنكره كفّار مكّة ، ولما ارتدّ بسببه ضعاف الإيمان ، ولما تميّز أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، بتصديقه من بين سائر الناس.

وقد ركب الرسول (ص) البراق ، وركوب البراق من خصائص الأجساد ؛ والإسراء في حقيقته معجزة إلهية ، خاصة بالرسول الأمين ؛ ولا حرج على فضل الله ، ولا حدود لقدرته ، فهو سبحانه على كل شيء قدير ، قال شوقي :

يتساءلون وأنت أطهر هيكل

بالرّوح أم بالهيكل الإسراء

بهما سموت مطهّرا وكلاهما

نور وروحانيّة وبهاء

وعد الله لبني إسرائيل

بدأت سورة الإسراء بالحديث عن الإسراء بالنبيّ الأمين ؛ والسورة في مجملها تتحدّث عن النبي (ص) وعن القرآن الذي نزل عليه ، وموقف المشركين من هذا القرآن ؛ وفي خلال هذا الحديث ، تستطرد إلى ذكر بني إسرائيل ، والحديث عن ماضيهم وفسادهم في الأرض ؛ وعقوبة الله لهم ، كأنّها تتوعّد كلّ مكذّب ومفسد بالعقاب العادل ؛ وفي هذا تهديد لكفار مكة ، ولكلّ خارج على نطاق الإيمان وشريعة العدل ، والنّظام الإلهي.

ويلاحظ أن وعيد الله لبني إسرائيل ، على إفسادهم في الأرض مرّتين ، لم يذكر في القرآن إلّا في صدر سورة الإسراء.

٦٣

وقد تعدّدت أقوال المفسّرين في بيان القوم الذين سلّطهم الله على اليهود ، وذهب جمهور المفسرين إلى أن المسلّط عليهم في المرة الأولى هو بختنصر البابلي ، وقد غزاهم سنة ٦٠٦ قبل الميلاد ، ثم ساعدهم قورش ملك الفرس سنة ٥٢٦ قبل الميلاد ، فعادوا لبلادهم وأعادوا بناء هيكلهم.

والمسلّط عليهم في المرة الثانية هم الرومان بقيادة تيطس سنة ٧٠ م ، وقد كان إذلالهم في المرة الثانية أشدّ وأنكى ، وقد تفرّق اليهود في البلاد بعد هزيمتهم الثانية ، وأصبح تاريخهم ملحقا بتاريخ الممالك التي نزلوا فيها ، ولم يرجع اليهود إلى فلسطين إلا في العصر الحديث.

وينبغي أن ندرك أن آيات سورة الإسراء ، لا تحدّد تاريخا معيّنا لفساد اليهود ، ولا قوما بأعيانهم سلّطهم الله عليهم ، فإذا أردنا معرفة ذلك فلنرجع إلى التاريخ ، لا لنحكّمه في فهم القرآن ، ولكن لنستأنس به فقط.

وخلاصة الآيات التي تحدثت عن فساد اليهود ما يأتي :

١ ـ أخبر الله تعالى أن بني إسرائيل سيفسدون في الأرض مرتين ، وهذا الفساد معناه طغيان وعدوان منهم على عباد الله ، وخروجهم على الطريق القويم.

٢ ـ أخبر الله تعالى عنهم أنهم لمّا طغوا وبغوا ، سلّط الله عليهم من ينتقم منهم.

٣ ـ بعد الانتقام الأول ، عادوا إلى الطريق الجادّة فانتصروا على أعدائهم ، لكنّهم لم يلبثوا أن عادوا للفساد ، فحقّ عليهم وعيد الله تعالى.

٤ ـ سلّط الله سبحانه ، عليهم في المرة الثانية ، من أذلّهم وهدم هيكلهم ، وقضى عليهم وعلى ملكهم.

٥ ـ ذكر الله تعالى ، أنه يشملهم برحمته إذا تابوا إليه ، فإن عادوا للفساد عاد عليهم بالعقاب.

وقد عنيت سورة الإسراء ، بالحديث عن مكارم الأخلاق.

فدعت إلى توحيد الله جلّ جلاله ، وأمرت بالإحسان إلى الوالدين ، وصلة الرحم ، والعطف على الفقير والمساكين وابن السبيل ؛ ونهت عن التبذير ، والقتل ، والزنا ، وتطفيف الكيل ، وأكل مال اليتيم ، والكبر ، والبطر. وإذا قرأت الآيات ٢٣ ـ ٣٩ ، رأيت دستورا أخلاقيا كريما ، يأمر بالفضائل ، ويحثّ

٦٤

على القيم ، وينهى عن الرذائل ، ويحذّر من المعاصي والموبقات.

وترى أن القرآن أعظم كتاب في التربية الأخلاقية والسلوكية ، وهذه التربية هي التي صاغت المجتمع الإسلامي المحمّدي صياغة جديدة يسري في أوصال المجتمع العربي والإسلامي ، فيهدم حطام الجاهلية وأوثانها ، ويقيم على أشلائها دولة جيّدة ، تؤمن بالله ورسوله ، وتهتدي بكتابه الذي أنزله الله نورا وهدى. فترى المسلم إمّا عابدا في مسجده ، أو ساعيا إلى رزقه ، أو مجاهدا في سبيل إعلاء كلمة الله. وجمعت المسلمين راية جديدة ، شعارها الإخلاص ، وعمادها الحب لله ورسوله ، وقوّتها في تماسك المسلمين ، وأخوّتهم وترابطهم وتساندهم ، حتّى أصبحوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص ، يشدّ بعضه بعضا.

أوهام المشركين ،

وحجج القرآن الكريم

في الآيات ٣٩ ـ ٥٨ : من سورة الإسراء ، حديث عن أوهام الوثنية الجاهليّة ، حول نسبة البنات والشركاء إلى الله.

وخلاصة ذلك ، أنهم جعلوا الملائكة إناثا ، ثم ادّعوا ، كذبا وبهتانا ، أنهنّ بنات الله ثم عبدوهنّ ، فأخطأوا في الأمور الثلاثة خطأ عظيما.

ثم تحدّثت السورة عن البعث ، واستبعاد الكافرين لوقوعه ، وعن استقبالهم للقرآن ، وتقوّلاتهم على الرسول (ص) ، وأمرت المؤمنين أن يقولوا قولا آخر ، ويتكلّموا بالتي هي أحسن.

وفي الآيات ٥٩ ـ ٧٢ : بيّنت السورة ، لما ذا كانت معجزة محمد (ص) ، معجزة عقلية خالدة ، ولم تكن معجزة مادية محدودة ؛ فقد كذّب الأوّلون بالخوارق فحقّ عليهم الهلاك اتّباعا لسنة الله ؛ كما تناولت الحديث عن الإسراء وحكمته ، وأن الله جعله فتنة وامتحانا للناس ، ليتميّز المؤمنون ، وينكشف المنافقون ؛ ويجيء في هذا السياق طرف من قصة إبليس اللعين ، وإعلانه أنه سيكون حربا على ذرّية آدم.

يجيء هذا الطرف من القصة ، كأنه كشف لعوامل الضلال ، الذي يبدو من

٦٥

المشركين ، ويعقب عليه بتخويف البشر من عذاب الله ، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم ، في تكريم الإنسان ، وتمييزه من المخلوقات جميعها ، وتسخير الكون جميعه له ، حتى يفكّر بعقله ، ويؤمن بقلبه ، فمن اهتدى ، أخذ كتابه بيمينه يوم القيامة ؛ ومن عمي عن الحق في الدنيا ، فهو في الاخرة أعمى وأضلّ سبيلا.

وفي الآيات ٧٣ ـ ٨٨ : تستعرض سورة الإسراء كيد المشركين للرسول (ص) ومحاولتهم فتنته عن بعض ما أنزل إليه ، ومحاولة إخراجه من مكّة ؛ ثم تأمر النبي (ص) ، بأن يمضي في طريقه ، يقرأ القرآن ، ويؤدّي الصلاة ، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه ؛ وتذكر رسالة القرآن بأنها شفاء لأمراض الجاهليّة ، ورحمة بالجماعة الإسلامية.

وفي الآيات ٨٨ ـ ١١١ : نجد القسم الأخير من السورة ، ويستمر الحديث في هذه الآيات عن نزول القرآن وإعجازه ، بينما يطلب كفار مكّة خوارق مادية ، يطلبون نزول الملائكة ، ويقترحون أن يكون للرسول (ص) بيت من زخرف ، أو جنّة من نخيل وعنب ، تتفجّر الأنهار خلالها تفجيرا ؛ أو أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا من الماء ، أو أن يرقى هو في السماء ، ثم يأتيهم بكتاب ملموس محسوس ، فيه شهادة بأنه مرسل من عند الله .. إلى آخر هذه المقترحات ، التي يمليها العنت والمكابرة ، لا طلب الهدى والاقتناع. ويردّ الله سبحانه على هذا كلّه ، بأنّ ذلك خارج عن وظيفة الرسول ، وطبيعة الرسالة.

فالرسول بشر يوحى إليه ، وليس إلها يتحكّم في مظاهر الكون ؛ وقد سبق أن أعطى الله تعالى موسى (ع) معجزات مادية ، فكذّب بها فرعون ، وجحد نبوّة موسى ؛ فكانت العاقبة ، أن أغرق الله فرعون ومن معه من المكذّبين.

إن طريقة القرآن الكريم ، هي طريقة الدعوة الهادفة المتأنّية ، وقد نزل مفرّقا ليقرأه الرسول على قومه في هدوء وتؤدة ، وليجيب عن أسئلة السائلين ، وليكون كتاب الحياة ، يحياها مع المؤمنين ، يعلّمهم دينهم ، ويردّ عنهم دعاوى أعدائهم ، ويلفتهم إلى الكون وما فيه ، حتّى يعبدوا الله ويسجدوا له

٦٦

عن خشوع ويقين. وتختم سورة الإسراء ، بحمد الله وتنزيهه عن الولد والشريك في الملك ، كما بدئت بتنزيه الله وتسبيحه ؛ ففي أوّل السورة :

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً).

وفي آخر السورة :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١).

من أسرار الإعجاز

في سورة الإسراء

يقول الله تعالى في سورة الإسراء :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨).

لقد كانت هناك معركة فكرية ونفسية ، بين القرآن والمشركين ، ألصق المشركون فيها التّهم بالرسول (ص) فرموه بالسحر والجنون ، وافتراء القرآن من عند نفسه ، وقد نزلت سورة الإسراء في ذروة هذه المعركة واحتدامها ، بعد أن مات أبو طالب عمّ الرسول ، وماتت زوجته خديجة ، فكان الإسراء تسرية للرسول الأمين ، وكانت سورة الإسراء قلعة من حصون البيان والجدال بالحجة الدامغة والدليل الواضح.

إنّك تحسّ عند قراءة السورة نبضات حيّة ، تصوّر عنف المشركين وضلال عقيدتهم ، وتبرز أسلوب الدعوة الجديد ، الذي يملك الحجّة على قضية الألوهيّة ، ويسوق الأدلّة على قضيّته من سجلات التاريخ ومن واقع الكون ومشاهده ، ومن التحدي بالقرآن ، وتأكيد عجزهم عن الإتيان بمثله.

والقرآن في سياق حديثه ، ينتقل من فن إلى فن ، ومن وصف للإسراء إلى حديث عن تاريخ اليهود ، إلى ردّ على دعوى المشركين ، إلى ذكر قصص لآدم وإبليس ، وفرعون ، وموسى.

ويربط القرآن بين هذه الأفكار المتناثرة في الظاهر ، برباط قوي متين ، يؤكّد أنه كتاب الله.

وقد تعرّضت علوم السابقين للنقض والتعديل ، ولم يبق كتاب منزّه عن النقض والعيب ، إلّا هذا الكتاب.

وفي ختام هذا الحديث ، يمكننا أن نرجع أهداف سورة الإسراء إلى الأمور الآتية :

٦٧

١ ـ معجزة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس.

٢ ـ تاريخ بني إسرائيل ، وإفسادهم في الأرض ، وعقوبة الله لهم.

٣ ـ جملة من الآداب ، يجب على المسلمين أن يتحلّوا بها ، حتى تظلّ رابطتهم قوية متماسكة.

٤ ـ بيان أنّ كل ما في السماوات والأرض ، مسبّح لله.

٥ ـ الكلام على البعث ، مع إقامة الأدلّة على إمكانه.

٦ ـ الردّ على المشركين ، الذين اتخذوا مع الله آلهة ، من الأوثان والأصنام.

٧ ـ الحكمة في عدم إنزال المعجزات التي اقترحوها ، على محمد (ص).

٨ ـ قصص سجود الملائكة لآدم ، وامتناع إبليس عن السجود.

٩ ـ تعداد بعض نعم الله سبحانه.

١٠ ـ طلب المشركين من الرسول (ص) أن يوافقهم في بعض معتقداتهم ، وإلحافهم في ذلك.

١١ ـ أمر النبي (ص) بإقامة الصلاة والتهجّد في الليل.

١٢ ـ بيان إعجاز القرآن ، وأنّ البشر يستحيل عليهم أن يأتوا بمثله.

١٣ ـ قصص موسى مع فرعون.

١٤ ـ الحكمة في إنزال القرآن منجّما.

١٥ ـ تنزيه الله سبحانه ، عن الولد والشريك والناصر والمعين.

٦٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الإسراء» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الإسراء بعد سورة القصص ، وقد كانت حادثة الإسراء في السنة الحادية عشرة للبعثة ، فيكون نزول سورة الإسراء في هذه السنة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لابتدائها بقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى). وتبلغ آياتها إحدى عشرة ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة ثلاثة أمور : أولها : إثبات حادثة الإسراء ، وقد كان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فاستدعى هذا بيان فضل هذا المسجد ، وذكر بعض من أخبار أهله. وثانيها : الموازنة بين كتابي المسجدين ، القرآن والتوراة ؛ وقد استدعى هذا ، ذكر بعض ما أتى به القرآن من الحكم والمواعظ. وثالثها : بيان حكمة الإسراء من اختبار الناس به. وقد عاد السّياق ، بعد هذا ، إلى بيان فضل القرآن ، فانتهى به الكلام في هذه السورة.

وقد ذكرت سورة الإسراء بعد سورة النحل ، لأن الإسراء كان رمزا للهجرة إلى المدينة ، وكان في الهجرة إليها تحقيق ما أنذروا به ، من قرب عذابهم في أول سورة النحل.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٦٩

إثبات الإسراء من المسجد الحرام

إلى المسجد الأقصى

الآيات (١ ـ ٨)

قال الله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١) فذكر تعالى أنّه أسرى بالنبي (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ليريه ما فيه من آياته ؛ ثم ذكر أنه أنزل التوراة على موسى شريعة لأهله من بني إسرائيل ، وأنه قضى إليهم فيها ، أنهم سيفسدون في أرضهم مرتين ، ويخرجون على شريعتهم بعبادة الأوثان والأصنام ، وأنه إذا جاءت المرة الأولى ، بعث عليهم قوما ذوي بأس شديد ، ليخرجوا ديارهم ويهدموا مسجدهم ، وهم قوم بختنصّر ملك بابل ، ثم ينقذهم منهم وينصرهم عليهم ويجعلهم أحسن حالا ممّا كانوا عليه قبل غزوهم ؛ فإذا جاءت المرة الثانية بعث عليهم قوما آخرين يخربون ديارهم ويهدمون مسجدهم كما هدم في المرة الأولى ، وهم الروم الذين غزوهم وأخرجوهم من ديارهم ، ثم التفت السياق إلى اليهود المعاصرين للنبي (ص) بقوله تعالى (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) (٨).

الموازنة بين كتابي المسجدين

الآيات (٩ ـ ٥٩)

ثم قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (٩) فذكر أن القرآن يهدي إلى شريعة أقوم من التوراة ، وأنه يبشّر المؤمنين بأن لهم أجرا كبيرا ، وينذر الكافرين بأنّ لهم عذابا أليما ؛ ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون هذا العذاب ، الذي ينذرهم به ، استعجالهم للخير ، وكان الإنسان عجولا ؛ واستدلّ على قدرته عليه ، بأنه جعل الليل والنهار آيتين ، فمحى آية الليل وجعل آية النهار مبصرة ، ليبتغوا أرزاقهم فيها ، وليعلموا عدد السنين والحساب (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٢) ثم ذكر أن كلّ إنسان تحصى عليه أعماله في دنياه ، ليحاسب عليها يوم القيامة ، وأنّ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها ، ولا تزر وازرة وزر أخرى (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما

٧٠

يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥).

ثم ذكر أنه تعالى إذا أراد أن يهلك قرية بذلك العذاب الذي يستعجلونه ، أمر مترفيها ففسقوا فيها ، فحقّ عليها العذاب فدمّرها تدميرا ؛ وأنه كم أهلك من القرون ، بهذا الشكل من بعد نوح (ع) ، وأنه أعلم بذنوب عباده ، فيقدّر لهم وقت عذابهم كما يريد (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧).

ثم ذكر أن من يريد العاجلة عجّل له فيها ، ما يشاء من خير أو شر ، لمن يريد. وليس لأحد أن يتعجّله في شيء ، وأنّ من يريد الاخرة ويسعى لها ، شكر له سعيه ، وأنّه يمدّ كلّا منهما في الدنيا بعطائه ، ولا يحظره عن أحد من عباده ، وأنه يفضّل بعضهم على بعض في هذا العطاء ، وستكون الاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.

ثم بيّن بعضا من شريعة القرآن ، في الأصول والفروع والأخلاق ، فنهى عن الشرك به ، وأمر بالإحسان إلى الوالدين ، وبإيتاء ذي القربي حقّه والمساكين وابن السبيل ، ونهى عن التبذير في المال ، وأمر بالاعتذار الحسن عند العجز عن الإحسان ، إلى غير هذا من الأحكام التي ختمها بقوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٣٩) فختمها بالنهي عن الشرك كما ابتدأها به ، وأتبعه بتوبيخهم على نوع خاص من شركهم ، وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله ، فذكر أنه لا يصح أن يؤثرهم بالبنين ، ويتّخذ من الملائكة إناثا (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠).

ثم ذكر تعالى أنه صرّف في القرآن هذا التصريف من الكلام في الأصول والفروع والأخلاق ، ليكون فيه موعظة للناس ، ولكنّه لا يزيدهم إلّا نفورا ؛ وأمر النبي (ص) ، أن يذكر لهم دليلا على بطلان الشرك لا يمكنهم أن يماروا فيه ، وهو أنه لو كان معه سبحانه آلهة لابتغوا سبيلا إلى منازعته ، ثم نزّه سبحانه نفسه عمّا يزعمونه من أن له شركاء في ملكه ، وذكر أنه هو الذي تسبّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وأنه ما من شيء إلّا يسبّح بحمده ، ولكنهم لا يفقهون تسبيحهم.

ثم ذكر أنه إذا قرأ القرآن جعل بينه وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ، وجعل على قلوبهم أكنّة أن

٧١

يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا ؛ وأنّه إذا ذكره في القرآن ، ولم يذكر آلهتهم فرّوا على أدبارهم نفورا ، وأنه أعلم بحالهم حين يستمعون إليه وإذ هم نجوى إذ يقولون إن تتبعون إلّا رجلا مسحورا ؛ ثم ذكر ممّا يحملهم على زعم هذا فيه ، أنّه يدعي أنهم يبعثون بعد أن يصيروا عظاما ، ورفاتا خلقا جديدا ؛ وردّ عليهم ، بأن الذي فطرهم المرة الاولى قادر على بعثهم ؛ ثم ذكر أنهم سينغضون رؤوسهم (١) ويقولون : متى هو؟ وأجابهم بأنه عسى أن يكون قريبا (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٥٢).

ثم أمر النبي (ص) بأن يأمرهم بأن يقولوا التي هي أحسن ، من قولهم إنه رجل مسحور ؛ وذكر لهم أن الشيطان ينزغ بينهم ويزيّن لهم هذه الشتائم ، وأنه سبحانه هو أعلم بهم ، إن يشأ يرحمهم بالإيمان أو يعذبهم بالكفر ، ولم يرسله وكيلا عليهم ، حتى يضيقوا به ويشتموه ، وأنه جلّ جلاله أعلم بمن في السماوات والأرض ، وقد فضّل بعض النبيين على بعض بمقتضى علمه ، وآتى داود زبورا ؛ فلا يصحّ لهم أن يقولوا في النبي (ص) وفي قرآنه ، مالا علم لهم به.

ثم أمرهم بأن يدعوا شركاءهم ليكشفوا عنهم ذلك الضرّ ، الذي يتعجّلون به ، فإنهم لا يملكون كشفه عنهم ، ولا تحويله ، لأنهم عبيد مثلهم ، يبتغون إليه سبحانه الوسيلة ، ويرجون رحمته ، ويخافون عذابه ؛ ثم ذكر أنه ما من قرية من قرى المكذّبين إلا هو مهلكها قبل يوم القيامة ، أو معذّبها عذابا شديدا ، كان ذلك في الكتاب مسطورا ؛ ثم أشار إلى أنه اختار لهم أن يعذّبهم بتسليط المؤمنين عليهم ، ولا يهلكهم بآيات عذابه ، فقال تعالى (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (٥٩).

بيان حكمة الإسراء

الآيات (٦٠ ـ ٨١)

ثم قال تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي

__________________

(١). أي سيحرّكونها.

٧٢

أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠) فذكر سبحانه أنه وعده بالنصر عليهم ، حينما أخبرهم بالإسراء فكذّبوه ، وارتدّ كثير منهم ، وأنه لم يجعل رؤيا الإسراء إلّا فتنة لهم ؛ فقد افتتنوا بها ، كما افتتنوا بشجرة الزّقّوم الملعونة في القرآن ، فقالوا : زعم محمد أن نار جهنم تحرق الحجر ، ثم زعم أن في النار شجرة وهي تأكل الشجر ، فكيف ينبت فيها الشجر؟ ثم ذكر أنه يخوّفهم بذلك ، فما يزيدهم إلّا طغيانا كبيرا.

ثم ذكر لهم قصة آدم مع الملائكة وإبليس ، لأنها كانت للاختبار أيضا ، ليتّعظوا في اختبارهم بالإسراء ، بما حصل لإبليس حينما عصى أمر ربه من الطرد واللعن ، ولا يقعوا في مثل ما وقع فيه بتكذيبها ؛ وقد ختمها بقوله لإبليس (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥).

ثم شرع السياق في أخذهم بالترغيب بعد الترهيب ، فذكر سبحانه ، أنه هو الذي يسوق السفن في البحر ، ليبتغوا من فضله ، وأنهم إذا مسّهم الضرّ في البحر وخافوا الغرق لا يلجئون إلّا إليه في كشفه عنهم ، فإذا نجّاهم إلى البر يعرضون عنه ويكافرون بنعمته ؛ ولا يأمنون أن يخسف بهم جانب البر أو يرسل عليهم ريحا حاصبا ، أو يعيدهم في البحر مرة أخرى فيغرقهم بسبب كفرهم ؛ ثم ذكر أنه كرّم بني آدم بنعمة العقل ، وحملهم في البرّ والبحر ، ورزقهم من الطيّبات ، وفضّلهم على كثير من خلقه ، وأنه سيبعثهم ويحاسبهم على ما أنعم به عليهم ، فمن أوتي كتابه بيمينه ، وهم الذين قاموا بحقّ هذه النعم ، فإنهم يكافئون على ذلك ولا يظلمون فتيلا ؛ ومن لم يقم بحق هذه النعم ، ولم ينظر بعقله في دنياه حتى صار فيها كالأعمى ، فهو في الاخرة أعمى وأضلّ سبيلا.

ثم ذكر تعالى أن فتنة الإسراء ، بلغ من شدّتها أنهم كادوا يفتنون النبي (ص) عمّا أوحي إليه من أمرها ، ليفتري لهم غيره ؛ ولو لا أن ثبّته سبحانه فيها ، لقد كاد يركن إليهم شيئا قليلا ؛ ثم ذكر أنهم كادوا يحملونه على الخروج من مكّة ، لشدّة استهزائهم به ، ولو أنهم أخرجوه منها لأهلكهم كما أهلك من قبلهم من أخرجوا أنبياءهم من بينهم ؛ ثم أمره بأن يعرض عنهم ويقبل على

٧٣

عبادته ، وإقامة الصلاة له في أوقاتها من فروض ونوافل ، لينصره عليهم ، ويبعثه مقاما محمودا يظهر فيه أمره عليهم ؛ وقد كان ذلك بالهجرة إلى المدينة ، وكان الإسراء قبلها بسنة واحدة ، ثم أمره أن يلجأ إليه في تهيئة ذلك المقام المحمود حتى يخرجه من مكّة مخرج صدق ، ويدخله ذلك المقام المحمود مدخل صدق ، وأن ينبئهم بقرب ذلك اليوم الذي يظهر فيه حقّه على باطلهم (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١).

عود إلى بيان فضل القرآن

الآيات (٨٢ ـ ١١١)

ثم قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٨٢) ، فعاد السياق إلى الكلام على فضل القرآن ، وذكر أنه سبحانه ينزّل منه ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، ويزداد به الكافرون خسارا إلى خسارهم ؛ ثم بيّن سبب ذلك فيهم ، وهو استكبارهم واغترارهم بأموالهم التي أنعم الله بها عليهم ؛ فذكر سبحانه أن شأن الكافر إذا أنعم عليه استكبر ، وإذا مسّه الفقر بلغ به اليأس كل مبلغ ؛ ثم ذكر أن كلّا من المؤمنين والكافرين ، يعمل من ذلك على شاكلته ، وأنه سبحانه أعلم بمن هو أهدى سبيلا منهم ؛ ثم ذكر تعالى أنهم يسألون النبيّ (ص) عن الروح ، وهو القرآن ، ما دليله على أنه من عند الله؟ وأمره أن يجيبهم بأنه من أمره ، وأن ما جاءهم به من العلم قليل بالنسبة إلى واسع علمه ؛ وأنه سبحانه لو شاء أن يأخذ هذا القليل وذهب بما أوحى إليه من القرآن لفعل ، لأنه لا يريد به شيئا لنفسه ، وإنما يريد مصلحتهم ؛ ثم بيّن لهم الدليل على أنه من عنده ، وهو عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثله ؛ وذكر أنه تحدّاهم بذلك على وجوه كثيرة ، فمن عشر سور إلى سورة واحدة ، إلى التحدي به كلّه ؛ ولكنهم يأبون إلا كفورا ، ويطلبون معجزات أخرى ، كأن يفجّر لهم ينبوعا من الأرض ، أو يكون له في واديهم جنّة من نخيل وعنب تجري فيها الأنهار ، إلى غير هذا مما اقترحوه على وجه التعنّت والتحكّم ، وقد أمره تعالى بأن يجيبهم بأنه ليس إلّا بشرا رسولا ؛ ثم ذكر أنهم لم يمنعهم من الايمان بالقرآن ، إلّا استبعادهم أن يكون رسوله من البشر ، وأمره أن يجيبهم بأنه لو

٧٤

كان في الأرض ملائكة ، يمشون مطمئنين لنزل عليهم من السماء ملكا رسولا ؛ وبأنه قد شهد على صدقه بمعجزة القرآن ، وكفى به شهيدا بينه وبينهم ؛ ثم ذكر أن الهداية والضلال بإرادته لا بالمعجزات ، فإذا أراد هداية قوم هداهم ، وإذا لم يرد هداية قوم ، فلن يوجد لهم أولياء من دونه يهدونهم ؛ ويحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا بكما صمّا ، مأواهم جهنّم ، كلّما خبت زادهم سعيرا ، ذلك لأنهم كفروا بمعجزة القرآن ، وأنكروا ما جاء به من بعثهم ؛ ثم ذكر أنهم لو نظروا في خلق السماوات والأرض ، لعلموا أنه قادر على أن يبعثهم ، وأنه جعل لبعثهم أجلا لا ريب فيه ، وإن كفروا به.

ثم ذكر أنهم لو ملكوا خزائن رحمته ، وهي أعظم ممّا اقترحوه من تفجير الأرض وغيره لبخلوا بها ، فلا فائدة من إجابتهم إلى ما اقترحوه عليه ؛ ثم ذكر أنه آتى موسى تسع آيات بيّنات مثل هذه الآيات ، فلم يؤمن فرعون بها ، وأراد أن يستفزّ بني إسرائيل من أرضه فأغرقه جلّت قدرته ، ومن معه جميعا ، وأسكن بني إسرائيل الأرض التي وعدهم بها.

ثم عاد السياق إلى تعظيم شأن القرآن ، فذكر سبحانه أنه لم ينزّله إلّا بالحق وبالحق نزل ، وأنه لم يرسله إلّا مبشّرا ونذيرا ، فمن شاء آمن ومن لم يشأ لم يؤمن ؛ ثم ذكر أنه نزّله مفرّقا ليقرأه على الناس على مكث ، وأن إيمانهم به وعدمه سواء ، لأن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون ساجدين لأذقانهم ؛ ثم ختم السورة فأمرهم بأن يدعوه باسمه أو باسم الرحمن ، أو غيرهما من أسمائه الحسنى ؛ ونهاه أن يجهر بصلاته أو يخافت بها ، وأمره أن يبتغي بين ذلك سبيلا (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١).

٧٥
٧٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الإسراء» (١)

اعلم أن هذه السورة ، والسّور الأربع التي بعدها ، هي من قديم ما أنزل. أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال ، في بني إسرائيل ، والكهف ومريم وطه والأنبياء : «من العتاق الأول ، وهنّ من تلادي (٢)» وهذا وجه في ترتيبها ، وهو اشتراكها في قدم النزول ، وكونها مكّية ، وكونها مشتملة على القصص.

وقد ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل : أنه سبحانه ، لمّا قال : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) في آخر النحل (٣) فسّر في هذه شريعة أهل السبت وشأنهم ؛ فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة ، كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : «التوراة كلّها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل» (٤). وذكر عصيانهم وفسادهم ، وتخريب مسجدهم ؛ ثم ذكر استفزازهم للنبي (ص) ورغبتهم في إخراجه من المدينة ، ثم ذكر سؤالهم إيّاه عن الروح ، ثم ختم السورة بآيات موسى التسع ، وخطابه مع فرعون ، وأخبر أن استفزازهم للنبي (ص) ليخرجوه من المدينة هو وأصحابه ، نظير ما وقع لهم مع فرعون لمّا استفزّهم ، ووقع ذلك أيضا.

ولما كانت هذه السورة مصدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى ، فقد أسري بالمصطفى إليه ، تشريفا له بحلول ركابه الشريف.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). أخرجه البخاري في التفسير : ٦ : ١٨٩ عن ابن مسعود ؛ والتلاد : القديم.

(٣). الآية ١٢٤.

(٤). تفسير ابن جرير : ١٧ : ٢٤٣.

٧٧
٧٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الإسراء» (١)

١ ـ (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) [الآية ٥].

قال ابن عبّاس وقتادة : بعث الله عليهم جالوت. أخرجه ابن أبي حاتم.

وفي «العجائب» للكرماني ، قيل : هم سنحاريب (٢) وجنوده (٣). وقيل : العمالقة.

وقيل : قوم مؤمنون ، بدليل إضافتهم إليه تعالى.

٢ ـ (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) ([الآية ٧].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). كذا في «تفسير ابن كثير».

(٣). عزاه الحافظ ابن كثير في تفسيره» ٣ : ٢٥ إلى سعيد بن جبير ، ثم قال الحافظ بعد ذلك : «وقد ذكر ابن أبي حاتم ـ أي في «تفسيره» له ـ أي سنحاريب ملك الموصل ـ قصّة عجيبة ، في كيفية ترقيه من حال إلى حال ، في أنه ملك البلاد ، وأنه كان فقيرا مقعدا ، ضعيفا يستعطي الناس ويستطعمهم ، ثم آل به الحال إلى ما آل ، وأنّه سار إلى بلاد بيت المقدس ، فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل ؛ وقد روى ابن جرير إلى هذا المكان حديثا ، أسنده عن حذيفة مرفوعا مطوّلا وهو موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث ؛ والعجب كل العجب ، كيف راج عليه ، مع جلالة قدره وإمامته ، وقد صرح الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه‌الله بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب. وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية ، لم أر تطويل الكتاب بذكرها ، لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ؛ ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ولله الحمد». ثم ذكر ابن كثير رواية ابن جرير عن سعيد بن المسيّب ، وهي قول سعيد بن المسيّب : ظهر بختنصّر على الشام ، فخرب بيت المقدس ، وقتلهم ؛ ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا ، فسألهم ما هذا الدم؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا ، كلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : «فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين ، وغيرهم فسكن». قال ابن كثير : «وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب». وقال أيضا : «وهذا هو المشهور».

٧٩

قال عطيّة ومجاهد : بعث عليهم في الاخرة بختنصّر. أخرجه ابن أبي حاتم.

٣ ـ (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الآية ٥٦].

قال ابن عبّاس : عيسى وأمه ، وعزيز. أخرجه ابن أبي حاتم (١).

٤ ـ (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الآية ٦٠].

قال ابن عباس : هي شجرة الزّقّوم أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

٥ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الآية ٧٣] نزلت في رجال من قريش ، منهم : أميّة بن خلف ، وأبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس (٣).

٦ ـ (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) [الآية ٧٦].

نزلت في اليهود كما أخرجه البيهقي في «الدلائل» ، من مرسل عبد الرحمن ابن غنم (٤).

٧ ـ (مُدْخَلَ صِدْقٍ) [الآية ٨٠].

قال مطر الورّاق (٥) المدينة ؛ قال : و : (مُخْرَجَ صِدْقٍ) [الآية ٨٠] : مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم (٦).

٨ ـ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [الآية ٨٥].

أخرج الشيخان (٧) وغيرهما عن ابن مسعود : أنّ السائلين اليهود.

وأخرج التّرمذيّ (٨) عن ابن عبّاس : أنّهم قريش.

__________________

(١). وفي «تفسير الطبري» ١٥ : ٧٢ من طريق العوفي ، عن ابن عبّاس ، قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦) قال : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة وعزيزا ، وهم الذين يدعون ، يعني الملائكة والمسيح وعزيزا.

(٢). والبخاري في «صحيحه» برقم (٤٧١٦) في التفسير ، والترمذي برقم (٣١٣٣) في التفسير ، والواحدي في «أسباب النزول» : ٢١٨.

(٣). في «تفسير الطبري» ١٥ : ٨٨ عنه : أنهم من ثقيف.

(٤). ضعّفه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ٣ : ٥٣ ، غير كونه مرسلا ، فانظره.

(٥). مطر بن طهمان الورّاق ، أبو رجاء ، السلمي مولاهم ، الخراساني ، سكن البصرة ، كان صدوقا في حديثه ، كثير الخطأ ، مات سنة ١٢٥.

(٦). وأخرج نحوه الترمذي (٣١٣٨) وأحمد عن ابن عبّاس. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٧). البخاري (٤٧٢١) في التفسير ، ومسلم في صفة القيامة (١٢).

(٨). برقم (٣١٣٩) في التفسير في «سننه» وقال هذا حديث حسن صحيح ، غريب من هذا الوجه.

٨٠