الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «طه» (١)

١ ـ وقال تعالى : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٤).

ووصف السماوات ب (العلى) دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها ، في علوّها وبعد مرتقاها.

أقول : (وَالسَّماواتِ الْعُلى) (٤) ، أي : العالية وهو من باب الوصف بالمصدر ، ومعناه اسم الفاعل ، كقولهم : شاهد عدل ، والمعنى عادل أو ذو عدل.

٢ ـ وقال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨).

(الحسنى) : تأنيث الأحسن.

أقول : وقد تحوّلت «الحسنى» إلى مصدر ، كالتّقوى والبقيا والبلوى ونحو ذلك ؛ ومنه قوله تعالى :

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) [النحل : ٦٢].

(وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصّلت : ٥٠].

وآيات أخرى ، وكنا عرضنا إلى شيء من هذا في آية سابقة.

٣ ـ وقال تعالى : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢).

وقوله تعالى : (طُوىً) (١٢) بالضم والكسر منصرف وغير منصرف بتأويل المكان والبقعة ، وقيل : مرّتين نحو ثنّى ، أي : نداءين ، أو قدّس الوادي كرّة بعد كرّة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٤١

٤ ـ وقال تعالى : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [الآية ١٥].

أي : أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفائها ، ولو لا ما في الإخبار بإتيانها ، مع تعمية وقتها من اللطف ، لما أخبرت به.

وقيل : معناه أكاد أخفيها من نفسي.

٥ ـ وقال تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩).

وقوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) أي : لتربّى وتغذّى بمرأى منّي ، أي يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك. والكلام على موسى (ع).

٦ ـ وقال تعالى : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) (٥٨).

قرئ (سوى) بالكسر أيضا ، وهو منوّن وغير منوّن ومعناه : منصفا بيننا وبينك ؛ عن مجاهد.

وهو من الاستواء ، لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية ، لا تفاوت فيها.

وقيل معناه مكان عدل بيننا وبينك ؛ عن قتادة. وهذا من الكلم الذي لو لا القرآن لكان من الضائع من مادة العربية القديمة.

٧ ـ وقال تعالى : (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [الآية ٦١].

وقوله تعالى : (فَيُسْحِتَكُمْ) ، أي : يستأصلكم بعذاب ، عن قتادة والسدّيّ.

وقيل : «يهلككم» عن ابن عبّاس ، وغيره.

أقول : وأصل السّحت : استقصاء الحلق ، يقال سحت شعره إذا استأصله. وسحته الله وأسحته إذا استأصله وأهلكه.

أقول أيضا : ومنه قول الفرزدق :

وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلّا مسحتا أو مجلّف قال الزمخشري :

والبيت لا تزال الرّكب تصطك في تسوية إعرابه.

أقول : وليس من هذا كلمة «السّحت» التي وردت في القرآن في سورة المائدة في قوله تعالى :

٢٤٢

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة : ٤٢].

٨ ـ وقال تعالى : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) (٦٢).

وقوله تعالى : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ) ، أي : أنّهم تشاوروا في السّرّ ، وتجاذبوا أهداب القول. وهذا معنى جميل لكلمة «التنازع».

٩ ـ وقال تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٧٨).

أقول : في الآية الكريمة ضرب من الإيجاز البليغ في قوله تعالى : (ما غَشِيَهُمْ) من باب الاختصار ، وهذا من جوامع الكلم التي تستقلّ مع قلّتها بالمعاني الكثيرة.

أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلّا الله.

وإذا كانت البلاغة بالإيجاز ، فإن ذلك واضح ، كل الوضوح ، في هذه الآية ، التي جاء الإيجاز فيها مؤذنا بالكثير من المعاني ، التي ينصرف إليها الذهن تصوّرا وتحقّقا.

١٠ ـ وقال تعالى : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الآية ٨٨].

وقوله تعالى : (عِجْلاً جَسَداً) أي : عجلا جسما.

أقول : وهذا من باب الوصف بالاسم الجامد ، على التأويل والمعنى : عجلا ذا جسد أو جسم ، أو مجسّدا مجسّما كما نقول بلغة هذا العصر.

١١ ـ وقال تعالى : (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٩١).

أقول : هذا شاهد في أنّ (لن) النافية الناصبة لا تقتضي التأبيد ، ذلك أن عدم البراح موقوت بالمدة التي هي قبل رجوع موسى.

وقد أردت التنبيه على هذه المسألة التي أشار إليها النّحاة ، وأنكروا على الزمخشري في «مفصّله» أنها تفيد التأبيد ، أقول : أردت التنبيه على هذه المسألة ، لأوكّد ما درج عليه المعاصرون من استعمال هذه الأداة إرادة التأبيد ، كقولهم : لم أقل هذا ولن أقوله.

١٢ ـ وقال تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) [الآية ٩٦].

قرأ الحسن : (قبضة) بضم القاف ، وهي اسم المقبوض كالغرفة والمضغة.

وأما (القبضة) بفتح القاف فهي المرّة من القبض ، وإطلاقها على المقبوض من باب تسمية المفعول بالمصدر.

٢٤٣

وقرئ أيضا : فقبصت قبصة بالصّاد المهملة.

وقيل : من قرأ بالضاد فهو بجميع الكفّ ، ومن قرأ بالصّاد فبأطراف الأصابع. أقول : ليس هذا التفريق وجيها ، وذلك لأنه لم يؤيد في كلام العرب ، وأرى أن الفعل بالضاد كالفعل بالصاد ، وتلك مسألة تتصل ب «اللهجات».

ويؤيّد هذا ما ورد في الآية الكريمة : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨].

وقرئت حضب بالضاد المعجمة ، كما قرئت : حطب بالطاء.

١٣ ـ وقال تعالى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧).

قوله تعالى : (ظَلْتَ) ، والأصل «ظللت» ، فحذفت اللام الأولى ، ونقلت حركتها إلى الظاء.

أقول : أرى أن اللام قد حذفت ، وليس من نقل للحركة ، والحذف للتخفيف ليس غير. ولم نجد نظير هذا الحذف ، في نظائر الفعل من المضاعف.

وقوله تعالى : (لَنَنْسِفَنَّهُ) بمعنى لنذرّينّه.

وفي عربيتنا المعاصرة ، يقال : نسف البناء ، أي أزاله وأفناه.

١٤ ـ وقال تعالى : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣).

وقوله تعالى : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) بالنون المكسورة ، وحقّها أن تكون «تتّبعني» بالياء.

أقول : وحذف الياء ، يعني قصر المدّ قليلا ؛ والاجتزاء عنه بالكسرة القصيرة ، ليس مسألة من مسائل رسم المصحف ، بل إنّ هذا الرسم الذي يباح فيه حذف ما لا يحذف ، يؤدّي غرضا صوتيا يتّصل بحسن الأداء ؛ وذاك أن المدّ القصير ، أي : الكسرة أنسب إلى المدّ القصير بعدها ، أي : الفتحة في قوله تعالى : (أَفَعَصَيْتَ) ، وهذا عند الوصل ، الذي هو أولى في هذا الموضع الذي يباح فيه الوقف الجائز.

٢٤٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «طه» (١)

قال تعالى : (طه) (١) منهم من يزعم أنها حرفان مثل (حم) (١) ومنهم من يقول (طه) (١) يعني : يا رجل في بعض لغات العرب.

وقوله تعالى (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣) بدل من قوله (لِتَشْقى) (٢) أي «ما أنزلنا القرآن عليك إلّا تذكرة» (٢).

وقال تعالى : (تَنْزِيلاً) [الآية ٤] أي : أنزل الله ذلك تنزيلا.

وقال تعالى : (الرَّحْمنُ) [الآية ٥] أي : هو الرّحمن (٣). وقال سبحانه (مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) [الآية ١٨] وواحدتها : «مأربة».

وقال : (آيَةً أُخْرى) (٢٢) [الآية ٢٢] أي : أخرج آية أخرى بجعله بدلا من قوله (بَيْضاءَ) (٤) [الآية ٢٢].

وقوله تعالى : (وَلا تَنِيا) [الآية ٤٢] من «ونى» و «يني» «ونيا» و «ونيّا».

وفي قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [الآية ٦٣] «إن» خفيفة في معنى ثقيلة ، وهي لغة لقوم يرفعون ويدخلون اللام ليفرقوا بينها وبين التي تكون في معنى «ما» (٥) ، ونقرأها ثقيلة ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في زاد المسير ٥ : ٢٧٠.

(٣). نقله في الجامع ١١ : ٢٢٦.

(٤). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٤٧ والجامع ١١ : ١٩١.

(٥). هي في السبعة ٤١٩ قراءة عاصم في رواية ، وفي حجّة ابن خالويه ٢١٧ الى ابن كثير وحفص عن عاصم وفي الكشف ٢ : ٩٩ ، والتيسير ١٥١ الى ابن كثير وحفص ، وفي الجامع ١١ : ١٢٦ زاد الزهري والخليل بن أحمد والمفضّل وأبان وابن محيصن ، وزاد في البحر ٦ : ٢٥٥ ابن سعيدان وأبا حياة ، وأبا الحرية وحميد وابن سعدان.

٢٤٥

وهي لغة لبني الحارث بن كعب (١).

وقوله تعالى (الْمُثْلى) (٦٣) [الآية ٦٣] تأنيث «الأمثل» (٢) مثل : «القصوى» و «الأقصى».

وقال تعالى : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٦٩) [الآية ٦٩] وتقول العرب : «جئتك من أين لا تعلم» و «من حيث لا تعلم».

وقال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) [الآية ١١١] من : «عنت» «تعنو» «عنوّا».

وقال تعالى : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) [الآية ١٢٩] كأنه يريد : ولولا (أَجَلٌ مُسَمًّى) [الآية ١٢٩] لكان لزاما.

وقال تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) أي : والعاقبة لأهل التقوى.

وقال تعالى : (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) أي قدر. ولم يزل قادرا ، ولكن أخبر بقدرته.

وقال تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) [الآية ٤٤] نحو قول الرجل لصاحبه : «افرع لعلّنا نتغدّى» والمعنى : «لنتغدّى» و «حتّى نتغدّى» وتقول للرجل : «اعمل عملك لعلّك تأخذ أجرك» أي : لتأخذه (٣).

وقال تعالى : (أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٥٣) يريد : «أزواجا شتّى من نبات» أو يكون النبات هو شتى. كلّ ذلك مستقيم (٤).

وقال تعالى : (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) [الآية ٧٢] يقول : «لن نؤثرك على الّذي فطرنا».

وقال تعالى : (لا تَخافُ دَرَكاً) [الآية ٧٧] أي (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً) [الآية ٧٧]

__________________

(١). في الطبري ١٦ : ١٨٠ الى عامة قراء الأمصار ، وفي السبعة ٤١٩ الى نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ، الى عاصم في رواية ، وفي حجة ابن خالويه ٢١٧ الى غير ابن كثير وحفص ، وكذلك في التيسير ١٥١ ، وفي الجامع ١١ : ٢١٦ الى المدنيين والكوفيين ، وفي البحر ٦ : ٢٥٥ الى أبي جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبي عبيد وأبي حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوين والصاحبين من السبعة.

(٢). نقله في التهذيب ١٥ : ٩٨ «مثل».

(٣). نقله في الأشموني ١ : ٢٨٠.

(٤). نقله في الجامع ١ : ٢٠٩.

٢٤٦

(لا تَخافُ) فيه (دَرَكاً) وحذف «فيه» كما تقول : «زيد أكرمت» ؛ تريد : «أكرمته» وكما قال (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨ و ١٢٣] أي لا تجزي فيه.

٢٤٧
٢٤٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «طه» (١)

إن قيل : قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً).

لم حكى الله تعالى قول موسى (ع) لأهله عند رؤية النار في هذه السورة ، وفي سورة النمل وفي سورة القصص ، بعبارات مختلفة ، وهذه القضية لم تقع إلّا مرّة واحدة؟

قلنا : قد سبق في سورة الأعراف ، في قصّة موسى (ع) مثل هذا السؤال ؛ والجواب المذكور ، ثمّ هو الجواب هنا.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) [الآية ١٦] ظاهر اللفظ نهي من لا يؤمن بالسّاعة عن صدّ موسى عن الإيمان بها. والمقصود هو نهي موسى عن التكذيب بها. فهل بوسعكم شرح ذلك؟.

قلنا : معناه كن شديد الشكيمة في الدين ، صليب المعجم (٢) لئلّا يطمع في صدّك عن الايمان بها من لا يؤمن بها ، وهذا كقولهم : لا أرينّك هاهنا ؛ معناه لا تدن مني ولا تقرب من حضرتي لئلّا أراك ؛ ففي الصورتين النهي متوجه إلى المسبّب ، والمراد به النهي عن السبب ، وهو القرب منه والجلوس بحضرته ، فإنه سبب رؤيته ، وكذلك لين موسى (ع) في الدين وسلاسة قياده سبب لصدّهم إيّاه.

فإن قيل : ما الحكمة من السؤال في قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

(٢). صليب المعجم والمعجمة : عزيز النفس إذا امتحن وجد عزيزا صلبا.

٢٤٩

يا مُوسى) (١٧) ، وهو أعلم بما في يده جملة وتفصيلا؟

قلنا : الحكمة فيه ، تأنيسه وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب وهيبة الإجلال وقت التكلّم معه ؛ كما يرى أحدنا طفلا قد داخلته هيبة وإجلال وخوف ، وفي يده فاكهة أو غيرها ، فيلاطفه ويؤانسه ، بقوله ما هذا الذي في يدك؟ مع أنه عالم به. الثاني : أنه تعالى أراد بذلك أن يقرّ موسى عليه‌السلام ، ويعترف بكونها عصا ، ويزداد علمه بكونها عصا رسوخا في قلبه ، فلا يحوم حوله شكّ إذا قلبها ثعبانا أنها كانت عصا ، ثمّ انقلبت ثعبانا ، بقدرة الله تعالى. وأن يقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه والمقلوب إليه فيتنبه على القدرة الباهرة. ونظيره أن يريك الحدّاد قطعة من حديد ويقول لك ما هذه؟ فتقول زبرة من حديد ، ثم يريك بعد أيام درعا واسعة مسرودة ويقول : هذه تلك القطعة صيّرتها إلى ما تراه من عجيب الصنعة ، وأنيق السرد.

فإن قيل : قد ذكر الله تعالى عصا موسى (ع) بلفظ الحيّة والثعبان والجانّ ؛ وبين الثعبان والجانّ تناف ، لأنّ الجانّ الحيّة الصغيرة كذا قاله ابن عرفة ، والثعبان الحيّة العظيمة ، كذا نقله الأزهري عن الزجّاج وقطرب.

قلنا : أراد سبحانه أنها في صورة الثعبان العظيم ، وخفّة الحيّة الصغيرة وحركتها ؛ ويؤيّد ذلك قوله جلّ وعلا : (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ) [النمل : ١٠]. الثاني أنها كانت في أوّل انقلابها تنقلب حيّة صغيرة صفراء دقيقة ، ثمّ تتورّم ويتزايد جرمها حتّى تصير ثعبانا ؛ فأريد بالجانّ أوّل حالها ، وبالثعبان مالها.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) (٣٨) وهذا لا بيان فيه ، لأنّه مجمل؟

قلنا : الحكمة هي الإشارة إلى أنه ليس كل الأمور ممّا يوحى إلى النساء ، كالنبوّة ونحوها ، بل بعضها. الثاني : أنه للتأكيد ، كقوله تعالى : (فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) [النجم] كأنّه قال : إذ أوحينا إلى أمك إيحاء. الثالث : أنه أبهمه أوّلا للتفخيم والتعظيم ، ثمّ بيّنه وأوضحه ، بقوله تعالى : (أَنِ اقْذِفِيهِ) [الآية ٣٩].

فإن قيل : لم قدّم هارون على موسى عليهما‌السلام ، في قوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ

٢٥٠

وَمُوسى) (٧٠) وهارون كان وزيرا لموسى (ع) وتبعا له ؛ قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) (٣٥) [الفرقان]؟

قلنا : إنّما قدّمه ليقع موسى مؤخّرا في اللفظ فيناسب الفواصل ، أعني رؤوس الآيات.

فإن قيل : ما المراد في قوله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٧٤)؟

قلنا : المراد : لا يموت فيها موتا يستريح به ، ولا يحيا حياة تنفعه ويستلذّ بها. الثاني : أنّ المراد لا يموت فيها موتا متّصلا ، ولا يحيا حياة متصلة ؛ بل كلّما مات من شدّة العذاب ، أعيد حيّا ليذوق العذاب ، هكذا سبعين مرة في مقدار كلّ يوم من أيام الدنيا.

فإن قيل : الخوف والخشية واحد في اللغة ، فلم قال تعالى : (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (٧٧).

قلنا : معناه لا تخاف دركا : أي لحاقا من فرعون ، ولا تخشى غرقا في البحر.

كما تقول : لا تخاف زيدا ولا تخشى عمرا ، ولو قلت ولا عمرا صحّ وكان أوجز ؛ ولكن إذا أعدت الفعل ، كان آكد ؛ وأما في الآية فلما لم يكن مفعول الخشية مذكورا ، وذكر الفعل ثانيا ليكون دليلا عليه ، وخولف بين اللفظين رعاية للبلاغة. وقيل معناه لا تخاف دركا على نفسك ، ولا تخشى دركا على قومك ؛ والأوّل عندي أرجح.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) [الآية ٧٩] يغني عن قوله تعالى : (وَما هَدى) (٧٩) ومفيد فوق فائدته فلم ذكر معه؟

قلنا : معناه : وما هداهم بعد ما أضلّهم ، فإنّ المضلّ قد يهدي بعد إضلاله. الثاني : أنّ معناه : وأضلّ قومه وما هدى نفسه. الثالث : أن معناه : وأضلّ فرعون قومه عن الدّين ، وما هداهم طريقا في البحر. الرابع : أنّ قوله تعالى : (وَما هَدى) (٧٩) تهكّم به في قوله لقومه ، كما ورد في التنزيل : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) (٢٩) [غافر].

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) [الآية ٨٠] أضاف المواعدة إليهم ؛ والمواعدة ، إنّما كانت

٢٥١

لموسى (ع) ، واعده الله تعالى جانب الطّور الأيمن لإتيانه التوراة؟

قلنا : المواعدة ، وإن كانت لموسى (ع) ، ولكنّها ، لمّا كانت لإنزال كتاب بسبب بني إسرائيل ، وفيه بيان شريعتهم وأحكامهم وصلاح معاشهم ومعادهم ، أضيفت إليهم المواعدة بهذه الملابسة والاتصال.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) (٨٣) سؤال عن سبب العجلة ، فإن موسى (ع) لمّا واعده الله تعالى بإنزال التوراة عليه بجانب الطور الأيمن ، وأراد الخروج إلى ميعاد ربّه اختار من قومه سبعين رجلا يصحبونه إلى ذلك المكان ، ثمّ سبقهم شوقا إلى ربّه وأمرهم بلحاقه ، فعوتب على ذلك ، وكان الجواب المطابق أن يقول : طلبت زيادة رضاك أو الشوق إلى لقائك وتنجيز وعدك ، فلم قدّم ما لا يطابق السؤال ، وهو قوله تعالى : (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) [الآية ٨٤]؟

قلنا : ما واجهه ربّه به تضمّن شيئين : إنكار العجلة في نفسها ، والسؤال عن سببها ؛ فبدأ موسى (ع) بالاعتذار عمّا أنكره تعالى عليه ، بأنه لم يوجد منه إلّا تقدّم يسير لا يعتدّ به في العادة ، كما يتقدّم المقدّم جماعته وأتباعه ؛ ثم عقّب العذر بجواب السؤال عن السبب ، بقوله كما ورد في التنزيل : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) (٨٤).

فإن قيل : أليس أنّ أئمّة اللغة قالوا : العوج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأعيان ، ولهذا قال ثعلب : ونقول في الأمر والدين عوج ، وفي العصا ونحوها عوج ، كالجبال والأرض ، فكيف صحّ فيها المكسور ، في قوله تعالى : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١٠٧)؟

قلنا : قال ابن السّكّيت : كل ما كان ممّا ينتصب كالحائط والعود ، قيل فيه عوج بالفتح ، والعوج بالكسر ما كان في أرض أو دين أو معاش ، فعلى هذا لا إشكال. الثاني : أنه أريد به نفي الاعوجاج الذي يدرك بالقياس الهندسي ولا يدرك بحاسّة البصر ، وذلك اعوجاج لاحق بالمعاني ، فلذلك قال فيه عوج بالكسر ؛ ومما يوضح هذا أنك لو سوّيت قطعة أرض غاية التسوية ، بمقتضى نظر العين ، بموافقة جماعة من البصراء ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها عوج قط ، ثم أمرت المهندس أن يعتبرها بالمقاييس

٢٥٢

الهندسية ، وجد فيها عوجا في غير موضع ، ولكنه عوج لا يدرك بحاسة البصر ، فنفى الله تعالى ذلك العوج لما لطف ودقّ عن الإدراك ، فكان لدقّته وخفائه ملحقا بالمعاني.

فإن قيل : إنّ الله تعالى أخبر أن آدم (ع) نسي عهد الله ووصيّته ، وأكل من الشجرة ، بقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) [الآية ١١٥] وإذا كان فعل ذلك ناسيا ، فكيف وصف بالعصيان والغواية ، بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١٢١) فعاقبه عليه بأعظم أنواع العقوبة ، وهو الإخراج من الجنّة؟

قلنا : النسيان هنا بمعنى الترك ، كما في قوله تعالى : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) [السجدة : ١٤] أي تركناكم في العذاب ، وقوله تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] فمعناه أنه ترك عهد الله ووصيته ، فكيف يكون من النسيان الذي هو ضد الذّكر ؛ وقد جرى بينه وبين إبليس من المجادلة والمناظرة في أكل الشجرة ، فصول كثيرة ؛ ما ذكره تعالى في قوله : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠) فكيف يبقى مع هذا نسيان؟

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧) ولم يقل فتشقيا ، والخطاب لآدم وحواء (ع)؟

قلنا : لوجوه : أحدها أن الرجل قيّم أهله وأميرهم ، فشقاؤه يتضمّن شقاءهم ، كما أن معاداته تتضمن معاداتهم ؛ فاختصر الكلام بإسناد الشقاء إليه دونها ، لمّا كان متضمّنا له. الثاني : أنه إنما أسند إليه دونها للمحافظة على الفاصلة. الثالث : أنه أريد بالشقاء : الشقاء في طلب القوت وإصلاح المعاش ، وذلك وظيفة الرجل دون المرأة ، قال سعيد بن جبير : أهبط إلى آدم (ع) ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ، ويمسح العرق عن جبينه ، فذلك شقاؤه.

فإن قيل : هل يجوز أن يقال : كان آدم عاصيا غاويا ، أخذا من قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١٢١)؟

قلنا : يجوز أن يقال : عصى آدم ، كما قال الله تعالى ، ولا يجوز أن يقال كان آدم عاصيا ، لأنه لا يلزم من جواز إطلاق الفعل جواز اطلاق اسم الفاعل ؛ ألا ترى أنه يجوز أن يقال تبارك الله ولا يجوز أن يقال الله تبارك ،

٢٥٣

ويجوز أن يقال تاب الله على آدم ، ولا يجوز أن يقال الله تائب ؛ ونظائره كثيرة.

فإن قيل : أسماء الله تعالى وصفاته توفيقيّة لا مدخل للقياس فيها ؛ ولهذا يقال الله عالم ، ولا يقال علّامة ، وإن كان هذا اللفظ أبلغ في الدلالة على معنى العلم ؛ فأما أسماء البشر وصفاتهم ، فقياسية ؛ فلم لا يجرى فيها على القياس المطّرد؟

قلنا : هذا القياس ليس بمطّرد في صفات البشر أيضا ، ألا ترى أنهم قالوا ذره ودعه بمعنى اتركه ، وفلان يذر ويدع ، ولم يقولوا منهما وذر ولا واذر ، ولا ودع ولا وادع ، فاستعملوا منهما الأمر والمضارع فقط. ولقائل أن يقول : هذا شاذّ في كلام العرب ونادر ، فلا يترك لأجله القياس المطّرد ، بل يجري على مقتضى القياس.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) [الآية ١٢٤] أي عن موعظتي ، أو عن القرآن ، فلم يؤمن به ولم يتبعه (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) [الآية ١٢٤] أي حياة في ضيق وشدّة ، ونحن نرى المعرضين عن الإيمان والقرآن ، في أخصب معيشة وأرغدها؟

قلنا : قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : المراد بالمعيشة الضّنك الحياة في المعصية ، وإن كان في رخاء ونعمة. وروي عن النبي (ص) أنّها عذاب القبر. الثاني : أنّ المراد بها عيشته في جهنّم في الاخرة. الثالث : أن المراد بها عيشه مع الحرص الشديد على الدنيا وأسبابها ؛ وهذه الآية في مقابلة قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧]. فكلّ ما ذكرناه في تفسير الحياة الطيّبة ، فضدّه وارد في المعيشة الضّنك.

فإن قيل : أيّ كلمة سبقت من الله سبحانه ، فكانت مانعة من تعذيب هذه الأمة في الدنيا عذاب الاستئصال ، حتى قال جلّ شأنه : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً) [الآية ١٢٩]؟

لا اختصاص لهذه الأمّة بهذه الكلمة ، وقيل هي قوله تعالى للنبي (ص) : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] وقيل هي قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) [الأنبياء] يعني لعالمي أمّته بتأخير العذاب عنهم ؛ وقيل في الآية تقديم وتأخير تقديره : ولولا

٢٥٤

كلمة سبقت من ربّك وأجل مسمّى ، وهو الأجل الذي قدّر الله تعالى بقاء العالم وأهله إلى انقضائه ، لكان العذاب لزاما : أي لازما لهم كما لزم الأمم التي قبلهم.

فإن قيل : أصحاب الصراط السويّ والمهتدون واحد ، فما الحكمة من التكرار في قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥)؟

قلنا : المراد بأصحاب الصراط السويّ ، السالكون الصراط المستقيم ، السائرون عليه ؛ والمراد بالمهتدين الواصلون إلى المنزل. وقيل أصحاب الصراط السويّ ، هم الذين ما زالوا على الصراط المستقيم ؛ والمهتدون هم الذين لم يكونوا على الطريق المستقيم ، ثمّ صاروا عليه. وقيل المراد بأصحاب الصراط السّويّ ، أهل دين الحقّ في الدنيا ؛ والمراد بمن اهتدى ، المهتدون إلى طريق الجنة في العقبي ؛ فكأنه سبحانه قال : فستعلمون من المحقّ في الدنيا ، والفائز في الاخرة.

٢٥٥
٢٥٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «طه» (١)

قوله سبحانه : (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها) [الآية ١٥] وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو مما سمعته من شيخنا أبي الفتح النحوي (٢) ، عفا الله عنه. قال : الذي عليه حذّاق أصحابنا : أنّ «كاد» هاهنا على بابها من معنى المقاربة. إلا أن قوله تعالى : (أُخْفِيها) يؤول إلى معنى الإظهار. لأن المراد به : أكاد أسلبها خفاءها. والخفاء الغشاء والغطاء مأخوذ من خفاء (٣) القربة ، وهو الغشاء الذي يكون عليها.

فإذا سلب عن الساعة غطاؤها المانع من تجلّيها ، ظهرت للناس ، فرأوها ؛ فكأنه تعالى قال : أكاد أظهرها. قال لي : وأنشدني أبو علي (٤) منذ أيام بيتا هو من أنطق الشواهد على الغرض الذي رمينا. وكان سماعي ذلك من أبي الفتح رحمه‌الله ، وأبو علي حينئذ باق لم يمت ، وهو قول الشاعر (٥) :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو أبو الفتح عثمان بن جنّي ، إمام النحو المشهور ، وأستاذ المؤلّف ، وقد سبق تعريفنا به في هوامش مجازات سورة التوبة.

(٣). الخفاء : الغطاء وجمعه أخفية.

(٤). أبو علي ، هو أبو علي الفارسي ، واسمه الحسن بن أحمد بن عبد الغفّار ، كان إماما في العربيّة. وكان يسأل في كل بلد يحلّ فيه عن مسائل من اللغة والنحو والصرف ، فيجيب إجابات سديدة. وصنّف في أسئلة كلّ بلد كتابا. وقد تعاصر المؤلف وابن جنّي وأبو علي الفارسي. وكان المؤلّف شابّا ناشئا ، حين تقدّمت السن بأبي علي الفارسي ، الذي توفي سنة ٣٧٧ ه‍ ، على حين أن الشريف الرضي ولد سنة ٣٥٩ ه‍.

(٥). هذا البيت لم يذكر له قائل. وهو من أبيات الشواهد في «لسان العرب» ولم ينسب لقائله.

٢٥٧

لقد علم الأيقاظ أخفية الكرى

تزجّجها من حالك واكتحالها

ومعناه لقد علم الأيقاظ عيونا. فجعل العين للنوم في أنها مشتملة عليه ، كالخفاء للقربة في أنه مشتمل عليها.

وقول الشاعر : «أخفية الكرى» من الاستعارات العجيبة ، والبدائع الغريبة. وقوله : «تزجّجها من حالك واكتحالها» ، يعود على العيون ، كأنه قال تزجّج العيون واكتحالها من سواد الليل. وهذا لا يكون إلّا مع السهر وامتناع النوم ، لأن العيون حينئذ بانفتاحها تكون كالمباشرة لسواد الظلماء ، فيكون كالكحل لها.

والتزجّج : اسوداد العينين من الكحل. يقال زجّجت (١) المرأة عينها وحاجبها. إذا سودتهما بالإثمد.

وعلى التأويل الاخر يبعد الكلام عن طريق الاستعارة ، وهو أن يكون أكاد هاهنا بمعنى أريد ، كما قلنا فيما مضى (٢). ومن الشواهد على ذلك قول الشاعر :

أمنخرم شعبان لم تقض حاجة

من الحاج كنّا في الأصمّ (٣) نكيدها

أي كنا نريدها في رجب ، ويكون (أُخْفِيها) على موضوعه ، من غير أن يعكس عن وجهه. ويكون المعنى : إن الساعة آتية أريد أستر وقت مجيئها ، لما في ذلك من المصلحة. لأنه إذا كان المراد بإقامتها المجازاة على الأفعال ، والمؤاخذة بالأعمال ، كانت الحكمة في إخفاء وقتها ليكون الخلق في كلّ حين وزمان على حذر من مجيئها ، ووجل من بغتتها ، فيستعدّوا قبل حلولها ، ويمهّدوا قبل نزولها.

ويقوّي ذلك قوله سبحانه : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥).

__________________

(١). ومنه قول الشاعر الراعي النميري :

إذا ما الغانيات برزن يوما

وزجّجن الحواجب والعيونا

وهذا البيت من شواهد النحو في باب المفعول معه. انظر «أوضح المسالك ، إلى ألفية ابن مالك» الشاهد ٢٥٩.

(٢). في الآية رقم ٧٧ من سورة الكهف.

(٣). الأصمّ : شهر رجب ، وسمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت السلاح ، لكونه شهرا حراما. انظر لسان العرب. وقال الخليل : إنّما سمّي بذلك ، لأنه كان لا يسمع فيه صوت مستغيث ، ولا حركة قتال ولا قعقعة سلاح ، لأنه من الأشهر الحرم.

٢٥٨

وقوله سبحانه : (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١) وهذه استعارة. لأن المراد بالسيرة هاهنا الطريقة والعادة. وأصل السيرة مضيّ الإنسان في تدبير بعض الأمور ، على طريقة حسنة أو قبيحة. يقال : سار فلان الأمير فينا سيرة جميلة. وسار بنا سيرة قبيحة. ولكن موسى (ع) لمّا كان يصرف عصاه ـ قبل أن تنقلب حيّة ـ في أشياء من مصالحه ، كما حكى سبحانه عنه ، بقوله : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) ثمّ قلبت حيّة ، جاز أن يقال (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١) أي إلى الحال التي كنت تصرفها معها في المصالح المذكورة ، لأن تصرّفها في تلك الوجوه كالسيرة لها ، والطريقة المعروفة منها ؛ والمراد سنعيدها إلى سيرتها الأولى ، فانتصبت السيرة بإسقاط الجار.

وقوله سبحانه : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [الآية ٢٢]. وهذه استعارة ، المراد بها ، والله أعلم ، وأدخل يدك في قميصك ممّا يلي إحدى جهتي يديك. وسميت تلك الجهتان جناحين ، لأنهما في موضع الجناحين من الطائر. ويوضح ما ذكرنا قوله سبحانه في مكان آخر : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل : ١٢] ، والجيب في جهة إحدى اليدين.

قوله سبحانه : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي) (٢٨) وهذه استعارة. والمراد بها إزالة لفف (١) كان في لسانه ، فعبّر عنه بالعقدة. وعبّر عن مسألة إزالته بحلّ العقدة ؛ للملاءمة بين النظام ، والمناسبة بين الكلام.

وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك ، إزالة التقيّة عن لسانه ، وكفايته سطوة فرعون وغواته ، حتى يؤدي عن الله سبحانه آمنا ، ويقول متمكّنا ، فلا يكون معقود اللسان بالتقيّة ، معكوم الفم بالخوف والمراقبة. وذلك كقول القائل : لسان فلان معقود ، إذا كان خائفا من الكلام ؛ ولسان فلان منطلق ، إذا كان مقداما على المقال.

وقوله سبحانه : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩). وفي هذه الآية استعارتان. إحداهما قوله

__________________

(١). اللّفف : التواء عصب في اللسان ، يعطّله عن الكلام.

٢٥٩

سبحانه : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) وليس المراد أن هناك شيئا يلقى عليه في الحقيقة ، ولكنّ المعنى أنني جعلتك بحيث لا يراك أحد إلّا أحبّك ، ومال قلبه نحوك ، حتّى أحبّك فرعون وامرأته ، فتبنّياك وربّياك ، واسترضعا لك ، وكفلاك. وهذا كقول القائل : على وجه فلان قبول. وليس هناك على الحقيقة شيء يومأ إليه. إلا أن كل ناظر ينظر إليه يقبله قلبه وتسرّ به نفسه.

والاستعارة الأخرى ، قوله سبحانه : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩) والمراد بذلك ، والله أعلم ، أن تتربّى بحيث أرعاك وأراك. وليس أنّ هاهنا شيئا يغيب عن رؤية الله سبحانه ، ولكنّ هذا الكلام يفيد الاختصاص بشدة الرعاية ، وفرط الحفظ والكلاءة ؛ ولمّا كان الحافظ للشيء في الأغلب يديم مراعاته بعينه ، جاء تعالى باسم العين بدلا من ذكر الحفظ والحراسة ، على طريق المجاز والاستعارة.

ويقول العربي لغيره : أنت مني بمرأى ومسمع. يريد بذلك أنه متوفّر عليه برعايته ، ومنصرف إليه بمراعاته.

وقوله سبحانه : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) وهذه استعارة. والمراد بها : واصطنعتك لتبلّغ رسالتي ، وتنصرف على إرادتي ومحبّتي ؛ وقال بعضهم : معنى لنفسي هاهنا ، أي لمحبّتي ؛ وإنّما جاز أن يوقع النفس موقع المحبة ، لأنّ المحبّة أخصّ شيء بالنفس ، فحسن أن تسمّى بالنفس. وقد يجوز أن يكون ذلك على معنى قول القائل : اتّخذت هذا الغلام لنفسي ، أي جعلته خاصّا لخدمتي ، لا يشاركني في استخدامه أحد غيري. وسواء قال اتّخذته ، أو اتّخذته لنفسي ، في فائدة الاختصاص ، ليس أن هناك شيئا يتعلّق بالنفس على الحقيقة.

وقوله سبحانه : (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠) وهذه استعارة على أحد التأويلين. والمراد بها ، والله أعلم ، أنه أكمل لكلّ شيء صورته ، وأتقن خلقته ، وهذا يعمّ كلّ مصوّر من حيوان وجماد وغير ذلك. فلا معنى لحمل من حمله على الحيوان فقط.

وعندي في ذلك وجه آخر ، وإن كان الكلام يخرج به من باب الاستعارة ؛ وهو أن يكون في الكلام تقدير وتأخير. فكأنه سبحانه قال : ربّنا الذي أعطى خلقه كلّ شيء ، ثمّ هداهم إلى

٢٦٠