الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

مطاعمهم ومشاربهم ، ومناكحهم ، ومساكنهم ، وغير ذلك من مصالحهم. ويكون ذلك نظير قوله تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) [إبراهيم : ٣٤] ويكون المراد أنه سبحانه أعطى خلقه في أوّل خلقهم كل ما تزاح به عللهم ، ويتكامل معه خلقهم ، من سلامة الأعضاء ، واعتدال الأجزاء ، وترتيب المشاعر والحواسّ ، ومواقع الأسماع والأبصار ، ثمّ هداهم من بعد لمصالحهم ، ودلّهم على مناكحهم ، وأجراهم في مضمار التكليف إلى غاياتهم.

وقوله سبحانه : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) [الآية ٥٣]. وهذه استعارة. والمراد بها تشبيه الأرض بالمهاد المفترش ، ليمكن الاستقرار عليها ، والتقلّب فيها. وقد مضى نظير هذه الاستعارة فيما تقدم. ومعنى المهد والمهاد واحد. وهو مثل الفرش والفراش. إلّا أنّ المهد ربّما استعمل في رسم الآلة التي يجعل فيها الصبيّ الصغير ليحفظه ، وهو يؤول إلى معنى الفراش. والمهد أيضا : مصدر مهد ، يمهد ، مهدا. إذا مكّن موضعا لقدمه ، ومضجعا لجنبه.

وقوله سبحانه : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١) وهذه استعارة. والمراد بها ما يظهر في الوجوه يوم القيامة من آثار الضّرع ، وأعلام الجزع. وذلك مأخوذ من تسميتهم الأسير «العاني» ومنه ما جاء في بعض الكلام : النساء عوان عند أزواجهنّ ، أي أسيرات في أيدي الأزواج. وعلى ذلك قول القائل : هذه المرأة في حبال فلان ، لأنه بما عقده من نكاحها كالأسر لها ، والمالك لرقّها. فكأنّ الوجوه خضعت من خشية الله تعالى ، خضوع الأسير الذليل في يد الاسر العزيز.

٢٦١
٢٦٢

سورة الأنبياء

٢١

٢٦٣
٢٦٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الأنبياء» (١)

سورة الأنبياء سورة مكّية بالاتّفاق وآياتها ١١٢ آية ، وقد نزلت قبيل الهجرة إلى المدينة ، أي حوالي السنة الثانية عشرة من البعثة ؛ وسمّيت بسورة الأنبياء ، لأنه اجتمع فيها ، على قصرها ، كثير من قصص الأنبياء ، فسمّيت السّورة باسمهم.

الغرض منها وترتيبها

هي سورة مكّية ، نزلت في آخر العهد المكّيّ ، أي في ذروة تجبّر أهل مكّة ، وعنتهم ، وانصرافهم عن الإسلام.

فنزلت تنذر هؤلاء الكفّار باقتراب العذاب ففي بدايتها :

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١).

ثمّ ساقت السورة الأدلّة ، على الألوهية والتوحيد والرسالة والبعث. وهي الموضوعات التي عنيت بها السور المكية ، من أجل تقرير العقيدة والدفاع عنها.

* * *

ونلحظ ، هنا ، أنّ السورة قد عالجت الموضوعات ، بعرض النواميس الكونية الكبرى ، وربط العقيدة بها.

فالعقيدة ، في سورة الأنبياء ، جزء من بناء هذا الكون ونواميسه الكبرى.

وهذه العقيدة ، تقوم على الحقّ الذي قامت عليه السماوات والأرض ، وليست لعبا ولا باطلا ؛ كما أنّ هذا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٦٥

الكون لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدّى :

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١٦).

ويلفت السياق الناس إلى مظاهر الكون الكبرى ، في السماء والأرض ، والرواسي والفجاج ، والليل والنهار ، والشمس والقمر ، موجّها الأنظار إلى وحدة النواميس التي تحكمها وتصرّفها ، وإلى دلالة هذه الوحدة على وحدة الخالق المدبّر المالك ، الذي لا شريك له في الملك ؛ كما أنه سبحانه ، لا شريك له في الخلق :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الآية ٢٢].

ثم تتحدّث السورة عن وحدة النواميس ، التي تحكم الحياة في هذه الأرض ، وعن وحدة مصدر الحياة :

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الآية ٣٠].

وعن وحدة النهاية التي ينتهى إليها الأحياء :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [الآية ٣٥].

والعقيدة وثيقة الارتباط بتلك النواميس الكونية ، فهي واحدة كذلك ، وإن تعدّد الرّسل على مدار الزمان :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥).

وكما أن العقيدة وثيقة الارتباط بنواميس الكون الكبرى ، فكذلك ملابسات هذه العقيدة في الأرض. فالسنّة التي لا تتخلّف : أن يغلب الحقّ في النهاية ، وأن يزهق الباطل ، لأنّ الحقّ قاعدة كونية ، وغلبته سنّة إلهية :

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الآية ١٨].

وأن يحلّ الهلاك بالظالمين المكذّبين ، وينجي الله الرسل والمؤمنين :

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٩).

وأن يرث الأرض عباد الله الصالحون :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥).

ومن ثمّ يستعرض السياق أمّة الرّسل الواحدة ، في سلسلة طويلة ، استعراضا سريعا ، يطول بعض الشيء ، عند

٢٦٦

عرض حلقة من قصّة إبراهيم (ع) وعند الإشارة إلى داود وسليمان (ع).

ويقصر عند الإشارة إلى قصص نوح ، وموسى ، وهارون ، ولوط ، وإسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل ، وذي النون ، وزكريا ، ويحيى وعيسى (ع).

وفي هذا الاستعراض تتجّلى المعاني التي سبقت في سياق السورة ، تتجلّى في صورة وقائع في حياة الرسل والدعوات ، بعد ما تجلّت في صورة قواعد عامة ونواميس.

كذلك يتضمّن سياق السورة بعض مشاهد القيامة ، وتتمثّل فيها تلك المعاني نفسها في صورة واقع يوم القيامة.

وهكذا تتجمّع الأساليب المنوّعة في السورة على هدف واحد ، هو استجاشة القلب البشريّ لإدراك الحق الأصيل في العقيدة ، التي جاء بها خاتم الرّسل (ص) فلا يتلقّاها الناس غافلين ، معرضين لاهين ، كما تصفهم السورة في مطلعها.

إنّ هذه الرسالة حقّ ، كما أن هذا الكون حقّ وجدّ. فلا مجال للهو في استقبال الرسالة ، ولا مجال لطلب الآيات الخارقة ، وإنّ آيات الله في الكون ، وسنن الكون كلّها توحي بأنه سبحانه الخالق القادر الواحد ، والرسالة من لدن ذلك الخالق القادر الواحد.

نظم السورة

النّظم في سورة الأنبياء ، يختلف عن النظم في سورتي مريم وطه. هناك كان النظم سهلا ، والختام رخيّا ، يختم في الغالب بالألف اللينة.

أمّا في سورة الأنبياء ، فالنّظم نظم التقرير ، الذي يتناسق مع موضوعها ، ومع جوّ السياق في عرض هذا الموضوع ، ولذلك ختمت آياتها بالميم أو بالنون.

* * *

وإذا نظرنا الى الجانب الذي عرض من قصّة إبراهيم (ع) في سورة مريم ، وجدنا أن الحلقة التي عرضت هناك ، حلقة الحوار الرّخي بين إبراهيم وأبيه. وقد ختمت آيات الحوار هناك ، بالألف الليّنة مثل نبيّا ، صفيّا ، عليّا.

أمّا هنا ، فجاءت حلقة تحطيم الأصنام ، وإلقاء إبراهيم في النار. ولكي يتحقّق التناسق في الموضوع ،

٢٦٧

والجوّ والنظم ، والإيقاع ، فقد ختمت قصّة إبراهيم هنا ، بالنون أو الميم ، التي تفيد التقرير والتأكيد ، أو ما يشبه أحكام القضاء بعد تفكّر وتأمّل وترتيب.

أشواط أربعة

يمكن أن نقسم سورة الأنبياء إلى أربعة أقسام ، يمضي السياق خلالها من قسم إلى آخر ، ويمهّد كلّ شوط للّذي يليه.

الشوط الأول

يبدأ الشوط الأول بمطلع قويّ الضربات ، يهزّ القلوب هزّا ؛ وهو يلفتها إلى الخطر القريب المحدق ، وهي عنه غافلة لاهية :

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١).

ثمّ يهزّها هزة أخرى ، بمشهد من مصارع الغابرين ، الذين كانوا عن آيات ربّهم غافلين :

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) (١١).

ثمّ يربط بين الحقّ والجدّ في الدّعوة ، نظام الكون ، عقيدة التوحيد ونواميس الوجود ، ووحدانيّة الخالق المدبّر ووحدة الرسالة والعقيدة ، ووحدة مصدر الحياة ونهايتها ومصيرها ، على النحو الذي أسلفناه ، ويمتدّ هذا الشوط من أول السورة إلى الآية ٣٥.

الشوط الثاني

أما الشوط الثاني ، فيرجع السياق بالحديث إلى الكفّار ، الذين يواجهون الرسول (ص) بالسخرية والاستهزاء ، والأمر جدّ وحق ، وكل ما حولهم يوحي باليقظة والاهتمام ، وهم يستعجلون العذاب ، والعذاب منهم قريب. وهنا يعرض مشهدا من مشاهد القيامة ، ويلفتهم إلى ما أصاب المستهزئين بالرّسل قبلهم ؛ ويقرّر أن ليس لهم من الله من عاصم ، ويوجّه قلوبهم إلى تأمّل يد القدرة ، وهي تنقص الأرض من أطرافها ، وتزوي رقعتها وتطويها ، فلعلّ هذا أن يوقظهم من غفلتهم ، التي جاءتهم من طول النعمة وامتداد الرخاء.

وينتهي السياق في هذا الشوط بتوجيه الرسول (ص) إلى بيان وظيفته :

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الآية ٤٥].

٢٦٨

وإلى الخطر الذي يتهددهم في غفلتهم :

(وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) (٤٥).

حتى تنصب الموازين القسط ، وهم في غفلتهم سادرون. ويمتدّ هذا الشوط من الآية ٣٦ إلى الآية ٤٧.

الشوط الثالث

ويتضمّن الشوط الثالث استعراض أمّة النبيّين ، وجهاد الرّسل ، وبلاءهم في سبيل الحق. ويبدأ الشوط بموسى وهارون (ع) وقد أنعم الله عليهما بالفرقان ، وهو التوراة ، لأنّها تفرق بين الحق والباطل ؛ ثم ذكر إبراهيم (ع) وقد أعطاه الله الرشد والهداية ، فأنكر على قومه عبادة الأصنام ، ثمّ حطّمها ، فألقي في النار ، فجعلها الله بردا وسلاما عليه ؛ ثم ذكر نجاة لوط (ع) من قومه المعتدين ، ونجاة نوح (ع) وأتباعه من الطوفان ؛ ثم ذكر حكم سليمان (ع) ودعاء يونس (ع) وسؤال زكريّا (ع) وصلاح مريم (ع). ويعقب الشوط بأنّ هناك وحدة بين هذه الرسالات ، في العقيدة والإيمان والهدف والقيم والسلوك :

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٩٢).

وتتجلّى في رسالة الأنبياء عناية الله بهم ، ورعايته لأهل رسالته وتولّيهم بالعناية والرعاية ، وأخذ المكذّبين والظالمين ، أخذ عزيز مقتدر ، ويمتدّ هذا الشوط من الآية ٤٨ إلى الآية ٩٥.

الشوط الرابع

أما الشوط الرابع والأخير ، فيعرض النهاية والمصير ، في مشهد من مشاهد القيامة المثيرة ، حينما يفتح سدّ يأجوج ومأجوج ، ويعرض ذلّ الكفار في عذاب جهنّم ، ونعيم المؤمنين في الجنّة ، ثمّ طيّ السماوات في ساعة القيامة. ثم توجّه السياق إلى الرسول (ص) بالخطاب ، فذكر أن الله سبحانه أرسله بالرحمة والإحسان ، لتبليغ رسالته إلى الناس. ثم ختمت السورة بمثل ما بدأت : إيقاعا قويا ، وإنذارا صريحا. ويمتدّ هذا الشوط من الآية ٩٦ إلى ١١٢.

وفي آخر آية من السورة رنين يتحدّى الكفّار ، ويتوعّدهم بحكم الله العادل :

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢).

٢٦٩
٢٧٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الأنبياء» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الأنبياء بعد سورة إبراهيم ، وقد نزلت سورة إبراهيم بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة الأنبياء في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لأنه اجتمع فيها على قصرها ، كثير من قصص الأنبياء ، فسمّيت سورة الأنبياء باسمهم ، وتبلغ آياتها اثنتي عشرة ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة ، إثبات قرب ما أمروا بتربّصه من العذاب في آخر السورة السابقة ، وبيان ما جاء فيه من ذلك الصراط السّويّ. ولهذا ذكرت هذه السورة بعد السورة السابقة ، وتصدّرها إنذارهم باقتراب حسابهم ، فجاء أوّلها في هذا الإنذار ، وجاء آخرها في ذكر قصص أولئك الأنبياء ، وبيان اجتماعهم على دين التوحيد ، وهو ذلك الصراط السويّ.

إنذارهم باقتراب حسابهم

الآيات (١ ـ ٤٧)

قال الله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١). فأنذرهم بأنّ حسابهم قد اقترب بتسليط المسلمين عليهم ؛ وذكر أنهم ، مع هذا ، في غفلة معرضون ، وأنهم ما يأتيهم من عظة جديدة من عظات

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٧١

القرآن ، إلّا استمعوا إليها وهم يلعبون. وتناجوا بالطّعن فيمن ينذرهم ويعظهم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) وهدّدهم بأنه سبحانه يعلم القول في السماء والأرض ، فلا يخفى عليه ما يتناجون به ؛ ثم ذكر أنهم عدلوا عن رمي القرآن بأنه سحر ، وقالوا إنّه أضغاث أحلام ، بل افتراه ، بل هو شاعر ، وأنهم طلبوا أن يأتيهم الرسول (ص) بآية مثل آيات الأنبياء الأولين ، وأجاب عن هذا بأنه ما آمنت قبلهم من قرية أهلكها بتلك الآيات ، فلا يؤمنون مثلهم إذا أجيبوا إلى طلبهم ؛ ثم أجاب عن اعتراضهم الأوّل ، بأنّه جلّ جلاله ، لم يرسل قبل الرسول (ص) إلّا رجالا من البشر ، وبأنه لم يجعلهم ذوي جسد لا يأكلون الطّعام ولا يموتون ، بل كانوا كغيرهم من بني الإنسان ؛ ثم ذكر أنّه صدقهم ما أنذروا به ، فأنجاهم ومن شاء ممّن آمن بهم ، وأهلك المسرفين ؛ وأنّه أنزل إليهم كتابا فيه ذكر وموعظة لهم ، فهو خير ممّا يقترحونه من تلك الآيات ؛ ثم ذكر سبحانه أنه كم أهلك من تلك القرى التي أسرفت في تكذيب رسلها ، وأنهم كانوا إذا أحسوا العذاب ، يركضون منها ، فيقال لهم لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ، لتسألوا عن أعمالكم ، فيقولون يا ويلنا ويعترفون بظلمهم ، ويأخذهم الله بعذابه ، وهم يشهدون على أنفسهم.

ثم ذكر تعالى أنّه عاقبهم بذلك عدلا لا ظلما ، لأنّه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا ، بل خلق من فيهما ليطيعوه ويدينوا بتوحيده ، فإذا اتّبعوا الباطل قذف بالحق عليه فيدمغه ويبطله ؛ ثم ذكر أن كلّ من في السماوات والأرض مملوك له ، وأنّ من عنده من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ، فإذا خرج هؤلاء الكفّار عن طاعته ، أحلّ عليهم نقمته.

ثم ذكر أنّ من باطلهم ، أنهم اتّخذوا آلهة من الأرض ؛ وأبطله ، بأنّه لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا ، إلى غير هذا مما ذكره في إبطال تعدّد الالهة ؛ ثم ذكر ، أنّ من باطلهم ، أنهم قالوا إنّ الملائكة بنات الله ؛ وأبطله ، بأنّهم عباد خاضعون له كغيرهم ، ولو كانوا بنات له لكانوا آلهة مثله ، إلى غير هذا ممّا ذكره في إبطال أنهم بنات له ؛ ثم ذكر لهم ، من الأدلّة على وحدانيّته ، أنّ السماوات والأرض

٢٧٢

كانتا رتقا ففتقهما ، إلى غير هذا مما ذكره من الأدلة على هذه الوحدانيّة.

ثمّ رجع السياق إلى ما ذكروه ، من أنه بشر مثلهم ، فذكر سبحانه أنه لم يجعل لبشر من قبله الخلد حتّى يجعله بشرا لا يأكل الطعام ولا يموت ؛ فهو يموت كما يموتون ، وكلّ نفس لا بدّ أن تذوق الموت. ثم ذكر ممّا يفعلونه في غفلتهم عن يوم حسابهم ، أنهم كانوا حينما يرون النبيّ (ص) يقولون مستهزئين كما ورد في التنزيل : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الآية ٣٦] ، ماضين في غفلتهم عمّا ينزّل عليهم من الذّكر ، مغترّين بإمهال الله لهم ، مستعجلين ما اقترب من يوم حسابهم ؛ ثمّ ذكر أنّ هذا الاستعجال شأن الإنسان ، لأنه خلق من عجل ، وأنه سيريهم آيات عذابه في وقت لا تتقدّم عليه ؛ ثم ذكر هذا الاستعجال المذموم ، وهو قولهم على سبيل الاستهزاء كما ورد في التنزيل : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨). ولو يعلمون أنّهم في ذلك اليوم ، تحيط بهم النار من كلّ ناحية ، لكفّوا عن استعجالهم ؛ ثم ذكر أنّه إنّما ينذرهم بالوحي الذي لا يكذّب ، وأنّهم إذا مسّتهم نفحة من العذاب الذي ينذرون به ينادون بالويل ، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين ؛ ثم ذكر أنّ ما ينزل بهم من ذلك يكون عدلا ، لأنّه لا يكون إلّا بعد حساب توزن فيه الأعمال (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧).

قصص الأنبياء

الآيات (٤٨ ـ ٩١)

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨) فذكر من أولئك الأنبياء موسى وهارون (ع) وأنّه آتاهما الفرقان ، وهو التّوراة لأنّها تفرق بين الحق والباطل ؛ وأنّه سبحانه أنزل القرآن ، يزيد عليها في ذلك ، فلا يصحّ أن ينكروه.

ثم ذكر أنه آتى إبراهيم (ع) الرّشد إلى الحق ، قبل موسى وهارون (ع) فأنكر على قومه عبادة الأصنام ، وبيّن لهم أنّ ربهم ربّ السماوات والأرض ، لأنّه هو الذي خلقها ؛ ثم بيّن ، بالعمل ، أن هذه الأصنام ليست بالهة ، فذهب في خفية إليها فكسّرها وترك صنما كبيرا لهم فلم يكسره. فلمّا ذهبوا

٢٧٣

إليها سأل بعضهم بعضا عمّن فعل هذا بها ، واتّهموا إبراهيم فأحضروه وسألوه ، كما ورد في التنزيل : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا) [الآية ٦٢] فقال لهم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣) ، فكادوا يصدّقونه ، لأنّه كان قد وضع فأسا بين يديه ؛ ولكنّهم عادوا فذكروا له أنّها لا تنطق ، فكيف يسألونها عمّن كسّرها؟ وهنالك قامت له الحجّة عليهم بإقرارهم ، فوبّخهم على أنهم يعبدون ما لا ينفعهم شيئا ، ولا يضرّهم ؛ فعلموا أنه الذي كسّرها ، وأوقدوا له نارا ليحرقوه فيها ، فلمّا ألقوه فيها ، جعلها الله بردا وسلاما عليه ، ونجّاه ولوطا ابن أخيه إلى أرض فلسطين ، ووهب الله جلّ جلاله له إسحاق ويعقوب نافلة ، وجعلهم صالحين ؛ فكانوا أئمة يهدون بأمره تعالى ، ويخلصون العبادة له.

ثم ذكر أنه آتى لوطا (ع) علما ، ونجّاه من القرية التي كانت تعمل الخبائث ، وأدخله في رحمته لصلاحه واستقامته.

ثمّ ذكر سبحانه أنه استجاب لنوح (ع) حينما نجّاه وأهله من الغرق ، ونصره على كفّار قومه فأغرقهم أجمعين.

ثم ذكر أنه آتى داود وسليمان (ع) العلم والفهم ، وأنّ غنما دخلت كرما فأتلفته ، فشكا صاحب الكرم صاحب الغنم إلى داود ، فقضى بالغنم لصاحب الكرم ، لأنه لم يكن هناك تفاوت بين ثمنهما ؛ وقضى سليمان بتسليم الغنم لصاحب الكرم ، لينتفع بها إلى أن يصلح صاحبها كرمه ؛ وكان هذا الحكم هو الأرفق بهما ؛ ثم ذكر أنه سخّر لداود الجبال والطير ، وعلّمه صنعة الدروع ، وسخّر لسليمان الريح والشياطين.

ثمّ ذكر أنه استجاب لأيّوب (ع) حين ناداه أنّه قد مسّه الضرّ ، فكشف عنه ضرّه ، وآتاه أهله ومثلهم معهم.

ثمّ ذكر إسماعيل وإدريس وذا الكفل (ع) وأنهم كانوا من الصّابرين ، وذكر ذا النون (ع) وأنّه ناداه وهو في بطن الحوت ، فاستجاب له ، ونجّاه من الغمّ الذي كان فيه.

ثم ذكر زكريّا (ع) حينما شكا إليه ، أنه لا ولد له ، فوهب له يحيى (ع) ، وأصلح له زوجه ، لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبا ورهبا.

ثمّ ذكر مريم التي أحصنت فرجها ، فنفخ فيها من روحه ، وجعلها وابنها آية للعالمين.

٢٧٤

الخاتمة

الآيات (٩٢ ـ ١١٢)

ثم قال تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٩٢). فذكر لهم سبحانه ، أنّ ملّتهم التي يدعوهم إليها ، ملّة واحدة تتابع أولئك الأنبياء عليها ، وأنّ ربّهم واحد يجب أن يعبدوه ، وأنهم انحرفوا عن تلك الملّة ، فتفرّقوا فرقا كثيرة ، وأنه لا بدّ من يوم يرجعون فيه إليه سبحانه ، فلا ينجو منهم إلّا من آمن به وعمل صالحا. وأمّا من أهلكهم من أهل القرى ، فلا يمكن أن يرجعوا إلى دنياهم ، ليستدركوا ما فاتهم ؛ وإذا فتحت يأجوج ومأجوج ، يكونون أوّل الناس حضورا في محفل القيامة. وهنالك ينادون بالويل ، ويشهدون على أنفسهم ، أنهم كانوا في غفلة عن هذا اليوم ، فيقال لهم : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨) ولو كانوا آلهة ما وردوها ، لأنّ الالهة لا يصحّ تعذيبها. ثم ذكر سبحانه أن الذين سبقت لهم منه الحسنى ، لا يردون جهنّم ، وأنّهم يدخلون الجنّة فيدخلدون فيها ، إلى غير هذا ممّا ذكره في أحوال هذا اليوم.

ثمّ ذكر تعالى أنه كتب في الزّبور من بعد التوراة ، أنّ الأرض يرثها عباده الصالحون ، لينذر المشركين بتسليط المؤمنين عليهم في الدنيا ، بعد أن أنذرهم بسوء حالهم في الاخرة ، فيكون ما اقترب من حسابهم في الاخرة والدنيا معا ؛ ثمّ ذكر أن في هذا الإنذار كفاية لقوم عابدين ، وأنه سبحانه لم يرسل النبي (ص) إلّا رحمة للعالمين ، فلا بد من أن يظهر أمره ليكون فيه رحمتهم وصلاحهم ؛ ثمّ ختم السورة بإجمال ما ذكره فيها ، فأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنّ إلههم إله واحد لا شريك له ، فيجب أن يؤمنوا به ، وأمره أن يؤذنهم بيوم عذابهم ، إن أعرضوا عنه ، وأن يخبرهم بأنّه لا يدري أقريب أم بعيد ما يوعدون ، لأنّه سبحانه هو الذي يعلم كلّ شيء من جهر القول وما يكتمون ؛ ثمّ ذكر أنّ تأخير ما يوعدهم به ، إنّما هو فتنة لهم ومتاع إلى حين (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢).

٢٧٥
٢٧٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الأنبياء» (١)

ظهر لي من اتصالها باخر «طه» ، أنه سبحانه ، لمّا قال في هذه : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) [طه : ١٣٥]. وقال قبله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) (١٢٩) [طه]. وقال في مطلع هذه ، أي في سورة الأنبياء : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١) إشارة إلى قرب الأجل ، ودنوّ الأمل المنتظر. وفيه أيضا مناسبة لقوله تعالى هناك : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [طه : ١٣١]. فإنّ قرب الساعة يقتضي الإعراض عن هذه الحياة الدنيا ، لدنوّها من الزّوال والفناء ؛ ولهذا ورد في الحديث : أنّها لما نزلت قيل لبعض الصحابة : هلّا سألت النبي (ص) عنها؟ فقال «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا» (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). لم نعثر على هذا الحديث في ما بين أيدينا من مصادر.

٢٧٧
٢٧٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الأنبياء» (١)

١ ـ (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ) [الآية ٢٩].

قال قتادة ، والضّحّاك : هو إبليس.

أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

٢ ـ (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ) [الآية ٤٧].

أخرج ابن جرير عن حذيفة اليماني (٣) قال : صاحب الميزان يوم القيامة : جبريل.

٣ ـ (قالُوا حَرِّقُوهُ) [الآية ٦٨]. قيل : المقصود به : نمرود وقيل : رجل من أكراد فارس ، يسمى هيزن. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي.

٤ ـ (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الآية ٧١].

قال السّدّيّ : هي الشام أخرجه ابن أبي حاتم (٤) وقيل : مكّة حكاه ابن عسكر (٥)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). انظر «تفسير الطبري» ١٧ : ١٣.

(٣). لم نجد هذا الأثر في «تفسير الطبري» في هذا الموضع.

(٤). ورد في أحاديث مرفوعة صحيحة ، مخرجة في السنن وغيرها ، دعاء النبي (ص) للشام بالبركة ، وأفرد في فضائلها الحافظ أبو الحسن الربعي المتوفّى سنة ٤٤٤ ه‍ ، وسمّاه «فضائل الشام ودمشق» وطبعه مجمع اللغة العربية بدمشق سنة ١٣٧٠ ه‍ ١٩٥٠ م ، بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد مع ملاحق له ؛ وللشيخ ناصر الدين الألباني : «تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق للربعي» ، طبعه في دمشق المكتب الإسلامي سنة ١٣٧٩ ه‍.

(٥). روى الحافظ ضياء الدين المقدسي في «فضائل بيت المقدس» برقم (٢٨) عن أبي العالية : في قوله تعالى : (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٧١) قال : من بركتها : أنّ كلّ ماء عذب يخرج من أصل صخرة بيت المقدس.

٢٧٩

٥ ـ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١٠١).

قال (ص) : هم عيسى ، وعزير ، والملائكة.

أخرجه ، هكذا مختصرا ، ابن أبي حاتم من حديث أبي هريرة. وأخرج عن ابن عبّاس ، قال : نزلت في عيسى ، ومريم ، وعزير (١).

٦ ـ (أَنَّ الْأَرْضَ) [الآية ١٠٥].

قال ابن عباس أرض الجنة. أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). وأخرجه البزار ، كما في «كشف الأستار» (٢٢٣٤) بلفظ : «يعني عيسى بن مريم (ع) ومن كان معه». وفيه شرحبيل بن سعد مولى الأنصار ؛ وثّقه ابن حبّان ، وضعّفه الجمهور ، وبقيّة رجاله ثقاة. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٧ : ٦٨.

٢٨٠