الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

المبحث الأول

أهداف سورة «طه» (١)

نزلت سورة طه بعد سورة مريم ، ونزلت سورة مريم فيما بين الهجرة إلى الحبشة وحادثة الإسراء ، فيكون نزول سورة طه في ذلك التاريخ أيضا. أي بعد السنة السابعة من البعثة وقبل السنة الحادية عشرة من البعثة.

وفي المصاحف المطبوعة بالقاهرة ، سورة طه مكّيّة إلّا الآيتين ١٣٠ و ١٣١ ، فهما مدنيّتان ؛ وآياتها ١٣٥ آية نزلت بعد مريم.

وقال الفيروزآبادي «السورة مكّيّة إجماعا ، وكلماتها ١٣٤١ كلمة ، ولها اسمان «طه» لافتتاح السورة بها ، و «سورة موسى» لاشتمالها على قصّته مفصّلة.

معنى طه

قيل معناها يا رجل ، وقيل معناها يا إنسان ، وقال آخرون هي اسم من أسماء الله تعالى وقد أقسم سبحانه به ، وقال آخرون هي حروف مقطّعة مكوّنة من الطاء والهاء يدل كلّ حرف منها على معنى. واختلفوا في ذلك المعنى اختلافهم في المص. وقد ذكرنا ذلك في التعريف بسورة الأعراف ، قال ابن جرير الطبري «والذي هو أولى بالصواب عندي من الأقوال فيه قول من قال : معناها : يا رجل ، لأنها كلمة معروفة في عك ، فيما بلغني ، وأنّ معناها يا رجل».

«وقيل أصله طأها ، على أنه أمر لرسول الله (ص) بأن يطأ الأرض

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٢١

بقدميه ، فإنه كان يقوم الليل ، حتّى ورمت قدماه من طول القيام. وقد أبدلت الألف من الهمزة ، والهاء كناية عن الأرض».

والمعنى طأ الأرض بقدميك يا محمد ، وهوّن على نفسك في القيام ، وارأف بنفسك ؛ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى به تعبا ، بل لتسعد به ، وتذكّر به الناس.

أهداف السورة

من أهداف سورة طه :

تيسير الأمر على رسول الله (ص) وبيان فضل الله الواسع على رسله وأصفيائه وبيان وظيفة الرسول ، وحصرها في الدعوة والتذكرة والتبشير والإنذار ؛ تم ترك أمر الخلق بعد ذلك الى الله الواحد الذي لا إله غيره ، المهيمن على ظاهر الكون وباطنه ، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها ، الذي تعنو له الجباه ، ويرجع إليه الناس : طائعهم وعاصيهم.

ثم تعرض السورة قصة موسى (ع) ، من حلقة الرسالة إلى حلقة اتّخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر مفصّلة مطوّلة ، وبخاصة موقف المناجاة بين الله سبحانه وكليمه موسى ، وموقف الجدل بين موسى وفرعون وموقف المباراة بين موسى والسحرة. وتتجلّى في غضون القصّة ، رعاية الله لموسى ، الذي صنعه على عينه واصطنعه لنفسه ؛ وقال له ولأخيه :

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦).

ثم تعرض السورة قصة آدم (ع) سريعة قصيرة ؛ تبرز فيها رحمة الله لآدم بعد خطيئته ، وهدايته له ، وترك البشر من أبنائه لما يختارون من هدى أو ضلال بعد التذكير والإنذار.

وتحيط بقصة آدم مشاهد القيامة ، وإنما هي تكملة لما كان أول الأمر في الملأ الأعلى من خلق آدم ؛ حيث يعود الطائعون من ذريته إلى الجنّة ، ويذهب العصاة من ذريته إلى النار ، تصديقا لما قيل لأبيهم آدم ، وهو يهبط إلى الأرض بعد خروجه من الجنة.

* * *

ونلحظ أن السياق يمضي في هذه السورة في شوطين اثنين :

٢٢٢

الشوط الأول : يتضمّن مطلع السورة بالخطاب إلى الرسول (ص).

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣).

ثم تتبعه قصّة موسى نموذجا كاملا لرعاية الله سبحانه لمن يختارهم لإبلاغ دعوته ، فلا يشقون بها وهم في رعايته.

والشوط الثاني : يتضمّن مشاهد القيامة ، وقصّة آدم ، وهما يسيران في اتجاه مطلع السورة ، وقصّة موسى. ثم ختام السورة بما يشبه مطلعها ، ويتناسق معه ومع جو السّورة.

وللسّورة ظلّ خاصّ ، يغمر جوّها كلّه. ظلّ علويّ جليل تخشع له القلوب ، وتسكن له النفوس ، وتعنو له الجباه. إنّه الظلّ الذي يخلعه تجلّي الرحمن على عبده موسى بالوادي المقدّس ، في تلك المناجاة الطويلة ، والليل ساكن وموسى وحيد ، والوجود كلّه يتجاوب بذلك النّجاء الطويل. وهو الظلّ الذي يخلعه تجلّي القيّوم في موقف الحشر العظيم :

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (١٠٨).

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [الآية ١١١].

وإيقاع السورة كلّها يستطرد في مثل هذا الجو من مطلعها إلى ختامها ، رخيّا شجيّا نديّا ، بذلك المدّ الذاهب مع الألف المقصورة ، في أواخر الفواصل كلّها تقريبا.

قصة موسى (ع) في القرآن

بدأت سورة طه بمقدّمة مؤثّرة عن القرآن ، وعن صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى.

ثم قصّ الله على رسوله حديث موسى ، نموذجا لرعايته للمختارين لحمل دعوته. وقصّة موسى ، هي أكثر القصص ورودا في القرآن. وهي تعرض في حلقات تناسب السّورة التي تعرض فيها وجوّها وظلّها. وقد وردت حلقات منها حتى الآن في سورة البقرة ، وسورة المائدة ، وسورة الأعراف ، وسورة يونس ، وسورة الإسراء ، وسورة الكهف ، وذلك غير الإشارات إليها في سور أخرى.

وما جاء منها في المائدة كان حلقة واحدة : حلقة وقوف بني إسرائيل أمام

٢٢٣

الأرض المقدّسة ، لا يدخلون فيها لأنّ فيها قوما جبّارين.

وفي سورة الكهف كانت كذلك حلقة واحدة : حلقة لقاء موسى للعبد الصالح ، وصحبته فترة. وقد سبق الحديث عنها في سورة الكهف ، بعنوان قصّة موسى والخضر.

فأمّا في «البقرة» و «الأعراف» و «يونس» ، وفي هذه السورة ، سورة طه ، فقد وردت منها حلقات كثيرة ، ولكن هذه الحلقات تختلف في سورة عنها في الأخرى. تختلف الحلقات المعروضة ، كما يختلف الجانب الذي تعرض منه ، تنسيقا له مع اتجاه السورة التي يعرض فيها.

في «البقرة» ، سبقتها قصّة آدم (ع) وخلقه وتكريمه في الملأ الأعلى. فجاءت قصّة موسى وبني إسرائيل تذكيرا لبني إسرائيل بنعمة الله عليهم وعهده إليهم وإنجائهم من فرعون وملئه ، واستسقائهم وتفجير الينابيع لهم ، وإطعامهم المن والسلوى. وذكرت عدوانهم في السبت ، وقصّة البقرة ، وفي «الأعراف» سبقها الإنذار وعواقب المكذّبين بالآيات قبل موسى عليه‌السلام ، فجاءت قصّة موسى تعرض ابتداء من حلقة الرسالة ، وتعرض فيها آيات العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع ، وتعرض حلقة السحرة بالتفصيل ، وخاتمة فرعون وملئه المكذّبين ؛ وفي يونس ، سبقها عرض مصارع المكذبين ؛ ثم عرض منها حلقات ثلاث :

حلقة الرسالة ؛ وحلقة السحرة ؛ وحلقة غرق فرعون.

أما هنا ، في سورة طه ، فقد كان مطلع السورة يشفّ عن رحمة الله ورعايته لمن يصطفيهم لحمل رسالته وتبليغ دعوته ؛ فجاءت القصّة مظلّلة بهذا الظلّ ، تبدأ بمشهد المناجاة ، وتتضمّن نماذج من رعاية الله لموسى في طفولته وشبابه ورجولته ؛ وتثبيته وتأييده وحراسته وتعهده.

قصة موسى في سورة طه

ولد موسى في مصر ، ونما وترعرع في بيت فرعون ، ثم قتل رجلا من طريق الخطأ ، فخرج هاربا إلى أرض مدين وهناك تزوج بنت نبيّ الله شعيب (ع) ، ومكث في أرض مدين عشر سنين ، ثمّ عاد بأهله إلى مصر.

٢٢٤

وفي الطريق أدركته عناية الله ومنّ الله عليه بالرسالة والعناية. وناداه :

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) (١٣).

وهذا الوحي يتعلّق بثلاثة أمور مترابطة : الاعتقاد بالوحدانيّة ؛ والتوجّه بالعبادة ؛ والإيمان بالسّاعة ؛ وهي أسس رسالة الله الواحدة. ومن نداء الله لموسى :

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥).

وخص الله موسى بمعجزات ظاهرة ، وآيات باهرة. أمره أن يلقي عصاه فألقاها ، فإذا هي حية تسعى ؛ ثم نمّت وعظمت حتّى غدت في جلادة الثّعبان ، وضخامة الجانّ. لمحها موسى ، فاشتد خوفه ، فناداه الله :

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١) ثم أدخل موسى يده تحت إبطه ، فخرجت بيضاء بياضا يغلب نور الشمس ، ليس فيها بهاق (١) أو برص (٢) أو مرض ؛ وتمّت لموسى معجزتان هما اليد والعصا ، فرأى آيات الله الكبرى. واطمأنّ للنهوض بالتّبعة العظمى.

* * *

أمر الله موسى ، أن يذهب إلى فرعون رسولا وداعيا إلى الهدى ، ومبشّرا بالجنة ، لمن أطاع الله ، وبالنار لمن عصاه.

فطلب موسى من ربه أن يشرح له صدره ، وأن ييسّر له أمره ، وأن يحلّ حبسة في لسانه ليفقه الناس قوله ، وأن يمنّ الله عليه بمعين من أهله ، هو أخوه هارون.

واستجاب الله دعاء موسى وحباه بفضل زائد ، وذكّره بإفضاله عليه صغيرا وناشئا ، حيث نجّاه عند ما قتل قتيلا خطأ ، وألقى عليه المحبّة ، وربّاه برعايته ، وصنعه بعين عنايته. قال سبحانه :

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩).

__________________

(١). البهاق : مرض يذهب بلون الجلد ، فتقع فيه بقع بيض.

(٢). البرص : بياض يقع في الجسد ، لعلّة.

٢٢٥

وكانت عناية الله معه في شبابه حين نجّاه من كيد أتباع فرعون ، وكانت عناية الله معه في رحلته إلى أرض مدين ، ثم في عودته إلى أرض مصر ، على موعد وتدبير إلهي. قال تعالى :

(وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١).

وكلّف الله موسى أن يذهب مع أخيه هارون إلى فرعون ، بعد أن طغى فرعون وتجبّر ، ليقولا له قولا ليّنا ، لا يهيّج الكبرياء الزائف ولا يثير العزّة بالإثم ؛ لعلّ قلبه ، أن يتّعظ أو يتذكّر.

أدلّة موسى (ع) على

وجود الله تعالى

توجه موسى وهارون إلى فرعون ليبلغاه رسالة الله رب العالمين ، فقال فرعون ، كما ورد في التنزيل :

(فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩).

فأجاب موسى ، كما ورد في التنزيل أيضا :

(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠).

وهي إجابة تلخّص أكمل آثار الألوهيّة الخالقة المدبّرة لهذا الوجود : هبة الوجود لكل موجود ، وهبة خلقه على الصورة التي خلق بها ، وهبة هدايته للوظيفة التي خلق لها.

وثنّى قرون بسؤال آخر :

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (٥١).

ما شأن القرون التي مضت من النّاس؟ أين ذهبت؟ ومن كان ربّها؟ وما يكون شأنها ، وقد هلكت لا تعرف إلهها هذا؟

وأجاب موسى : إنّ علمها عند الله الذي لا تخفى عليه خافية ، وقد سجل عملها في كتاب ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

وقد تفضّل الله على الناس بالنعم المتعدّدة ؛ فمهّد لهم الأرض ، وذلّل سبلها ، وأنزل الماء من السماء ، فأجرى به نهر النيل وغيره من الأنهار ، ليخرج الماء أزواجا متعدّدة من النباتات ، يستفيد منها الإنسان والحيوان.

وقد خلق الإنسان من الأرض ، ثم رزق من نباتها ومائها ، ثم يعود إليها ، ثم يبعث منها يوم القيامة.

٢٢٦

عرض موسى هذه الآيات الكونية أمام فرعون ، وأراه المعجزات الظاهرة الملموسة ، من اليد والعصا.

ولكنّ فرعون قابل هذه المعجزات الواضحة ، والحجج البالغة ، بالجحود والكنود (١) وأخذ فرعون يكيل التهم لموسى ، ويسفّه دعوته ، ويصفه بالطمع في الملك ، ويصف معجزاته بأنها سحر ظاهر مبين.

موسى والسحرة

توعّد فرعون موسى بأن يجمع له السحرة من كلّ مكان ، ليبطلوا سحره ويظهروا عجزه. وقبل موسى التحدّي ، وحدّد يوم العيد واجتماع الناس في زينتها الجديدة موعدا للمبارزة ، حتّى يشيع الحق ويظهر ظهور الشمس.

وجمع السحرة في يوم العيد ، ولم يتخلّف واحد منهم ؛ فإذا بهم آلاف ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، وخيّروا موسى : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) (٦٥).

فترك لهم موسى فرصة البدء ، واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة.

فتقدّم السحرة وألقوا ما في أيديهم من حبال فتحركت الحبال وماجت بها الساحة ، وسحرت عيون المشاهدين ، وملأتهم بالرهبة والإجلال لهذا العمل العظيم.

وخشي موسى أن يخدع الناس عن الحق ، وأدركه خوف الداعية على دعوته ، فذكّره الله سبحانه ، بأنه معه ، وبأنه على الحق وعدوّه على الباطل ، وبأنه رسول مؤيّد بالمعجزة ؛ وعدوّه ساحر ، مضلّل مخادع :

(قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٦٩).

وألقى موسى عصاه ، فابتلعت أعمال السحرة في سرعة مذهلة ، وأدرك السّحرة أنّ عمل موسى ليس سحرا ، ولكنه معجزة وبرهان من الله على صدق رسالته ؛ فإذا بهم يخرّون لله ساجدين توبة عما صنعوا ، وخشوعا لهيبة الحقّ ، وإكبارا لذلك الأمر الخطير ، وإيمانا بالله ربّ العالمين.

وعندئذ غلت مراجل الحقد

__________________

(١). الكنود : كفر النغمة وجحدها.

٢٢٧

والحفيظة في صدر فرعون ، ولام السحرة على إيمانهم بموسى ، قبل أن يأذن لهم.

وقال : إنه أستاذكم وكبيركم الذي علّمكم السحر ، فاتّفقتم معه على فعلكم ومؤامرتكم :

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١).

ولكن ذلك جاء بعد فوات الأوان. بعد أن تخلل صدورهم نور الإيمان ، فوصلهم بخالقهم فزهدوا في عرض الدنيا وسلطانها ، وتطلّعت قلوبهم إلى مرضاة الله ، وفضّلوا ثواب الاخرة على كل ما عداه :

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٧٣).

غرق فرعون ونجاة موسى

استمرّ موسى في أداء رسالته وقيامه بواجب دعوته ، وقد اشتد إيذاء فرعون وأتباعه للمؤمنين ، فاستغاثوا بموسى ، فخرج موسى بهم ليلا إلى الأرض المقدّسة ، وقد سهّل الله إليها طريقهم ، واعترض البحر سبيلهم ، فاستغاثوا بموسى قائلين : البحر أمامنا وفرعون وراءنا. فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه بعصاه ، فتولّت قدرة الله أن تيسّر لهم في البحر اثني عشر طريقا يابسا ممهّدا للسير ، فسار كل فريق في طريق ، وحفظتهم عناية الله من فرعون ؛ وحينما حاول فرعون اللحاق بهم ، أطبقت عليه وعلى جنوده مياه البحر ، وأدركهم الغرق والهلاك. ونجّى الله المؤمنين ، وأذلّ الكافرين. وجعل من ذلك عظة وعبرة لمن اعتبر ، فمن آمن بالله وجاهد في سبيله كان في كنف الله ورعايته ، ومن كفر بآيات الله وخرج عن طريق هدايته أعد الله له العذاب والنّكال. ونظر بنو إسرائيل في دهشة إلى مصرع الجبابرة العتاة ، ثم نجّى الله فرعون ببدنه ، ليكون آية لمن خلفه ، ودليلا على أنّ الله يملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته.

موسى والسامري

ترك موسى قومه وذهب لميعاد ربّه عجلا مشتاقا لمناجاته ، وانتهز السامريّ الفرصة ، فصنع لبني إسرائيل عجلا من

٢٢٨

الذهب ، بطريقة فنية ، تجعل الريح تمرّ فيه ، فتحدث صوتا وخوارا.

وقال لهم : إنّ موسى لن يعود إليكم. لقد ذهب لمقابلة ربّه فضلّ الطريق إليه ، وهذا هو إلهكم وإله موسى.

وفتن بنو إسرائيل بعبادة العجل ، فقد ألفوا الذل وطاعة فرعون.

وعاد موسى غضبان أسفا يلوم هارون على تباطئه عن إخماد هذه الفتنة ، فاعتذر له بأنه صبر حتّى يعود ، فيلتئم الشمل وتعود الوحدة إلى الجماعة.

وتوعّد موسى السامريّ بالعذاب والنّكال ، وأمر بطرده من محلّة بني إسرائيل. فخرج طريدا هو وأهله إلى البراري ، ثم أتى موسى بالعجل فحرقه بالنار ، ونسف رماده في اليمّ ، ليبيّن لقومه أنّ مثل هذا لا يصح أن يتّخذ إلها :

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٨٩).

مشاهد القيامة وختام السورة

بدأت سورة طه بمقدّمة في بيان جلال الله وقدرته وعلمه الواسع في الآيات ١ ـ ٨.

ثمّ تحدّثت عن رسالة موسى وجهاده في مصر ، وجهوده مع بني إسرائيل في الآيات ٩ ـ ٩٨.

وبعد قصة موسى تجيء الآيات ٩٩ ـ ١١٤ تعقيبا على هذه القصّة ببيان فضل القرآن ، وعاقبة من يعرض عنه ؛ وترسم الآيات هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة ، تتضاءل فيه أيام الحياة الدنيا ، وتتكشّف الأرض من جبالها وتعرى ، وتخشع الأصوات للرحمن ، وتعنو الوجوه للحيّ القيّوم ؛ لعلّ هذا المشهد وما في القرآن من وعيد يثير مشاعر التقوى في النفوس ، ويذكّرها بالله ويصلها به. وينتهي هذا المقطع ، بإراحة بال الرسول (ص) من القلق من ناحية القرآن الذي ينزل عليه ، فلا يعجل في ترديده خوف أن ينساه ، ولا يشقى بذلك فالله ميسّره وحافظه ، وإنّما يطلب من ربّه أن يزيده علما.

وفي مناسبة حرص الرسول (ص) على أن يردّد ما يوحى إليه قبل انتهاء الوحي خشية النسيان ، تعرض الآيات ١١٥ ـ ١٢٣ نسيان آدم لعهد الله وتنتهي بإعلان العداوة بينه وبين

٢٢٩

إبليس ، وعاقبة من يتذكّرون عهد الله ومن يعرضون عنه من ولد آدم. وترسم الآيات هذه العاقبة في مشهد من مشاهد القيامة ، كأنّما هو نهاية الرحلة التي بدأت في الملأ الأعلى ، ثم تنتهي إلى هناك مرّة أخرى ... وفي ختام السورة تسلية للرسول (ص) عن إعراض المعرضين وتكذيب المكذّبين فلا يشقى بهم ، فلهم أجل معلوم. ولا يحفل بما أوتوه من متاع في الحياة الدنيا فهو فتنة لهم ، وينصرف إلى عبادة الله وذكره فترضى نفسه وتطمئنّ ، ولقد هلكت القرون من قبلهم ، وشاء الله سبحانه أن يعذر إليهم بالرسول الأخير ، ليعلن إليهم : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥).

* * *

وبذلك تختم السورة التي حددت وظيفة القرآن في بدايتها :

(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٣).

وأكّدت هذه الوظيفة في نهايتها ، فهي التذكرة الأخيرة لمن تنفعه التذكرة ؛ وليس بعد البلاغ إلّا انتظار العاقبة ، والعاقبة بيد الله.

وقد كانت قصة موسى ونهاية فرعون ، خلال السورة ، تحقيقا لهذا المعنى وتأكيدا لفوز المؤمنين ومصرع المكذّبين ؛ وبذلك يتناسق المطلع والختام ، وتكون السورة أشبه بموضوع ، له مقدّمة ، ثمّ قصّة تؤيّد المقدّمة ، ثم خاتمة تؤكّد الموضوع. وظهر أنّ بين أجزاء السورة وحدة فكرية خلاصتها :

شمول فضل الله ورحمته وعطفه ، لأحبابه المؤمنين ، وإيقاع نقمته وعذابه بالكافرين والمكذّبين.

٢٣٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «طه» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة طه بعد سورة مريم ، ونزلت سورة مريم فيما بين الهجرة إلى الحبشة وحادثة الإسراء فيكون نزول سورة طه في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لابتدائها به ، وتبلغ آياتها خمسا وثلاثين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة ، حثّ النبي (ص) على الصبر على ما يلقاه من إعراض قومه عن دعوته ؛ ولهذا افتتحت بأنه لم ينزل عليه القرآن ليشقى إذا لم يؤمنوا به ، لأنه ليس عليه إلا أن يذكّر به من يخشى ، فإذا لم يؤمنوا به فلا شيء عليه من عدم إيمانهم ؛ ثم قصّ عليه بعد هذا قصّة موسى من أوّلها إلى آخرها ، ليتأسّى بما كان من ثباته أمام فرعون ، ومن صبره على عناد بني إسرائيل ؛ ثمّ قصّ عليه بعدها قصّة آدم ، ليحذّره ممّا وقع فيه بسبب التعجّل ، وعدم الصبر على الابتلاء والاختبار ؛ ثم ختمت السورة بحثّ النبيّ (ص) على الصبر كما افتتحت به.

وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة مريم ، لأنّها تشبهها في غلبة الأسلوب القصصي عليها. فهي تعدّ من هذه الناحية كأنها تكميل لها ولسورة الكهف ، وتقرير لما ورد في آخر سورة

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٣١

الكهف ، من أن كلمات الله في ذلك لا نفاد لها.

الحث على الصبر

[الآيات ١ ـ ٨]

قال الله تعالى : (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٢) فذكر سبحانه أنه لم ينزل عليه القرآن ليشقى إذا كفروا به أسفا على كفرهم ، لأنه لم ينزله عليه إلّا ليذكّر به من يخشى عقابه ، فهو الذي يرجى إيمانه به ؛ ثم نوّه بشأن هذا القرآن الذي يعرضون عنه ، فذكر أنه تنزيل ممّن خلق السماوات والأرض ، إلى غير هذا من صفات العظمة التي ذكرها ، وختمها تعالى بقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨).

قصة موسى

الآيات [٩ ـ ١١٤]

ثم قال تعالى (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٩) فذكر قصّة موسى حين رجع من مدين إلى مصر ، وأنه رأى نارا فذهب إليها ، وهناك ناداه ربّه أنه اختاره لرسالته ، وأنه أعطاه آيتين : آية عصاه يلقيها فتكون حيّة تسعى ، وآية يده يضمّها إلى جناحه فتخرج بيضاء من غير سوء. ثم أمره أن يذهب إلى فرعون ، لأنه طغى وادّعى الألوهية فقبل الرسالة ، ودعا الله أن يشرح له صدره حتى لا يضيق بما يلاقيه في تلك الدعوة ، وأن يشرك معه أخاه هارون ، فأجابه سبحانه إلى طلبه ؛ ثم أمرهما أن يذهبا إلى فرعون ، وأن يقولا لا قولا ليّنا ، لعلّه يتذكّر أو يخشى. فلمّا أتياه ، قالا له إنّا رسولا ربّك إليك ، وطلبا منه أن يرسل معهما بني إسرائيل ، ويكفّ عن عذابهم ، وأخبراه بأنّهما قد جاءاه بآية من ربّه ، تدلّ على صدقهما. ثم ذكر سبحانه أن فرعون سأل موسى عن ربّه ، فأجابه بأنّه جلّ جلاله هو الذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى ، وأنه سأله عن حال القرون الأولى كيف يحيط بها علمه مع تمادي كثرتها ، فأجابه بأن كل ما سلف مثبت عنده في كتاب فلا يضل عنه ولا ينساه. ثم ذكر تعالى أن موسى أرى فرعون الآيتين السابقتين فكذّب وأبى ، وزعم أنهما سحر يريد موسى أن يخرج به فرعون وقومه من أرضهم ، وأخبره بأنهم سيأتونه بسحر مثله ؛ وطلب منه أن يجعل بينهم وبينه موعدا يجتمعون فيه ، فضرب لهم موسى يوم

٢٣٢

الزينة موعدا ، وهو يوم عيد لهم ؛ فجمع فرعون سحرته في هذا اليوم ، وكانوا قد أتوا بحبال وعصيّ لطّخوها بالزّئبق ، فألقوها في الشمس ، فاضطربت واهتزّت ، وخيّل إلى الناس أنها حيّات تسعى ، فألقى موسى عصاه ، فإذا هي أعظم من حيّاتهم ، ثم أخذت تزداد عظما حتّى ملأت الوادي ، وذهبت إلى حيّاتهم فأكلتها ؛ فعرف السّحرة أنّ هذا ليس بسحر ، وآمنوا بربّ موسى وهارون ؛ وقد هدّدهم فرعون بما تهدّدهم به ، فلم يرجعوا عن إيمانهم.

ثم ذكر سبحانه أنه أوحى الى موسى أن يسير ببني إسرائيل ليلا ، وأنّ فرعون تبعهم بجنوده حينما علم بهربهم ، وأنه جلّ وعلا ، شق البحر لبني إسرائيل فاجتازوه ، وأنّ فرعون أدركهم وهم يجتازونه ، فتبعهم بجنوده (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩).

ثم انتقل الكلام إلى ما كان بعد ذلك من بني إسرائيل ، فذكر أنه أنجاهم من فرعون عدوّهم ، إلى غير هذا ممّا ذكره من نعمه عليهم ؛ ثم أمرهم أن يأكلوا من طيّبات ما رزقهم ، ونهاهم أن يطغوا فيه لئلا يحلّ غضبه عليهم ، ثم ذكر ما كان من فتنتهم بعبادة العجل بعد ذهاب موسى لميعاد ربه ، وأنّ موسى حينما رجع إليهم لامهم على ما كان منهم ، فذكروا له أن السامريّ هو الذي أغواهم بعبادة العجل ، إذ صنع لهم من حليّهم عجلا جسدا له خوار ، وزعم لهم أنه إلههم وإله موسى ، فافتتنوا بذلك وصدّقوه في زعمه ؛ ثم ذكر أن هارون نهاهم عن ذلك ، فذكروا له أنهم سيقيمون عليه إلى أن يرجع موسى إليهم. وأن موسى لام هارون على أنه لم يقاتلهم هو ومن لم يعبد العجل ، فأجابه بأنه خشي أن يفرّق بينهم بالقتال ، فاكتفى بنصحهم ووعظهم ؛ ثم ذكر أن موسى سأل السامري بعد ذلك عمّا دعاه إلى فتنة قومه ، فأخبره بأنه كان قد أخذ بعضا من سنّته ودينه ، ثم بدا له فنبذها ودعا إلى تلك العبادة ، فأمر موسى بطرده من خلّة بني إسرائيل ، فخرج طريدا هو وأهله إلى البراري. ثم أتى بالعجل فحرقه بالنار ونسف رماده في اليمّ ، ليبيّن لهم أن مثل هذا لا يصح أن يتّخذ إلها (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨).

٢٣٣

ثم ذكر أنه يقصّ عليه ذلك ليكون عظة له ولقومه ؛ وأنه أنزل القرآن بمثل ذلك ليذكّرهم به ، وانتقل السياق من ذلك إلى تهديد من يعرض عن سبيله تعالى بما هدّده به من العقاب الذي يثقل حمله عليهم ، ومن حشرهم زرقا يوم ينفخ في الصّور ، فيقومون من قبورهم ، ويتساءلون بينهم عن مدة لبثهم قبل قيامهم ، فيذكر بعضهم أنهم لم يلبثوا إلّا عشرة أيام ويذكر بعضهم أنهم لم يلبثوا إلّا يوما ؛ لأنّ شدة الأهوال ، تنسيهم مدة لبثهم ؛ ثم ذكر أن الجبال تنسف بعد النفخ في الصّور ، وأنّ الأرض تكون ملساء مستوية لا نبات فيها ، وأنهم يدعون إلى الحشر فيسير الداعي بهم لا يعرّج هنا أو هناك ، فإذا وقفوا للحساب خشعت الأصوات للرحمن ، فلا يشفع عنده إلّا من أذن له ورضي قوله. ثم ذكر سبحانه أن وجوههم تعنو له جلّ جلاله وتخضع لحكمه ، فيحرم من الثواب من حمل ظلما في الدنيا ، وينال من عمل صالحا ثوابه ، ولا يخاف ظلما ولا هضما ، ثم ذكر أنه أنزل القرآن ، وكرّر فيه هذا الوعيد ، لعلهم يتّقون ، أو يحدث لهم ذكرا : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤).

قصة آدم الآيات

[١١٥ ـ ١٢٧]

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) فذكر سبحانه أنه عهد إلى آدم في الجنّة ألا يأكل من الشجرة فضاق صدره بذلك التكليف ، وضعف عن تحمّله ، فعوقب على ذلك بالخروج من الجنّة ، وقد أتى السياق بذلك من أول الأمر ، ليدل على موضع العبرة من ذكر قصة آدم ؛ ثم ذكر تفصيل ذلك من أمر الملائكة بالسجود له جلّ جلاله ، وأنهم أطاعوه فسجدوا إلّا إبليس أبى ، إلى أن ذكر ما كان من أمر آدم وحوّاء بالهبوط من الجنّة ، وعهده إليهما وإلى ذرّيتهما ، أنه إذا أتاهم منه هدّى فمن اتّبعه فلا يضلّ ولا يشقى ، ومن أعرض عنه فإنّه يقضي دنياه في ضنك وشدّة ؛ لأنّ الكفر لا اطمئنان معه ، ثم يكون حاله في الاخرة أسوأ من الدنيا ، ويحشر فيها أعمى ؛ فإذا سأل ربّه لم حشره أعمى وقد كان بصيرا ، أجابه بأنه كذلك أتته آياته فنسيها وكذلك

٢٣٤

اليوم ينسى : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧).

الخاتمة

الآيات (١٢٨ ـ ١٣٥)

ثم قال تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (١٢٨) ، فحذّر كفار قريش أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم من الأمم الذين يمشون في مساكنهم ، وذكر أنه لو لا قضاء الله بأنه لا يهلكهم كما أهلك من كان قبلهم ، لكان عذابه لزاما لهم ، ثم أمر النبي (ص) بأن يصبر على تعنّتهم ، وأن يستعين على هذا بالمثابرة على الصلوات في أوقاتها ؛ ونهاه أن يمدّ عينيه إلى ما متّع به بعضهم من زينة الدنيا ، لأنّ ما عنده من الثواب خير وأبقى ؛ ثم ذكر أنّ من تعنّتهم ، أنهم اقترحوا على النبيّ (ص) آية تدل على نبوّته ، وأجابهم بأنهم قد أتاهم أخبار الأمم السابقة في الصحف الأولى ، إذ طلبوا من الآيات مثل طلبهم ولم يؤمنوا بها ، فأهلكهم الله وعجّل لهم عذابهم ؛ ولو أنه جلّ وعلا أهلكهم قبل أن يرسل إليهم رسلهم ، ويجيبهم إلى ما اقترحوا من الآيات ، (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥).

٢٣٥
٢٣٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «طه» (١)

أقول : روينا عن ابن عبّاس وجابر بن زيد ، في ترتيب النزول : أن «طه» نزلت بعد سورة مريم ، بعد ذكر سورة أصحاب الكهف. وذلك وحده كاف في مناسبة الوضع ، مع التاخي بالافتتاح بالحروف المقطّعة.

وظهر لي وجه آخر ، وهو : أنه لمّا ذكرت في سورة مريم قصص الأنبياء ، زكريا ، ويحيى ، وعيسى ، مبسوطة ، وقصّة ابراهيم ، وهي بين البسط والإيجاز ، وقصّة موسى ، وهي موجزة بجملة (٢) ، فقد أشير إلى بقية النبيّين إجمالا (٣). وذكر في هذه السورة شرح قصّة موسى ، التي أجملت هناك ، فاستوعبت غاية الاستيعاب وبسّطت أبلغ بسط (٤) ثم أشير إلى تفصيل قصّة آدم ، الذي وقع مجرد اسمه هناك ، (٥) ثم ورد في سورة «الأنبياء» بقيّة قصص من لم يذكر في مريم ، كنوح ، ولوط ، وداود ، وسليمان وأيوب وذي الكفل ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وردت قصّة موسى في ثلاث آيات قصار من «مريم» [٥١ و٥٢ و٥٣].

(٣). وذلك في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) [مريم : ٥٨].

(٤). وذلك في قوله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) (٩) إلى (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧)

(٥). وقع مجرد ذكر اسم آدم في «مريم» في قوله تعالى : (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) [مريم : ٥٨]. وذكرت قصّته مفصّلة في «طه» من قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الآية ١١٦] إلى (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الآية ١٢٣].

٢٣٧

وذي النون ، وأشير إلى قصّة من ذكرت قصّته إشارة وجيزة ، كموسى ، وهارون ، وإسماعيل ، وزكريا ، ومريم ، لتكون السورتان كالمتقابلتين.

وبسطت في سورة «الأنبياء» قصّة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ، ولم تذكر حاله مع أبيه إلّا إشارة (١). كما أنّه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ، ومع أبيه مبسوطا (٢). فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب ، وبديع هذا الترتيب.

__________________

(١). قصة ابراهيم (ع) في الأنبياء وردت في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١]. الى : (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٣) [الأنبياء]. وكلّها في إبراهيم وقومه. أما عن إبراهيم وأبيه ، فأشير إليها في قوله (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) [الأنبياء : ٥٢].

(٢). وردت قصّة إبراهيم وأبيه في «مريم» من قوله تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢]. الى (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧) [مريم]. وجاءت الإشارة اليه مع قومه في قوله تعالى : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم : ٤٨].

٢٣٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «طه» (١)

١ ـ (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) [الآية ٤٠] قال قتادة : عشرا. أخرجه ابن أبي حاتم.

٢ ـ (يَوْمُ الزِّينَةِ) [الآية ٥٩].

قال ابن عبّاس : هو يوم عاشوراء.

أخرجه ابن أبي حاتم.

٣ ـ (السَّامِرِيُ) [الآية ٨٥].

اسمه : موسى بن ظفر. أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. وأخرج عنه : أنه كان من أهل كرمان. ومن وجه آخر عنه : من أهل باجرقا (٢).

وعن قتادة : كان من قرية اسمها سامرة.

٤ ـ (مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) [الآية ٩٦].

هو جبريل ، كما أخرجه ابن أبي حاتم ، عن عليّ ، وابن عبّاس ، وغيرهما.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). ولعلها «باجرما» وهي قرية من أعمال البليخ قرب الرقة من أرض الجزيرة في شمال الشام ، كما في «معجم البلدان» ١ : ٣١٣. قال ابن كثير عن ابن عباس : وكان من قوم يعبدون البقر.

٢٣٩
٢٤٠