الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

ما أجمله فيه ، فذكر أنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فجمع في ذلك ما يتّصل بالتكليف فرضا ونفلا ، وما يتّصل بالأخلاق عموما وخصوصا. ثم ذكر ممّا جمعه في ذلك من المأمورات والمنهيات ، الأمر بالوفاء بعهد الله ، والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها ؛ ونهاهم أن يتّخذوها على غشّ وخديعة ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، إذ كانوا يحالفون قوما ، ثم يجدون غيرهم أقوى منهم فينقضون حلفهم ، ويحالفون من وجدوهم أقوى منهم ؛ ثم ذكر أنه يختبرهم بهذا التكليف ، ولو شاء لجمعهم عليه بالإلجاء ، فجعلهم أمّة واحدة في الوفاء بعهده ، ولكنّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، ثم يسألهم جميعا عن عملهم. ثم أعاد النهي عن اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم ، ليوعدهم عليه بما أوعدهم به ؛ ونهاهم أن يشتروا بعهده ثمنا قليلا من عرض الدنيا ، لأنّ ما عنده هو خير لهم لبقائه ، وما عندهم ينفد ولا يبقى ؛ ثم بيّن ما عنده من الجزاء الحسن ، والحياة الطيبة ، لمن يستحقها من المؤمنين ، الذين يصبرون على الوفاء بالعهد ، وأنه يجزيهم أجرهم ، بأحسن ما كانوا يعملون.

ثم ذكر ، مما جمعه فيما سبق من المأمورات والمنهيات ، الأمر بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن ، ليرشدهم الى ما تخلص به أعمالهم من وساوسه ، ويستحقون به الجزاء الذي وعدهم به ؛ ثم ذكر أنه لا سلطان للشيطان على المؤمنين الذي يتوكلون على ربهم (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠).

عود الى رد شبههم على القرآن

الآيات [١٠١ ـ ١١١]

ثم قال تعالى (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١). فذكر لهم شبهتين أخريين في القرآن : أولاهما أنهم كانوا إذا نسخ حكم آية بآية أخرى يقولون : «والله ما محمد إلّا يسخر بأصحابه. اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه ، فما هذا إلّا من عنده» وقد أجابهم سبحانه عنها بأنه أعلم بحكمة ذلك ، وما فيه من المصلحة للعباد ؛ وبأنه نزّل القرآن

٢١

ليثبّت المؤمنين بأخذهم بالأحكام على التدريج ، ويكون هدّى وبشرى لهم ؛ فلا يصحّ مع هذا ، أن يؤخذوا بالأحكام دفعة واحدة.

والشبهة الثانية ، أنهم كانوا يقولون إنه يتعلّم القرآن من بعض نصارى مكة ، من الأعاجم ، وقد أجابهم عنها بأن الذي يزعمون أنه يتعلّمه منه ، لسانه أعجمي ، والقرآن لسانه عربي في أعلى درجات البيان ؛ ثم ذكر أن الذين لا يؤمنون بالقرآن ، ويزعمون ذلك فيه ، لا يهديهم الى الإيمان به ، مع ظهور فضله ، وأنّ الذي يفتري الكذب عليه إنّما هو من لا يؤمن بآياته ، لا من يؤمن بها ، ثم ذكر ، ممّن يفتري الكذب عليه بالطعن في القرآن ، من كفر منهم بعد إيمانه ، واستثنى منه من أكره على الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وأوعد من شرح بالكفر صدرا بعد إيمانه ، بأن عليهم غضبا منه ولهم عذاب أليم ، لأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الاخرة ، وأنّ الله لم يشأ هدايتهم بعد اختيار الكفر على الإيمان ، وطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، فهم في الاخرة هم الخاسرون ؛ أمّا الذين أكرهوا بالفتنة على الكفر ، فإن الله لهم ، وإنه من بعد فتنتهم لغفور رحيم : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١).

الخاتمة

الآيات [١١٢ ـ ١٢٨]

ثم قال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) ، فختم السورة ببيان سبب استحقاقهم ، ما أنذروا به من العذاب في أوّلها ، وهو أنّهم كانوا أصحاب قرية (١) آمنة مطمئنة ، يأتيها رزقا رغدا من كل مكان فكفروا بأنعم الله عليهم ، فأذاقهم لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ؛ وقد جاءهم أيضا رسول منهم فكذّبوه ، فأخذهم العذاب وهم ظالمون ؛ ثم أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيّبا ، ولا يحرّموا منه ما حرّموه في

__________________

(١). هذه القرية هي مكة.

٢٢

شركهم ، وأن يشكروا نعمته عليهم بسكنى هذه القرية ، إن كانوا إيّاه يعبدون. ثم ذكر أنه لم يحرّم عليهم إلّا الميتة والدم ونحوهما من الخبائث ، ونهاهم أن يحلّلوا ويحرّموا من أنفسهم ؛ ثم ذكر أنه حرّم على اليهود ما قصّه عليه من قبل في سورة الأنعام ، وأنه لم يظلمهم بهذا ، ولكنّهم كانوا يظلمون أنفسهم بعملهم بخلاف علمهم ، ثم ذكر أن للذين عملوا السوء بجهالة من العرب الأميين ، ثم تابوا من بعد ذلك ، وأصلحوا ، مغفرة ؛ إنّ ربّك من بعدها ، لغفور رحيم.

ثم ذكر أن إبراهيم (ع) الذي أنشأ تلك القرية ، وأقام فيها الكعبة ، كان أمّة قانتا لله حنيفا ، ولم يكن من المشركين ؛ وأنّه كان شاكرا لأنعمه ، فاجتباه وهداه الى صراط مستقيم ، وآتاه في الدنيا حسنة ، وإنه في الاخرة لمن الصالحين ؛ ثم ذكر أنه أوحى الى النبي (ص) ، أن يتّبع ملّة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين ؛ وأنه ، إنّما جعل شريعة السبت على اليهود الذين اختلفوا فيها ، وأنه سيحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ؛ فلا يصح له أن يعمل بها ، لأنهم حرّفوها حتى خرجوا بها عن أصلها ، وهو ملّة إبراهيم.

ثم أمر النبي (ص) ، أن يدعو الى هذه الملّة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادل المشركين فيها بالتي هي أحسن ، لأنّ الضلال والهدى بيده تعالى ، ثم أمره وأتباعه إذا خرج الأمر من الجدال الى القتال ، أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به ، فلا يبدءوهم بالقتال ولا يجاوزوا ما عوقبوا به ، منهم ؛ ثم رغّبهم في الصبر والعفو عنهم ، ونهى النبي (ص) أن يحزن لكفرهم أو يكون في ضيق ممّا يمكرون (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨).

٢٣
٢٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «النحل» (١)

أقول : وجه وضعها بعد سورة الحجر : أنّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه ، فإن قوله تعالى في آخر تلك : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩) الذي هو مفسر بالموت ، ظاهر المناسبة لقوله تعالى هنا : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [الآية ١]. وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين ، وفي المتأخرة بلفظ الماضي ، لأن المستقبل سابق على الماضي ، كما تقرر في المعقول والعربية (٢).

وظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم ، وإنما تأخّرت عنها لمناسبة سورة «الحجر» ، في كونها من ذوات (الر).

وذلك : أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت ، ومن هو ميت وغيره (٣) ، وذلك أيضا في هذه ، بقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [الآية ٢٨]. فذكر الفتنة ، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال ، وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). مراد المؤلّف ان المضارع سابق على الماضي في الكلام والإخبار ، لا في الزمان. فقولك الآن : يقوم الناس لرب العالمين يوم القيامة ، سابق في الخبر. ولا يجوز أن يقال : قام الناس لرب العالمين يوم القيامة إلا بعد تمام ذلك البعث.

(٣). وذلك في قوله تعالى : (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧) ([إبراهيم].

(٤). وذلك في قوله تعالى عن العذاب : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [الآية ٢٩]. وفي النعيم : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ([الآية ٣١].

٢٥

ووقع في سورة إبراهيم : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦). وقيل : إنها في الجبّار الذي أراد أن يصعد السماء بالنسور (١). ووقع هنا أيضا في قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٢٦].

ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم ، وقال عقبها : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [الآية ٣٤]. ووقع هنا ذكر ذلك معقبا بمثل ذلك.

__________________

(١). يروى أنه جوّع نسرين ، وأوثق رجل كلّ منهما في تابوت ، وقعد هو وآخر في التابوت ، ورفع عصا عليها اللحم ، فطارا يتبعان اللحم حتى غابا في الجو (تفسير الطبري : ٣ : ١٦٠).

٢٦

المبحث الرابع

مكنونات سورة «النحل» (١)

١ ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ) [الآية ٧] قال ابن عباس : يعني مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم.

٢ ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٢٦] قال ابن عباس : هو نمرود بن كنعان ، حين بنى الصّرح ، أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

٣ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) [الآية ٤١].

قال قتادة : هؤلاء الذين لحقوا بأرض الحبشة. أخرجه ابن أبي حاتم. وقد سقت أسماء المهاجرين إلى الحبشة في كتاب «رفع شأن الحبشان».

٤ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الآية ٧٦].

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجلين ، والأبكم منهما ، الكلّ على مولاه :

أسيد بن أبي العيص ؛ والذي يأمر بالعدل : عثمان بن عفّان (٣).

٥ ـ (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) [الآية ٩٢].

قال السّدّي : كانت امرأة بمكّة تسمّى خرقاء مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). وابن جرير ١٤ : ٧٦.

(٣). واخرج ذلك ابن جرير ١٤ : ١٠١ أيضا.

(٤). والطبري ١٤ : ١١١.

٢٧

وقال السّهيلي : اسمها ريطة بنت سعيد (١) بن زيد مناة بن تميم.

٦ ـ (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [الآية ١٠٣].

قال مجاهد : عنوا عبد بن الحضرمي. زاد قتادة : وكان يسمّى : يحنّس (٢).

وقال السّدّي : يقال له : أبو اليسر.

وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : عنوا عبدين لنا ، أحدهما يقال له يسار ، والاخر : جبر.

وقال الضّحّاك : عنوا سلمان الفارسي (٣).

وقال ابن عباس : [عنوا] قينا بمكة اسمه بلعام (٤).

أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

ويحنّس : ضبطه الحافظ ابن حجر في «الإصابة» بياء تحتية (٥) ، وحاء وسين مهملتين ، بينهما نون مشدّدة.

٧ ـ (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) [الآية ١٠٦].

قال ابن عباس : نزلت في عمّار بن ياسر. أخرجه ابن جرير (٦).

وقال ابن سيرين : نزلت في عياش بن أبي ربيعة. أخرجه أبن أبي حاتم.

٨ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [الآية ١١٠].

قال ابن إسحاق : نزلت في عمّار بن ياسر ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد (٧).

٩ ـ (قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) [الآية ١١٢].

قالت حفصة أمّ المؤمنين : هي المدينة ، وكذا قال ابن شهاب. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

وقال ابن عباس : هي مكّة. أخرجه ابن جرير (٨).

__________________

(١). في «جمهرة أنساب العرب». لابن حزم : ٢١٥ : «سعد». وليس فيه اسم «ريطة». من ولده ؛ والمثبت موافق ل «الإتقان» ٢ : ١٤٧.

(٢). في «الإتقان» ٢ : ١٤٧ : «مقيس».

(٣). قال ابن كثير في «تفسيره» ٢ : ٥٨٦ : «وهذا القول ضعيف لأن هذه الآية مكية ، وسلمان إنما أسلم بالمدينة.

(٤). إسناده ضعيف ، كما في «الدر المنثور» ٤ : ١٣١.

(٥). مضمومة ؛ كما في «تاج العروس» : «حنس».

(٦). ١٤ : ١٢٢.

(٧). أخرجه الطبري في «تفسيره» ١٤ : ١٢٤.

(٨). ١٤ : ١٢٥. ومال ابن كثير في «تفسيره» ٢ : ٥٨٩ الى هذا القول.

٢٨

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «النحل» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [الآية ٧].

(بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أكثر القرّاء على كسر الشين ومعناه : إلا بجهد الأنفس.

وقرأ أبو جعفر وجماعة : إلّا بشقّ الأنفس.

وكأن الشّق وهو المشقّة ، بكسر الشين ، اسم استحدث من المصدر ، وهو الشّقّ «بفتح الشين».

٢ ـ (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً) [الآية ١٣].

قوله تعالى : (وَما ذَرَأَ) أي : ما خلق لكم في الأرض ، من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك. أقول : بين المهموز والمضاعف والناقص المعتلّ ، وشائج في المعنى ، وهذا الفعل يذكّرنا بالمواد ذرّ وما يتأتّى من الذّرية ، والذراري وغير ذلك. كما يذكّرنا بالذّرى والذري ونحوه ، وما يراد بذلك من الزيادة والانتشار.

٣ ـ وقال تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) [الآية ١٤].

كنا قد بسطنا القول في الآية ٢٢ من سورة يونس ، وعرضنا لمسألة الالتفات من الخطاب الى الغيبة.

ونريد في هذه الآية أن نعرض لمسألة الفلك ، وأنها جمع بدلالة الصفة «مواخر» ولكننا نجد أن «الفلك» قد جاء دالّا على الإفراد في سورة الشعراء بدلالة الصفة أيضا :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٩

(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١١٩).

وجاء (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) في الآية : ٤١ من سورة يس ، كما جاء في الآية ١٤٠ من سورة الصافات.

وهذا نظير «السحاب» فهو تارة جمع بدلالة الصفة «الثقال» ، كما بيّنا في الآية ١٢ من سورة الرعد ، وهو أخرى مفرد بدلالة الصفة «مسخّر» ، كما في الآية : ١٦٤ من سورة البقرة.

وهذا كله شيء من خصائص لغة القرآن ، التي ترسم لنا صفحات من تاريخ هذه اللغة.

٤ ـ وقال تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [الآية ١٥].

والمعنى : كراهة أن تميد بكم وتضطرب.

وحذف المصدر المنصوب ، المبيّن للعلّة ضرب من الإيجاز البليغ ، وهو ظاهر في المعنى.

٥ ـ وقال تعالى : (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) [الآية ٢٧].

والمعنى : الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم. وقرئ : تشاقّونّ ، بكسر النون ، بمعنى تشاقونني.

وكنت عرضت للاية : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ١٣].

وأشرت إلى أن فكّ الإدغام غير كثير ، والكثير في هذا المضاعف هو الإدغام ، إلا أن فكّه في الآية كان بسبب صوتي.

وفي هذه الآية التي نعرضها من سورة النّحل ، جاء الفعل بالإدغام ، وليس من ضرورة تستدعي فك الإدغام.

٦ ـ وقال تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٤).

أي : أحاط بهم العذاب ، الذي هو جزاء ما كانوا يستهزئون ، كما نقول : أحاط بفلان عمله وأهلكه.

والحيق : ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء عمل يعمله ، فينزل ذلك به.

أقول : والحيق إحاطة مقيّدة بالمكر والسوء ، وليست مطلقة كما تقول في «أحاط» مثلا.

٧ ـ وقال تعالى : (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [الآية ٣٦].

٣٠

جاء «الطاغوت» في ثماني آيات ، من سور مختلفة ، والمعنى واحد.

من غير شك أن «الطاغوت» من «الطغيان» وهو الشرّ ، والكفر ، وتجاوز الحدّ في البغي.

غير أن «الطاغوت» ، وإن تضمن هذه الدلالات فهو بناء خاص ، وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وإن قيل : طواغيت.

وهو نظير رغبوت ، ورحموت ، وجبروت ، ولاهوت ، وناسوت ، وملكوت ونحو هذا.

وهو مصدر من المصادر القديمة ، التي استقرينا منها جملة من طريق السّماع.

ولا أريد أن أقول إنها مقلوبة على فعلوت ، والأصل «طغيوت» كما ذهب أهل اللغة فليس ذلك بمهمّ.

وقالوا : الطاغوت الشيطان.

وعندي أن هذا البناء الغريب القديم ، يصح أن يتّخذ في وضع المصطلح الجديد ، وذلك أن أهل المصطلحات من الغربيين ، يلتمسون الأبنية الغريبة إذا ما جدّت لهم حاجة لمصطلح جديد ، ليكون الوزن الغريب مميزا له خاصا به.

٨ ـ وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٤٨).

وقرئ : أو لم يروا ، ويتفيّئوا بالياء والتاء.

والتفيّؤ : الظلّ بالعشي ، وتفيّؤ الظلال : رجوعها بعد انتصاف النهار ، وابتعاث الأشياء ظلالها.

أقول : عرفنا أن الفيء بالعشيّ ، والظلّ بالغداة. وقد امّحى الفرق في العربية المعاصرة.

وداخرون أي : متصاغرون منقادون ، على أنّ الدخور من صفات العقلاء.

٩ ـ وقال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [الآية ٦٦].

ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف من الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكباش. وجبّة أسناد ، وثوب أفواف.

وقد تعجب أن يدرج سيبوبه «الأنعام» ، مع هذه الأسماء التي جاءت مفردة في استعمالهم ، وأنت تقرأ قوله تعالى :

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥).

٣١

وإذا كان الضمير في قوله تعالى : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، في الآية قد حملهم على جعل «الانعام» مفردة ، وإدراجها مع ثوب أكباش ، وجبّة أسناد وغيرها ، فما ذا يقولون في قوله تعالى :

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٢١) [المؤمنون]

١٠ ـ وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٨٤).

قوله تعالى : (يُسْتَعْتَبُونَ) أي : يسترضون ، أي : لا يقال لهم أرضوا ربّكم ، لأن الاخرة ليست بدار عمل.

١١ ـ وقال تعالى : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٨٧).

الكلام على الذين كفروا ، أي : أنهم ألقوا الاستسلام لأمر الله وحكمه ، بعد الإباء والاستكبار في الدنيا.

وهذا من معاني «السلم» مقيّدا بهذه الآية ، وهو نظير «الإسلام» بمعنى الخضوع والانقياد والاستسلام.

١٢ ـ وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) [الآية ٩٢].

أي : ولا تكونوا في نقض الأيمان ، كالمرأة التي أنحت على غزلها ، بعد أن أحكمته وأبرمته ، فجعلته أنكاثا ، أي : ما ينكث فتله ، تتخذون الأيمان دخلا بينكم ، أي : مفسدة ودغلا.

أقول : والدّخل والدّغل سواء.

١٣ ـ وقال تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [الآية ١٠١].

أقول : واستعمال «مكان» في فعل التبديل ، ما زال معروفا حتى في العامّيّة الدارجة.

١٤ ـ وقال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [الآية ١١٢].

أقول : وضرب الأمثال في القرآن على هذا النحو ، من تصوير حالة يعرض فيها جملة أمور ، ليتخذ منها العباد عبرة لهم.

ومن ذلك قوله تعالى :

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) [إبراهيم : ٢٤].

٣٢

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [الآية ٧٦].

وقوله تعالى في الآية ١١٢ : (بِأَنْعُمِ اللهِ) الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس.

١٥ ـ وقال تعالى :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) [الآية ١٢٠]. قوله تعالى : (كانَ أُمَّةً) فيه وجهان : أحدهما أنه كان وحده أمّة من الأمم ، لكماله في جميع صفات الخير.

والثاني : أن يكون أمّة بمعنى مأموم ، أي : يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير ، أو بمعنى مؤتمّ به كالرحلة والنّخبة ، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول.

٣٣
٣٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «النحل» (١)

قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [الآية ٨] بالنّصب. أي : وجعل الله الخيل والبغال والحمير زينة ..

وقال تعالى : (وَمِنْها جائِرٌ) [الآية ٩] أي : ومن السبيل لأنها مؤنثة في لغة الحجاز (٢).

وقال تعالى : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) [الآية ١٣] أي : خلق لكم وبثّ لكم (٣).

وقال تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [الآية ٣٠] فكانت «ما ذا» بمنزلة «ما» وحدها.

وقال تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [الآية ٢١] على التوكيد (٤).

وقال سبحانه : (إِنْ تَحْرِصْ) [الآية ٣٧] لأنّها من «حرص» «يحرص».

وإذا وقفت على (يَتَفَيَّؤُا) [الآية ٤٨] قلت «يتفيّأ» ، كما تقول بالعين «تتفّيع» جزما ، وإن شئت أشممتها الرفع ، ورمته ، كما تفعل ذلك في «هذا حجر».

وقال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٤٨) فذكّر ، وهم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). أنظر المذكّر والمؤنّث ٨٧ ، وكتاب التذكير والتأنيث ١٦ ، والمذكّر والمؤنّث للمبرد ١٥ ، والّلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث ٦٧ ، والّلهجات العربية ٥٠٢.

(٣). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٥٦٠.

(٤). نقله في زاد المسير ٤ : ٤٣٧.

٣٥

غير الإنس ، لأنه لما وصفهم سبحانه بالطاعة أشبهوا ما يعقل (١) ، وجعل اليمين للجماعة مثل (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) [القمر : ٤٥].

وقال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) [الآية ٤٩] يريد : من الدواب ، واجتزأ بالواحد ، كما تقول : «ما أتاني من رجل» أي : ما أتاني من الرجال مثله.

وقال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَ) [الآية ٥٣] لأنّ «ما» بمنزلة «من» ، فجعل الخبر بالفاء.

وقال تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) [الآية ٥٥].

وقال تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [الآية ٦٧] ولم يقل «منها» لأنّ السياق أضمر «الشيء» كأنه «ومنها شيء تتّخذون منه سكرا» (٢).

وقال تعالى : (إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي) [الآية ٦٨] على التأنيث في لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقول «هو النّحل» وكذلك كلّ جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء ، نحو «البرّ» و «الشعير» هو في لغتهم مؤنّث (٣).

وقال تعالى : (ذُلُلاً) [الآية ٦٩] وواحدها «الذلول» وجماعة «الذّلول» «الذلل».

وقال تعالى : (بَنِينَ وَحَفَدَةً) [الآية ٧٢] وواحدهم «الحافد».

وقال تعالى : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) [الآية ٧٦] لأنّ «أينما» من حروف المجازاة.

وقال تعالى : (رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) [الآية ٧٣] بجعل «الشيء» بدلا من «الّرزق» ، وهو في معنى «لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا» (٤). وقال بعضهم : «الرّزق فعل يقع بالشيء» يريد : «لا يملكون أن يرزقوا شيئا».

وقال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) [الآية ٩١] تقول : «أوفيت بالعهد»

__________________

(١). نقله في زاد المسير ٤ : ٤٥٣.

(٢). نقله في زاد المسير ٤ : ٤٦٤.

(٣). المذكّر والمؤنّث ٨٥ ، والبلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث ٦٧ ، والّلهجات العربية ٥٠٤.

(٤). نقله في الجامع ١٠ : ١٤٦.

٣٦

و «وفيت بالعهد» فإذا قلت «العهد» قلت «أوفيت العهد» بالألف (١).

وقال تعالى : (أَنْكاثاً) [الآية ٩٢] وواحدها «النكث».

قوله سبحانه : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) [الآية ١٠٦] خبر لقوله تعالى (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) ثم دخل معه قوله سبحانه (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فأخبر عنهم بخبر واحد ، إذ كان ذلك يدل على المعنى (٢).

وقال تعالى : (مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) [الآية ٨١] وواحده : «الكنّ».

وقال جلّ شأنه : (كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [الآية ١١١] ومعنى كلّ نفس : كلّ إنسان ، وورد التأنيث لأن النفس تؤنّث وتذكّر. يقال «ما جاءتني نفس واحدة» و «ما جاءني نفس واحد».

وقال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ) [الآية ١١٦] بجعل (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ) اسما للفعل ، كأنّ السّياق «ولا تقولوا لوصف ألسنتكم (الْكَذِبَ هذا حَلالٌ) [الآية ١١٦].

وقال تعالى (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) [الآية ١٢١] وقال سبحانه (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [الآية ١١٢] بجمع «النّعمة» على «أنعم» كما قال جلّ شأنه : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) [الأحقاف : ١٥] فزعموا أنّه جمع «الشدّة».

__________________

(١). يقصد الهمزة على عادة الأقدمين ، من عدم تمييز إحداهما من الأخرى.

(٢). نقله في الجامع ١٠ : ١٨٠ بعبارة مغايرة وأفاده في الكشاف ٢ : ٦٣٦.

٣٧
٣٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «النحل» (١)

إن قيل : لم قدّمت الإراحة ، وهي مؤخّرة في الواقع ، على السروح ، وهو مقدم في الواقع ، في قوله تعالى : (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦).

قلنا : لأنّ الأنعام ، في وقت الإراحة ، وهي ردها عشيّا الى المراح ، تكون أجمل وأحسن ، لأنها تقبل ملأى البطون ، حاملة الضروع ، متهادية في مشيها ، يتبع بعضها بعضا ، بخلاف وقت السروح ، وهو إخراجها الى المرعى ، فإنّ هذه الأمور كلّها تكون على ضدّ ذلك.

فإن قيل : قوله تعالى : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [الآية ٧] ، إن أريد به : لم تكونوا بالغيه عليها إلّا بشق الأنفس ، فلا امتنان فيه ؛ وإن أريد به لم تكونوا بالغيه بدونها إلّا بشقّ الأنفس ، فهم لا يبلغونه عليها أيضا إلّا بشق الأنفس ، فما الحكمة في ذلك؟

قلنا : معناه وتحمل أثقالكم : أي أجسامكم وأمتعتكم معكم الى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها ، بأنفسكم من غير أمتعتكم إلّا بجهد ومشقة. فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟ والمراد بالمشقة : المشقّة التي تنشأ من المشي ، أو من المشي مع الحمل على الظهر لا مطلق مشقّة السفر ، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل ، فظهرت الحكمة من ذلك.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [الآية ٨] يقتضي حرمة أكل الخيل ، كما

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٣٩

اقتضاه في البغال والحمير ، من حيث أنه لم ينصّ على منفعة أخرى فيها ، غير الركوب والزينة ، ومن حيث أن التعليل بعلّة يقتضي الانحصار فيها كقولك : فعلت هذا لكذا ، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره ، أو له مع غيره ، إلّا إذا كان أحدهما جهة في الاخر.

قلنا : ينتقض بالحمل عليها والحراثة بها ، فإن ذلك مباح مع أنه لم ينص عليه.

فإن قيل : إنّما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام ، فإنه منصوص عليه بقوله تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) [الآية ٥] ، والمراد به كل منفعة ، معهودة منها عرفا ، لا كلّ منفعة. فثبت مثل ذلك في الخيل والبغال والحمير.

قلنا : لو كان ثبوته فيها بالقياس في الأنعام ، لثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام أيضا ؛ ولو ثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس ، لثبت في البغال والحمير ، كما ثبت الحمل والحراثة ثبوتا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام. والجواب عن الجهة الثانية في أصل السؤال ، أن هذه اللام ليست لام التعليل ، بل لام التمكين ، كقوله تعالى (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [يونس : ٦٧ ، غافر : ٦١] ومع هذا يجوز في الليل غير السكون.

فإن قيل : لم قال الله تعالى في وصف ماء السماء (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [الآية ١١] ولم يقل كل الثمرات ، مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟

قلنا : كل الثمرات لا تكون إلّا في الجنة ، وإنما ينبت في الدينا بعض منها أنموذجا وتذكرة ، فالتبعيض بهذا الاعتبار ؛ يكون المراد بالثمرات ما هو أعمّ من ثمرات الدنيا ، ومن يجوّز زيادة «من» في الإثبات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا.

فإن قيل : قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [الآية ١٧] ، المراد بمن لا يخلق الأصنام ، بدليل قوله تعالى بعده : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢٠) ، فكيف جيء بمن المختصة بأولي العلم والعقل؟

قلنا : خاطبهم على معتقدهم ، لأنهم سموها آلهة وعبدوها ، فأجروها مجرى

٤٠