الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

هو الخضر ، كما في «الصحيح» (١) وغيره.

واسمه : بليا. وقيل : اليسع. وقيل : إلياس. حكاه الكرماني في «عجائبه».

١٥ ـ (لَقِيا غُلاماً) [الآية ٧٤].

قال شعيب الجبائي : اسمه : جيسورا (٢) أخرجه ابن أبي حاتم.

١٦ ـ (أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) [الآية ٧٧].

قال ابن سيرين : هي الأبلّة (٣).

وقال السّدّيّ : باجروان (٤). أخرجه ابن أبي حاتم. وأخرج من طريق قتادة عن ابن عبّاس ، قال : هي أبرقة.

قال : وحدّثني رجل أنّها : أنطاكية.

وقيل : هي قرطبة. حكاه ابن عسكر.

١٧ ـ (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الآية ٧٩].

اسمه هدد بن بدد. كما في «البخاري» (٥).

وقيل : الجلندا (٦). حكاه ابن عسكر.

١٨ ـ (أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) [الآية ٨٠].

اسم الأب : كازبرا ، والأم : سهوي (٧).

١٩ ـ (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) [الآية ٨١].

قال ابن عبّاس : أبدلا جارية ولدت نبيّا. أخرجه ابن أبي حاتم.

وأخرج ابن أبي حاتم عن السّدّيّ ، قال : ولدت جارية ، ولدت نبيّا ؛ وهو الذي كان بعد موسى ، الذي قالت له

__________________

(١). البخاري برقم (٤٧٢٥) في التفسير ، ومسلم في الفضائل (١٦٢) ، والترمذي (٣١٤٨) في التفسير ، والحميدي ، في «مسنده» برقم (٣٧١) ، والخطيب البغدادي في «الرحلة في طلب الحديث» برقم (٢٩).

(٢). في «تفسير ابن كثير» ٣ : ٩٨ : «حيثور» ، وفي «الإتقان» ٢ : ١٤٧ : «جيسون» ، بالجيم وقيل بالحاء».

(٣). الأبلّة : بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى في زاوية الخليج ، الذي يدخل إلى مدينة البصرة ، وهي أقدم من البصرة. قال الأصمعي : جنّات الدنيا ثلاث : غوطة دمشق ، ونهر بلخ ، ونهر الأبلّة. «معجم البلدان».

(٤). باجزوان : مدينة في نواحي الأبواب قرب شروان. «معجم البلدان» ١ : ٣١٣.

(٥). برقم (٤٧٢٦) في التفسير.

(٦). ما ذكره المصنّف أعلاه منسوبا الى ابن عسكر ، أسنده الحافظ في «فتح الباري» ٨ : ٤٢٠ الى «تفسير مقاتل» وزاد : «وكان بجزيرة الأندلس» قال : «وقيل : منولة بن الجلندي بن سعيد الأزدي».

(٧). في «فتح الباري» ٧ : ٤٢١ : «وفي المبتدأ» لوهب بن منبّه : «كان اسم أبيه : ملامس ، واسم أمه : رحما ؛ وقيل : اسم أبيه : كادري ، واسم أمه : سهوي».

١٤١

بنو إسرائيل : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦] وكان اسمه : شمعون ، وكان اسمها : حنّة.

٢٠ ـ (لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ) [الآية ٨٢].

هما صريم ، وأصرم ، ابنا كاشح ؛ وأمّهما دنيا.

٢١ ـ (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً) [الآية ٨٦] كافرين.

٢٢ ـ (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) [الآية ٩٠].

قال قتادة : يقال إنهم الزنج. أخرجه عبد الرزاق.

٢٣ ـ (بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) [الآية ٩٦].

قال الضّحّاك : هما من قبل أرمينية وأذربيجان (١). أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

__________________

(١). يجوز فيها فتح الراء ، وسكون الذال ؛ وفتح الذال ؛ وسكون الراء. كما في «معجم البلدان» ١ : ١٢٨.

(٢). والطبري : ١٦ : ٢١.

١٤٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الكهف» (١)

١ ـ وقال تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٦).

الباخع : القاتل المهلك ، يقال : بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا ، قال ذو الرمّة :

ألا أيّهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر أقول : والبخع من الكلم القديم الذي افتقدناه منذ عصور.

٢ ـ وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩).

قالوا : الرّقيم اسم كلبهم ، قال أمية بن أبي الصّلت :

وليس بها إلّا الرّقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد وقيل : هو لوح من رصاص ، رقمت فيه أسماؤهم ، جعل في باب الكهف.

وقيل : إنّ الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل.

وقيل : هو الوادي الذي فيه الكهف ، وقيل : الجبل ، وقيل : مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين.

أقول : الذي أراه أن «الرّقيم» هو «المرقوم» ، ولعله كتابهم أو كتابتهم ، وما سطروه ونقشوه.

وما زال «الرّقم» في العربية يشير إلى الكتابة والنقش والإشارة.

٣ ـ وقال تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ١٤].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٤٣

وقوله : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) ، أي : قوّيناها بالصبر على هجر الأوطان والنعيم ، والفرار بالدّين إلى بعض الغيران (١) ، وجسّرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام.

أقول : والربط على القلوب ، كناية جميلة عن تقويتها بالصبر والجلد على الصعاب.

٤ ـ وقال تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) [الآية ١٧].

قوله تعالى : (تَزاوَرُ) أي : تتمايل ، والأصل تتزاور.

وقرئ : تزورّ وتزوارّ بوزن تحمر وتحمارّ ، وكلّها من الزّور وهو الميل ، ومنه زاره إذا مال إليه.

وهذا يدلنا على أن «الزيارة» من الزّور ، وهو الميل الحسّي الذي تحوّل إلى زيارة ، وذهاب ؛ فيهما ميل جسدي ، وآخر معنويّ عاطفيّ.

٥ ـ وقال تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الآية ١٨]. انظر : [آل عمران : ٩]. ٦ ـ وقال تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) [الآية ١٩].

«الورق» : الفضّة مضروبة كانت أو غير مضروبة ، وقرئ بسكون الراء والواو مكسورة أو مفتوحة ، وكذلك الرّقة ، وقالوا : إنها الدراهم.

أقول : وهذا من الكلم القديم الذي بقي في النصوص القديمة.

٧ ـ (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [الآية ٢١].

أي : وكذلك أعثرنا عليهم (أي : أهل الكهف) أهل المدينة.

و «أعثر» في الآية فعل متعد ، حذف مفعوله ، تقديره : أهل المدينة.

وقد جاء هذا الفعل في الآية : ١٠٧ من المائدة ، ببناء الثلاثي وهو قوله تعالى : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما).

أقول : وعلى هذا ، يكون استعمال المعاصرين صحيحا حين يقولون : عثرنا على هذه المسألة ، مثلا.

__________________

(١). الغيران ، جمع الغار.

١٤٤

وجاء في معجمات العربية : وعثر على الأمر : اطّلع عليه.

ولا حجّة لمن ذهب إلى خطأ هذا القول من المعاصرين.

٨ ـ وقال تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي) [الآية ٢٤].

أقول : إن الاكتفاء بالحركة القصيرة بعد النون ، يهيّئ مناسبة أن يجيء بعدها حركة طويلة في قوله تعالى : (رَبِّي) ، ولو أنك أطلت في الأولى وقرأت «يهديني» لما حسن الأداء من الناحية الصوتية ، ألا ترى إلى قوله سبحانه : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) [الآية ١٧].

فإن (الْمُهْتَدِ) جاء بالكسر ، والأصل «المهتدي» ، ولكن لمّا حسن الوقف عليه اجتزئ بالكسر ، توقّعا للسكون ، الذي يتطلبه الوقف.

٩ ـ وقال تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (٢٧).

«الملتحد» بزنة اسم المفعول : الملتجأ.

أقول : وليس لنا في عربيتنا المعاصرة إلّا الثلاثي ، ومنه «اللّحد».

١٠ ـ وقال تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨).

وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) ، أي : احبسها معهم وثبّتها ، قال أبو ذؤيب :

فصبرت عارفة لذلك حسرة ترسو إذا نفس الجبان تطلّع أقول : وهذا من معاني «الصبر» القديمة ، التي عفا أثرها بسبب شيوع معنى «الصبر» المعروف ، وهو الصبر على المحن والشدائد ، وبهذا المعنى أصبح الفعل «صبر» من الأفعال اللازمة ، وأصله التعدّي ؛ لأن المعنى هو الحبس في الأصل ، فكأن «الصابر» على الشدّة من يحبس نفسه ، فيحملها على الاحتمال.

قلت : لم يبق من هذا المعنى شيء إلّا ما اصطلح عليه أهل الشمال الإفريقي ، الذين أخذوا المضاعف ، وأطلقوه على ما يحبس من الفواكه والخضر واللحوم في الصفيح ، وهو ما

١٤٥

ندعوه في المشرق «المعلّبات» وعندهم يقال : «المصبّرات».

أقول : وأهل إفريقية في هذه اللفظة ، أفصح منا نحن عرب المشرق ؛ ذلك أن «المعلّبات» و «التعليب» قد جاء من «العلبة» ، وهي قدح ضخم من جلود الإبل ، وقيل : العلبة من خشب ، كالقدح الضخم يحلب فيها ، وقيل : إنها كهيئة القصعة من جلد ، ولها طوق من خشب.

وهذه «العلبة» القديمة كان لنا في العراق شيء منها ، ولا سيّما في بغداد ، فهي وعاء من خشب ، تضع فيه القرويات اللبن الخاثر ، ويأتين به ليباع.

وجاء في الآية أيضا قوله تعالى : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ).

والمعنى : ولا تتجاوزهم عيناك وتتعدّياهم ، أي : لا تتجاوز عيناك الفقراء ، وتزوّرا عنهم.

أقول : وهذا استعمال جميل للفعل «عدا يعدو».

وجاء في الآية نفسها : (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (٢٨).

والمعنى : كان أمره مجاوزا الحدّ. وهذا من الكلم الجميل الذي لا نعرفه الآن ، وإن كنا نستعمل الإفراط والتفريط.

١١ ـ وقال تعالى : (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩).

وقال أيضا : (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٣١).

والمعنى : المرتفق هو المتّكأ من المرفق ، وهذا لمشاكلة قوله سبحانه : (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٣١) ، وإلّا فلا ارتفاق لأهل النار ، ولا اتّكاء.

١٢ ـ وقال تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الآية ٣٣].

أي : كلّ واحدة من الجنّتين آتت غلّتها ، وأخرجت ثمرتها.

أقول : جاء الفعل مختوما بتاء التأنيث آتت ، ولم يأت «آتتا» كما وردت في بعض القراآت.

فما ذا يقال في هذه المسألة؟ قالوا : إنّ «كلتا» مفرد ، ولذلك حمل الفعل بعدها على اللفظ ، ولو حمل على المعنى لقيل : آتتا.

كأن «كلتا» اسم مقصود مفرد ، ولذلك فإنّ مراعاة لفظها أكثر وأفصح

١٤٦

من مراعاة معناها ، مثلها مثل «كلّ» فلفظها مفرد ، وهو المحمول عليه أكثر مما يحمل على معناها ؛ ومثل هذا «من» و «ما» الموصوليّتان أو الشرطيّتان.

وقوله تعالى : (وَلَمْ تَظْلِمْ) ، أي : لم تنقص.

وإفادة «الظلم» لمعنى النقص معروف في العربية وهو كقول الشاعر :

أيظلمني مالي كذا ولوى يدي

لوى يده الله الذي هو غالبه

 أي : ينقصني مالي.

أقول : ولشيوع «الظلم» في دلالته المعروفة في عصرنا ، أنسيت هذه الدلالة الأخرى التي وردت في الآية.

١٣ ـ وقال تعالى : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) [الآية ٤٣].

أقول : كنّا قد أشرنا إلى أن العربية قد تحمل على اللفظ كثيرا ، فأشرنا إلى أن كلمة «كلّ» لفظها لفظ المفرد ، وكذلك «ركب» ، و «وفد» ، و «قوم» ، و «شجر» ، و «طفل» وغير ذلك كثير.

وقد تحمل على المعنى في الكلمات التي أشرنا إليها ، قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) [الحجرات : ١١].

وفي غير هذه الكلمات.

وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نقول : إنّ هذا أفصح من ذاك.

وقد كنا عرضنا لكلمة «طائفة» ، وكيف وردت في الآيات الكريمة يراعى لفظها مرّة ، كما يراعى معناها أخرى.

ومثل «طائفة» كلمة «فئة» ، ولنعرض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة :

قال تعالى : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٩].

(فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) [آل عمران : ١٣].

(وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) [الأنفال : ١٩].

(فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ) [القصص : ٨١].

(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) [آل عمران : ١٣].

أقول : ومجيء كلمة «فئة» في جملة هذه الآيات نظير ما ورد في كلمة

١٤٧

«طائفة» وغيرها في لغة التنزيل.

١٤ ـ وقال تعالى : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) [الآية ٥٣].

قوله تعالى : (مُواقِعُوها) أي : مخالطوها واقعون فيها.

أقول : وهذا استعمال للفعل «واقع» يحقّ لنا أن نقف عليه.

١٥ ـ وقال تعالى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (٧١).

أي : لقد جئت شيئا عظيما ، وهو من أمر الأمر إذا عظم ، قال داهية دهياء إدّا إمرا.

أقول : ما كان أحوجنا إلى أن تحتفظ عربيّتنا المعاصرة بهذا النوع من الكلم الثلاثي الجميل ، وهو قريب منّا ، ولا سيما أن مادة «أمر» كثيرة التداول.

١٦ ـ وقال تعالى : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) [الآية ٧٧]. قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) ، أي : طلبا الطعام.

وقوله سبحانه : (أَنْ يُضَيِّفُوهُما) وقرئ يضيفوهما. ويقال : ضافه إذا كان ضيفا.

وحقيقته : مال إليه ، من ضاف السهم عن الغرض ، ونظيره : زاره من الازورار.

وأضافه وضيّفه : أنزله وجعله ضيفه.

وفي قوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) ، استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة.

أقول : كأن القول : يوشك أن ينقضّ. واستعارة الإرادة للمداناة والمشارفة لا نعرفها في العربية المعاصرة ، ولكننا نجدها في العامّية الدارجة في العراق ، فنقول في المناسبة نفسها في الحديث عن جدار آيل للسقوط : «يريد يسقط».

١٤٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الكهف» (١)

قال تعالى (عِوَجاً) (١) (قَيِّماً) [الآية ٢] أي : أنزل على عبده الكتاب قيّما ، ولم يجعل له عوجا.

وقال سبحانه (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (٣) بالنصب على الحال ، على (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (٢) [الآية ٢].

وقوله تعالى (كَبُرَتْ كَلِمَةً) [الآية ٥] في معنى : أكبر بها كلمة.

وقال تعالى (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الآية ٥٠] أي : «عن ردّ أمر ربّه» نحو قول العرب : «أتخم عن الطّعام» أي : عن مأكله أتخم ، ولما ردّ هذا الأمر فسق (٢).

وقال تعالى : (مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (١٦) أي : شيئا يرتفقون به.

وفي قوله تعالى (تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) [الآية ١٧] «ذات الشّمال» نصب على الظرف.

وفي قوله تعالى (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) [الآية ١٩] فلم يوصل «فلينظر» الى «أيّ» لأنه من الفعل الذي يقع بعده حرف الاستفهام تقول : «انظر أزيد أكرم أم عمرو».

وقال تعالى (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الآية ٢٤] أي : إلّا أن تقول : «إن شاء الله» فأجزأ من ذلك هذا ؛ وكذلك إذا طال الكلام أجزأ فيه ، وصار شبيها بالإيماء ، لأنّ بعضه يدلّ على بعض.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في التهذيب ٨ : ٤١٤ فسق ، والصحاح فسق ، ونسبه في الجامع ١٠ : ٤٢٠ الى محمد بن مطرب.

١٤٩

وقال سبحانه (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) [الآية ٢٦] أي : ما أبصره وأسمعه ، كما تقول : «أكرم به» أي : ما أكرمه. وذلك أن العرب تقول : «يا أمة الله أكرم بزيد» فهذا معنى ما أكرمه ، ولو كان يأمرها أن تفعل ، لقال «أكرمي زيدا».

وقال تعالى : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الآية ٢٢] أي : ما يعلمهم من الناس إلّا قليل. والقليل يعلمونهم.

وقال سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) [الآية ٢٩] أي : قل هو الحقّ. وقوله من الآية نفسها : (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩) أي : وساءت الدار مرتفقا.

وقال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الآية ٣٢] ثم قال في الآية نفسها : (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) [الآية ٣٤] وإنّما ذكر الرّجلين في المعنى وكان لأحدهما ثمر ، فأجزأ ذلك من هذا (١).

وقال تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) [الآية ٣٣] بجعل الفعل واحدا ، على اللفظ ، لا على المعنى.

وقال تعالى (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) [الآية ٥٩] يعني : أهلها كما قال (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أجري اللفظ على القوم وأجري اللفظ في «القرية» عليها ، الى قوله تعالى (الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] ؛ وقال سبحانه (أَهْلَكْناهُمْ) [الآية ٥٩] ولم يقل «أهلكناها» حمله على القوم ، كما قال «وجاءت تميم» وجعل الفعل ل «بني تميم» ولم يجعله ل «تميم» ولو فعل ذلك لقال : «جاء تميم» وهذا لا يحسن في نحو هذا ، لأنه قد أراد غير تميم في نحو هذا الموضوع ، فجعله اسما ، ولم يحتمل إذا اعتل ان يحذف ما قبله كله ، يعني التاء من «جاءت» مع «بني» وترك الفعل على ما كان ، ليدل على أنه قد حذف شيئا قبل «تميم».

وقال (لا أَبْرَحُ) [الآية ٦٠] أي : لا أزال. قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائتين] :

وما برحوا حتّى تهادت نساؤهم

ببطحاء ذي قار عياب اللّطائم

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٠٦.

١٥٠

أي : ما زالوا.

وأمّا قوله تعالى (فَخَشِينا) [الآية ٨٠] فمعناه : كرهنا ، لأنّ الله جلّ جلاله لا يخشى (١).

وفي قوله تعالى (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) [الآية ٩٤] جعل الألف من الأصل ، وجعل «يأجوج» من «يفعول» و «مأجوج» من «مفعول» (٢).

وفي قوله تعالى (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) [الآية ٩٥] رفع (خَيْرٌ) لأن (ما مَكَّنِّي) اسم مستأنف.

وقوله تعالى (فَمَا اسْطاعُوا) [الآية ٩٧] من «اسطاع» «يسطيع» أي «استطاع» «يستطيع» ؛ وهي لغة عند العرب (٣).

وفي قوله تعالى (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) [الآية ١٠٢] جعلت «أن» التي تعمل في الأفعال ، فاستغني بها ، كما في قوله سبحانه (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما) [البقرة : ٢٣٠] ؛ أو (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ) [الآية ٣٥] استغني هاهنا بمفعول واحد ، لأنّ معنى (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) : ما أظنها أن تبيد.

وقال تعالى : (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٠٧) ف «النزل» من نزول بعض الناس على بعض (٤). أمّا «النزل» ف «الريع» تقول : «ما لطعامهم نزل» و «ما وجدنا عندهم نزلا».

وقال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) [الآية ١٠٩] أي «مداد يكتب به» (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩) كأن المعنى : «مدد لكم» وقال بعضهم أي : جئنا بمثله مدادا تكتب به. ويعني بالمداد ، أنه مدد للمداد يمدّ به ليكون معه.

__________________

(١). نقله في الصحاح «خشي» ، وزاد المسير ٥ : ١٧٩ ، وفيه أن الزّجّاج أفاده.

(٢). في معاني القرآن ٢ : ١٥٩ والسبعة ٣٩٩ والكشف ٢ : ٧٦ والتيسير ١٤٥ الى عاصم ، وفي الطبري ١٦ : ١٦ زا الأعرج ، أما في البحر ٦ : ١٦٣ فزاد الأعمش ويعقوب في رواية ، وكذلك في الأنبياء ، وقال إنها لغة بني أسد وقد نقل ذلك في الصحاح «أجج» والبحر ٦ : ١٦٣ والجامع ١١ : ٥٥.

(٣). نقله في الصحاح «طوع» و «هرق». ونقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٢٠.

(٤). نقله في الصحاح «نزل».

١٥١

وقال تعالى : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠) ؛ وذلك نحو قولهم : «بئس في الدّار رجلا».

وفي قوله تعالى (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) [الآية ٧٤] قيل (فَقَتَلَهُ) لأن اللّقاء كان علّة للقتل.

وفي قوله تعالى : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) [الآية ٩٨] أي : هذا الرّدم رحمة من ربي.

١٥٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الكهف» (١)

إن قيل : قوله تعالى : (قَيِّماً) [الآية ٢] يعني مستقيما ، وقوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١) مغن عن قوله (قَيِّماً) لأنه متى انتفى العوج ثبتت الاستقامة ، لأنّ العوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، والمراد به هنا نفي الاختلاف والتناقض في معانيه ، وأنه لا يخرج منه شيء عن الصواب والحكمة. وقيل في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : «الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا».

قلنا : قال الفراء : معنى قوله تعالى (قَيِّماً) قائما على الكتاب السماوية كلها ، مصدّقا لها ، شاهدا بصحّتها ، ناسخا لبعض شرائعها. فعلى هذا لا تكرار فيه. وعلى القول المشهور ، يكون الجمع بينهما للتأكيد سواء أقدّر «قيّما» مقدّما أو أقر في مرتبته ، ونصب بفعل مضمر تقديره : ولكن جعله قيّما. ولا بد من هذا الإضمار ، أو من التقديم والتأخير ، وإلّا صار المعنى : ولم يجعل له عوجا مستقيما ، والعوج لا يكون مستقيما.

فإن قيل : اتّخاذ الله تعالى ولدا محال ، فلم قال سبحانه : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) [الآية ٥]؟ وإنما يستقيم أن يقال فلان ماله علم بكذا ، إذا كان ذلك الشيء ممّا يعلمه غيره أو ممّا يصحّ أن يعلم ، كقولنا زيد ما له علم بالعربية أو بالحساب أو بالشعر ، ونحو ذلك.

قلنا : معناه ما لهم به من علم ، لأنه ليس ممّا يعلم لاستحالته ، وهذا لأنّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٥٣

انتفاء العلم بالشيء تارة يكون للجهل بالطريق الموصل إليه ، وتارة يكون لاستحالة العلم به ، لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلّق العلم به. وما نحن فيه من هذا القبيل.

فإن قيل : لم قال تعالى (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) وهو أعلم بذلك في الأزل؟

قلنا : معناه لنعلم ذلك علم المشاهدة ، كما علمناه علم الغيب.

فإن قيل : لم قال تعالى (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ) [الآية ١٩] ولم يقل «واحدكم»؟

قلنا : لأنه أراد فردا منهم أيّهم كان ، ولو قال «واحدكم» لدلّ على بعث رئيسهم ومقدّمهم ، فإن العرب تقول : رأيت أحد القوم : أي فردا منهم ، ولا تقول : رأيت واحدا لقوم إلا إذا أرادت المقدّم المعظّم.

فإن قيل : لم جيء بسين الاستقبال في الفعل الأول دون الآخرين في قوله تعالى (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ) [الآية ٢٢].

قلنا : أريد دخول الفعلين الآخرين في حكم الأوّل بمقتضى العطف ، فاقتصر على ذكر السين في الأول إيجازا ، كما يقال : زيد قد يخرج ويركب ، أي وقد يركب.

فإن قيل : لم دخلت الواو في الجملة الثالثة دون الأوليين ، وفي قوله تعالى : (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الآية ٢٢].

قلنا : قال بعض المفسّرين : هي واو الثمانية ، وقد ذكرنا مثلها في آخر سورة التوبة. وقال الزجّاج : دخول هذه الواو وخروجها سواء في صفة النكرة ، وجاء القرآن بهما. وقال غيره : الواو مرادة في الجملتين الأوليين ، وإنما حذفت فيهما تخفيفا ، وأتي بها في الجملة الثالثة دلالة على إرادتها فيهما ؛ ويردّ على هذا القول : أنه لو كان كذلك لكانت مذكورة في الجملة الأولى ، محذوفة في الجملة الثانية والثالثة ، ليدل ذكرها أوّلا على حذفها بعد ذلك كما سبق في سين الاستقبال. وقال الزمخشري وغيره : هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، كما تدخل على الصفة الواقعة حالا من المعرفة ، تقول : جاءني رجل ومعه آخر ، ومررت بزيد وفي يده سيف ، ومنه قوله تعالى (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (٤) [الحجر] ، وفائدتها توكيد اتصال الصفة بالموصوف ، والدلالة على أنّ اتّصافه

١٥٤

بها أمر ثابت مستقر ؛ وهذه الواو هي التي أذنت بأن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم ، قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ، ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم ، والدليل عليه أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله (رَجْماً بِالْغَيْبِ) [الآية ٢٢] وأتبع القول الثالث قوله سبحانه (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الآية ٢٢]. وقال ابن عباس : وقعت الواو لقطع العدد : أي لم يبق بعدها عدد يلتفت إليه ، ويثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات. وقال الثعلبي : هذه واو الحكم والتحقيق ، كأنّ الله تعالى حكى اختلافهم ، فتمّ الكلام عند قوله سبعة ، ثم حكى بأنّ ثامنهم كلبهم باستئنافه الكلام ، فحقّق ثبوت العدد الأخير لأن الثامن لا يكون إلا بعد السبعة ، فعلى هذا يكون قوله (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الآية ٢٢] من كلام الله تعالى حقيقة أو تقديرا. ويردّ على هذا ، أن قوله تعالى بعد هذه الواو : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) [الآية ٢٢] وقوله تعالى : (ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) [الآية ٢٢] يدل على بقاء الإبهام وعدم زوال اللبس بهذه الواو.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الآية ٢٧] وقال في موضع آخر (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النحل : ١٠١] ويلزم من تبديل الآية بالآية ، تبديل الكلمات فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : معنى الأول لا مغيّر للقرآن من البشر ، وهو جواب لقولهم للنبي (ص) : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله. الثاني : أنّ معناه لا خلف لمواعيده ولا مغيّر لحكمه ، ومعنى الثاني النسخ والتبديل من الله تعالى فلا تنافي بينهما.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الآية ٢٩] إباحة وإطلاق للكفر؟

قلنا : قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : معناه : فمن شاء ربكم فليؤمن ومن شاء ربكم فليكفر ، يعني لا إيمان ولا كفر إلّا بمشيئته. الثاني : أنّه تهديد ووعيد. الثالث : أنّ معناه لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرّونه بكفركم ، فهو إظهار للغنى ، لا إطلاق للكفر.

فإن قيل : لبس الأساور في الدنيا عيب للرجال ، ولهذا لا يلبسها من يلبس الذهب والحرير من الرجال ، فكيف وعدها الله سبحانه المؤمنين في

١٥٥

الجنة ، في قوله تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [الآية ٣١]؟

قلنا : كانت عادة ملوك الفرس والروم لبس الأساور والتيجان مخصوصين بها دون من عداهم ، فلذلك وعدها الله تعالى المؤمنين لأنهم ملوك الاخرة.

فإن قيل : لم أفرد لفظ الجنة بعد التثنية ، في قوله تعالى : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) [الآية ٣٥]؟

قلنا : أفردها ليدل على الحصر ، معناه : ودخل ما هو جنته ، لا جنة له غيرها ولا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون ، بل ما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ، ولم يقصد جنّة معينة منهما ، بل جنس ما كان له.

فإن قيل : لم قال الأخ المؤمن لأخيه ، كما ورد في التنزيل (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) (٣٨) وهذا تعريض بأنّ أخاه مشرك ، وليس في كلام أخيه ما يقتضي الشّرك ، بل الكفر ، وهو قوله ، كما ورد في القرآن ذلك حكاية عنه (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [الآية ٣٦]؟

قلنا : إشراك أخيه الذي عرض له به ، هو اعتقاده أنّ زكاة جنّته ونماءها بحوله وقوّته ، ولهذا قال له ، كما ورد في التنزيل : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [الآية ٣٩] ولهذا قال هو أيضا لمّا أصبح يقلّب كفيه على ما أنفق فيها ، وهي خاوية على عروشها ، كما ورد في القرآن : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) (٤٢) فاعترف بالشرك.

فإن قيل : ما الحكمة في إيراد «أنا» في قوله تعالى : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَ) [الآية ٣٩]؟

قلنا : «أنا» في مثل هذا الموضع تفيد حصر الخبر في المخبر عنه ، ومنه قوله تعالى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) [طه : ١٢] وقوله جلّ جلاله (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) [طه : ١٤] ونظائره كثيرة.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) [الآية ٤٣] وكذلك ما أشبهه مما جاء في القرآن العزيز (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (٨١) [مريم] ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِير) (٢٢) [العنكبوت](الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) [العنكبوت : ٤١] ، وكيف تحقيق معناه؟

١٥٦

قلنا : «دون» يستعمل في كلام العرب بمعنى «غير» كقولهم لفلان : مال دون هذا ، ومن دون هذا : أي غير هذا. ونظيره قوله تعالى (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) [المؤمنون : ٦٣] أي من غيره ، وتستعمل أيضا بمعنى «قبل» كقولهم : المدينة دون مكّة : أي قبلها ، ومن دونه خرط القتاد. ولا أقوم من مجلسي دون أن تجيء ، ولا أفارقك دون أن تعطيني حقي ، وما أعلم أنها جاءت في القرآن العزيز بمعنى «قبل» بل بمعنى «غير» فقط؟

فإن قيل : لم قال تعالى (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) [الآية ٤٤] يعني في يوم الاخرة أو في يوم القيامة ، والولاية بكسر الواو السلطان والملك ، وبفتح الواو التولّي والنصرة ، وكل ذلك لله تعالى في الدنيا والاخرة ؛ يعزّ من يشاء ويخذل من يشاء ، وينصر من يشاء ، ويخذل من يشاء ، وبتولّى من يشاء بحراسته وحفظه ، فما الحكمة في تخصيص يوم القيامة؟

قلنا : الحكمة فيه أن الدعاوى المجازية كثيرة في الدنيا ويوم القيامة تنقطع كلّها ، ويسلم الملك لله تعالى عن كل منازع ، وقد سبق نظير هذا السؤال في سورة الأنعام في قوله تعالى (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣].

فإن قيل : لم قال تعالى (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (٤٤) أي عاقبة ، وغير الله تعالى لا يثيب ليكون الله خيرا منه ثوابا؟

قلنا : هذا على الفرض والتقدير ، معناه : لو كان غيره يثيب لكان ثوابه أفضل ، ولكانت طاعته أحمد عاقبة وخيرا من طاعة غيره.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (وَحَشَرْناهُمْ) [الآية ٤٧] بلفظ الماضي وما قبله مضارعان ، وهو قوله تعالى (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) [الآية ٤٧] أي لا شيء عليها يسترها كما كان في الدنيا؟

قلنا : للدلالة على أن حشرهم كان قبل التسيير ، وقبل البروز ، ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم ؛ كأنّ المعنى : وحشرناهم قبل ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الآية ٤٩] مع أنه أخبر أن الصغائر تكفّر باجتناب الكبائر ، بقوله

١٥٧

تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ([النساء : ٣١].

قلنا : الآية الأولى في حق الكافرين ، بدليل قوله تعالى : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) [الآية ٤٩] والمراد بهم هنا الكافرون ، كذا قال مجاهد ، وقال غيره : كل مجرم في القرآن. فالمراد به الكافر ؛ والآية الثانية ، المراد بها المؤمنون ؛ لأن اجتناب الكبائر لا يكون متحقّقا مع وجود الكفر. الثاني : لو ثبت أن المراد بالمجرم مطلق المذنب ، لم يلزم التناقض ، لجواز أن تكتب الصغائر ليشاهدها العبد يوم القيامة ، ثم تكفّر عنه ، فيعلم قدر نعمة العفو ، فإن أكثر ذنوب العبد ينساها ، خصوصا الصغائر.

فإن قيل : قوله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) [الآية ٥٠] يدلّ على أنه من الجن ، وقوله تعالى في موضع آخر (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الآية ٥٠] يدلّ على أنه من الملائكة ، فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : فيه قولان : أحدهما أنه من الجنّ حقيقة ، عملا بظاهر هذه الآية ، ولأن له ذرية قال تعالى (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الآية ٥٠] والملائكة لا ذرّيّة لهم ، ولأنه أكفر الكفرة وأفسق الفسقة ، والملائكة معصومون عن الكبائر لأنهم رسل الله ، وعن المعاصي مطلقا ، لأنهم عقول مجردة بغير شهوة ، ولا معصية إلّا عن شهوة ؛ ويؤيّده قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦) [التحريم]. وقال تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) [الأنبياء] ، وفي قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعني الملائكة ؛ فكيف يكون إبليس منهم ويؤمر بالسجود فيمتنع ، فعلى هذا يكون استثناؤه من الملائكة استثناء من غير الجنس ؛ أو يكون استثناء من جنس المأمورين بالسجود ، لا من جنس الملائكة ، ويكون التقدير : وإذ قلنا للملائكة وإبليس اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس ؛ كما تقول : أمرت إخوتي وعبدي بكذا ، فأطاعوني إلا عبدي ، والعبد ليس من الإخوة ولا داخلا فيهم إلّا من حيث شمله الأمر بالفعل معهم ، فهذا كذلك. القول الثاني : أنه كان من الملائكة قبل أن

١٥٨

يعصي الله تعالى ، فلمّا عصاه مسخه شيطانا. روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، فيكون معنى قوله تعالى (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الآية ٥٠] لمخالفته ، فتكون «كان» بمعنى صار. وقيل معناه : أنه كان من الجن في سابق علم الله تعالى ؛ وهذان القولان يدلّان على أنه كان من الملائكة قبل المعصية. وروي عنه أيضا أنه كان من خزّان الجنة ، وهم جماعة من الملائكة يسمّون الجن ؛ فعلى هذا يكون قوله تعالى (مِنَ الْجِنِ) أي من الملائكة الذين هم خزّان الجنة (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الآية ٥٠] بمخالفته فيكون استثناء من الجنس. وقال الزمخشري في سورة البقرة في قوله تعالى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [البقرة : ٣٤] : وهو استثناء متصل ، لأنه كان جنّيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم ، فغلّبوا عليه في قوله (فَسَجَدُوا). قلت : وفي هذا التعليل نظر ، ثم قال بعده : ويجوز أن يجعل منقطعا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الآية ٥٠] والأولياء : الأصدقاء والأحباب وهم ضد الأعداء ، ويؤيّده قوله تعالى (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) [الآية ٥٠] وليس من الناس أحد يحب إبليس وذريته ويصادقهم؟

قلنا : المراد بالموالاة هنا ، إجابة الناس لهم فيما يأمرونهم به من المعاصي ، ويوسوسون في صدورهم وطاعتهم إيّاهم ؛ فالموالاة مجاز عن هذا ، لأنه من لوازمها.

فإن قيل : قال تعالى هنا : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [الآية ٥٢] : أي فلم يجب الأصنام المشركين ، فنفى عن الأصنام النطق ، وقال تعالى في سورة النحل : (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) (٨٦) [النحل] يعني فكذّبتهم الأصنام فيما قالوا ، فأثبت لهم النطق فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : المراد بقوله تعالى (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) [الآية ٥٢] أي نادوهم للشفاعة لكم أو لدفع العذاب عنكم ، فدعوهم فلم يجيبوهم لذلك ، فنفى عنهم النطق بالإجابة إلى الشفاعة ودفع العذاب عنهم. وفي سورة

١٥٩

النحل ، أثبت لهم النطق بتكذيب المشركين في دعوى عبادتهم ، فلا تناقض بين المنفي والمثبت.

فإن قيل : لم قال تعالى : (شُرَكائِيَ) وقال في سورة النحل (شُرَكاءَهُمْ)؟

قلنا : قوله تعالى (شُرَكائِيَ) معناه : في زعمكم واعتقادكم ، ولهذا قال (شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) وأخرجه مخرج التهكّم بهم ، كما قال المشركون للنبي (ص) وفاقا ، لما ورد في التنزيل (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦) [الحجر] ، وقوله تعالى (شُرَكاءَهُمْ) يعني آلهتهم التي جعلوها شركاء ، فإضافتها إلى الله تعالى لجعلهم إيّاها شركاء ؛ والإضافة تصحّ بأدنى ملابسة لفظية أو معنوية ، فصحّت الإضافتان.

فإن قيل : لم قال تعالى (نَسِيا حُوتَهُما) [الآية ٦١] والناسي إنّما كان يوشع وحده ، بدليل قوله تعالى (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) [الآية ٦٣] أي قصّة الحوت وخبره (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) [الآية ٦٣]؟

قلنا : أضيف النسيان إليهما مجازا ، والمراد أحدهما. قال الفرّاء : نظيره قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) [الرحمن] وإنما يخرج من الملح لا من العذب ؛ وقيل نسي موسى عليه‌السلام تفقّد الحوت ونسي يوشع أن يخبره خبره ، وذلك أنه كان حوتا مملوحا في مكتل (١) قد تزوّداه ؛ فلما أصابه من ماء عين الحياة رشاش حيي وانسلّ ؛ وكان قد ذهب القضاء حاجة ، فعزم يوشع أن يخبره بما رأى من أمر الحوت ، فلما جاء موسى نسي أن يخبره ، ونسي موسى تفقّد الحوت ، والسؤال عنه.

فإن قيل : هذا التفسير يدلّ على أن النسيان من يوشع ، أو منهما ، كان بعد حياة الحوت وذهابه في البحر ، وظاهر الآية يدل على أن النسيان كان سابقا على ذهابه في البحر ، متّصلا ببلوغ مجمع البحرين ، لقوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (٦١).

قلنا : في الآية تقديم وتأخير تقديره :

__________________

(١). المكتل : القفّة.

١٦٠