الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

كذّبوا بها؟ الرابع : أن تكذيب الأوّلين ، لا يمنع إرسالها الى الآخرين ، لجواز أن لا يكذّب الآخرون. الخامس : أيّ مناسبة وأيّ ارتباط بين صدر الآية وقوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الآية ٥٩]؟ السادس : ما معنى وصف الناقة بالإبصار؟ السابع : أنّ الظلم يتعدّى بنفسه ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠]. فأي حاجة إلى الباء (فَظَلَمُوا بِها) [الآية ٥٩] ، ولم لم يقل فظلموها يعني العقر والقتل ، الثامن : أن قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) [الآية ٥٩] يدل على عدم الإرسال بها؟

قلنا : الجواب عن الأول ، أن المنع مجاز عبّر به عن ترك الإرسال بالآيات ، كأنه تعالى قال : وما كان سبب ترك الإرسال بالآيات ، إلّا أن كذّب بها الأولون. وعن الثاني : أن الباء لتعدية الإرسال إلى المرسل به ، لا إلى المرسل ، لأن المرسل محذوف وهو الرسول ، تقديره ، وما منعنا أن نرسل الرسل بالآيات ، والإرسال يتعدّى إلى المرسل بنفسه ، وإلى المرسل به بالباء ، وإلى المرسل إليه بإلى ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [هود]. وعن الثالث : أنّ الضمير في قوله تعالى (بِهَا) [الآية ٥٩] ، عائد إلى جنس الآيات المقترحة ، لا إلى هذه الآيات المقترحة ، كأنّه تعالى قال : وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة ، إلّا تكذيب من قبلهم بالآيات المقترحة ، يريد المائدة والناقة ونحوهما ، ممّا اقترحه الأوّلون على أنبيائهم. وعن الرابع : أنّ سنة الله تعالى في عباده ، أنّ من اقترح على الأنبياء آية ، وأتوه بها فلم يؤمن ، عجّل الله هلاكه ؛ والله تعالى لم يرد هلاك مشركي مكّة ، لأنّه تعالى علم أنه يولد منهم من يؤمن ، أو لأنه قضى وقدّر في سابق علمه ، بقاء من بعث إليهم محمّد (ص) إلى يوم القيامة ، فلو أرسل بالآيات التي اقترحوها ، فلم يؤمنوا ، لأهلكهم ؛ وحكمته اقتضت عدم إهلاكهم ، فلذلك لم يرسلها ؛ فيصير معنى الآية : وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحة عليك ، إلا أن كذّب بالآيات المقترحة الأوّلون ، فأهلكوا ، فربما كذّب بها قومك ، فأهلكوا. وعن الخامس : أنه تعالى لما أخبر أن الأوّلين كذّبوا بالآيات المقترحة ، عيّن منها واحدة

١٠١

وهي ناقة صالح عليه‌السلام ، لأنّ آثار ديارهم المهلكة في بلاد العرب قريبة من حدودهم ، يبصرها صادرهم وواردهم. وعن السادس : أنّ معنى مبصرة دالّة ، كما يقال الدليل مرشدها وقيل مبصرا بها ، كما يقال ليل نائم ونهار صائم أي ينام فيه ويصام فيه ، وقيل معناه مبصرة ، يعني أنها تبصّر الناس صحّة نبوّة صالح عليه‌السلام ؛ ويعزّز هذا قراءة من قرأ (مبصرة) بفتح الميم والصاد : أي تبصرة. وقيل مبصرة صفة لآية محذوفة ، تقديره : آية مبصرة : أي مضيئة بيّنة. وعن السابع : أن الباء ليست لتعدية الظلم إلى الناقة ، بل معناه : فظلموا أنفسهم بقتلها أو بسببها ، وقيل الظلم هنا الكفر ، فمعناه : فكفروا بها ، فلمّا ضمن الظلم معنى الكفر عدّاه تعديته. وعن الثامن : أنّ المراد بالآيات ثانيا العبر والدلالات ، لا الآيات التي اقترحها أهل مكّة.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الآية ٦٠] وليس في القران لعن شجرة ما؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : والشجرة الملعونة المذكورة في القرآن. الثاني : أنّ معناه : الملعون آكلوها وهم الكفرة. الثالث : أنّ الملعونة يعنى المذمومة ، كذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما ، وهي مذمومة في القرآن ، بقوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ(٤٤)) [الدخان]. وبقوله تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥)) [الصافات] الرابع : أن العرب تقول لكل طعام مكروه أو ضار ملعون ؛ وفي القرآن الإخبار عن ضررها وكراهتها. الخامس : أن اللعن في اللغة ، الطرد والإبعاد ، والملعون هو المطرود عن رحمة الله تعالى المبعد ، وهذه الشجرة مطرودة مبعدة ، عن مكان رحمة الله تعالى وهو الجنة ، لأنّها في قعر جهنّم ، وهذا الإبعاد والطرد مذكوران في القرآن ، بقوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (٦٤) [الصافات]. وقال ابن الأنباري سمّيت ملعونة ، لأنها مبعدة عن منازل أهل الفضل.

فإن قيل : لم خصّ أصحاب اليمين بقراءة كتبهم بقوله تعالى : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) [الآية ٧١] ولم خصّهم بنفي الظلم عنهم ، بقوله تعالى : (وَلا

١٠٢

يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧١) مع أن أصحاب الشمال يقرءون كتابهم ولا يظلمون أيضا؟

قلنا : إنما خصّ أصحاب اليمين بذكر القراءة ، لأن أصحاب الشمال إلا رأوا ما في كتبهم من الفضائح والقبائح ، أخذهم من الحياء والخجل والخوف ما يوجب حبسة اللسان ، وتتعتع الكلام ، والعجز عن إقامة الحروف ، فتكون قراءتهم ك «لا قراءة» ؛ فأمّا أصحاب اليمين ، فأمرهم على عكس ذلك ؛ لا جرم أنهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ، ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم ، حتى يقول القارئ لأهل المحشر (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١٩) [الحاقة]. وأمّا قوله تعالى : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٧١) فهو عائد إلى كلّ الناس ، لا إلى أصحاب اليمين. الثاني : أنّه عائد إلى أصحاب اليمين خاصة ، وإنما خصّهم بذلك ، لأنّهم يعلمون أنهم لا يظلمون ، ويعتقدون ذلك ؛ بخلاف أصحاب الشمال ، فإنّهم يعتقدون أو يظنون أنهم يظلمون ، يعضد هذا الوجه قوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)) [طه].

فإن قيل لم قال موسى (ع) لفرعون كما ورد في التنزيل (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) يعنى الآيات (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الآية ١٠٢] يعني بيّنات وحججا واضحات ؛ وفرعون لم يعلم ذلك ، لأنه لو علم ذلك ، لم يقل لموسى عليه‌السلام كما ورد في التنزيل (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١٠١) أي مخدوعا ، أو قد سحرت ، أو ساحرا ، مفعول بمعنى فاعل على اختلاف الأقوال ، بل كان يؤمن به ؛ وكيف يعلم ذلك ، وقد طبع الله على قلبه وأضلّه ، وحال بينه وبين الهدى والرشاد ، ولهذا قرأ عليّ كرم الله وجهه (لَقَدْ عَلِمْتَ) [الآية ١٠٢] بضم التاء ، وقال : والله ما علم عدوّ الله ، ولكن موسى (ع) ، هو الذي علم. واختار الكسائي وثعلب قراءة عليّ رضي الله عنه ، ونصراها ، بأنه لمّا نسبه إلى أنّه مسحور ، أعلمه بصحّة عقله؟

قلنا : معناه لقد علمت ، لو نظرت نظرا صحيحا إلى الحجّة والبرهان ، ولكنّك معاند مكابر ، تخشى فوات دعوى الإلهية لو صدقتني ؛ فكان فرعون ممن أضلّه الله على علم ، ولهذا بلغ ابن عباس قراءة علي رضي الله عنه ويمينه ، فاحتج بقوله تعالى (وَجَحَدُوا

١٠٣

بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤].

فإن قيل : لم قال موسى (ع) كما ورد في التنزيل (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١٠٢) وموسى (ع) كان عالما بذلك ، لا شكّ عنده فيه؟

قلنا : قال أكثر المفسرين الظن هنا بمعنى العلم ، كما في قوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] وإنما أتي بلفظ الظنّ ليعارض ظنّ فرعون بظنّه ، كأنّه قال : إن ظننتني مسحورا ، فأنا أظنّك مثبورا ، والمثبور الهالك والمصروف عن الخيرات ، أو الملعون والخاسر.

فإن قيل : لم كرّر تعالى الإخبار بالخرور (١)؟

قلنا : كرّره ليدل على تكرار الفعل منهم. الثاني : أنه كرّره لاختلاف الحالين ، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين ، وفي حال كونهم باكين. الثالث : أنه أراد بالخرور الأول ، الخرور في حالة سماع القرآن وقراءته ؛ وبالخرور الثاني ، الخرور في سائر الحالات وباقيها.

__________________

(١). الخرور : مصدر خرّ يقال : خرّ ساجدا ، ومعنى خرّ في هذا السياق ، في الأصل : سقط. فكأنّ الذي يخرّ ساجدا ، يسقط ، لفرط خشوعه ، من عل ، حيث هو واقف ، إلى الأرض ، ليسجد.

١٠٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الإسراء» (١)

في قوله سبحانه (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الآية ١٢] استعارتان إحداهما : قوله سبحانه : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ). والآية العلامة. والمراد بمحوها ـ والله أعلم ـ على قول بعضهم أي جعلنا ظلمة الليل مشكلة ، لا يفهم معناها ، ولا يعلم فحواها ، لما استأثر الله تعالى بعلمه من المصلحة المستسرّة في ذلك.

وحقيقة المحو طمس أثر الشيء. من قولهم : محوت الكتاب. إذا طمست سطوره حتى يشكل على القارئ ، ويخفى على الرائي. وقال قوم : آية الليل ، القمر خاصة. ومحوه : تصيير تلك الطمسة في صفحته ، حتى نقص نوره عن نور الشمس ، لما يعلم الله سبحانه من المصلحة في ذلك. وآية النهار الشمس. وقال آخرون : بل آيتا الليل والنهار ضوء هذا في الجملة ، وظلمة هذا في الجملة. لأن الضوء علامة النهار ، والظلمة علامة الليل ، على ما قدمنا ذكره.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) وفي ذلك وجهان : أحدهما أن يكون المراد ، أنّا جعلناها مكشوفة القناع مبيّنة الإبصار ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٠٥

على خلاف آية الليل إذ جعلناها مشرجة (١) الغلاف ، بهيمة الأطراف.

والوجه الاخر أن يكون معنى مبصرة ، أي يبصر الناس فيها ، ويهتدون بها كما تقدم قولنا في قولهم ، نهار صائم ، وليل نائم أي أهل هذا صيام ، وأهل هذا نيام. وكما يقولون : رجل مخبث : إذا كان أهله وولده خبثاء. ورجل مضعف : إذا كانت دوابه وظهوره ضعفاء. فعلى هذا يسمى النهار مبصرا ، إذا كان أهله بصراء. وقد مضى الكلام على مثل ذلك فيما تقدّم.

وقوله سبحانه : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الآية ١٣] وهذه استعارة. والمراد بالطائر هاهنا ، والله أعلم ، ما يعمله الإنسان من خير وشرّ ، ونفع وضرّ. وذلك مأخوذ من زجر الطير على مذاهب العرب. لأنهم يتبرّكون بالطائر المتعرّض من ذات اليمين ، ويتشاءمون بالطائر المتعرّض من ذات الشمال.

ومعنى ذلك أنه سبحانه يجعل عمل الإنسان من الخير والشر ، كالطوق في عنقه ، بإلزامه إيّاه ، والحكم عليه به. وقال بعضهم : معنى ذلك أنّا جعلنا لكل إنسان دليلا من نفسه على ما بيّناه له ، وهديناه إليه. والعرب تقيم العنق والرقبة ، مقام الإنسان نفسه. فيقولون لي في رقبة فلان دم ، ولي في رقبته دين. أي عنده. وفلان أعتق رقبة ، إذا أعتق عبدا أو أمة. ويقول الداعي في دعائه ، اللهم أعتق رقبتي من النار وليس يريد العنق المخصوصة ، وإنّما يريد الذات والجملة.

وجعل سبحانه الطائر مكان الدليل الذي يستدل به ، على استحقاق الثواب والعقاب ، على عادة العرب التي ذكرناها في التبرّك بالسانح ، والتشاؤم بالبارح.

وقوله سبحانه : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الآية ٢٤] وهذه استعارة عجيبة ، وعبارة شريفة. والمراد بذلك الإخبات (٢) للوالدين ، وإلانة القول لهما ، والرفق واللطف بهما.

وخفض الجناح في كلامهم عبارة

__________________

(١). أشرج الشيء : ضمّ بعضه إلى بعض وأحكم شده.

(٢). أي الخضوع.

١٠٦

عن الخضوع والتذلّل ، وهما ضد العلوّ والتعزّز. إذ كان الطائر إنّما يخفض جناحه إذا ترك الطيران ، والطيران هو العلوّ والارتفاع. وقد يستعار ذلك لفرط الغضب والاستشاطة. فيقال قد طار فلان طيرة ، إذا غضب واستشاط. وقد أومأنا إلى هذا المعنى فيما تقدّم.

وإنّما قال سبحانه : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الآية ٢٤] ليبيّن تعالى أنّ سبب الذل لهما الرأفة والرحمة ، لئلّا يقدّر أنه الهوان والضراعة. وهذا من الأغراض الشريفة ، والأسرار اللطيفة.

وقوله سبحانه : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الآية ٢٩] وهذه استعارة. وليس المراد بها اليد التي هي الجارحة على الحقيقة ، وإنّما الكلام الأول كناية عن التقتير ، والكلام الاخر كناية عن التبذير وكلاهما مذموم ، حتى يقف كل منهما عند حدّه ، ولا يجري إلّا إلى أمده. وقد فسّر هذا قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧) [الفرقان].

وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الآية ٤٦]. وهذه استعارة لأنه ليس هناك على الحقيقة كنان على قلب ، ولا وقر في سمع. وإنّما المراد أنهم ، لاستثقالهم سماع القرآن عند أمر الله سبحانه نبيّه عليه‌السلام بتلاوته على أسماعهم وإفراغه في آذانهم ، كالذين على قلوبهم أكنّة دون علمه ، وفي آذانهم وقر دون فهمه ، وإن كانوا من قبل نفوسهم أتوا ، وبسوء اختيارهم أخذوا ؛ ولو لم يكن الأمر كذلك ، لما ذمّوا على اطّراحه ، ولعذروا بالإضراب عن استماعه.

وقوله سبحانه : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) [الآية ٤٧] وهذه استعارة لأن النجوى مصدر كالتقوى. وإنّما وصفوا بالمصدر ، لما في هذه الصفة من المبالغة في ذكر ما هم عليه ، من كثرة تناجيهم ، وإسرار المكايد بينهم. والصفة بالمصادر تدلّ على قوة الشيء الموصوف بذلك مثل قولهم : رجل رضا وقوم عدل. وما يجرى هذا المجرى.

وقوله سبحانه : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الآية ٥٩]. وهذه استعارة. والمعنى : جعلنا الناقة آية مبصرة ، أي

١٠٧

مبصرة للعاشي (١) ومذكرة للنّاسي ، ومظنّة لاعتبار المعتبر ، وتفكّر المفكر. لأن من عجائب تلك الناقة تمخّض الصخرة بها من غير حمل بطن ، ولا فرع فحل. وأنها كانت تقاسم ثمود الورد ؛ فلها يوم ، ولثمود يوم.

قال سبحانه : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١٥٥) [الشعراء] فإذا كان يومها شربت فيه الماء مثلما كانت ثمود تأخذ أشقاصها (٢) وزروعها ، وأصرامها (٣) وشروبها. وهذا من صوادح العبر ، وقوارع النذر.

وقال بعضهم يجوز أن يكون معنى «مبصرة» هاهنا أي ذات إبصار. والتأويلان يؤولان إلى معنى واحد.

وقوله سبحانه عن إبليس : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٦٢) وهذه استعارة على بعض التأويلات في هذه الآية. وهو أن يكون الاحتناك هاهنا افتعالا من الحنك. أي لأقودنّهم إلى المعاصي ، كما تقاد الدابة بحنكها ، غير ممتنعة على قائدها. وهي عبارة عن الاستيلاء عليهم ، والامتلاك لتصرفهم ، كما يمتلك الفارس تصرّف فرسه ، بثني العنان تارة ، وبكبح اللجام مرة.

وقال يعقوب (٤) في «إصلاح المنطق» يقال : حنك الدّابة يحنكها حنكا ، إذا شدّ في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. وقد احتنك الدّابة (٥) مثل حنكها إذا فعل بها ذلك.

وقال بعضهم عن قوله تعالى : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أي لألقينّ في أحناكهم حلاوة المعاصي ، حتى يستلذّوها ، ويرغبوا فيها ويطلبوها. والقول الأول أحبّ إليّ.

وقال بعضهم : لأستأصلنّ ذريته

__________________

(١). العاشي اسم فاعل من عشا عن الشيء ، أي أعرض وصدر عنه إلى غيره.

(٢). الأشقاص : جمع شقص بكسر الشين ، وهو القطعة من الشيء أو من الأرض.

(٣). الأصرام : جمع صرم بكسر الصاد ، وهو الجماعة من الشيء أو من البيوت.

(٤). هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ، المعروف بابن السّكّيت ، وكان أبوه من أصحاب الكسائي المشهور في اللغة والنحو. أما صاحبنا فقد شهد له المؤرخون بالعلم الغزير في اللغة والشعر والثقة في الرواية. وكتابه «إصلاح المنطق» يقول فيه المبرّد : «ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب يعقوب بن السكّيت في المنطق» توفي سنة ٢٤٤. وقد طبع «إصلاح المنطق» طبعة موثقة بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر ، وعبد السلام محمد هارون.

(٥). في «إصلاح المنطق» ص ٨٢ (وقد احتنك دابته).

١٠٨

بالغواية ، ولأستقصين إهلاكهم بالضلال ، لأن اتّباعهم غيّه وطاعتهم أمره ، يؤولان بهم إلى موارد الهلاك ، وعواقب البوار.

وقال الشاعر [بحر الرجز] :

نشكو إليك سنة قد أجحفت

واحتنكت أموالنا وجلّفت (١)

أي أهلكت أموالنا.

ويقال احتنكه إذا استأصله. ومن ذلك قولهم : احتنك الجراد الأرض.

إذا أتى على نبتها.

وقيل أيضا : المراد بذلك ، لأضيّقنّ عليهم مجاري الأنفاس من أحناكهم ، بإيصال الوسوسة لهم ، وتضاعف الإغواء عليهم. ويقال احتنك فلان فلانا إذا أخذ بمجرى النفس من حنكه. فكان كالشّبا (٢) في مقلته والشّجا (٣) في مسعله. وقوله سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الآية ٧٨] وهذه استعارة. لأن الدّالك ، المائل في كلامهم. فكأنه سبحانه أمر بإقامة الصلاة عند ميل الشمس. فقيل عند ميلها للزوال ، وقيل عند ميلها للغرب ؛ والشمس على الحقيقة لا تميل عن موضعها ، ولا تزول عن مركزها ، وإنّما تعلو أو تنخفض ، وترتفع بارتفاع الفلك وانخفاضه ، وسيره وحركاته.

وقوله سبحانه (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (٨١).

وهذه استعارة. لأنهم يقولون : زهقت نفس فلان إذا خرجت. ومنه قوله تعالى (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٥٥) [التوبة] فالمراد ، والله أعلم ، وهلك الباطل إنّ الباطل كان هلوكا ، تشبيها له بمن فاضت نفسه ، وانتقضت بنيته ؛ لأنّ الباطل لا مساك لذمائه ، ولا سماك لبنائه.

__________________

(١). ورد هذا الرجز في «مجازات القرآن» لأبي عبيدة هكذا :

نشكو إليك سنة قد أجحفت

جهدا إلى جهد بنا فأضعفت

واحتنكت أموالنا وجلفت

انظر «مجازات القرآن» لأبي عبيدة. طبعة سامي الخانجي ص ٣٨٤ ؛ والرجز كذلك في الجامع لأحكام القرآن» ج ١٠ ص ٢٨٧. ولم ينسبه أبو عبيدة ، ولا القرطبي ، لقائله.

(٢). الشّبا جمع شباة ، وهي حد السيف ، أو قدر ما يقطع به منه.

(٣). الشّجا ما يعترض الحلق ، فيشجى به.

١٠٩

وقوله سبحانه : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) [الآية ٨٤] وهذه استعارة ، لأن الأولى أن يكون المراد هاهنا بالشاكلة ، والله أعلم ، الطريقة التي تشاكل أخلاق الإنسان ، وتوافق طبيعته. وذلك مأخوذ من الشاكلة ، وجمعها شواكل ، وهي الطرق المتّسعة المتشعّبة عن المحجّة العظمى. فكأنّ الدّنيا هاهنا مشبّهة بالطريق الأعظم ، وعادات الناس فيها وطبائعهم التي جبلوا عليها مشبّهة بالطرق المختلجة من ذلك الطريق ، الذي هو المعمود ، وإليه الرجوع.

وقال بعضهم : الشاكلة العلامة ، وأنشد [بحر البسيط] :

بدت شواكل حبّ كنت تضمره

في القلب أن هتفت في الدّار ورقاء

فكأنه تعالى قال : كلّ يعمل على الدلالة التي نصبت لاستدلاله ، والأمارة التي رفعت لاهتدائه.

وقوله سبحانه : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) [الآية ١٠٠] وهذه استعارة ، والمراد بالخزائن ، هاهنا ، المواضع التي جعلها الله سبحانه وتعالى ، جفنات لدرور الرزق ومنافع الخلق. وإلى تلك المواضع ترفع الأيدي عند السؤال ، والرغبات ، واستدرار الخير والبركات.

وقوله سبحانه : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الآية ١٠٦] وهذه استعارة ، ومعنى فرقناه : أي بيّناه للناس بنصوع مصباحه وشدوخ أوضاحه ، حتّى صار كمفرق الفرس في وضوح مخطّه (١) أو كفرق الصبح في بيان منبلجه.

وقال بعضهم : معنى فرقناه أي فصّلناه سورا وآيات. وذلك بمنزلة فرق الشعر وهو تمييز بعض من بعض ، حتى يزول التباسه ، ويتخلص التفافه.

__________________

(١). المخطّ هو مكان الخط ، أو الفرق في مفرق الحصان.

١١٠

سورة الكهف

١٨

١١١
١١٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الكهف» (١)

سورة مكية

المشهور بين العلماء أن سورة الكهف مكّية كلها ، وأنها من السور التي نزلت جملة واحدة كما جاء في الخبر الذي أخرجه الديلمي في مسند الفردوس ، عن أنس ، عن النبي (ص) إذ يقول : «نزلت سورة الكهف جملة».

وقد روى ذلك أيضا عن بعض الصحابة ، واختاره الداني ، ومشى عليه أكثر أهل التفسير والمتكلّمين في علوم القرآن. وهناك روايات أخرى تخالف هذا المشهور فتقرر أن السورة مكّية إلا بعض آياتها ، فإنّه مدني.

وفي المصحف الفؤادي المطبوع بمصر ، سورة الكهف مكّية إلا الآية ٣٨ ، ومن الآية ٨٣ إلى الآية ١٠١ فكلّها مدنية ، وآياتها ١١٠ نزلت بعد الغاشية.

وقال الفيروزآبادي : «السورة مكية بالاتفاق ، وفيها إحدى عشرة آية مختلف فيها بين مكّيتها ومدنيّتها ، وهي الآيات : ١٣ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ٣٢ ، ٣٥ ، ٨٤ ، ٨٥ ، ٨٦ ، ٨٩ ، ٩٢ ، ١٠٣».

وينبغي أن يعلم أن كثيرا ممّا ذكر أنه مدني فتضمنته سورة مكية ، أو مكّي فتضمنته سورة مدنية ، هو موضع خلاف بين العلماء لاختلاف الرواية فيه ، أو لبناء الحكم فيه على اجتهاد واستنباط من القائل به وفي ذلك يقول ابن الحصار فيما نقله عنه السيوطي في الإتقان : «كل نوع من المكّي والمدني

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١١٣

منه آيات مستثناة ، إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل».

القصص في سورة الكهف

القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة ، ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف ، وبعدها قصة أصحاب الجنّتين ، ثم إشارة إلى قصة آدم وإبليس. وفي وسطها تجيء قصّة موسى مع العبد الصالح. وفي نهايتها قصة ذي القرنين. ويستغرق هذا القصص معظم آيات السورة فهو وارد في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية ، ومعظم ما يتبقّى من آيات السورة هو تعليق على القصص أو تعقيب عليه.

ويلتقي هذا القصص حول فكرة أساسية للقرآن ، وهي إثبات أن البعث حق ، وأن المؤمن يكافأ بحسن الجزاء ، وأن الكافر يلقى جزاء عنته وكفره في الدنيا أو الاخرة.

قصة أصحاب الكهف

في قصة أصحاب الكهف يتجلّى صدق الإيمان ، وقوة العقيدة ، والإعراض عن كل ما ينافيها إعراضا عمليّا صارما ، لا تردّد فيه ولا مواربة : فتية رأوا قومهم في الضّلال يعمهون ، وفي ظلمات الشرك يخبطون ، لا حجّة لهم ولا سلطان على ما يزعمون ، أحسوا في أنفسهم غيرة على الحق لم يستطيعوا معها أن يظلوا في هذه البيئة الضالة بأجسامهم ، ولو خالفوها بقلوبهم ، فتركوا أوطانهم وتركوا مصالحهم واعتزلوا قومهم وأهليهم ، وخرجوا فارّين مجتنبين الشطط وأهل الشطط ، وآثروا كهفا يأوون إليه في فجوة منه ، لا يراهم فيه أحد ، ولا يؤنسهم في وحشتهم إلّا كلبهم.

ذلك هو مغزى القصة الخلقي ، وفيه ما فيه من إرشاد وإيحاء ، وتمجيد لأخلاق الشرف والرجولة والثبات على العقيدة والتضحية في سبيلها.

أما المعنى العام الذي تتلاقى فيه القصة مع غرض السورة ، فهو إثبات قدرة الله على مخالفة السنن التي ألفها الناس ، وظنوا أنها مستعصية عليه جل شأنه ، أن تبدّل أو تحوّل كما هي مستعصية على كلّ مخلوق ؛ وشتّان ما بين قدرة الخالق والمخلوقين ، وهذا ما

١١٤

تشير إليه القصة في ثناياها ، إذ يقول الله عزوجل :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) [الآية ٢١].

قصة موسى والخضر

أما قصة موسى وقتاده والعبد الصالح ، فلبابها ومغزاها إثبات قصور الخلق مهما سمت عقولهم ، وكثرت علومهم أمام إحاطة الله سبحانه وعلمه. وهكذا ، ترتبط في سياق السورة ، قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عمّا وراءها من الأسرار إلّا بمقدار.

لقد وقف موسى (ع) خطيبا في بني إسرائيل فأجاد وأبدع في خطبته ، فقال له أحد المستمعين : ما أفصحك يا نبيّ الله ، هل في الأرض من هو أكثر علما منك؟ قال موسى : لا ، فأخبره الله أن في الأرض من هو أكثر علما منه ؛ فقال موسى : يا ربّ دلّني عليه حتى أذهب إليه فأتعلّم منه.

وضرب موسى لنا مثلا رائعا في الرحلة لطلب العلم وتحمّل الصعاب والمشقّات بهمّة الرجال وعزيمة الأبطال.

إذا همّ ألقى همّه بين عينه ونكّب عن ذكر العواقب جانبا سار موسى مع تابع له هو يوشع بن نون ومعهما حوت في مكتل (١) ، وبلغ مجمع البحرين : بحر الروم وبحر القلزم. أي البحر الأبيض والبحر الأحمر ، أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر.

وفي المكان الذي أراد الله أن يلتقي فيه نبي إسرائيل بعبده الصالح ، فقد موسى حوته ، وعاد ليبحث عنه فوجد رجلا نحيل الجسم ، غائر العينين ، عليه دلائل الصلاح والتقوى ، فسلم عليه موسى ، وتلطّف معه في القول ، وأبدى رغبته في اتّباعه ليتعلّم منه العلم ، فاشترط الخضر على موسى الصبر والتريث ، فقال موسى كما ورد في التنزيل :

__________________

(١). المكتل : القفّة

١١٥

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (٦٩).

وانطلق موسى مع الخضر في سفينة جيّدة ، وفي غفلة من أهلها أخذ الخضر لوحين من خشب السفينة فخلعهما ، فذكّره موسى بأن هذا ظلم وفساد ، فالتفت الخضر إليه ، وقال ، كما ورد في التنزيل ، أيضا :

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٧٢).

فاعتذر موسى بالنسيان ، ووعد أن يرافقه مع الصبر والسكوت. وسار الرجلان ، ثم قتل الخضر غلاما بريئا في عمر الزهر فاحتج موسى ، وذكره الخضر بالشرط فسكت.

وفي الجولة الثالثة دخل الرجلان قرية ، وكان الجوع قد اشتدّ بهما فطلبا من أهلها طعاما ، فأبوا إطعامهما ؛ ورأى الخضر جدارا متداعيا أوشك أن يقع ، فطلب من موسى مساعدته حتّى بناه وأتم بناءه ؛ واعترض موسى على هذا العمل لأن أهل القرية لا يستحقون مثل هذا المعروف ، فهم بخلاء لؤماء ، فينبغي أن يأخذ الخضر أجرا على بناء الجدار لهم ؛ وافترق الرجلان بعد أن سمع موسى من الخضر سبب هذه الأعمال :

أمّا السفينة ، فكانت ملكا لجماعة من المساكين يعتمدون عليها في كسب الرزق ووراءهم ملك ظالم يستولي «غضبا» على كلّ سفينة صالحة للعمل ، فخرق الخضر السفينة ليراها الملك معيبة فيتركها ليستفيد بها أهلها ، فهو عمل مؤلم في الظاهر ، ولكنه مفيد في الحقيقة والواقع.

وأمّا الغلام ، فقد كان مفسدا وسيشبّ على الفساد والإفساد ، وكان أبواه مؤمنين فأراد الله أن يقبض الغلام إلى جواره ، وأن يعوّض والديه بنتا صالحة تزوجت نبيّا ، وأنجبت نبيّا.

وأمّا الجدار ، فكان ملكا لغلامين يتيمين تحدّرا من رجل صالح كريم ، وكان تحت الجدار كنز من المال ، ولو سقط الجدار لتبدّد الكنز ، فأراد الله أن يقام الجدار ويجدّد حتى يبلغا أشدّهما ، ويستخرجا كنزهما حلالا طيّبا لهما ..

ثم قال الخضر ، كما ورد في التنزيل :

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢).

١١٦

وقد يتساءل الإنسان عن عمل الخضر عليه‌السلام ، وهل هو مشروع على الإطلاق ، وهل يجوز لمن علم ، في حادثة مّا ، مثل ما علمه العبد الصالح من حقيقة الأمر فيها ، أن يخالف الظاهر؟

وقد اهتمّ بعض المفسّرين بترديد أمثال هذه الأسئلة والمناقشات والإجابة عنها ، وتخريج ما يحتاج منها إلى تخريج ؛ كأن الأمر أحكام تشريعية أو بيان لموضوعات خلافية. والواقع أنه لم يقصد بهذه القصة إلا الإقناع بأن الإنسان ، مهما اتّسع عقله ، وسمت مداركه ، وعلا منصبه ، محدود في علمه ، وأن كثيرا من الأمور يخفى عليه ، وأن لله عبادا قد يخصّهم بنوع من العلم لا يبذله للناس جميعهم ، ولا يستقيم حال الدنيا على بذله للناس جميعهم.

قصة ذي القرنين

تلك قصة عبد مكّن الله له في الأرض ، وسخّر له العلم والقوة والآلات والمواصلات ، وآتاه من كل شيء سببا. وقد استغلّ هذه الإمكانات في عمل مثمر نافع يعمّ ، ويبقى أثره. وقد تحرّك ذو القرنين إلى المغرب غازيا فاتحا ، محاربا مجاهدا ، وسار النصر في ركابه حتى انتهى إلى عين اختلط ماؤها وطينها فتراءى له أن الشمس تغرب فيها وتختفي وراءها ؛ وظن أن ليس وراء هذه العين مكان للغزو ، ولا سبيل للجهاد ، ولكنه رأى عندها قوما هاله كفرهم ، وكبر عليه ظلمهم وفسادهم ، فخيّره الله بين قتالهم أو إمهالهم ودعوتهم للعدل والإيمان ، فاختار إمهالهم ؛ وقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم ، ونصر المظلوم ، وأخذ بيد الضعيف ، وأقام صرح العدل ، ونشر لواء الإصلاح. وقد وضع لهم دستور الحكم العادل قال تعالى :

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) (٨٨).

وقد عاد ذو القرنين إلى الشرق فسار غازيا مجاهدا حتى انتهى إلى غاية العمران في الأرض ، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس عليها ، ولكن ليس لهم بيوت تسترهم ، أو أشجار تظلّهم. ولعلّهم كانوا على حال من الفوضى

١١٧

ونصيب من الجهل .. فبسط حكمه عليهم ونفّذ فيهم دستور العدل ، ومكافأة المحسن ، ومعاقبة المسيء الذي سبق ذكره ، ثم تركهم إلى الشمال غازيا مجاهدا مظفّرا منصورا ، حتى انتهى إلى بلاد بين جبلين يسكنها أقوام لا تكاد تعرف لغاتهم ، أو يفهم في الحديث مرماهم ، ولكنهم قد جاوروا يأجوج ومأجوج ، وهم قوم مفسدون في الأرض ، وأوزاع (١) من الخلق ضالّون مضلّون.

وقد لجأ الأقوام إلى ذي القرنين ليحول بينهم وبين المفسدين ، وشرطوا على أنفسهم نولا يدفعونه إليه ، وأموالا يضعونها بين يديه. ولكنّ ذا القرنين أجابهم إلى طلبهم ، وردّ عطاءهم وقال لهم ، كما روى القرآن ذلك ، حكاية عنه :

(ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) [الآية ٩٥].

ثم طلب إليهم أن يعينوه على ما يفعل ، فحشدوا له الحديد والنحاس ، والخشب والفحم ، فوضع بين الجبلين قطع الحديد وحاطها بالفحم والخشب ، ثمّ أوقد النار ، وأفرغ عليه ذائب النحاس ، واستوى ذلك كله بين الجبلين سدّا منيعا قائما ، ما استطاعت يأجوج ومأجوج أن تظهره لملاسته ، أو تنقبه لمتانته ؛ وأراح الله منهم شعبا كان يشكو من أذاهم ، ويألم من عدوانهم.

ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به ، فلم يأخذه البطر والغرور ، ولكنه ذكر الله فشكره ، وردّ إليه العمل الصالح الذي وفّقه إليه ، وتبرّأ من قوته إلى قوة الله ، وأعلن عقيدته في البعث والحشر ، وإيمانه بأنّ الجبال والحواجز والسدود ستدكّ قبل يوم القيامة ، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا ؛ وهكذا تختم هذه القصة ، بتأكيد قدرة الله سبحانه ، على البعث ؛ قال تعالى :

(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨).

«وبذلك تنتهي قصة ذي القرنين ، النموذج الطيّب للحاكم الصالح ، يمكنه الله في الأرض ، وييسّر له الأسباب ، فيجتاح الأرض شرقا وغربا ، ولكنه لا يتجبّر ولا يتكبّر ، ولا يطغى ولا يتبطّر ولا يتّخذ من الفتوح وسيلة للغنم

__________________

(١). الأوزاع : الجمادات ، ولا واحد لها.

١١٨

المادي ، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان ، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق ، ولا يسخّر أهلها في أغراضه وأطماعه ؛ وإنّما ينشر العدل في كل مكان يحلّ به ، ويساعد المتخلّفين ، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل ، ويستخدم القوة التي يسّرها الله له في التعمير والإصلاح ودفع العدوان ، وإحقاق الحق. ثم يرجع كلّ خير يحقّه الله على يديه إلى رحمة الله وفضله ، ولا ينسى ، وهو في إبّان سطوته ، قدرة الله وجبروته ، وأنه راجع إلى الله».

أهداف سورة الكهف

نزلت سورة الكهف بمكّة في وقت اشتدت فيه حملة القرآن على المنكرين المكذّبين بيوم الدين. وقد نزلت قبلها سورة الغاشية ، وهي سورة تبدأ وتنتهي بحديث الساعة ، وإياب الناس جميعا إلى الله ، ليحاسبهم على ما قدّموا.

ونزلت ، بعد سورة الكهف ، سورة النحل وعدّة سور تحدّثت عن البعث والجزاء ، وأثبتت وحدانيّة الله وقدرته ، وذكرت عقوبته للمكذّبين ، وأخذه على يد الظالمين. لقد كان كفّار مكّة ينكرون البعث ، ويستبعدون وقوعه بعناد وإصرار ، فتكفّل القرآن بمناقشتهم وتفنيد آرائهم ، وأثبت قدرة الله على البعث والجزاء ، وقدّم الأدلة على هذه القضية ؛ وساق في سورة الكهف عددا من الحجج والبراهين على حقيقتها ، مبرزا ذلك بصورة واضحة قد اكتملت فيها عناصر القوة والروعة والإفحام. فالمحور الموضوعي لسورة الكهف هو تصحيح العقيدة ، وتأكيد قدرة الله على البعث والجزاء ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة.

ونستطيع أن نجمل مظاهر ذلك فيما يأتي :

١ ـ بدأت السورة بقوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (٣).

وهي تتحدّث في هذا البدء عن الدار الاخرة وما فيها من بأس شديد يصيب أقواما ، وأجر حسن يفوز به أقوام آخرون.

وختمت بقوله تعالى :

١١٩

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠).

وهي تتحدّث في هذا الختام ، عن الدار الاخرة أيضا ، وعمّن يرجو لقاء ربه ، وما يجب عليه ، أثرا لهذا الرجاء والإيمان ، من عمل صالح ، وتوحيد لله لا يخالطه إشراك.

وهكذا يتلاقى أول السورة وآخرها : أولها يتحدث عن الاخرة بطريق التقرير لها ، وبيان مهمة القرآن في إثبات ما يكون فيها من الجزاء إنذارا وتبشيرا ، وآخرها يتحدث عن هذه الحقيقة التي تركزت وتقررت ، ويحاكم الناس إليها في الإيمان والعمل الصالح.

وممّا يلاحظ أن آيات البدء ، قد ذكر فيها أمر الذين قالوا اتّخذ الله ولدا ، من إنذارهم وبيان كذبهم وتخليطهم وجهلهم على الله ، وذلك هو قول الذين يشركون بالله ، ويعتقدون ما ينافي وحدانيته وتنزيهه ؛ وأن آية الختام قررت (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وأنّ على من يؤمن به ، ويرجو لقاءه ألّا يشرك بعبادته أحدا ، فتطابق الأول والاخر في إثبات الوحدانية والتنزيه لله جلّ وعلا ، كما تطابقا في أمر البعث والدار الاخرة.

٢ ـ أمّا في أثناء السورة ، وما بين بدئها وختامها ، فقد جاء أمر البعث عدة مرات :

أ ـ جاء في مقدمة قصة أصحاب الكهف التي ساقها الله حقيقة من حقائق التاريخ الواقعية ، ودليلا على قدرته ، وتنظيرا لما ينكره الكافرون من أمر البعث والنشور :

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (٩) ، وفي ثنايا هذه القصة :

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) [الآية ٢١].

فهي تقرر أن أصحاب الكهف آية من آيات الله ، وأنهم ، مع غرابة أمرهم ، لا يعدّون في جانب القدرة الإلهية عجبا ، فإنما هم فتية آمنوا بربّهم ، وأووا إلى الكهف فرارا بعقيدتهم ، فضرب الله على آذانهم فيه مدة من الزمن ، ثم بعثهم. فالله ، إذن ، قادر على أن يضرب على آذان الناس جميعا في هذه الدار بالموت ، كما يضرب على آذانهم

١٢٠