الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

١٥ ـ وقال تعالى : (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨).

الرّكز : الصّوت الخفي. وكأنّ أصل المعنى في «الرّكز» هو الخفاء ، ومنه ركز الرّمح إذا غيّب طرفه في الأرض ، والرّكاز : المال المدفون.

٢٠١
٢٠٢

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «مريم» (١)

قال تعالى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) أي : «ممّا نقصّ عليك ذكر رحمة ربّك» (٢) فانتصب العبد بالرحمة. وقد يقول الرجل «هذا ذكر ضرب زيد عمرا» (٣).

وقال سبحانه : (نِداءً خَفِيًّا) (٣) بجعله من الإخفاء.

وقال : (شَيْباً) [الآية ٤] لأنه مصدر في المعنى ناب عن فعله (٤). وليس هو مثل «امتلأت ماء» لأن ذلك ليس بمصدر.

وقوله تعالى : (سَوِيًّا) (١٠) على الحال (٥) ، كأنه أمر في الكفّ عن الكلام سويّا.

وقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ) [الآية ٤٤] فإذا وقفت قلت : «يا آبه» وهي هاء زيدت ؛ كنحو قولك «يا أمّه» ثم تقول «يا أمّ» إذا وصلت ، ولكنّه لما كان «الأب» على حرفين كان كأنه قد أخلّ به ، فصارت الهاء لازمة وصارت الياء كأنها بعدها ، فلذلك قيل «يا أبت أقبل» وجعلت التاء للتأنيث. ويجوز الترخيم لأنه يجوز أن تدعو ما تضيف الى نفسك في المعنى

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). نقله في المشكل ٢ : ٤٩ ، والجامع ١١ : ٧٥.

(٣). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٢٤ ، ونقله في الجامع ١١ : ٧٥.

(٤). نقله في الصحاح «شيب» ، وإعراب القرآن ٢ : ٦٢٤ ، والجامع ١١ : ٧٧.

(٥). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٢٧.

٢٠٣

مضموما ، نحو قول العرب «يا ربّ اغفر لي» وتقف في القرآن (يا أَبَتِ) للكتاب وقد يقف بعض العرب على هاء التأنيث (١).

وقال تعالى : (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨) نحو قولك «ملحفة جديد» (٢).

وقال تعالى : (لِسانَ صِدْقٍ) [الآية ٥٠] نحو قولهم : «لساننا غير لسانكم» أي : لغتنا غير لغتكم. وإن شئت جعلت اللسان مقالهم كما تقول «فلان لساننا».

وقال تعالى (إِلَّا سَلاماً) [الآية ٦٢] فهذا كالاستثناء الذي ليس من أوّل الكلام (٣). وهذا على البدل ، إن شئت كأنّه «لا يسمعون فيها إلّا سلاما».

وقال تعالى : (وَرِءْياً) (٧٤) فالرّئي من الرؤية ، وفسّروه من المنظر ، فذاك يدلّ على أنه من «رأيت».

وقال تعالى : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) [الآية ٦٤] أي ، والله أعلم ، (ما بَيْنَ أَيْدِينا) قبل أن نخلق (وَما خَلْفَنا) بعد الفناء (وَما بَيْنَ ذلِكَ) حين كنّا (٤).

وفي قوله تعالى : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [الآية ٢٥] زيدت الباء ، وهي تزاد في كثير من الكلام ، نحو قوله سبحانه : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] أي : تنبت الدهن.

وقال الشاعر (٥) [من الطويل وهو الشاهد السادس والأربعون بعد المائتين] :

بواد يمان ينبت السّدر صدره

وأسفله بالمرخ والشّبهان (٦)

__________________

(١). هي لغة قوم طيّئ. شرح المفصل ٥ : ٨٩ ، وقيل بل لغة تميمية. اللهجات العربية ٣٩٣ وما بعدها ، والخصائص ١ : ٣٠٤ ، والمخصص ٩ : ٧ ، والخزانة ٢ : ١٤٨ ، واللسان : «جحف» و «بلل» و «ما».

(٢). نقله في الصحاح «بغي»

(٣). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٣٧.

(٤). نقله في زاد المسير ٥ : ٢٥٠ ، والجامع ١١ : ١٢٩ ، والبحر ٦ : ٢٠٣.

(٥). هو امرؤ القيس : الجمهرة ١ : ٤٥ ؛ وقيل رجل من عبد القيس اللسان «شبه» ؛ وقيل يعلى الأحول ، الجمهرة ١ : ٤٥.

(٦). في أدب الكاتب ٤١٦ ، والجمهرة كما سبق و ٣ : ٤١٤ ، واللسان «شئث» ، وشبه مجاز القرآن ٢ : ٤٨ ب «الشث» بدل «السدر» ، وفي الجمهرة كما سبق ، وفي اللسان مادة «شثث» «فرعه» بدل «صدره».

٢٠٤

يقول : «وأسفله ينبت المرخ والشبهان» ومثله : «زوجتك بفلانة» يريدون : «زوّجتكها» ويجوز أن يكون على معنى «هزّي رطبا بجذع النخلة».

وفي قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [الآية ٩٠] فالمعنى يردن (١) لأنهنّ لا يكون منهنّ أن يتفطّرن ، ولا يدنون من ذلك ، ولكنهنّ هممن به إعظاما لقول المشركين ؛ ولا يكون على من همّ بالشيء أن يدنو منه ، ألا ترى أنّ رجلا لو أراد أن ينال السماء لم يدن من ذلك ، وقد كانت منه إرادة.

وفي قوله تعالى : (كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (٤٤) «العصيّ» : العاصي ، كما تقول : «عليم» و «عالم» و «عريف» و «عارف» قال الشاعر (٢) [من الكامل وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائتين] :

أو كلّما وردت عكاظ قبيلة

بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم (٣)

يقول : «عارفهم» وقال تعالى : (أَطَّلَعَ) [الآية ٧٨] فهذه ألف الاستفهام ، وذهبت ألف الوصل لمّا دخلت ألف الاستفهام.

وقال تعالى (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (٨٢) لأنّ «الضدّ» يكون واحدا وجماعة ، مثل «الرصد» و «الأرصاد» ، ويكون الرّصد أيضا اسما للجماعة (٤).

__________________

(١). نقله في البحر ٦ : ٢١٨.

(٢). هو طريف بن تميم العنبري : الكتاب وتحصيل عين الذهب ٢ : ٢١٥ ، والفاخر ٢٥٨ ، والأصمعيات ١٢٧ ؛ والبيت أيضا في المنصف ٣ : ٦٦.

(٣). في الأصمعيات : رسولهم بدل عريفهم.

(٤). نقله في التهذيب ١١ : ٤٥٥ «ضد».

٢٠٥
٢٠٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «مريم» (١)

إن قيل : النداء هو الصوت والصياح ، يقال ناداه نداء : أي صاح به ، فلم وصف النداء بكونه خفيّا ، كما جاء في الآية ٣؟

قلنا : النداء هنا عبارة عن الدعاء ، وإنما أخفاه ليكون أقرب إلى الإخلاص ، أو لئلا يلام على طلبه الولد بعد الشيوخة ، أو لئلا يعاديه بنو عمه ، ويقولوا : كره أن نقوم مقامه بعده ، فسأل ربّه الولد لذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [الآية ٦] ،

والنبي لا يورث لقوله (ص) : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث. ما تركناه صدقة»؟

قلنا : المراد بقوله تعالى (يَرِثُنِي) : أي يرثني العلم والنبوّة ، ويرث من آل يعقوب الملك ، وقيل الأخلاق ؛ فأجابه الله تعالى إلى وراثته العلم والنبوّة والأخلاق ، دون الملك ، والمراد بقوله (ص) «لا نورث» المال ؛ ويؤيده قوله (ص) «ما تركناه صدقة». ويعقوب هنا والد يوسف عليهما‌السلام ، وقيل لا بل هو أخو زكريا ، وقيل لا بل هو أخو عمران الذي هو أبو مريم.

فإن قيل لم قال تعالى : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) بتعدية الفعل في الأول بنفسه والثاني بحرف الجر ، وهو واحد؟

قلنا : يقال ورثه وورث منه ، فجمع السياق بين اللغتين. وقيل «من» هنا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٠٧

للتبعيض لا للتعدية ، لأن آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء.

فإن قيل : كيف طلب الولد بقوله ، كما ورد في التنزيل (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (٥). أي ولدا صالحا ، فلمّا بشره الله تعالى بقوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ) [الآية ٧] استبعد ذلك وتعجّب منه ، وأنكره كما ذكر القرآن ، بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) [الآية ٨].

قلنا : لم يقل ذلك على طريق الإنكار والاستبعاد ، بل ليجاب بما أجيب به عن طلبه الولد ، وهو قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) ، فيزداد الموقنون إيقانا ويرتدع المبطلون ، وإلّا فمعتقد زكريّا أولا وآخرا ، كان على منهاج واحد في أنّ الله تعالى غنيّ عن الأسباب. الثاني : أنه قال ذلك تعجّب فرح وسرور ، لا تعجّب إنكار واستبعاد. الثالث : قيل إنه قال ذلك استفهاما عن الحالة التي يهبه الله تعالى فيها الولد : هل يهبه في حال الشيخوخة أم يردّه إلى حالة الشباب ثم يهبه ، ولكن هذا الجواب لا يناسبه ما أجيب به زكريا (ع) بعد استفهامه. فإن قيل : لم قيل : (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) [الآية ١٠] والآية العلامة ، فعلام طلب العلامة على وجود الولد بعد ما بشّره الله تعالى به ؛ أكان عنده شكّ بعد بشارة الله تعالى في وجوده حتى طلب العلامة؟

قلنا : إنّما طلب العلامة على وجود الحمل ليبادر إلى الشكر ويتعجّل السرور ؛ فإن الحمل لا يظهر في أوّل العلوق بل بعد مدة ، فأراد معرفته أوّل ما يوجد ، فجعل الله آية وجود الحمل عجزه عن الكلام ، وهو سويّ الجوارح ما به خرس ولا بكم.

فإن قيل : لم قالت مريم ، كما ورد في التنزيل : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١٨). وإنما يتعوّذ من الفاسق لا من التقيّ.

قلنا : معناه إن كنت ممّن يتقي الله ويخشاه فانته عنّي بتعوّذي به منك ؛ فمعنى أعوذ أحصل على ثمره التعوّذ. وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، أنه كان في زمانها رجل اسمه تقيّ ، ولم يكن تقيّا بل كان فاجرا ، فظنّته إيّاه فتعوّذت منه ؛ والقول الأول هو الذي عليه المحقّقون ؛ وقيل هو على المبالغة ، معناه : إني أعوذ منك إن

٢٠٨

كنت تقيّا ؛ فكيف يكون حالي في القرب منك إلى الله تعالى إذا لم تكن تقيّا؟ قالوا : ونظير هذا ما جاء في الخبر «نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه» معناه : أنه إذا كان بحال لو لم يخف الله تعالى لا يوجد منه عصيان ، فكيف يكون حاله إذا خاف الله تعالى. وفي قراءة أبي رجاء وابن مسعود (إلا أن تكون تقيّا).

فإن قيل : اتّفق العلماء على أن الوحي لم ينزل على امرأة ولم يرسل جبريل (ع) برسالة إلى امرأة قطّ ، ولهذا قالوا في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] أنه كان وحي إلهام ، وقيل وحي منام ؛ فلم قال تعالى (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [الآية ١٧] وقال تعالى : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) [الآية ١٩]؟

قلنا : لا نسلّم أنّ الوحي لم ينزل على امرأة قط ، فإنّ مقاتلا قال في قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] أنّه كان وحيا بواسطة جبريل (ع) ، وإنّما المتفق عليه بين العلماء أنّ جبريل (ع) لم ينزل بوحي الرسالة على امرأة لا بمطلق الوحي. وهنا لم ينزل على مريم بوحي الرسالة بل بالبشارة بالولد ، ولهذا جاء على صورة البشر (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧).

فإن قيل : ما وجه قراءة الجمهور : (لِأَهَبَ لَكِ) [الآية ١٩] والواهب للولد الله تعالى لا جبريل (ع)؟

قلنا : قال ابن الأنباري : معناه إنّما أنا رسول ربّك ، بقوله لك أرسلت رسولي إليك لأهب لك ، فيكون حكاية عن الله تعالى لا عن قول جبريل (ع) ، فيكون فعل الهبة مسندا إلى الله تعالى لا إليه. الثاني : أنّ معناه لأكون سببا في هبة الولد بواسطة النفخ في الدرع ، فالإضافة إليه بواسطة السببيّة.

فإن قيل : لم قالت كما ورد في القرآن : (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠). ولم تقل بغيّة ، مع أنه وصف مؤنث؟

قلنا : قال ابن الأنباري : لما كان هذا الوصف غالبا على النساء ، وقلّما تقول العرب رجل بغي ، لم يلحقوا به علامة التأنيث إجراء له مجرى حائض وعاقر وقال الأزهري : لا يقال رجل بغيّ ، بل هو مختصّ بالمؤنّث ، ولام الكلم ياء ، يقال بغت تبغي ؛ وهو فعول عند المبرّد أصلها بغوي ، قلبت الواو ياء وأدغمت ، وكسرت الغين اتباعا ، فهو

٢٠٩

كصبور وشكور في عدم دخول التاء ؛ وقال ابن جنّي في كتابه التمام : هي فعيل ، ولو كان فعولا لقيل بغو ، كما قيل هو نهو عن المنكر ، ثم قيل هي فعيل بمعنى فاعل ، فهي كقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) [الأعراف] وقال الأخفش : هي مثل «ملحفة جديد» ، فجعلها بمعنى مفعول. وقيل إنما لم يقل بغيّة مراعاة لبقية رؤوس الآيات.

فإن قيل : ما كان حزن مريم في قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣) ألفقد الطعام والشراب حتى تسلّت بالسّريّ والرّطب ، أم كان لخوف أن يتهمها قومها بفعل الفاحشة؟

قلنا : كان حزنها لمجموع الأمرين ، وهو ما ذكرتم ، وجدب مكانها الذي ولدت فيه ، فإنه لم يكن فيه طعام ولا شراب ولا ماء تتطهّر به ؛ وكان إجراء النهر في المكان اليابس الذي لم يعهد فيه ماء ، وإخراج الرطب من الشجرة اليابسة دافع لجهتي الحزن. أما دفع الجدب فظاهر ، وأما دفع حزن التهمة ، فمن حيث أنهما معجزتان تدلان قومها على عصمتها وبراءتها من السوء ، وأن الله تعالى قد خصّها بأمور إلهية خارجة عن العادة ، خارقة لها ؛ فتبيّن لهم أنّ ولادتها من غير فحل ليس ببدع من شأنها ، ولا بعيد في قدرة الله تعالى ، المخرج في لحظة واحدة ، الرّطب الجني من النخلة اليابسة ، والمجري للماء بغتة ، في مكان لم يعهد فيه.

فإن قيل : لم أمرها جبريل (ع) إذا رأت إنسانا أن تكلمه بعد النذر بالسكوت ، في قوله تعالى : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦) وذلك خلف في النذر؟

قلنا : إنّما أمرها بذلك لأنه تمام نذرها ، فإنها لم تكن مأمورة بنذر مطلق السكوت حتى يتدرّج فيه الكفّ عن الذكر والتسبيح والدعاء ونحوها ، بل بنذر السكوت عن تكليم الإنس ، وإذا كان تمام نذرها كما ورد في قوله تعالى : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (٢٦) لا تكون مكلمة لإنسي بعد تمام النذر.

فإن قيل : لم قال تعالى (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩) وكل أحد كان في المهد صبيا؟

قلنا : كان هنا زائدة ، وصبيا منصوب

٢١٠

على الحال لا على أنه خبر كان ، تقديره : كيف نكلم من في المهد في حال صباه. وقيل كان بمعنى وقع ووجد ؛ وصبيّا منصوب على الوجه الذي مرّ.

فإن قيل ، خطاب التكليف في جميع الشرائع إنّما يكون بعد البلوغ أو بعد التمييز والقدرة على فعل المأمور به ، وعيسى عليه‌السلام كان رضيعا في المهد ، فكيف خوطب بالصّلاة والزّكاة ، في قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١).

قلنا : تأخير الخطاب إلى غاية البلوغ وغيرها ، إنما كان ليحصل العقل والتمييز ، وعيسى (ع) كان واحد العقل والتمييز التام في تلك الحالة ، فتوجه نحوه الخطاب أن يفعلهما إذا قدر على ذلك ، ولهذا قيل إنه أعطي النبوة في صباه أيضا.

فإن قيل الزّكاة إنّما تجب على الأغنياء ، وعيسى عليه‌السلام لم يزل فقيرا لابس كساء مدة مقامه في الأرض ، وعلم الله تعالى ذلك من حاله ، فلم أوصاه بالزّكاة؟

قلنا : المراد بالزكاة هنا تزكية النفس وتطهيرها من المعاصي ، لا زكاة المال.

فإن قيل : لم جاء السلام في قصّة يحيى عليه‌السلام منكّرا ، وفي قصة عيسى عليه‌السلام معرّفا؟

قلنا : قد قيل إنّ النكرة والمعرفة في مثل هذا سواء لا فرق ، بينهما في المعنى. الثاني : أنه سبق ذكره في قصة يحيى عليه‌السلام مرّة ، فلما أعيد ذكره أعيد معرفة ، كقوله تعالى (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزّمّل] كأنّ ذلك السلام الموجّه إلى يحيى عليه‌السلام ، في المواطن الثلاثة ، موجّه إلى عيسى عليه الصلاة والسلام.

فإن قيل : كيف تكون الألف واللام في السلام للعهد ، والأول سلام من الله تعالى على يحيى (ع) ، والثاني سلام من عيسى على نفسه؟

قلنا التعريف راجع إلى ماهيّة السلام ومواطنه ، لا إلى كونه واردا من عند الله تعالى.

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى (وَاذْكُرْ

٢١١

فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) [الآية ٤١] وما أشبهه. ومثل هذا ، إنّما يستعمل إذا كان المأمور مختارا في الذكر وعدمه ؛ كما تقول لصاحبك وهو يكتب كتابا : اذكرني في الكتاب ، أو اذكر فلانا في الكتاب ؛ والنبيّ (ص) ما كان على سبيل من الزيادة والنقصان في الكتابة ، ليوصي بمثل ذلك؟

قلنا : هذا على طريق التأكيد في الأمر بالإبلاغ ، كتأكيد الملك على رسوله بإعادة بعض فصول الرسالة وتخصيصها بالأمر بالإبلاغ.

فإن قيل : الاستغفار للكافر لا يجوز ، فلم وعد إبراهيم أباه بالاستغفار له ، في قوله تعالى : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [الآية ٤٧] مع أنه كافر؟

قلنا معناه : سأسأل الله تعالى لك توبة تنال بها مغفرته ، يعني الإسلام ؛ والاستغفار للكافر بهذا الطريق جائز ، وهو أن يقال : اللهم وفّقه للإسلام ، أو : اللهم تب عليه واهده وأرشده ، وما أشبه ذلك. الثاني : أنه وعده ذلك ، بناء على أنه يسلم فيستغفر له بعد الإسلام. الثالث : أنه وعده ذلك قبل تحريم الاستغفار للكافر ؛ فإنّ تحريم ذلك قضيّة شرعيّة ، إنّما تعرف بالسمع ، لا عقلية ، فإن العقل لا يمنع ذلك.

فإن قيل : الطّور ، وهو الجبل ليس له يمين ولا شمال ، فلم قال تعالى : (مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [الآية ٥٢].

قلنا : خاطب الله تعالى العرب ، بما هو معروف في استعمالهم ، فإنهم يقولون عن يمين القبلة وشمالها ، يعنون ما يلي يمين المستقبل لها وشماله ، لأنّ القبلة لا يد لها لتكون لها يمين وشمال. وهذا اتساع منهم في الكلام لعدم اللّبس ، فالمراد بالأيمن هنا ، ما عن يمين موسى (ع) من الطّور. لأنّ النداء جاءه من قبل يمينه ، هذا إن كان الأيمن ضد الأيسر من اليمين. وإن كان من اليمن ، وهو البركة ، من قولهم : يمن فلان قومه فهو يامن : أي كان مباركا عليهم ، فلا إشكال ، لأنه يصير معناه : من جانب الطّور المبارك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣) وهارون كان أكبر من موسى (ع) فما معنى هبته له؟

٢١٢

قلنا : معناه أن الله سبحانه أنعم على موسى عليه الصلاة والسلام ، بإجابة دعوته فيه ، كما ورد في قوله تعالى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠)) [طه] فكان الجواب : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص : ٣٥] فالمراد إذا ، بالهبة أنه سبحانه جعله عضدا له وناصرا ومعينا ؛ كذا فسّره ابن عبّاس رضي الله عنهما.

فإن قيل : لم وصف الله تعالى النبيّين المذكورين في قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) [الآية ٥٨] بقوله تعالى (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨) والمراد بآيات الرحمن القرآن ، والقرآن لم يتل على أحد من الأنبياء المذكورين؟

قلنا آيات الرحمن غير مخصوصة بالقرآن ، بل كل كتاب أنزله الله تعالى ففيه آياته ؛ ولو سلمنا أنّ المراد بها القرآن ، فنقول : إن المراد بقوله تعالى : (وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) [الآية ٥٨] محمد (ص) وأمّته.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ) يدل على أن ترك الصلاة وإضاعتها كفر ، والإيمان شرط في توبة مضيعها؟

قلنا : قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : المراد بهؤلاء الخلف هنا اليهود ؛ تركوا الصلاة المفروضة ، وشربوا الخمر ، واستحلّوا نكاح الأخت من الأب.

فان قيل : لم قال تعالى : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) (٦١) ولم يقل آتيا ، كما قال جلّ شأنه (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ) [الأنعام : ١٣٤].

قلنا المراد بوعده تعالى ، هنا ، موعده وهو الجنة ، وهي مأتية يأتيها أولياؤه. الثاني : أن مفعولا هنا بمعنى فاعل ، كما في قوله تعالى : (حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥) [الإسراء] أي ساترا.

فإن قيل : قوله تعالى (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (٦٣) ، وقوله تعالى (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣) [آل عمران] يدلّان من حيث المفهوم ، على أنّ غير المتقين لا يدخلون الجنة؟

قلنا : المراد بالتقوى هنا التقوى من

٢١٣

الشرك ، وكل المؤمنين في ذلك سواء.

فإن قيل : ما معنى انفطار السماوات ، وانشقاق الأرض ، وخرور الجبال ، من دعوتهم الولد لله تعالى ؛ ومن أين تؤثّر هذه الكلمة في الجمادات؟

قلنا : معناه أنّ الله تعالى يقول ، كدت أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال ، عند وجود هذه الكلمة غضبا على قائلها ، لولا حلمي وإمهالي ، وأن لا أعجّل العقوبة ، كما قال تعالى (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] يعني أن تخر على المشركين وتنشقّ الأرض بهم ، ويدلّ على هذا ، قوله تعالى في آخر الآية (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤١) [فاطر]. الثاني : أن يكون استعظاما لقبح هذه الكلمة ، وتصويرا لأثرها في الدّين ، من حيث هدم أركانه وقواعده ؛ وأن مثال ذلك الأثر في المحسوسات ، أن يصيب هذه الأجسام العظيمة التي هي قوام العالم ، ما تنفطر منه ، وتنشق ، وتخرّ.

فإن قيل : لم قال تعالى ، هنا في صفة الشرك : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٩٠). وهذا يدل على قوّة كلمة الشرك وشدّتها ، وقال تعالى في سورة إبراهيم ، صلوات الله عليه في صفة كلمة الشرك (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) (٢٦) [ابراهيم] والمراد بالكلمة الخبيثة كلمة الشرك ، كذا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما ؛ وبالشجرة الخبيثة شجرة الحنظل ، كذا قاله رسول الله (ص) ؛ وهذا يدل على ضعف كلمة الشرك وتلاشيها واضمحلالها ، فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : وصفت كلمة الشرك في سورة إبراهيم (ع) بالضّعف ، وهنا بالقبح ، فهي في غاية الضّعف وفي غاية القبح والفظاعة ، فلا تنافي بينهما.

فإن قيل : لم قال تعالى (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) (٩٤) والإحصاء العدّ على ما نقله الجوهري ، أو الحصر على ما نقله بعض أئمة التفسير ، كما سبق ذكره في سورة إبراهيم ، صلوات الله عليه ، في قوله تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [ابراهيم : ٣٤] ؛ فإن كان الإحصاء العدّ فهو تكرار ، وإن كان الحصر ، فذكره مغن عن ذكر العدّ ؛

٢١٤

لأنّ الحصر لا يكون إلّا بعد معرفة العدد؟

قلنا : الإحصاء قد جاء بمعنى العلم أيضا ، ومنه قوله تعالى (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨) [الجن] أي علم عدد كلّ شيء ؛ قال الشاعر :

وكن للّذي لم تحصه متعلّما

وأمّا الذي أحصيت منه فعلّم

وهو المراد هنا ؛ فيصير المعنى لقد علمهم ، أي علم أفعالهم وأقوالهم ، وكل ما يتعلّق بذواتهم وصفاتهم وعددهم ؛ فلا تكرار ، ولا استغناء عن ذكر العدّ.

٢١٥
٢١٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «مريم» (١)

قوله سبحانه : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [الآية ٤].

وهذه من الاستعارات العجيبة. والمراد بذلك ، التعبير عن تكاثر الشّيب في الرأس حتى يقهر بياضه ، ويفصل سواده.

وفي هذا الكلام دليل على سرعة تضاعف الشيب وتزيّده وتلاحق مدده ، حتى يصير في الإسراع والانتشار كاشتعال النار ، يعجز مطفيه ، ويغلب متلافيه.

وقوله سبحانه : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) [الآية ٢٣]. وهذه استعارة ، والمعنى : فجاء بها المخاض ، إلى جذع النخلة ، لتجعله سنادا لها ، أو عمادا لظهرها. وهي التي لجأت إلى النخلة ؛ ولكن ضرب المخاض ، لمّا كان سببا لذلك ، حسن أن ينسب الفعل إليه في إلجائها ، والمجيء بها.

وقوله سبحانه : (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠).

وهذه استعارة. والمراد بذكر اللسان هاهنا ، والله أعلم ، الثناء الجميل الباقي في أعقابهم ، والخالف في آبائهم (٢) والعرب تقول : جاءني لسان فلان ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق : محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). الباقي في آبائهم.

٢١٧

يريد مدحه أو ذمه. ولمّا كان مصدر المدح والذم عن اللّسان ، عبروا عنهما باسم اللسان.

وإنمّا قال سبحانه : (لِسانَ صِدْقٍ) (٥٠) ، بإضافة اللّسان إلى أفضل حالاته ، وأشرف متصرّفاته ؛ لأن أفضل أحوال اللّسان أن يخبر صدقا ، أو يقول حقّا.

٢١٨

سورة طه

٢٠

٢١٩
٢٢٠