الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

١

سورة النحل

١٦

٢

البحث الأول

أهداف سورة «النحل» (١)

عرض إجمالي للسورة

سورة النحل سورة مكية ، وعدد آياتها (١٢٨) آية ، وهي سورة هادئة الإيقاع والجرس ، ولكنها مليئة حافلة ، موضوعاتها الرئيسة كثيرة منوّعة ، والإطار الذي تعرض فيه واسع شامل.

وهي ، كسائر السور المكية ، تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الألوهية ، والوحي والبعث ، ولكنها تلم بموضوعات جانبية أخرى تتعلق بتلك الموضوعات الرئيسة ، تلم بحقيقة الوحدانية الكبرى التي تصل بين رسالة إبراهيم (ع) ، ورسالة محمد (ص) ، وتلم بحقيقة الإرادة الإلهية والإرادة البشرية في ما يختص بالإيمان والكفر والهدى والضلال ، وتلم بوظيفة الرسل ، وسنة الله في المكذّبين لهم ، وتلمّ بموضوع التحليل والتحريم ، وأوهام الوثنية حول هذا الموضوع ، وتلم بالهجرة في سبيل الله ، وفتنة المسلمين في دينهم ، والكفر بعد الإيمان ، وجزاء هذا كله عند الله ، ثم تضيف الى موضوعات العقيدة موضوعات المعاملة : العدل والإحسان ، والإنفاق والوفاء بالعهد ، وغيرها من موضوعات السلوك القائم على العقيدة ، وهكذا هي مليئة حافلة من ناحية الموضوعات التي تعالجها.

فأمّا الإطار الذي تعرض فيه هذه الموضوعات ، والمجال الذي تجري فيه الأحداث ، فهو فسيح شامل : هو السماوات والأرض ، والماء الهاطل ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣

والشجر النامي ، والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ، والبحار والجبال والمعالم والسبل والأنهار ، هو الدنيا بأحداثها ومصائرها ، والاخرة بأقدارها ومشاهدها ، هو الغيب بألوانه وأعماقه في الأنفس والآفاق.

في هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير واستجاشة العقل والضمير ، حملة هادئة الإيقاع ، ولكنها متعدّدة الأوتار ، ليست في جلجلة سورة الأنعام وسورة الرعد ، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري ، وتتّجه الى العقل الواعي كما تتّجه الى الوجدان الحساس. إنها تخاطب العين لترى ، والأذن لتسمع ، واللمس ليستشعر ، والوجدان ليتأثّر والعقل ليتدبّر ، وتحشد الكون كله : سماءه وأرضه ، شمسه وقمره ، ليله ونهاره ، جباله وبحاره ، فجاجه وأنهاره ، ظلاله وأكنانه ، نبته وثماره ، حيوانه وطيوره ، كما تحشد دنياه وآخرته ، وأسراره وغيوبه .. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب ، مختلف الإيقاعات التي لا ينغلق أمامها إلا القلب الميت والعقل المنكوس ، والحس المطموس.

هذه الإيقاعات ، تتناول التوجيه الى آيات الله في الكون ، وآلائه على الناس ، كما تتناول مشاهد القيامة ، وصور الاحتضار ومصارع الغابرين ، تصاحبها اللمسات الوجدانية ، التي تتسرب الى أسرار الأنفس ، وأحوال البشر ، وهم أجنّة في البطون ، وهم في الشباب والهرم والشيخوخة ، وهم في حالات الضعف والقوة ، وهم في أحوال النعمة والنقمة ، كذلك تتّخذ السورة الأمثال ، والمشاهد ، والحوار ، والقصص الخفيف ، أدوات للعرض والإيضاح.

فأمّا الظلال العميقة التي تلون جو السورة كلّه ، فهي الآيات الكونية تتجلى فيها عظمة الخالق ، وعظمة النعمة وعظمة العلم والتدبير. كلها متداخلة ، فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير ، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر ، لا تلبي ضروراتهم وحدها ، ولكن تلبي أشواقهم كذلك ، فتسدّ الضرورة ، وتتخذ للزينة ، وترتاح بها أبدانهم ، وتستريح لها نفوسهم ، لعلهم يشكرون. ومن ثم تتراءى في

٤

السورة ظلال النعمة ، وظلال الشكر ، والتوجيهات إليها ، والتعقيب بها ، في مقاطع السورة ، وتضرب عليها الأمثال ، وتعرض لها النماذج ، وأظهرها نموذج إبراهيم :

(شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٢١). كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والأفكار ، والعبارات والإيقاعات ، والقضايا والموضوعات نرجو أن نشاهده في أثناء استعراضنا لأجزاء السورة.

التوحيد في السورة

تبدأ سورة النحل بآية مشهورة ، تقال كثيرا عند ما يحين الأجل ، ويقف الإنسان عاجزا أمام حوادث القدر ، يقول سبحانه :

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

ومن أسباب نزول هذه الآية ، أنّ أهل مكة كانوا يستعجلون الرسول (ص) أن يأتيهم بعذاب الدنيا أو عذاب الاخرة. وكلما امتدّ بهم الأجل ، ولم ينزل العذاب ، زادوا استعجالا ، وزادوا استهزاء واستهتارا ، وحسبوا ان محمدا يخوّفهم بما لا وجود له ولا حقيقة ، ليؤمنوا له ويستسلموا ، ولم يدركوا حكمة الله في إمهالهم ، ورحمته في إنظارهم ، ولم يحاولوا تدبّر آياته في الكون ، وآياته في القرآن.

نعم الله

تسترسل الآيات في سورة النحل ، تستعرض نعم الله سبحانه على الإنسان ، فتذكر خلق السماوات والأرض والإنسان ، والأنعام والنبات ، والليل والنهار ، والجبال والبحار ، والشمس والقمر والنجوم ، وهي ظواهر طبيعية ملموسة ، ولكننا إذا قرأنا الآيات [٣ ـ ١٨] في سورة النحل نجد أننا أمام لوحة كونية معروضة ، تنتقل بالإنسان من مشهد الى آخر ، وكل مشهد يدل على وحدانية الخالق ، ووحدانية المنعم. وتعرض الآيات هذه النعم فوجا فوجا ، ومجموعة مجموعة.

في الفوج الأول ، تتحدّث الآيات عن خلق السماوات والأرض ، فيقول سبحانه :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) [الآية ٣].

فالحق قوام خلقهما والحق قوام تدبيرهما والحق عنصر أصيل في

٥

تصريفهما ، وتصريف من فيهما وما فيهما ، فما من شيء من ذلك كله عبث ولا جزاف ، بل كل شيء قائم على الحق ، وملتبس به ، وسائر في النهاية اليه.

ثم تستعرض الآيات نعمة خلق الأنعام ، والأنعام المتعارف عليها في الجزيرة العربية كانت الإبل والبقر والضأن والمعز ، وقد أباح الله أكلها ، أما الخيل والبغال والحمير فللركوب والزينة ، ولا تؤكل ، ثم يجيء التعقيب على هذه النعمة ، بقوله سبحانه :

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨).

ليظل المجال مفتوحا في التصوّر البشري لتقبّل أنماط جديدة من أدوات الحمل والنقل والركوب والزينة. إن الإسلام عقيدة مفتوحة مرنة ، قابلة لاستقبال طاقات الحياة كلّها ، ومقدّرات الحياة كافة ، ومن ثم يهيّئ القرآن الأذهان لاستقبال كلّ ما تتمخض عنه القدرة والعلم والمستقبل ، استقباله بالوجدان الديني المتفتح المستعدّ لتلقي كل جديد ، في عجائب الخلق ، والعلم والحياة.

ولقد وجدت وسائل للحمل والنقل والركوب والزينة لم يكن يعلمها أهل ذلك الزمان ، وستجدّ وسائل أخرى لا يعلمها أهل هذا الزمان ، والقرآن يهيّئ القلوب والأذهان بلا جمود ولا تحجّر ، حينما يقول سبحانه وتعالى :

(وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨).

والفوج الثاني : من آيات الخلق والنعمة ، إنزال الماء ، وإنبات النبات والمرعى والزرع ، التي يأكل منها الإنسان ، مع الزيتون والنخيل والأعناب وغيرها من أشجار الثمار.

في الفوج الثالث تتحدث الآيات عن تسخير الليل والنهار ، والشمس والقمر ، والنجوم ، وكلّها ذات أثر حاسم في حياة الإنسان ، ومن شاء فليتصور نهارا بلا ليل ، أو ليلا بلا نهار ، ثمّ يتصوّر مع هذا حياة الإنسان والحيوان والنبات في هذه الأرض كيف تكون ، كلّ أولئك طرف من حكمة التدبير ، وتناسق النواميس في الكون كله. يدركه أصحاب العقول التي تتدبر وتعقل :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١٢).

وفي الفوج الرابع من أفواج النعمة فيما خلق الله للإنسان :

(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً

٦

أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣).

امتنّ الله سبحانه على عباده ، بما خلق لهم في الأرض من ألوان المنافع. وبما أودعه فيها للبشر ، من مختلف المعادن التي تقوم بها حياتهم ، في بعض الجهات وفي بعض الأزمان ، ولفتهم إلى هذه الذخائر المخبوءة في الأرض ، المودعة للناس حتى يبلغوا رشدهم يوما بعد يوم ، ويستخرجوا كنوزهم في حينها ، ووقت الحاجة إليها ، وكلما قيل : إن كنزا منها قد نفد ، أعقبه كنز آخر أكثر غنى ، من رزق الله المدّخر للعباد ؛ قال تعالى :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٣).

ثم امتنّ سبحانه على عباده بالبحر المالح ، وما يشتمل عليه من صنوف النعم ، «فمنها اللحم الطري من السمك وغيره للطعام ، وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان ، وغيرها من الأصداف والقواقع».

ومنها مرور السفن تمخر عباب البحر ، وتيسّر المصالح ، وتبادل المنافع بين الناس ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٤).

وعند ما ينتهي استعراض النعم يبيّن القرآن ، أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق ، وأنّ نعم الله على الإنسان لا تعدّ ولا تحصى.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [الآية ١٨].

وحدة الألوهية

تتعرض الآيات [٢٢ ـ ٥٠] لتقرير وحدة الألوهية فيقول سبحانه :

(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الآية ٢٢].

وكل ما سبق في السورة ، من آيات الخلق وآيات النعمة وآيات العلم ، يؤدي الى هذه الحقيقة الكبيرة البارزة ، وهي أن هذا الكون البديع المنظم ، لا يحفظ نظامه إلا إله واحد ، والذين لا يسلّمون بهذه الحقيقة ، قلوبهم منكرة ، فالجحود صفة كامنة فيها ، والعلة أصيلة في نفوسهم المريضة ، وطباعهم المعاندة المتكبرة ، عن الإقرار والإذعان والتسليم.

٧

وتختم هذه الآيات ، بمشهد مؤثّر ، مشهد الظلال في الأرض كلها ساجدة لله ، ومعها ما في السماوات وما في الأرض من دابة ؛ والملائكة قد برئت نفوسهم من الاستكبار ، وامتلأت بالخوف من الله ، والطاعة لأمره بلا جدال. هذا المشهد الخاشع الطائع ، يقابل صورة المستكبرين ، المتكبرة قلوبهم ، في مفتتح هذه المجموعة من الآيات.

وبين المطلع والختام ، يستعرض السياق مقولات أولئك المستكبرين المنكرين للوحي والقرآن ، إذ يزعمون أنه أساطير الأوّلين ؛ ومقولاتهم ، عن أسباب شركهم بالله ، وتحريمهم ما لم يحرّمه الله ، إذ يدّعون أنّ الله أراد منهم الشر ، وارتضاه ؛ ومقولاتهم عن البعث والقيامة ، إذ يقسمون جهدهم ، لا يبعث الله من يموت ، ويتولّى سبحانه الردّ على مقولاتهم جميعا ، ويعرض في ذلك مشاهد احتضارهم ، ومشاهد بعثهم ، وفيها يتبرّءون من تلك المقولات الباطلة ، كما يعرض بعض مصارع الغابرين من المكذّبين أمثالهم ، ويخوّفهم أخذ الله لهم في ساعة من ليل أو نهار ، وهم لا يشعرون ، وهم في تقلّبهم في البلاد ، أو يأخذهم وهم على تخوّف وتوقّع وانتظار للعذاب. إلى جوار هذا ، يعرض صورا من مقولات المتّقين المؤمنين ، وما ينتظرهم عند الاحتضار ويوم البعث من طيب الجزاء ... وينتهي هذا الدرس ، بذلك المشهد الخاشع الطائع ، للظلال والدواب والملائكة ، في الأرض والسماء. والسياق القرآني ، يعبّر عن خضوع الأشياء لنواميس الله ، بالسجود ، وهو أقصى مظاهر الخضوع ، ويوجه الى حركة الظلال المتفيّئة ، أي الراجعة بعد امتداد ، وهي حركة لطيفة خفيفة ذات دبيب في المشاعر والأعماق ، ويرسم المخلوقات داخرة أي خاضعة خاشعة ، ويضم إليها ما في السماوات وما في الأرض من دابة ، ويضيف الى الحشد الكوني ، الملائكة ، في مقام خشوع وخضوع وعبادة وسجود ، قال تعالى :

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠).

٨

أدلة الوحدانية

تستمر الآيات من ٥١ الى ٧٦ في سورة النحل ، في إثبات قضية الألوهية الواحدة التي لا تتعدّد ، تبدأ فتقرر وحدة الإله ووحدة الملك ، ووحدة المنعم ، في الآيات الثلاث الأولى متواليات ، وتختتم بمثلين تضربهما للسيد المالك الرازق ، والعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، ولا يملك شيئا .. هل يستويان؟ فكيف يسوّى الله المالك الرازق ، بمن لا يقدر ولا يملك ولا يرزق؟ فيقال : هذا إله وهذا إله؟

وفي خلال هذا الدرس ، تعرض الآيات نموذجا بشريّا للناس ، حين يصيبهم الضرّ ، فيجأرون إلى الله وحده ، وإذا كشف عنهم الضر ، راحوا يشركون به غيره.

وتعرض الآيات صورا من أوهام الوثنية وخرافاتهم ، في تخصيص بعض ما رزقهم الله لآلهتهم المدّعاة ، في حين أنهم لا يردون شيئا مما يملكونه على عبيدهم ، ولا يقاسمونهم إياه ؛ وفي نسبة البنات الى الله ، على حين يكرهون ولادة البنات لهم :

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (٥٨).

وفي الوقت الذي يجعلون لله ما يكرهون ، تروح ألسنتهم تتشدّق بأنّ لهم الحسنى ، وأنّهم سينالون على ما فعلوا خيرا ، وهذه الأوهام التي ورثوها من المشركين قبلهم ، هي التي بعث الرسول (ص) ليبيّن لهم الحقيقة فيها ، وليخرجهم من ظلمات الشرك الى نور اليقين. ثم تأخذ الآيات في عرض نماذج من صنع الألوهية الحقّة ، في تأملها عظة وعبرة ، فالله وحده القادر عليها ، الموجد لها. وهي هي دلائل الألوهية لا سواها : فالله أنزل من السماء ماء ، فأحيا به الأرض بعد موتها ، والله يسقي الناس ـ غير الماء ـ لبنا سائغا ، يخرج من بطون الأنعام ، من بين فرث ودم ، والله يطلع للناس ثمرات النخيل والأعناب ، يتخذون منها سكرا ورزقا حسنا ، والله أوحى إلى النحل لتتخذ من الجبال بيوتا ، ومن الشجر ومما يعرشون ، ثم تخرج عسلا فيه شفاء للناس.

اسم السورة

وقد سميت هذه السورة بسورة النحل ، للإشارة الى الأمر العجيب الدقيق في شأن النحل ، فهي تعمل

٩

بإلهام من الفطرة التي أودعها إيّاها الخالق ، وهذا الإلهام لون من الوحي تعمل النحل بمقتضاه ، وهي تعمل بدقة عجيبة ، يعجز عن مثلها العقل المفكّر ، سواء في بناء خلاياها ، أو في تقسيم العمل بينها ، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفّى.

وهي تتّخذ بيوتها حسب فطرتها ، في الجبال والشجر ، وما يعرشون أي ما يرفعون من الكروم وغيرها ، وقد ذلّل الله لها سبل الحياة ، بما أودع في فطرتها ، وفي طبيعة الكون حولها ، من توافق ، قال تعالى :

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٦٩).

وقد سئل الإمام الشافعي بم عرفت الله؟ قال بالنحلة نصفها يعسل ، ونصفها يلسع ، وفي الحديث : المؤمن كالنحلة. أي أنه خفيف الظل مترفّع في هدفه ، لا يأكل إلا طيّبا ، ولا يترك إلا أثرا حسنا ، وإذا وقع على شيء لم يكسره. وتستمر الآيات في عرض أدلّة القدرة الإلهية ، فتذكر أن الله يخلق الناس ، ويتوفّاهم ، ويؤجّل بعضهم ، حتى يشيخ فينسى ما تعلّمه ، ويرتدّ ساذجا لا يعلم شيئا ، والله فضّل بعضهم على بعض في الرزق ، والله جعل لهم من أنفسهم أزواجا وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة ، وهم ، بعد هذا كله ، يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والأرض ، ويجعلون لله الأشباه والأمثال.

هذه اللّمسات كلّها في أنفسهم وفي ما حولهم. يوجههم إليها ، لعلّهم يستشعرون القدرة ، وهي تعمل في ذواتهم ، وفي طعامهم ، وفي شرابهم ، وفي كل شيء حولهم. وفي كل شيء له آية تدلّ على أنه الواحد جلّ جلاله.

مظاهر القدرة الإلهية

تتحدث الآيات [٧٧ ـ ٨٩] في سورة النحل ، عن مظاهر القدرة الإلهية ، فتوضح عظمة الخالق ، وفيض نعمته ، وإحاطة علمه. وتركّز الآيات في هذا الشوط على قضية البعث ، والساعة أحد أسرار الغيب ، الذي يختص الله بعلمه ، فلا يطلع عليه أحدا.

١٠

وموضوعات هذا الدرس ، تشمل ألوانا من أسرار غيب الله في السماوات والأرض ، وفي الأنفس والآفاق : غيب الساعة التي لا يعلمها إلا الله وهو عليها قادر ، وهي عليه هيّنة :

(وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [الآية ٧٧] ،

وغيب الأرحام ، والله وحده هو الذي يخرج الأجنة من هذا الغيب لا تعلم شيئا ، ثم ينعم على الناس بالسمع والأبصار والأفئدة ، لعلّهم يشكرون نعمته ، وغيب أسرار الخلق ، ويعرض منها تسخير الطير في جو السماء ، ما يمسكها الا الله.

يلي هذا الدرس استعراض لبعض نعم الله المادية على الناس ، وهي بجانب تلك الأسرار ، وفي جوّها : نعم السكن والهدوء والاستظلال ، في البيوت المبنية ، والبيوت المتخذة من جلود الأنعام للظعن والإقامة ، والأثاث والمتاع ، من الأصواف والأوبار والأشعار.

وتذكر الآيات من نعم الله الظلال ، والأكنان ، وهي ما يستر الإنسان ويغطّيه ، والسرابيل وهي ما يلبسه الإنسان من قميص يقيه الحر والبرد ، أو درع تقيه بأس الحرب :

(كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٨١).

ثم تفصّل الآيات أمر البعث ، في مشاهد يعرض فيها المشركون وشركاؤهم ، والرسل شهداء عليهم ، والرسول (ص) شهيد على قومه. وبذلك تكتمل هذه الجولة في جو البعث والقيامة.

الأوامر والنواهي

تتعرّض الآيات [٩٠ ـ ١١١] في سورة النحل ، لشرح بعض أهداف القرآن الكريم ، ويبدأ هذا الدرس بآية شهيرة ، يردّدها الخطباء على المنابر في نهاية خطبة الجمعة ، وهي قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٩٠).

وفي هذا الدرس أمر بالوفاء بالعهد ، ونهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها ، وكّلها من مبادئ السلوك الأساسية التي جاء بها القرآن الكريم.

وفي هذا الدرس ، بيان الجزاء المقرر ، لنقض العهد ، واتخاذ الأيمان للخداع والتضليل ، وهو العذاب

١١

العظيم. والبشرى للذين صبروا ، ومضاعفة الثواب لهم.

ثم تذكر الآيات بعض آداب تلاوة القرآن ، وهي الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ، لطرد شبحه من مجلس القرآن الكريم ، كما تذكر بعض تقوّلات المشركين عن القرآن ، فمنهم من يرمي الرسول (ص) بافترائه على الله ، ومنهم من يقول : إن غلاما أعجميّا هو الذي يعلمه هذا القرآن.

وفي نهاية الدرس ، يبيّن جزاء من يكفر بعد إيمانه ، ومن يكره على الكفر ، وقلبه مطمئنّ بالإيمان. ويبيّن جزاء من فتنوا عن دينهم ، ثم هاجروا ، وجاهدوا ، وصبروا. وكلّ أولئك ، تبيان وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.

وفي الآيات إباحة لمن أكره على الكفر ، أن ينطق لسانه به ، ما دام قلبه عامرا بالإيمان. روى ابن جرير بإسناده أن العذاب لمّا اشتد على عمار بن ياسر ، نطق ببعض ما أرادوا ، ثم شكا ذلك الى النبي (ص) فقال له النبي : «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئنّا بالإيمان. قال النبي : «إن عادوا فعد» ، فكانت رخصة في مثل هذه الحال. وقد أبى بعض المسلمين أن يظهروا الكفر بلسانهم ، مؤثرين الموت على لفظه باللسان ، كذلك صنعت سميّة أم ياسر ، وهي تطعن بالحربة في موضع العفّة حتى تموت ، وكذلك صنع أبوها ياسر.

وقد كان بلال ، رضوان الله عليه ، يعذّب أشدّ العذاب ، حتى لتوضع الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ، ويطلب منه أن ينطق بكلمة الشرك ، فيأبى وهو يقول : أحد أحد.

ولست أبالي حين أقتل مسلما على أيّ جنب كان في الله مصرعي

ختام سورة النحل

يتحدث الربع الأخير من سورة النحل ، عن مثل ضربه الله سبحانه ، لتصوير حال مكّة وقومها المشركين ، الذين جحدوا نعمة الله عليهم ، لينظروا المصير الذي يتهدّدهم من خلال المثل الذي يضربه لهم ، حين يقول سبحانه :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢).

١٢

وهي حال أشبه شيء بحال مكّة جعل الله فيها البيت ، وجعلها بلدا حراما ، من دخله فهو آمن مطمئن ، لا تمتدّ إليه يد ، ولو كان قاتلا ، ولا يجرأ أحد على إيذائه ، وهو في جوار بيت الله الكريم. وكان الناس يتخطّفون من حول البيت ، وأهل مكّة في حراسته وحمايته كانوا آمنين مطمئنين ، كذلك كان رزقهم يأتيهم هيّنا هنيئا ، من كل مكان مع الحجيج ومع القوافل الآمنة ، مع أنهم في واد قفر جدب غير ذي زرع ، فكانت تجيء إليهم ثمرات كل شيء ، فيتذوقون طعم الأمن وطعم الرغد ، منذ دعوة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، فإذا كذّب أهل مكة بدعوة محمد (ص) ، وجحدوا رسالته ، استحقوا العقاب والعذاب ولباس الجوع والخوف ، جزاء كفرهم وعنادهم.

ثم ينتقل السياق بهم ، الى الطيّبات التي حرّمها أبناء القبائل المكية على أنفسهم ، اتّباعا لأوهام الوثنية ، وقد أحلّها الله لهم ، وحدّد المحرّمات ، وبيّنها ، وليست هذه منها ، وذلك لون من الكفر ، بنعمة الله ، وعدم القيام بشكرها ، يتهدّدهم بالعذاب الأليم من أجله. وهو افتراء على الله لم تنزل به شريعة.

وبمناسبة ما حرّم على المسلمين من الخبائث ، يشير الى ما حرّم على اليهود من الطيّبات بسبب ظلمهم. وقد جعل هذا التحريم عقوبة لهم على عصيانهم. ولم يكن محرّما على آبائهم ، في عهد إبراهيم (ع) الذي كان أمّة قانتا لله حنيفا ، ولم يك من المشركين ، شاكرا لأنعمه ، اجتباه وهداه الى صراط مستقيم. فكانت حلالا له الطيبات ، ولبنيه من بعده ، حتى حرّم الله بعضها على اليهود ، عقوبة لهم خاصة ، ومن تاب من بعد جهالته ، فإن الله غفور رحيم.

ثم جاءت رسالة محمد (ص) ، امتدادا واتّباعا لرسالة ابراهيم (ع) ، فعادت الطيّبات كلّها حلالا ، وكذلك السبت الذي منع فيه اليهود من الصيد ، فإنما السبت على أهله الذين اختلفوا فيه ، ففريق كف عن الصيد ، وفريق نقض عهده ، فمسخه الله ، وانتكس عن مستوى الإنسانية.

وتختم السورة عند هذه المناسبة بالأمر الى الرسول (ص) ، أن يدعو الى سبيل ربّه ، بالحكمة والموعظة

١٣

الحسنة. وأن يجادلهم بالتي هي أحسن. وأن يلتزم قاعدة العدل ، في ردّ الاعتداء بمثله دون تجاوز ... والصبر والعفو خير ، والعاقبة بعد ذلك للمتّقين المحسنين ، لأن الله معهم ينصرهم ويرعاهم ، ويهديهم طريق الخير والفلاح.

وفي أسباب نزول القرآن ، أنّ الآيات الأخيرة من سورة النحل ، نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، حين استشهد في غزوة أحد ، وفي هذه الغزوة مثّل المشركون بالمسلمين ، فبقروا بطونهم ، وقطعوا مذاكيرهم ، وما تركوا أحدا غير ممثّل به ، سوى حنظلة بن الراهب ، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك ، ثمّ وقف رسول الله (ص) على جثّة حمزة ، وقد مثّل به ، فرآه مبقور البطن فقال : «أما والذي أحلف به ، إن أظفرني الله بهم ، لأمثّلن بسبعين مكانك» فنزل قوله تعالى :

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦).

ولما نزلت هذه الآية ، كفّر النبي (ص) عن يمينه ، وكفّ عما أراده ، ومن هذا ذهبوا الى أن خواتيم سورة النحل مدنية ، ولا خلاف في تحريم المثلة ، وقد وردت الأخبار بالنهي عنها ، حتى بالكلب العقور.

١٤

البحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «النحل» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة النحل بعد سورة الكهف ، وهي من السور التي نزلت بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة النحل في ذلك التاريخ أيضا ، وقيل إنها من السور المدنية.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٦٨). وتبلغ آياتها ثماني وعشرين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إنذار المشركين بالعذاب ، وإبطال شركهم ، وردّ شبههم على القرآن والنبوة والبعث ، وهي أمور متشابكة متلازمة وقد افتتحت بآيتين ، أجملت فيهما تلك الأغراض ، وقصد بهما التمهيد لتفصيل الكلام فيها ، ثم ختمت بذكر نعمة الله على أولئك المشركين ، بسكنى حرمه ، وأنهم كفروا بنعمته بهذا عليهم ، فجوزوا بذلك العذاب الذي حقّ عليهم.

وقد جعلت بعد سورة الحجر ، لأنه أمره ، في آخرها ، أن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين. وقد افتتحت هذه السورة بأن ما وعدوا به قد أتى وقته وحان حينه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٥

إبطال الشرك

الآيات [١ ـ ٢٣]

قال الله تعالى (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) فافتتحها بآيتين أجمل فيهما أغراضها ، فأنذرهم فيهما بأنه أتى أمره بعذابهم ، ونزّه ذاته عن شركائهم ؛ وذكر أنه ينزّل الملائكة بالوحي على من يشاء من عباده ، لينذروا الناس بتوحيده ويأمروهم بتقواه.

ثم شرع في إبطال الشرك وإثبات التوحيد ، فذكر سبحانه ، أنه خلق السماوات والأرض بالحق ، وأنه خلق الإنسان من نطفة. وأنه خلق الأنعام فيها دفء ومنافع لنا ، وأنه خلق الخيل والبغال والحمير لنركبها ونتّخذها زينة ؛ وأنه يخلق غير هذا ، مما لا يدخل في علمنا ؛ وأنّه يبين بهذا قصد السبيل إليه ، ومنها جائر ينحرف عنه ؛ ولو شاء سبحانه لهداهم أجمعين. ثم ذكر أنه سبحانه هو الذي أنزل من السماء ماء ، منه شراب ومنه شجر ، وأنه جلّ شأنه ، ينبت الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ، ومن كل الثمرات ؛ وأنه تعالى ، سخّر الليل والنهار والشمس والقمر ، والنجوم مسخرات بأمره ، وأنه سخّر البحر لنأكل منه لحما طريا ، ونستخرج منه حلية نلبسها ، وأنه ألقى في الأرض رواسي : جبالا ، وأنهارا وسبلا لنهتدي بها ؛ وأنه جعل علامات في هذه السبل ، لنهتدي بها فيها ، كما نهتدي بالنجم أيضا.

ثم ذكر ، أنه لا يصح أن يكون من يخلق هذا كله ، كمن لا يخلق ، من أصنامهم التي يتخذونها شركاء له ؛ وأنهم إن يعدّوا نعمته ممّا سبق وغيره لا يحصوها ؛ وأنه سبحانه يعلم سرّهم وعلانيتهم ، وأنّ الذين يدعونهم من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، وهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيّان يبعثون ، ثم ذكر أنّه يجب بعد هذا كله أن يكون إلههم واحدا ، وأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة هم الذين لا يؤمنون به ، لأن قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) (٢٣).

رد شبهة لهم على القرآن

الآيات [٢٤ ـ ٣٤]

ثم قال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٢٤) فذكر أنهم إذا سئلوا عن القرآن ، قالوا إنه

١٦

أساطير الأولين ، وأجاب عنه بتهديدهم ، بأنهم يحملون به أوزارهم ، وبعض أوزار الذين يضلّونهم بغير علم ، ثم ذكر أنّ المكذّبين من الأولين ، قد مكروا بمثل ما يمكرون به في القرآن ، فأبطل مكرهم وأهلكهم ، ثم يوم القيامة يخزيهم ويسألهم أين شركاؤهم الذين كانوا يخاصمون بالطعن في القرآن من أجلهم؟ فيجيب الذين أوتوا العلم من الملائكة ، أو المؤمنين ، بأنّ الخزي اليوم والسوء عليهم ، فلا يمكنهم أن يجيبوا من خزيهم ، ثم ذمّهم بأنهم يموتون ظالمي أنفسهم بشركهم ، فلا يجدون إلا أن يلقوا السّلم ، وينكروا ما عملوا من سوء ، فيرد عليهم بأنه عليم بما كانوا يعملون ، ويأمرهم أن يدخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها ، وبئس مثواها لهم.

ثم ذكر أن المؤمنين ، إذا سئلوا عن القرآن ، أجابوا بأنه خير للناس ، وأنه سيجازيهم على هذه الحسنة بمثلها في الدنيا ، وبخير منها في الاخرة ، فيدخلون جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار ، لهم فيها ما يشاءون ممّا تشتهيه أنفسهم. وكذلك يجزي الله المتّقين هذا الجزاء الحسن ، ثم مدحهم بأنّ الملائكة يتوفّونهم طيّبين ، فيتلقّونهم بالسلام ، ويأمرونهم بدخول الجنة ، جزاء لهم بما كانوا يعملون.

ثم هدّد المكذّبين بأنهم لا ينتظرون بتكذيبهم ، إلّا أن تأتيهم الملائكة ، أو يأتيهم أمره بهلاكهم. كما أهلك من فعل من الأولين مثل فعلهم ، وما ظلمهم بهذا ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٤).

عود الى إبطال شركهم

الآيات [٣٥ ـ ٣٧]

ثم قال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٣٥) فذكر أنهم استدلوا على شركهم ، بأنه وقع بإرادته ومشيئته ، وهو لا يشاء إلّا ما يرضاه ؛ وردّ عليهم بأن المشركين قبلهم فعلوا مثل فعلهم ، فلم يمنع ما نزل من عذابه لهم ، وليس على الرسل إلّا ان يبلغوا من أرسلوا إليهم ، فإذا بلغوهم زال بهذا عذرهم ؛ ثم ذكر أن

١٧

كل الرسل ، بعثوا بإبطال الشرك ، فمن أقوامهم من هداه إلى الإيمان به ، ومنهم من حقت عليه الضلالة فساءت عاقبتهم ؛ ثم ذكر للنبي (ص) أن شأن قومه في هذا ، مثلهم (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٧).

رد شبهة لهم على البعث

الآيات [٣٨ ـ ٤٢]

ثم قال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٨) فذكر إنكارهم للبعث ، وأجاب عنه بأنه لا بدّ منه ، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ، لأنه يبيّن لهم به ما يختلفون فيه ، ويعلم به الكافرون أنهم كانوا كاذبين ، وهو إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، فلا يعجزه البعث ، كما لم يعجزه الخلق.

ثم ذكر أنه سيجازي المؤمنين ، في الدنيا حسنة ، وأن أجرهم بعد البعث أكبر ، لو كانوا يعلمون (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢).

رد شبهة لهم على النبوة

الآيات [٤٣ ـ ٥٠]

ثم قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤٣) فردّ على ما يزعمونه ، من أنّ الرسول لا يكون بشرا ، بأنّه لم يرسل سبحانه من قبله إلّا رجالا مثله ، وأمرهم أن يسألوا أهل العلم عن هذا ، إن كانوا لا يعلمون ؛ ثم هدّدهم على مكرهم بهذا ، أن يخسف بهم الأرض ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، الى غير هذا مما هدّدهم به ؛ ثم ذكر ما يثبت قدرته على هذا ، فحثّهم على النظر فيما خلق من شيء ، يتفيّئون ظلاله عن اليمين والشمائل سجّدا لله سبحانه ، وهم داخرون. وذكر جل جلاله ، أنه يسجد له ما في السماوات وما في الأرض ، من دابّة والملائكة وهم لا يستكبرون : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠).

عود الى إبطال أنواع من الشرك

الآيات [٥١ ـ ١٠٠]

ثم قال تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ

١٨

فَارْهَبُونِ) (٥١) فأبطل مذهب الثنوية ، الذين يقولون بإله الخير وإله الشر ، لأن له سبحانه ، ما في السماوات والأرض من خير وشر ، ونعمة وضر ؛ ثم بيّن لهم أنهم إن كفروا بما آتاهم من النعم ، وتمتّعوا ، فسوف يعلمون عاقبة ذلك ؛ وقد ورد الكلام بصيغة الأمر التهديدي. ثم ذكر أنهم يجعلون لأصنامهم نصيبا ممّا رزقهم من زروعهم وأنعامهم ، وهي جماد لا تحسّ نذرهم ، وأنهم يجعلون له سبحانه البنات من الملائكة ، ولأنفسهم ما يشتهون من البنين ؛ ثم ذكر أنّ من كرههم للبنات أنهم إذا بشّر أحدهم بالأنثى ، ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم ، يتوارى من قومه من سوء ما بشّر به ، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ، ليتخلص من عاره بينهم ؛ ثمّ عجب من سوء حكمهم بهذا ، وحكم بأن لهم صفة السوء وهي الاحتياج الى الولد ، وله الصفة العليا وهي عدم الاحتياج إليه ؛ وذكر أنه لو يؤاخذهم بهذا الكفر ما ترك على الأرض من دابّة ، ولكنه يؤخّرهم الى أجل مسمّى ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ؛ ثم ذكر ثانيا أنهم يجعلون له البنات ولأنفسهم البنين ، ليوجب أن لهم النار ، وأنهم مفرطون.

ثم أقسم بنفسه أنه أرسل إلى أمم من قبله ، فزيّن لهم الشيطان شركهم ، فهو يزيّنه لهؤلاء المشركين ، كما زيّنه لتلك الأمم ؛ ثم ذكر أنه لم ينزل عليه القرآن إلا ليبيّن لهم ما وقعوا فيه من الشرك ، وليكون هدى ورحمة لمن يؤمن به.

ثم ذكر ، مما يدل على وحدانيته جلّ جلاله ، أنه أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأنه جعل لنا في الأنعام عبرة ، يسقينا مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا ؛ وأنه سبحانه ، جعلنا نتخذ من ثمرات النخيل والأعناب سكرا ورزقا حسنا ، وأنه أوحى الى النحل أن تتخذ من الجبال وغيرها بيوتا ، وأن تأكل من الثمرات كلّها ، ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ، فيه شفاء للناس ؛ إلى غير هذا ممّا ذكر من الأدلّة على وحدانيته.

ثم ذكر سبحانه أنهم مع هذا يعبدون من دونه ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض ؛ ونهاهم أن يضربوا له الأمثال ، بقولهم إنهم خدّامه وأقرب الخلق إليه ، فهم يتخذونهم

١٩

وسيلة له ، لأنه أجلّ من أن يتوجهوا إليه بأنفسهم ؛ وهم في هذا ، كأصاغر الناس يخدمون حاشية الملك ، وحاشيته هي التي تخدمه ؛ فهذه كلّها أمثال باطلة ، والله يعلم الأمثال الصحيحة ، وهم لا يعلمون.

ثم ضرب لهم من أمثاله الصحيحة ، مثلين له ولشركائهم : أحدهما مثل عبد مملوك ، لا يقدر على شيء ورجل رزق رزقا حسنا ، ينفق منه سرّا وجهرا ، فلا يصحّ أن يكون أحدهما مساويا للآخر. وثانيهما مثل رجلين ، أحدهما أبكم لا يقدر على شيء ، وهو ثقيل على مولاه أينما يوجّهه لا يأت بخير ، وثانيهما يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، فلا يصحّ أيضا أن يكون أحدهما مساويا للآخر.

ثم ذكر ، من صفات كماله ، تأكيدا لمضمون هذين المثلين ، أنّ له غيب السماوات والأرض ، وأنّ أمر الساعة عنده كلمح البصر ، أو هو أقرب ، وأنه يخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، ويجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة ، الى غير هذا من نعمه علينا ؛ ثم ذكر أنهم إن أعرضوا بعد هذا ، فليس على النبي (ص) إلا أن يبلّغهم ؛ وذمّهم بأنهم يعرفون نعمته ، ثم ينكرونها ، وأكثرهم الكافرون.

ثم شرع في بيان حالهم وحال شركائهم في يوم بعثهم ، ليذكر تكذيبهم لهم فيما يزعمونه من ألوهيتهم ؛ فذكر أنّه سبحانه ، يبعث يوم القيامة مع كل أمة شهيدا منها ، وهو رسولها. ثم لا يؤذن لمن كفر منها في كلام ولا استعتاب ، وإذا رأوا عذابهم سيقوا إليه من غير إمهال ، وإذا رأوا شركاءهم قالوا لربهم : (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) [الآية ٨٦] فيكذبونهم ، فيما ينسبونه إليهم من الألوهية ، وهناك يستسلمون لما يحكم به عليهم ، ولا يجدون أحدا من شركائهم يشفع لهم ؛ ثم ذكر أن من كان منهم ، يضمّ الى كفره صدّ غيره عن الإيمان ، يزيده عذابا فوق عذاب كفره ؛ ثم ذكر ثانيا ، أنه يبعث من كل أمّة شهيدا عليهم منهم ، ليذكر أنه يجيء بالنبي (ص) شهيدا على أمته ، وقد قطع عليهم عذرهم ، بتنزيله القرآن تبيانا لكلّ شيء ، وهدى ورحمة وبشرى ، لمن يؤمن به.

ولما ضرب في المثل الثاني من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، فصّل

٢٠