الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٥

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١١

رحمة الله لعبده زكريّا ، وهو يناجي ربه نجاء خفيا.

فتصوّر أحاسيس ذلك الشيخ الهرم ورغبته في الذّرّيّة والولد ودعاءه لله خفية ، بعيدا عن زوجته وعن الناس.

ثم ترسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضيّ. فالله ينادي عبده من الملأ الأعلى (يا زَكَرِيَّا) ، ويعجّل له البشرى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ).

ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشّره به (اسْمُهُ يَحْيى) [الآية ٧]. وهو اسم فذّ غير مسبوق : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧).

وكأنما أفاق زكريّا ، من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء ، فإذا هو يواجه الواقع : إنه رجل شيخ ، بلغ من الكبر عتيّا ، ووهن عظمه واشتعل شيبه ، وامرأته عاقر لم تلد في فتوّته وصباه : فكيف سيكون له غلام؟

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨).

ثم يأتيه الجواب عن سؤاله : بأنّ هذا أمر هيّن يسير أمام قدرة الله ، فهو سبحانه الخالق الفعّال لما يريد. وهو سبحانه الذي جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل. وهو قادر على إصلاح العاقر ، وإزالة سبب العقم ، وتجديد قوّة الإخصاب في الرجل ، وهو على كلّ شيء قدير.

وتمّت ولادة يحيى ، وكبر وترعرع ، وأحكم الله عقله ، وهيّأه لرعاية ميراث أبيه في حزم وعزم ؛ ولم يكن هذا الميراث مالا أو عقارا ، وإنما كان رسالة الهدى ، ودعوة الإيمان ؛ وناداه الله سبحانه :

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [الآية ١٢].

والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى (ع) ، وعليه كان يقوم أنبياؤهم ، يعملون به ويحكمون. وقد نودي يحيى (ع) ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم. لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة.

وقد زود الله يحيى بالحكمة في صباه ، ووهبه الحنان والعطف لتأليف القلوب واجتذابها إلى الخير ، وآتاه الطهارة والتقوى فكان موصولا بالله ،

١٨١

عابدا له ، مجاهدا في سبيله ، يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ولا يخشى في الله لومة لائم.

حكمة خلق عيسى (ع)

انتقلت السورة من قصّة ميلاد يحيى (ع) إلى قصّة ميلاد عيسى (ع) وقد تدرّج السياق من القصة الأولى ، ووجه العجب فيها ولادة العاقر من بعلها الشيخ ، إلى الثانية ، ووجه العجب فيها ولادة العذراء من غير بعل ، وهي أعجب وأغرب.

وإذا نحن تجاوزنا حادث خلق الإنسان أصلا ، وإنشائه على هذه الصورة ؛ فإن حادث ولادة عيسى بن مريم يكون أعجب ما شهدته البشرية في تاريخها كله ، ويكون حادثا فذّا لا نظير له من قبله ولا من بعده.

والبشرية لم تشهد خلق نفسها. وهو الحادث العجيب الضخم في تاريخها. إنها لم تشهد خلق الإنسان الأول من غير أب ولا أم. وقد مضت القرون بعد ذلك الحادث ، فشاءت الحكمة الإلهية أن تبرز العجيبة الثانية ، في مولد عيسى من غير أب ، على غير السّنّة التي جرت منذ وجد الإنسان على هذه الأرض ، ليشهدها البشر ، ثمّ تظلّ في سجل الحياة الإنسانية بارزة فذّة ، تتلفّت إليها الأجيال ، إن عزّ عليها أن تتلفّت إلى العجيبة الأولى ، التي لم يشهدها إنسان!

لقد جرت سنّة الله في امتداد الحياة ، بالتناسل من ذكر وأنثى في جميع الفصائل بلا استثناء.

حتى المخلوقات التي لا ذكر منها وأنثى ، تتجمّع في الفرد الواحد منها خلايا التذكير والتأنيث. جرت هذه السّنّة أحقابا طويلة حتى استقرّ في تصوّر البشر أن هذه هي الطريقة الوحيدة ، ونسوا الحادث الأوّل. حادث وجود الإنسان ، لأنه خارج عن القياس. فأراد الله سبحانه أن يضرب لهم مثل عيسى بن مريم (ع) ليذكّرهم بحرّيّة القدرة وطلاقة الإرادة ، وأنها لا تحتبس داخل النواميس التي تختارها ؛ ولم يتكرر حادث عيسى (ع) ، لأن الأصل هو أن تجري السنة التي وضعها الله ، وأن ينفذ الناموس الذي اختاره. وهذه الحادثة الواحدة تكفي لتبقى أمام أنظار البشرية معلما بارزا على حرّيّة المشيئة ، وعدم احتباسها داخل حدود النواميس :

١٨٢

(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) [الآية ٢١].

ونظرا لغرابة الحادث وضخامته ، فقد عزّ على فرق من الناس أن تتصوّره على طبيعته ، وأن تدرك الحكمة في إبرازه. فجعلت تضفي على عيسى بن مريم (ع) ، صفات الألوهية ، وتعكس الحكمة من خلقه على هذا النحو العجيب ، وهي إثبات القدرة الإلهية المطلقة ، تعكسها فتشوّه عقيدة التوحيد. والقرآن في هذه السورة ، يقصّ كيف وقعت هذه العجيبة ويبرز دلالتها الحقيقية ، وينفي تلك الخرافات والأساطير.

قصة ميلاد عيسى (ع)

وهب الله مريم التقوى واليقين ، ورزقها من فضله بغير حساب. وفي يوم مّا اعتكفت مريم كعادتها. وتوارت من أهلها ، واحتجبت عن أنظارهم.

وبينما هي في خلوتها ، مطمئنّة إلى انفرادها ، ظهر أمامها رجل مكتمل سويّ الخلقة ، فانتفضت انتفاضة العذراء المذعورة يفجأها رجل في خلوتها ، فتلجأ إلى الله تستعيذ به ، وتستنجد ، وتستشير مشاعر التقوى في نفس الرجل ، والخوف من الله ، والتحرّج من رقابته في هذا المكان الخالي. ولكنّ الرجل السّويّ هدّأ من روعها ، وأعاد إليها طمأنينتها ، وأخبرها أنه ملاك أرسله الله إليها ، لحكمة إلهية ، وفضل ربّاني :

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١٩).

وتدرك مريم شجاعة الأنثى المهدّدة في عرضها! فتسأل في صراحة وحجّة :

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠).

فهي لم تخالط رجلا في نكاح ولا في سفاح. فأخبرها الملاك ، أنّ هذا الحمل سيكون بقدرة الله وحده ، وهو أمر هيّن أمام هذه القدرة التي تقول للشيء كن فيكون. وقد أراد الله سبحانه أن يجعل هذا الحادث آية للناس ، وعلامة على وجوده وقدرته وحرّيّة إرادته.

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١).

ثم مضى الملاك واختفى. وت الحمل بقدرة الله ، وجلست مريم حائر

١٨٣

تفكّر في أمر نفسها ، وتخيّلت ما سيقوله الناس عن عذراء تحمل وتلد من غير أن يكون لها بعل ؛ وفي حدّة الألم ومرارة الخوف نظرت إلى الطفل في حسرة واكتئاب ، وجعلت تتمنّى لو ضمّها القبر وفارقت العالم ، قبل أن تصير أمّا من غير أن تتزوّج ، فقالت كما ورد في التنزيل :

(يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣).

ولكنها ما لبثت أن سمعت صوت وليدها ، فبدّد مخاوفها ، وكفكف دموعها ، وناداها من تحتها كما روى القرآن ذلك ، حكاية عنه :

(أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤).

أي جدولا يجري ماؤه في تلك البقعة الجرداء ، والأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع ، أو تدفّق من مسيل ماء في الجبل. وهذه النخلة التي تستندين إليها هزّيها فتتساقط عليك رطبا. فهذا طعام وذاك شراب ، والطعام الحلو مناسب للنّفساء. والرّطب والتّمر من أجود طعام النّفساء :

(فَكُلِي وَاشْرَبِي) [الآية ٢٦] هنيئا (وَقَرِّي عَيْناً) [الآية ٢٦].

واطمأني قلبا ، لما ترين من قدرة الله التي اخضرّ بها جذع النخلة اليابسة. وطيبي نفسا بما حباك الله من جريان الماء في تلك البقعة المقفرة. واطمأنت مريم إلى فضل الله ، وأنّه لن يتركها وحدها ، أنّ حجّتها معها ، هذا الطفل الذي ينطق في المهد.

ورجعت مريم إلى قومها وعشيرتها تحمل ولدها على كتفها ، وسرعان ما شاع أمرها ، وعرف خبرها. وجاء أقاربها يؤنّبونها بألسنة التقريع والتأنيب ، ويلومونها على هذه الفعلة المنكرة ، ويذكّرونها بشرف أسرتها وكرم أصلها. والتزمت مريم الصمت ، وأشارت إليهم أن كلّموا هذا الوليد ، إن أردتم الوقوف على حقيقة الأمر :

(كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩)؟

كيف نكلم وليدا ، لم تكتمل أدوات نطقه. ولم تتحرّك شفته إلى ثدي أمّه؟

فانطلق الوليد يجيبهم في بيان وحجّة وبرهان :

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ

١٨٤

وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣).

وهكذا يعلن عيسى (ع) عبوديّته لله سبحانه. فليس هو ابنه كما تقول فرقة ، وليس هو إلها كما تقول فرقة ، وليس هو ثالث ثلاثة كما تقول فرقة ثالثة ؛ ويعلن أن الله جعله نبيّا لا ولدا ولا شريكا ، وأن الله أوصاه بالصلاة والزكاة مدّة حياته.

أسلوب القرآن

نحسّ في كلمات هذه السورة السهولة واليسر ، والرضا واللطف ، فهي كلمات معبّرة عن معانيها ؛ فمعاني السورة تدور حول فضل الله على زكريّا ومريم ، وغيرهما من الأصفياء.

ويتمثّل الرّضا والسلاسة واليسر في معاني السورة ، كما يتمثّل في ألفاظها وفواصلها ، وهي : رضيّا ، سريّا ، حفيّا ، نجيّا ...

فأمّا المواضع التي تقتضي الشدّة والعنف ، فتجيء فيها الفاصلة مشدّدة على حرف الدال في الغالب : مدّا ، ضدّا ، إدّا ، هدّا ، أو زايا : عزّا ، أزّا ، ركزا.

ويتنوّع الإيقاع والفاصلة بتنوّع الجو والموضوع في هذه السورة ، فهي تبدأ بقصّة زكريّا ويحيى ، فتسير الفاصلة والقافية هكذا :

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣) وتليها قصّة مريم وعيسى فتسير الفاصلة على النظام نفسه :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧).

إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى بن مريم ، وللفصل في قضية بنوّته ، فيختلف نظام الفواصل. تطول الفاصلة وتنتهي بحرف الميم أو النون المستقرّ الساكن ، وكأنّما الآيات تعبّر عن حكم بعد نهاية القصّة ، مستمدّ منها ؛ ولهجة الحكم تقتضي أسلوبا تعبيريّا غير أسلوب الاستعراض ، وتقتضي ايقاعا قويّا رصينا ، بدل إيقاع القصّة الرضيّ المسترسل ، فيقول سبحانه :

١٨٥

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٥).

حتى إذا انتهى التقرير والفصل وعاد السياق إلى القصص ، عاد الإيقاع الرّضي المديد :

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٤٢).

حتّى إذا جاء ذكر المكذّبين ، وما ينتظرهم من عذاب وانتقام ، تغيّر الإيقاع والجرس :

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥).

وفي موضع الاستنكار ، يشتدّ الجرس والنّغم بتشديد الدّال :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٩٠).

وهكذا يسير الإيقاع في السورة وفق المعنى والجو ، ويشارك في إبقاء الأسلوب الذي يتناسق مع المعنى في ثنايا السورة ، وفق انتقالات السياق من فكرة إلى فكرة ، ومن معنى إلى معنى.

المعالم الرئيسة في السورة

يمكننا أن نلمح ثلاث مجموعات رئيسة في سورة مريم :

المجموعة الأولى : تتضمّن قصّة زكريّا ويحيى ، وقصّة مريم وعيسى ، والتعقيب على هذه القصّة بالفصل في قضيّة عيسى التي كثر فيها الجدل ، واختلفت فيها أحزاب اليهود والنصارى.

المجموعة الثانية : تتضمّن حلقة من قصّة إبراهيم مع أبيه وقومه ، واعتزاله لملّة الشّرك ، وما عوّضه الله من ذرية نسلت بعد ذلك أمّة. ثمّ أشارت إلى قصص النبيّين ، ومن اهتدى بهم ومن خلفهم من الغواة ، ومصير هؤلاء وهؤلاء ؛ وتنتهي بإعلان الربوبية الواحدة التي تعبد بلا شريك :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٦٥).

والمجموعة الثالثة والأخيرة : تبدأ بالجدل حول قضية البعث ، وتستعرض

١٨٦

بعض مشاهد القيامة ، وتعرض صورة من استنكار الكون كلّه لدعوى الشرك. وتنتهي بمشهد مؤثّر عميق ، من مصارع القرون :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) [الآية ٧٤].

أي أمة من الأمم الماضية ، بتكذيبهم الرسل.

(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨).

وقد جاء تفسير الطبري لهذه الآية الأخيرة من سورة مريم بما معناه :

يقول تعالى ذكره : وكثيرا أهلكنا يا محمّد ، قبل قومك من مشركي قريش (مِنْ قَرْنٍ) يعني من جماعة من الناس ، إذ سلكوا سبيل المعاصي والشرك :

(هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ).

يقول فهل تحس أنت منهم أحدا يا محمّد ، فتراه وتعاينه (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨).

يقول أو تسمع لهم صوتا ، بل بادوا وهلكوا وخلت منهم دورهم ، وأوحشت منهم منازلهم ، وصاروا إلى دار لا ينفعهم فيها إلّا صالح من عمل قدّموه ؛ فكذلك قومك هؤلاء صائرون إلى ما صار إليه أولئك ، إن لم يعاجلوا التوبة قبل الهلاك.

وهكذا تنتهي سورة مريم ، بعد تقرير قدرة الله الفائقة ، وحكمته البالغة في خلق يحيى وخلق عيسى (ع) ، وتقرير قدرته سبحانه على البعث والحشر والحساب والجزاء ، ومكافأة المؤمنين ومعاقبة المعتدين.

١٨٧
١٨٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «مريم» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة مريم بعد سورة فاطر. ونزلت سورة فاطر بعد تسع عشرة سورة من سورة النجم ، وسيأتي أنّ سورة النجم نزلت عقب الهجرة الأولى للحبشة ، وقد كانت الهجرة إلى الحبشة في السنة السابعة من البعثة ، فتكون سورة مريم من السور التي نزلت بين هذه الهجرة وحادثة الإسراء.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لذكر قصة مريم فيها ، وتبلغ آياتها ثماني وتسعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة ، ذكر نتف من قصص بعض الرسل للعظة والقدوة ، تتميما لما ورد من ذلك القصص العجيب في سورة الكهف ، وتقريرا لما ورد في ختامها من أن كلمات الله في ذلك لا نفاد لها ، ولهذا ذكرت سورة مريم بعد سورة الكهف.

وقد ذيّلت قصص أولئك الرسل ببيان انحراف أتباعهم عن سنّتهم ، وما يستحقون من الجزاء على انحرافهم.

نتف من قصص بعض الرسل

الآيات [١ ـ ٥٨]

قال الله تعالى : (كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢) فذكر ست قصص من قصص الرسل :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٨٩

الأولى قصّة زكريّا وابنه يحيى ، وقد سبق ورودها في سورة آل عمران ، وهي تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها وما فيها من زيادة ونقص ، وقد ختمت بقوله تعالى في يحيى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥).

والثانية قصّة مريم وابنها عيسى ، وقد سبقت أيضا في سورة آل عمران ، وهي تخالف ما سبق منها في أسلوبها وسياقها ، وما فيها من زيادة ونقص ؛ وقد ذكر سبحانه أن ما قصّه فيها من أنّ عيسى عبده لا ابنه ، هو الحقّ ؛ وأمرهم تعالى أن يعبدوه وحده ولا يتّخذوا له شريكا من ولد أو غيره ، ثم أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به ، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠).

والثالثة قصة إبراهيم مع أبيه ، وقد سبقت في سورة الأنعام ، وهي تخالف ما سبق من جهة أسلوبها وسياقها وما فيها من زيادة ونقص ، وقد ذكر في آخرها أنه حين اعتزل قومه وما يعبدون من دونه وهب له سبحانه ، إسحاق ويعقوب ، وكلّا جعله نبيّا : (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠).

والرابعة قصّة موسى ، وقد ذكر فيها أنه كان مخلصا وكان رسولا نبيّا ، وأنه ناداه من جانب الطور الأيمن ، وقرّبه نجيّا : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣).

والخامسة قصّة إسماعيل ، وقد ذكر فيها أنه كان صادق الوعد ، وكان رسولا نبيّا (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٥٥).

والسادسة قصّة إدريس ، وقد ذكر فيها أنه كان صديقا نبيّا ، وأنّه رفعه مكانا عليّا.

ثم أثنى عليهم عموما ، بعد أن أثنى على كل واحد بخصوصه ، فقال جلّ وعلا (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨).

انحراف خلفهم عن سننهم

الآيات [٥٩ ـ ٩٨]

ثم قال تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ

١٩٠

أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (٥٩) فذكر سبحانه ، أنّه خلف من بعد هؤلاء الرسل خلف انحرفوا عن سننهم فأضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات ، وأنّهم سوف يلقون جزاء غيهم ، واستثنى من ثاب منهم وآمن بالنبي (ص) ووعدهم بأنهم يدخلون الجنة إلخ ؛ ثم ذكر جلّ جلاله أنهم لا يتنزّلون فيها إلّا بأمره ، لأنه مالك كلّ شيء ممّا بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك ، وما كان لينسى إحسان المحسن وإساءة المسيء فلا يجازيهما عليهما ؛ ثم ذكر بمناسبة هذا إنكارهم للمعاد الذي يكون فيه الثواب والعقاب ، لاستبعادهم إحياء الإنسان بعد موته. وأجابهم بأنه خلق الإنسان من قبل موته ولم يك شيئا ، فهو قادر على إعادته بعد موته من باب أولى ؛ ثم أقسم ليحشرنّهم والشياطين ، وليحضرنّهم حول جهنّم باركين على ركبهم ؛ ولينزعنّ من بينهم من كان منهم أشدّ تمرّدا ، ليذيقه عذابا أعظم من غيره ، وهو أعلم بمن هو أولى بذلك من غيره ، ولا بدّ من ورودهم لها جميعا على تفاوت عذابهم فيها (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢). ثم ذكر السبب في عدم إيمانهم بذلك ، وهو اغترارهم بدنياهم ، فذكر سبحانه أنهم إذا تتلى عليهم آياته في ذلك واضحات ، ذكروا أنهم أحسن حالا من المؤمنين ، ولو كانوا على الباطل لكانوا أسوأ حالا منهم ؛ ورد عليهم بأنه كم أهلك من قبلهم من قوم كانوا أحسن حالا منهم ، وبأنه إنّما ينعم عليهم بذلك ليمدّ لهم في الضلالة ويقطع عنهم العذر ، حتى إذا رأوا ما يوعدون في الدنيا أو الاخرة علموا أنهم شرّ مكانا وأضعف جندا (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (٧٦).

ثم خصّ شخصا منهم بلغ به الغرور مبلغه حتى قال استهزاء : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٧٧) في المعاد كما أوتيت ذلك في الدنيا ، وردّ عليه بأنه لم يطّلع على الغيب ، ولم يتّخذ عنده بذلك عهدا ؛ ثم أوعده بأنه سيكتب ما قاله ويرث ماله وولده ، حتى يأتيه يوم القيامة فردا.

ثم ذكر أنهم يعتمدون في ذلك على أنّ آلهتهم ستشفع لهم يوم القيامة ، وردّ عليهم بأنهم سيكافرون فيه بعبادتهم

١٩١

ويكونون عليهم ضدّا ؛ ثم ذكر أن الشياطين استولت عليهم ، فلا فائدة في نصحهم ، ونهى النبي (ص) أن يعجّل عليهم العذاب ، لأنه يعدّه لهم عدّا ؛ ثم ذكر أنه إذا أتى وقته يحشر المتّقين وفدا ، ويسوق المجرمين إلى جهنّم ، كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء ، ولا يكون هناك شفاعة إلّا للمؤمنين الذين اتّخذوا عند الرحمن بذلك عهدا.

ثمّ ذكر أنّ فريقا يزعمون أنّ الملائكة بنات الله ، فيعبدها ويزعمون أنها تشفع لهم يوم القيامة ؛ وردّ عليهم بأنهم قد جاءوا بهذا شيئا إدّا ، وبأنه ما ينبغي له سبحانه أن يتّخذ ولدا ؛ ثم ذكر أن كل من في السماوات والأرض يأتيه يوم القيامة عبدا ؛ وأن كل واحد منهم يأتيه فردا ، لا شفيع له من الملائكة ، وغيرهم.

ثم ختمت السورة بإثبات الشفاعة للمؤمنين بعد أن نفيت عن غيرهم ، فذكر سبحانه أنه سيجعل لهم يوم القيامة ودّا يشفع به بعضهم لبعض ، ولا يقطع ما بينهم من تواصل كما قطع بين الكفّار ومن اتّخذوه من شريك وولد ؛ ثم ذكر سبحانه أنه إنما يسّر القرآن بلسان الرسول (ص) ، لأجل هذا التبشير والإنذار فقال جلّ وعلا : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨).

١٩٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «مريم» (١)

أقول : ظهر لي في وجه مناسبتها لما قبلها : أنّ سورة الكهف اشتملت على عدة أعاجيب : قصّة أصحاب الكهف ، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة بلا أكل ولا شرب ، وقصة موسى مع الخضر عليهما‌السلام ، وما فيها من الخارقات ، وقصّة ذي القرنين. وهذه السورة فيها أعجوبتان : قصّة ولادة يحيى بن زكريّا (ع) (٢) ، وقصّة ولادة عيسى (ع) ، فناسب تتاليهما. وأيضا قيل : إن أصحاب الكهف يبعثون قبل قيام الساعة ، ويحجّون مع عيسى بن مريم حين ينزل (٣). ففي ذكر سورة مريم بعد سورة أصحاب الكهف مع ذلك ، إن ثبت ، ما لا يخفى من المناسبة. وقد قيل أيضا : إنهم من قوم عيسى ، وإنّ قصتهم كانت في الفترة ، فناسب توالي قصتهم وقصة نبيّهم (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). ولادة يحيى كانت عجيبة ، لأنّ أمه كانت قد بلغت سنّ اليأس ، وأباه بلغ من الكبر عتيّا ، فليس لمثلهما أن ينجب أبدا.

(٣). لم نعثر على هذا الرأي فيما بين أيدينا من مصادر.

(٤). قال ابن كثير : الظاهر أنهم كانوا قبل ملّة النصرانية ، لأن اليهود أشاروا على قريش بسؤال النبي (ص) عنهم. (تفسير ابن كثير : ٥ : ١٣٧).

١٩٣
١٩٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «مريم» (١)

١ ـ (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) [الآية ١٧].

قال قتادة ، وعطاء ، والضّحّاك : جبريل ؛ أخرجه ابن أبي حاتم (٢).

٢ ـ (فَناداها مِنْ تَحْتِها) [الآية ٢٤].

قال البراء : ملك.

وقال ابن عبّاس وسعيد بن جبير ، والضّحّاك : جبريل ، وقال مجاهد والحسن : عيسى (٣).

أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

٣ ـ (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧). المكان العليّ ، هو السماء الرابعة ، كما في «الصحيح» (٤) ٤ ـ (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) [الآية ٦٦].

هو : أبيّ بن خلف (٥).

وقيل : الوليد بن المغيرة.

وقيل : أميّة بن خلف.

٥ ـ (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) (٧٧).

نزلت في العاصي بن وائل السّهمي ؛ كما أخرجه البخاري عن خبّاب بن الأرتّ (٦).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). انظر «تفسير الطبري» ١٦ : ٤٩.

(٣). هذا القول اختاره ابن زيد ، كما في «تفسير ابن كثير» ٣ : ١٧٧ ، والطبري أيضا في «تفسيره» ١٦ : ٥٢.

(٤). «صحيح البخاري» في بدء الخلق برقم (٣٢٠٧).

(٥). حكاه الواحدي في «أسباب النزول» ٢٢٧ ، عن الكلبي ؛ وانظر «سيرة ابن هشام» ١ : ٣٦١.

(٦). برقم (٤٧٣٢) في التفسير.

١٩٥
١٩٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «مريم» (١)

قال تعالى : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨).

قوله تعالى (عِتِيًّا) (٨) أي : اليبس والجساوة في المفاصل والعظام ، كالعود القاحل يقال : عتا العود وعسا من أجل الكبر والطّعن في السن العالية.

والفعل «عتا يعتو» مصدره عتوّ وعتيّ بمعنى استكبر وجاوز الحدّ وقرئ «عتيّا» بضم العين.

ومنه أيضا قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦٩).

أقول : وكأنّ بين اليبس والجساوة في المفاصل والعظام ، وبين الاستكبار وتجاوز الحد قرابة ؛ وبشيء من اللطف ، يصار من هذه الى تلك.

٢ ـ وقال تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩).

قوله تعالى (ولم تك) حذف النون للتخفيف ، وذلك إذا وليها حرف ذو حركة ، فإن كان ساكنا امتنع الحذف ؛ وقد ورد في الشعر ضرورة ، ومنه قول الشاعر :

إذا لم تك المرآة أبدت محاسنا

فقد أبدت المرأة جبهة ضيغم

ومثل الآية قوله تعالى أيضا :

(وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠).

٣ ـ وقال تعالى : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) [الآية ٢٣].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي ، مؤسسة الرسالة العربية ، بيروت ، غير مؤرخ.

١٩٧

وقوله تعالى : (فَأَجاءَهَا) فعل مزيد بالهمزة ، والثلاثي «جاء» إلّا أنّ استعمال المزيد قد تغيّر بعد الزيادة إلى معنى الإلجاء ، تقول : جئت المكان ، وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه.

ونظيره «آتي» ، حيث لم يستعمل إلّا في الإعطاء. ولم تقل : أتيت المكان وآتانيه فلان.

أقول : وليس لنا في العربية المعاصرة الفعل المزيد «أجاء».

٤ ـ وقال تعالى : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣).

وقرئ «نسيا» بكسر النون وفتحها ، فمن قرأ بالكسر فمعناه : حيضة ملقاة ، أي ، خرقة الحيض ، ومن قرأ بالفتح فمعناه شيئا منسيا.

والنّسي أيضا : ما نسي وما سقط في منازل المرتحلين من رذال أمتعتهم. وتقول العرب إذا ارتحلوا من المنزل : انظروا أنساءكم ، جمع نسي ؛ وفي حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ «وددت أني كنت نسيا منسيا» أي شيئا حقيرا مطّرحا ولا يلتفت إليه.

وقال تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤).

السّريّ : النهر ، عن ثعلب ، وهو الجدول الصغير يجري إلى النخل ، والجمع أسرية وسريان.

وكذلك قال ابن عبّاس ، وهو قول أهل اللغة.

وروي عن الحسن ، أنّه كان يقول كان والله سريّا من الرجال ، ويعني عيسى (ع).

٦ ـ وقال تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) (٢٧).

قال الفرّاء : الفريّ الأمر العظيم ، أي : جئت شيئا عظيما.

وقيل : جئت شيئا فريّا ، أي مصنوعا مختلقا.

وفلان يفري الفريّ ، إذا كان يأتي بالعجب في عمله.

وقال النبي (ص) في عمر ، رضي الله عنه ، ورآه في منامه ينزع عن قليب (١) بغرب (٢) : فلم أر عبقريّا يفري فريّه.

__________________

(١). القليب : البئر.

(٢). الغرب : الدّلو العظيمة.

١٩٨

وأقول : وهذا من الكلم الجميل الذي أضعناه ، وليس لنا منه شيء.

٧ ـ وقال تعالى : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٤٦).

قال الفرّاء : أي : طويلا.

والمليّ : الهويّ من الدهر ، يقال أقام مليا من الدّهر ، ومضى مليّ من النهار ، أي ساعة طويلة.

ومرّ مليّ من الليل ، أي من أوّله إلى ثلثه.

٨ ـ وقال تعالى : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧).

الحفيّ : البليغ في البرّ والإلطاف ، يقال حفي به وتحفّى به.

أقول : وليس لنا في هذا المعنى إلا الفعل «احتفى» يقال احتفى به ، أي برّ وتلطّف وكرم.

٩ ـ وقال تعالى : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨).

قوله تعالى : (وَبُكِيًّا) (٥٨) أي : باكين ، وهو جمع باك مثل قاعد وقعود ، وساجد وسجود.

وفي بعض القراآت «بكيّا» بكسر الباء ، وهي قراءة من آثر كسرة الكاف لمكان الياء بعدها ، وهذا كقوله تعالى :

(ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (٦٨).

وقوله جلّ وعلا : (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢).

وقوله تعالى : (جِثِيًّا) جمع جاث ، وكان يمكن أن تقرأ «جثيّا» بضم الجيم على قراءة من قرأ (بكيّا) ، وهي القراءة المشهورة ولكن (جِثِيًّا) بالكسر هي القراءة الغالبة.

١٠ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) (٧٠).

والمعنى ثمّ لنحن أعلم بتصلية هؤلاء ، وهم أولى بالصليّ من بين سائر الصالين.

والصّليّ : مصدر صلي. وصلي بالنار وصليها صليا وصليّا وصليّا وصلىّ وصلاء واصطلى بها وتصلّاها.

وقرئ : «صليّا».

١١ ـ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٧٤).

الأثاث : متاع البيت ، وما جدّ من الفرش ، وليس منه الخرثيّ (١).

__________________

(١). الخرثيّ : أردأ المتاع.

١٩٩

أقول : والأثاث مفرد بخلاف ما يرد جمعا في لغة المعاصرين.

إن مادة «أثاث» تشير إلى ما يقابلها في اللغات السامية ، وهي «ايث» كما في العبرانية ، «ايت» في الآرامية ، و «ايش» كما في العربية ، ومنه أيضا «ايس» ، وكلها تشير إلى «شيء» المعروفة في العربية.

و «ايث» تعني الشيء والوجود والكينونة ، ومن هنا كان من الحسن أن ننظر إلى «لات» التي قد تكون «لا أيت» أي لا شيء ، ثم ركّبت على طريقة النحت فصارت «لات» النافية.

وقد أشرنا في غير هذا المختصر إلى مادة «ليس» وإنها «لا أيس» في الأصل ، ضد الوجود وهو العدم.

ومن هنا كان «أيس» هو مادة «إنسان» كما في قولهم «إيسان» ثم إذا عرفنا أن «إيش» هو الرجل في العبرانية أدركنا القيم التاريخية لهذه الأصول العتيقة.

و (الرئي) : المنظر والهيئة ، وهو على وزن «فعل» بمعنى مفعول نظير «ذبح» ، أي مذبوح أو كما أشرنا إلى هذا البناء الثلاثي في غير هذا المكان.

١٢ ـ وقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (٨٣).

الأزّ والاستفزاز متقاربان ، والمعنى التهييج وشدّة الإزعاج.

أقول :

ليس شيئا من ذلك في اللغة المعاصرة ، بل إن الفعل «أزّ» يفيد ضربا من الصوت ، كأزيز القدر والمرجل ونحوهما.

١٣ ـ وقال تعالى : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٨٥).

أي : يوم نحشرهم وافدين ، والوفد في الآية الركبان المكرّمون.

وكما يكون «الوفد» اسم جمع للوافد ، فهو مصدر أيضا.

والوفد ، في لغتنا المعاصرة جماعة يوفدون إلى أمر من الأمور ، ولكثرة استعماله في الحياة المعاصرة جمع على «وفود».

١٤ ـ وقال تعالى : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) (٨٩).

الإدّ بالكسر والفتح : العجب ، وقيل : العظيم المنكر ، والإدّة : الشّدّة ، وأدّني الأمر وآدني : أثقلني وعظم عليّ.

٢٠٠