ما أجمله فيه ، فذكر أنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، فجمع في ذلك ما يتّصل بالتكليف فرضا ونفلا ، وما يتّصل بالأخلاق عموما وخصوصا. ثم ذكر ممّا جمعه في ذلك من المأمورات والمنهيات ، الأمر بالوفاء بعهد الله ، والنهي عن نقض الأيمان بعد توكيدها ؛ ونهاهم أن يتّخذوها على غشّ وخديعة ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، إذ كانوا يحالفون قوما ، ثم يجدون غيرهم أقوى منهم فينقضون حلفهم ، ويحالفون من وجدوهم أقوى منهم ؛ ثم ذكر أنه يختبرهم بهذا التكليف ، ولو شاء لجمعهم عليه بالإلجاء ، فجعلهم أمّة واحدة في الوفاء بعهده ، ولكنّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، ثم يسألهم جميعا عن عملهم. ثم أعاد النهي عن اتخاذهم أيمانهم دخلا بينهم ، ليوعدهم عليه بما أوعدهم به ؛ ونهاهم أن يشتروا بعهده ثمنا قليلا من عرض الدنيا ، لأنّ ما عنده هو خير لهم لبقائه ، وما عندهم ينفد ولا يبقى ؛ ثم بيّن ما عنده من الجزاء الحسن ، والحياة الطيبة ، لمن يستحقها من المؤمنين ، الذين يصبرون على الوفاء بالعهد ، وأنه يجزيهم أجرهم ، بأحسن ما كانوا يعملون.
ثم ذكر ، مما جمعه فيما سبق من المأمورات والمنهيات ، الأمر بالاستعاذة من الشيطان عند قراءة القرآن ، ليرشدهم الى ما تخلص به أعمالهم من وساوسه ، ويستحقون به الجزاء الذي وعدهم به ؛ ثم ذكر أنه لا سلطان للشيطان على المؤمنين الذي يتوكلون على ربهم (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠).
عود الى رد شبههم على القرآن
الآيات [١٠١ ـ ١١١]
ثم قال تعالى (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١). فذكر لهم شبهتين أخريين في القرآن : أولاهما أنهم كانوا إذا نسخ حكم آية بآية أخرى يقولون : «والله ما محمد إلّا يسخر بأصحابه. اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه ، فما هذا إلّا من عنده» وقد أجابهم سبحانه عنها بأنه أعلم بحكمة ذلك ، وما فيه من المصلحة للعباد ؛ وبأنه نزّل القرآن
ليثبّت المؤمنين بأخذهم بالأحكام على التدريج ، ويكون هدّى وبشرى لهم ؛ فلا يصحّ مع هذا ، أن يؤخذوا بالأحكام دفعة واحدة.
والشبهة الثانية ، أنهم كانوا يقولون إنه يتعلّم القرآن من بعض نصارى مكة ، من الأعاجم ، وقد أجابهم عنها بأن الذي يزعمون أنه يتعلّمه منه ، لسانه أعجمي ، والقرآن لسانه عربي في أعلى درجات البيان ؛ ثم ذكر أن الذين لا يؤمنون بالقرآن ، ويزعمون ذلك فيه ، لا يهديهم الى الإيمان به ، مع ظهور فضله ، وأنّ الذي يفتري الكذب عليه إنّما هو من لا يؤمن بآياته ، لا من يؤمن بها ، ثم ذكر ، ممّن يفتري الكذب عليه بالطعن في القرآن ، من كفر منهم بعد إيمانه ، واستثنى منه من أكره على الكفر ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، وأوعد من شرح بالكفر صدرا بعد إيمانه ، بأن عليهم غضبا منه ولهم عذاب أليم ، لأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الاخرة ، وأنّ الله لم يشأ هدايتهم بعد اختيار الكفر على الإيمان ، وطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، فهم في الاخرة هم الخاسرون ؛ أمّا الذين أكرهوا بالفتنة على الكفر ، فإن الله لهم ، وإنه من بعد فتنتهم لغفور رحيم : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١).
الخاتمة
الآيات [١١٢ ـ ١٢٨]
ثم قال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١١٢) ، فختم السورة ببيان سبب استحقاقهم ، ما أنذروا به من العذاب في أوّلها ، وهو أنّهم كانوا أصحاب قرية (١) آمنة مطمئنة ، يأتيها رزقا رغدا من كل مكان فكفروا بأنعم الله عليهم ، فأذاقهم لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ؛ وقد جاءهم أيضا رسول منهم فكذّبوه ، فأخذهم العذاب وهم ظالمون ؛ ثم أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم حلالا طيّبا ، ولا يحرّموا منه ما حرّموه في
__________________
(١). هذه القرية هي مكة.
شركهم ، وأن يشكروا نعمته عليهم بسكنى هذه القرية ، إن كانوا إيّاه يعبدون. ثم ذكر أنه لم يحرّم عليهم إلّا الميتة والدم ونحوهما من الخبائث ، ونهاهم أن يحلّلوا ويحرّموا من أنفسهم ؛ ثم ذكر أنه حرّم على اليهود ما قصّه عليه من قبل في سورة الأنعام ، وأنه لم يظلمهم بهذا ، ولكنّهم كانوا يظلمون أنفسهم بعملهم بخلاف علمهم ، ثم ذكر أن للذين عملوا السوء بجهالة من العرب الأميين ، ثم تابوا من بعد ذلك ، وأصلحوا ، مغفرة ؛ إنّ ربّك من بعدها ، لغفور رحيم.
ثم ذكر أن إبراهيم (ع) الذي أنشأ تلك القرية ، وأقام فيها الكعبة ، كان أمّة قانتا لله حنيفا ، ولم يكن من المشركين ؛ وأنّه كان شاكرا لأنعمه ، فاجتباه وهداه الى صراط مستقيم ، وآتاه في الدنيا حسنة ، وإنه في الاخرة لمن الصالحين ؛ ثم ذكر أنه أوحى الى النبي (ص) ، أن يتّبع ملّة إبراهيم حنيفا ، وما كان من المشركين ؛ وأنه ، إنّما جعل شريعة السبت على اليهود الذين اختلفوا فيها ، وأنه سيحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ؛ فلا يصح له أن يعمل بها ، لأنهم حرّفوها حتى خرجوا بها عن أصلها ، وهو ملّة إبراهيم.
ثم أمر النبي (ص) ، أن يدعو الى هذه الملّة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن يجادل المشركين فيها بالتي هي أحسن ، لأنّ الضلال والهدى بيده تعالى ، ثم أمره وأتباعه إذا خرج الأمر من الجدال الى القتال ، أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به ، فلا يبدءوهم بالقتال ولا يجاوزوا ما عوقبوا به ، منهم ؛ ثم رغّبهم في الصبر والعفو عنهم ، ونهى النبي (ص) أن يحزن لكفرهم أو يكون في ضيق ممّا يمكرون (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨).
المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «النحل» (١)
أقول : وجه وضعها بعد سورة الحجر : أنّ آخرها شديد الالتئام بأول هذه ، فإن قوله تعالى في آخر تلك : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٩٩) الذي هو مفسر بالموت ، ظاهر المناسبة لقوله تعالى هنا : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [الآية ١]. وانظر كيف جاء في المقدمة بيأتيك اليقين ، وفي المتأخرة بلفظ الماضي ، لأن المستقبل سابق على الماضي ، كما تقرر في المعقول والعربية (٢).
وظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم ، وإنما تأخّرت عنها لمناسبة سورة «الحجر» ، في كونها من ذوات (الر).
وذلك : أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت ، ومن هو ميت وغيره (٣) ، وذلك أيضا في هذه ، بقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [الآية ٢٨]. فذكر الفتنة ، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال ، وذكر هنا ما يحصل عقب ذلك من النعيم والعذاب (٤).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). مراد المؤلّف ان المضارع سابق على الماضي في الكلام والإخبار ، لا في الزمان. فقولك الآن : يقوم الناس لرب العالمين يوم القيامة ، سابق في الخبر. ولا يجوز أن يقال : قام الناس لرب العالمين يوم القيامة إلا بعد تمام ذلك البعث.
(٣). وذلك في قوله تعالى : (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧) ([إبراهيم].
(٤). وذلك في قوله تعالى عن العذاب : (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [الآية ٢٩]. وفي النعيم : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ([الآية ٣١].
ووقع في سورة إبراهيم : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦). وقيل : إنها في الجبّار الذي أراد أن يصعد السماء بالنسور (١). ووقع هنا أيضا في قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٢٦].
ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم ، وقال عقبها : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [الآية ٣٤]. ووقع هنا ذكر ذلك معقبا بمثل ذلك.
__________________
(١). يروى أنه جوّع نسرين ، وأوثق رجل كلّ منهما في تابوت ، وقعد هو وآخر في التابوت ، ورفع عصا عليها اللحم ، فطارا يتبعان اللحم حتى غابا في الجو (تفسير الطبري : ٣ : ١٦٠).
المبحث الرابع
مكنونات سورة «النحل» (١)
١ ـ (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ) [الآية ٧] قال ابن عباس : يعني مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم.
٢ ـ (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٢٦] قال ابن عباس : هو نمرود بن كنعان ، حين بنى الصّرح ، أخرجه ابن أبي حاتم (٢).
٣ ـ (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) [الآية ٤١].
قال قتادة : هؤلاء الذين لحقوا بأرض الحبشة. أخرجه ابن أبي حاتم. وقد سقت أسماء المهاجرين إلى الحبشة في كتاب «رفع شأن الحبشان».
٤ ـ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الآية ٧٦].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجلين ، والأبكم منهما ، الكلّ على مولاه :
أسيد بن أبي العيص ؛ والذي يأمر بالعدل : عثمان بن عفّان (٣).
٥ ـ (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها) [الآية ٩٢].
قال السّدّي : كانت امرأة بمكّة تسمّى خرقاء مكّة. أخرجه ابن أبي حاتم (٤).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). وابن جرير ١٤ : ٧٦.
(٣). واخرج ذلك ابن جرير ١٤ : ١٠١ أيضا.
(٤). والطبري ١٤ : ١١١.
وقال السّهيلي : اسمها ريطة بنت سعيد (١) بن زيد مناة بن تميم.
٦ ـ (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [الآية ١٠٣].
قال مجاهد : عنوا عبد بن الحضرمي. زاد قتادة : وكان يسمّى : يحنّس (٢).
وقال السّدّي : يقال له : أبو اليسر.
وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي : عنوا عبدين لنا ، أحدهما يقال له يسار ، والاخر : جبر.
وقال الضّحّاك : عنوا سلمان الفارسي (٣).
وقال ابن عباس : [عنوا] قينا بمكة اسمه بلعام (٤).
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
ويحنّس : ضبطه الحافظ ابن حجر في «الإصابة» بياء تحتية (٥) ، وحاء وسين مهملتين ، بينهما نون مشدّدة.
٧ ـ (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) [الآية ١٠٦].
قال ابن عباس : نزلت في عمّار بن ياسر. أخرجه ابن جرير (٦).
وقال ابن سيرين : نزلت في عياش بن أبي ربيعة. أخرجه أبن أبي حاتم.
٨ ـ (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [الآية ١١٠].
قال ابن إسحاق : نزلت في عمّار بن ياسر ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد (٧).
٩ ـ (قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) [الآية ١١٢].
قالت حفصة أمّ المؤمنين : هي المدينة ، وكذا قال ابن شهاب. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وقال ابن عباس : هي مكّة. أخرجه ابن جرير (٨).
__________________
(١). في «جمهرة أنساب العرب». لابن حزم : ٢١٥ : «سعد». وليس فيه اسم «ريطة». من ولده ؛ والمثبت موافق ل «الإتقان» ٢ : ١٤٧.
(٢). في «الإتقان» ٢ : ١٤٧ : «مقيس».
(٣). قال ابن كثير في «تفسيره» ٢ : ٥٨٦ : «وهذا القول ضعيف لأن هذه الآية مكية ، وسلمان إنما أسلم بالمدينة.
(٤). إسناده ضعيف ، كما في «الدر المنثور» ٤ : ١٣١.
(٥). مضمومة ؛ كما في «تاج العروس» : «حنس».
(٦). ١٤ : ١٢٢.
(٧). أخرجه الطبري في «تفسيره» ١٤ : ١٢٤.
(٨). ١٤ : ١٢٥. ومال ابن كثير في «تفسيره» ٢ : ٥٨٩ الى هذا القول.
المبحث الخامس
لغة التنزيل في سورة «النحل» (١)
١ ـ وقال تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [الآية ٧].
(بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) أكثر القرّاء على كسر الشين ومعناه : إلا بجهد الأنفس.
وقرأ أبو جعفر وجماعة : إلّا بشقّ الأنفس.
وكأن الشّق وهو المشقّة ، بكسر الشين ، اسم استحدث من المصدر ، وهو الشّقّ «بفتح الشين».
٢ ـ (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً) [الآية ١٣].
قوله تعالى : (وَما ذَرَأَ) أي : ما خلق لكم في الأرض ، من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك. أقول : بين المهموز والمضاعف والناقص المعتلّ ، وشائج في المعنى ، وهذا الفعل يذكّرنا بالمواد ذرّ وما يتأتّى من الذّرية ، والذراري وغير ذلك. كما يذكّرنا بالذّرى والذري ونحوه ، وما يراد بذلك من الزيادة والانتشار.
٣ ـ وقال تعالى : (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ) [الآية ١٤].
كنا قد بسطنا القول في الآية ٢٢ من سورة يونس ، وعرضنا لمسألة الالتفات من الخطاب الى الغيبة.
ونريد في هذه الآية أن نعرض لمسألة الفلك ، وأنها جمع بدلالة الصفة «مواخر» ولكننا نجد أن «الفلك» قد جاء دالّا على الإفراد في سورة الشعراء بدلالة الصفة أيضا :
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) (١١٩).
وجاء (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) في الآية : ٤١ من سورة يس ، كما جاء في الآية ١٤٠ من سورة الصافات.
وهذا نظير «السحاب» فهو تارة جمع بدلالة الصفة «الثقال» ، كما بيّنا في الآية ١٢ من سورة الرعد ، وهو أخرى مفرد بدلالة الصفة «مسخّر» ، كما في الآية : ١٦٤ من سورة البقرة.
وهذا كله شيء من خصائص لغة القرآن ، التي ترسم لنا صفحات من تاريخ هذه اللغة.
٤ ـ وقال تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [الآية ١٥].
والمعنى : كراهة أن تميد بكم وتضطرب.
وحذف المصدر المنصوب ، المبيّن للعلّة ضرب من الإيجاز البليغ ، وهو ظاهر في المعنى.
٥ ـ وقال تعالى : (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) [الآية ٢٧].
والمعنى : الذين كنتم تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم. وقرئ : تشاقّونّ ، بكسر النون ، بمعنى تشاقونني.
وكنت عرضت للاية : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ١٣].
وأشرت إلى أن فكّ الإدغام غير كثير ، والكثير في هذا المضاعف هو الإدغام ، إلا أن فكّه في الآية كان بسبب صوتي.
وفي هذه الآية التي نعرضها من سورة النّحل ، جاء الفعل بالإدغام ، وليس من ضرورة تستدعي فك الإدغام.
٦ ـ وقال تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٣٤).
أي : أحاط بهم العذاب ، الذي هو جزاء ما كانوا يستهزئون ، كما نقول : أحاط بفلان عمله وأهلكه.
والحيق : ما حاق بالإنسان من مكر أو سوء عمل يعمله ، فينزل ذلك به.
أقول : والحيق إحاطة مقيّدة بالمكر والسوء ، وليست مطلقة كما تقول في «أحاط» مثلا.
٧ ـ وقال تعالى : (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [الآية ٣٦].
جاء «الطاغوت» في ثماني آيات ، من سور مختلفة ، والمعنى واحد.
من غير شك أن «الطاغوت» من «الطغيان» وهو الشرّ ، والكفر ، وتجاوز الحدّ في البغي.
غير أن «الطاغوت» ، وإن تضمن هذه الدلالات فهو بناء خاص ، وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وإن قيل : طواغيت.
وهو نظير رغبوت ، ورحموت ، وجبروت ، ولاهوت ، وناسوت ، وملكوت ونحو هذا.
وهو مصدر من المصادر القديمة ، التي استقرينا منها جملة من طريق السّماع.
ولا أريد أن أقول إنها مقلوبة على فعلوت ، والأصل «طغيوت» كما ذهب أهل اللغة فليس ذلك بمهمّ.
وقالوا : الطاغوت الشيطان.
وعندي أن هذا البناء الغريب القديم ، يصح أن يتّخذ في وضع المصطلح الجديد ، وذلك أن أهل المصطلحات من الغربيين ، يلتمسون الأبنية الغريبة إذا ما جدّت لهم حاجة لمصطلح جديد ، ليكون الوزن الغريب مميزا له خاصا به.
٨ ـ وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٤٨).
وقرئ : أو لم يروا ، ويتفيّئوا بالياء والتاء.
والتفيّؤ : الظلّ بالعشي ، وتفيّؤ الظلال : رجوعها بعد انتصاف النهار ، وابتعاث الأشياء ظلالها.
أقول : عرفنا أن الفيء بالعشيّ ، والظلّ بالغداة. وقد امّحى الفرق في العربية المعاصرة.
وداخرون أي : متصاغرون منقادون ، على أنّ الدخور من صفات العقلاء.
٩ ـ وقال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [الآية ٦٦].
ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف من الأسماء المفردة الواردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكباش. وجبّة أسناد ، وثوب أفواف.
وقد تعجب أن يدرج سيبوبه «الأنعام» ، مع هذه الأسماء التي جاءت مفردة في استعمالهم ، وأنت تقرأ قوله تعالى :
(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥).
وإذا كان الضمير في قوله تعالى : (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، في الآية قد حملهم على جعل «الانعام» مفردة ، وإدراجها مع ثوب أكباش ، وجبّة أسناد وغيرها ، فما ذا يقولون في قوله تعالى :
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٢١) [المؤمنون]
١٠ ـ وقال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٨٤).
قوله تعالى : (يُسْتَعْتَبُونَ) أي : يسترضون ، أي : لا يقال لهم أرضوا ربّكم ، لأن الاخرة ليست بدار عمل.
١١ ـ وقال تعالى : (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٨٧).
الكلام على الذين كفروا ، أي : أنهم ألقوا الاستسلام لأمر الله وحكمه ، بعد الإباء والاستكبار في الدنيا.
وهذا من معاني «السلم» مقيّدا بهذه الآية ، وهو نظير «الإسلام» بمعنى الخضوع والانقياد والاستسلام.
١٢ ـ وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) [الآية ٩٢].
أي : ولا تكونوا في نقض الأيمان ، كالمرأة التي أنحت على غزلها ، بعد أن أحكمته وأبرمته ، فجعلته أنكاثا ، أي : ما ينكث فتله ، تتخذون الأيمان دخلا بينكم ، أي : مفسدة ودغلا.
أقول : والدّخل والدّغل سواء.
١٣ ـ وقال تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [الآية ١٠١].
أقول : واستعمال «مكان» في فعل التبديل ، ما زال معروفا حتى في العامّيّة الدارجة.
١٤ ـ وقال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) [الآية ١١٢].
أقول : وضرب الأمثال في القرآن على هذا النحو ، من تصوير حالة يعرض فيها جملة أمور ، ليتخذ منها العباد عبرة لهم.
ومن ذلك قوله تعالى :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) [إبراهيم : ٢٤].
(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) [الآية ٧٦].
وقوله تعالى في الآية ١١٢ : (بِأَنْعُمِ اللهِ) الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس.
١٥ ـ وقال تعالى :
(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) [الآية ١٢٠]. قوله تعالى : (كانَ أُمَّةً) فيه وجهان : أحدهما أنه كان وحده أمّة من الأمم ، لكماله في جميع صفات الخير.
والثاني : أن يكون أمّة بمعنى مأموم ، أي : يؤمّه الناس ليأخذوا منه الخير ، أو بمعنى مؤتمّ به كالرحلة والنّخبة ، وما أشبه ذلك مما جاء من فعلة بمعنى مفعول.
المبحث السادس
المعاني اللغوية في سورة «النحل» (١)
قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [الآية ٨] بالنّصب. أي : وجعل الله الخيل والبغال والحمير زينة ..
وقال تعالى : (وَمِنْها جائِرٌ) [الآية ٩] أي : ومن السبيل لأنها مؤنثة في لغة الحجاز (٢).
وقال تعالى : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) [الآية ١٣] أي : خلق لكم وبثّ لكم (٣).
وقال تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [الآية ٣٠] فكانت «ما ذا» بمنزلة «ما» وحدها.
وقال تعالى : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) [الآية ٢١] على التوكيد (٤).
وقال سبحانه : (إِنْ تَحْرِصْ) [الآية ٣٧] لأنّها من «حرص» «يحرص».
وإذا وقفت على (يَتَفَيَّؤُا) [الآية ٤٨] قلت «يتفيّأ» ، كما تقول بالعين «تتفّيع» جزما ، وإن شئت أشممتها الرفع ، ورمته ، كما تفعل ذلك في «هذا حجر».
وقال تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٤٨) فذكّر ، وهم
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(٢). أنظر المذكّر والمؤنّث ٨٧ ، وكتاب التذكير والتأنيث ١٦ ، والمذكّر والمؤنّث للمبرد ١٥ ، والّلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث ٦٧ ، والّلهجات العربية ٥٠٢.
(٣). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٥٦٠.
(٤). نقله في زاد المسير ٤ : ٤٣٧.
غير الإنس ، لأنه لما وصفهم سبحانه بالطاعة أشبهوا ما يعقل (١) ، وجعل اليمين للجماعة مثل (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) [القمر : ٤٥].
وقال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) [الآية ٤٩] يريد : من الدواب ، واجتزأ بالواحد ، كما تقول : «ما أتاني من رجل» أي : ما أتاني من الرجال مثله.
وقال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَ) [الآية ٥٣] لأنّ «ما» بمنزلة «من» ، فجعل الخبر بالفاء.
وقال تعالى : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) [الآية ٥٥].
وقال تعالى : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) [الآية ٦٧] ولم يقل «منها» لأنّ السياق أضمر «الشيء» كأنه «ومنها شيء تتّخذون منه سكرا» (٢).
وقال تعالى : (إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي) [الآية ٦٨] على التأنيث في لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقول «هو النّحل» وكذلك كلّ جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء ، نحو «البرّ» و «الشعير» هو في لغتهم مؤنّث (٣).
وقال تعالى : (ذُلُلاً) [الآية ٦٩] وواحدها «الذلول» وجماعة «الذّلول» «الذلل».
وقال تعالى : (بَنِينَ وَحَفَدَةً) [الآية ٧٢] وواحدهم «الحافد».
وقال تعالى : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) [الآية ٧٦] لأنّ «أينما» من حروف المجازاة.
وقال تعالى : (رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) [الآية ٧٣] بجعل «الشيء» بدلا من «الّرزق» ، وهو في معنى «لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا» (٤). وقال بعضهم : «الرّزق فعل يقع بالشيء» يريد : «لا يملكون أن يرزقوا شيئا».
وقال تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) [الآية ٩١] تقول : «أوفيت بالعهد»
__________________
(١). نقله في زاد المسير ٤ : ٤٥٣.
(٢). نقله في زاد المسير ٤ : ٤٦٤.
(٣). المذكّر والمؤنّث ٨٥ ، والبلغة في الفرق بين المذكّر والمؤنّث ٦٧ ، والّلهجات العربية ٥٠٤.
(٤). نقله في الجامع ١٠ : ١٤٦.
و «وفيت بالعهد» فإذا قلت «العهد» قلت «أوفيت العهد» بالألف (١).
وقال تعالى : (أَنْكاثاً) [الآية ٩٢] وواحدها «النكث».
قوله سبحانه : (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) [الآية ١٠٦] خبر لقوله تعالى (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) ثم دخل معه قوله سبحانه (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) فأخبر عنهم بخبر واحد ، إذ كان ذلك يدل على المعنى (٢).
وقال تعالى : (مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) [الآية ٨١] وواحده : «الكنّ».
وقال جلّ شأنه : (كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [الآية ١١١] ومعنى كلّ نفس : كلّ إنسان ، وورد التأنيث لأن النفس تؤنّث وتذكّر. يقال «ما جاءتني نفس واحدة» و «ما جاءني نفس واحد».
وقال تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ) [الآية ١١٦] بجعل (لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ) اسما للفعل ، كأنّ السّياق «ولا تقولوا لوصف ألسنتكم (الْكَذِبَ هذا حَلالٌ) [الآية ١١٦].
وقال تعالى (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) [الآية ١٢١] وقال سبحانه (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [الآية ١١٢] بجمع «النّعمة» على «أنعم» كما قال جلّ شأنه : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) [الأحقاف : ١٥] فزعموا أنّه جمع «الشدّة».
__________________
(١). يقصد الهمزة على عادة الأقدمين ، من عدم تمييز إحداهما من الأخرى.
(٢). نقله في الجامع ١٠ : ١٨٠ بعبارة مغايرة وأفاده في الكشاف ٢ : ٦٣٦.
المبحث السابع
لكل سؤال جواب في سورة «النحل» (١)
إن قيل : لم قدّمت الإراحة ، وهي مؤخّرة في الواقع ، على السروح ، وهو مقدم في الواقع ، في قوله تعالى : (حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (٦).
قلنا : لأنّ الأنعام ، في وقت الإراحة ، وهي ردها عشيّا الى المراح ، تكون أجمل وأحسن ، لأنها تقبل ملأى البطون ، حاملة الضروع ، متهادية في مشيها ، يتبع بعضها بعضا ، بخلاف وقت السروح ، وهو إخراجها الى المرعى ، فإنّ هذه الأمور كلّها تكون على ضدّ ذلك.
فإن قيل : قوله تعالى : (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [الآية ٧] ، إن أريد به : لم تكونوا بالغيه عليها إلّا بشق الأنفس ، فلا امتنان فيه ؛ وإن أريد به لم تكونوا بالغيه بدونها إلّا بشقّ الأنفس ، فهم لا يبلغونه عليها أيضا إلّا بشق الأنفس ، فما الحكمة في ذلك؟
قلنا : معناه وتحمل أثقالكم : أي أجسامكم وأمتعتكم معكم الى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بدونها ، بأنفسكم من غير أمتعتكم إلّا بجهد ومشقة. فكيف لو حملتم أمتعتكم على ظهوركم؟ والمراد بالمشقة : المشقّة التي تنشأ من المشي ، أو من المشي مع الحمل على الظهر لا مطلق مشقّة السفر ، وهذا مخصوص بحال فقد الإبل ، فظهرت الحكمة من ذلك.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) [الآية ٨] يقتضي حرمة أكل الخيل ، كما
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
اقتضاه في البغال والحمير ، من حيث أنه لم ينصّ على منفعة أخرى فيها ، غير الركوب والزينة ، ومن حيث أن التعليل بعلّة يقتضي الانحصار فيها كقولك : فعلت هذا لكذا ، فإنه يناقضه أن تكون فعلته لغيره ، أو له مع غيره ، إلّا إذا كان أحدهما جهة في الاخر.
قلنا : ينتقض بالحمل عليها والحراثة بها ، فإن ذلك مباح مع أنه لم ينص عليه.
فإن قيل : إنّما ثبت ذلك بالقياس على الأنعام ، فإنه منصوص عليه بقوله تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ) [الآية ٥] ، والمراد به كل منفعة ، معهودة منها عرفا ، لا كلّ منفعة. فثبت مثل ذلك في الخيل والبغال والحمير.
قلنا : لو كان ثبوته فيها بالقياس في الأنعام ، لثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس على ثبوته في الأنعام أيضا ؛ ولو ثبت حلّ الأكل في الخيل بالقياس ، لثبت في البغال والحمير ، كما ثبت الحمل والحراثة ثبوتا شاملا للكل بالقياس على ثبوته في الأنعام. والجواب عن الجهة الثانية في أصل السؤال ، أن هذه اللام ليست لام التعليل ، بل لام التمكين ، كقوله تعالى (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [يونس : ٦٧ ، غافر : ٦١] ومع هذا يجوز في الليل غير السكون.
فإن قيل : لم قال الله تعالى في وصف ماء السماء (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [الآية ١١] ولم يقل كل الثمرات ، مع أن كل الثمرات تنبت بماء السماء؟
قلنا : كل الثمرات لا تكون إلّا في الجنة ، وإنما ينبت في الدينا بعض منها أنموذجا وتذكرة ، فالتبعيض بهذا الاعتبار ؛ يكون المراد بالثمرات ما هو أعمّ من ثمرات الدنيا ، ومن يجوّز زيادة «من» في الإثبات يحتمل أن يجعلها زائدة هنا.
فإن قيل : قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [الآية ١٧] ، المراد بمن لا يخلق الأصنام ، بدليل قوله تعالى بعده : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٢٠) ، فكيف جيء بمن المختصة بأولي العلم والعقل؟
قلنا : خاطبهم على معتقدهم ، لأنهم سموها آلهة وعبدوها ، فأجروها مجرى