مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

عليه وآله وسلم «الناس مسلطون على أموالهم» وارد في مقام رفع الضرر عن المالك بحجره عن التصرف في ملكه لكون حجره عنه ضررا عليه فهو من حيث وروده في مقام رفع الضرر عن المالك آب عن التخصيص.

قلنا ان كونه إمضاء لبناء العقلاء لا يقتضي كونه حاكما فان قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وارد أيضا لامضاء بناء العقلاء مع أن قاعدة (لا ضرر) تكون حاكمة عليه فيما لو كان فيه ضرر كبيع المغبون ونحوه مضافا الى أن الميزان في الحكومة هو كون الحاكم شارحا للمحكوم وبيانا له ولا ريب إن لا ضرر لها جهة شرح وبيان لعدم جعل الاحكام من الشارع ما كان فيها ضرر. وأدلة السلطنة ليست دالة إلا على ثبوت السلطنة للمالك من دون بيان لشيء آخر ولا شرح لأمر سوى ذلك بخلاف أدلة لا ضرر فانها ليست لها جهة إيجابية وانما هي ممحضة لنفي الاحكام الضررية في التشريع الاسلامي فهي ممحضة في النظر للتشريع الاسلامي ومبينة لمقدار الموجود منه من دون نظر لاثبات شيء فلا بد أن تكون هي الحاكمة على ما عداها لا أدلة السلطنة التي هي ليست ناظرة إلا للجهة الايجابية وهي ثبوت السلطنة كيف وأدلة السلطنة كانت مقدمة عليها سائر ادلة المنع من التصرف فان الانسان قد قيد الشارع سلطنته على المال في أغلب تصرفاته فيه من الاسراف وشراء الأمور المحرمة واعانة الظالمين ونحو ذلك ولا بأس بذكر فروع لهذه المسألة.

أحدها أن يكون تصرف المالك في ماله ضرر على الغير من دون أن يكون في تركه للتصرف ضرر عليه ولا فقدان نفع له ولا حرج عليه وهذا على قسمين : ـ

أحدهما يكون بقصد إضرار الغير واخرى لا بهذا القصد بل

٢٤١

تشهيا للعمل كأن يبني سطحا عاليا مشرفا على الجار وهو في غنى عنه بقصد إضرار الجار او تشهيا منه لذلك. فالظاهر كما هو المحكي عن المشهور هو الحرمة والضمان للغير لو أوجب تلفا في ماله أما الحرمة فلقاعدة (لا ضرر) فانها ترفع الحكم بسلطنة المالك على ملكه بهذا النحو لأنه حكم فيه ضرر على الغير ولحرمة إضرار الغير واما الضمان فلقاعدة من أتلف. ومنه تعرف حرمة كسر تاجر لآخر ببيع سلعته بقيمة قليلة ليكسر الآخر. وأما بيعها بقيمة قليلة لشدة احتياجه وكان ذلك موجبا لضرر واجدي تلك السلعة فالقاعدة هي الجواز لأن (لا ضرر) تتعارض في بيعه وعدمه فتتساقط ويرجع لقاعدة السلطنة وكيف كان فيدل على أصل المطلب ما تقدم من أخبار لا ضرر فراجعها وكفى منها خبر قصة سمرة بن جندب فان تصرفه في ملكه بالدخول فيه لعذقه بدون استئذان كان فيه ضرر على الانصاري وفي ترك الدخول بلا استئذان ليس فيه ضرر على سمرة المذكور إذ يمكنه أن يدخل مع الاستئذان. وقد استدل ابن قدامة من الحنابلة في المغني في إحياء الموات على عدم جواز ما يحدثه الجار مما يضر بجاره بلا ضرر.

ثانيها أن يكون في تصرفه في ملكه ضرر على الغير وفي تركه للتصرف ضرر عليه كبناء بالوعة لداره يحتاج اليها فيها ضرر على جاره وفي ترك البناء ضرر على داره فان قاعدة (الضرر) تتعارض هاهنا لأن في جواز البناء للمالك ضررا على الغير تقتضي قاعدة (لا ضرر) نفيه وفي حرمة بناء المالك في ملكه ضرر عليه تقتضي قاعدة (لا ضرر) نفيها فتتعارض قاعدة لا ضرر فيهما اذ لا بد من أحدهما إما جواز البناء أو حرمته فتتساقط قاعدة (لا ضرر) فيهما فتبقى قاعدة السلطنة للمالك وحرمة إضرار الغير ويقع بينهما التزاحم وحيث ان قاعدة السلطنة تقتضي حكما لا اقتضائيا

٢٤٢

وهو الاباحة للتصرف بخلاف حرمة التصرف فانها تقتضي حكما اقتضائيا وهو الحرمة فتقدم حرمة التصرف على قاعدة السلطنة لأن الحكم اللااقتضائي لا يزاحم الاقتضائي وعليه الضمان لو أضر الجار كما هو المحكي عن الشهيد في باب الغصب وذلك لقاعدة من أتلف.

إن قلت إن المرجع هو قاعدة (لا حرج) بعد تساقط لا ضرر فان (لا حرج) حاكمة على قاعدة السلطنة وحرمة الاضرار بالغير. وذلك فان منع المالك من التصرف في ملكه فيه ضيق عليه فتكون قاعدة الحرج تقتضي جواز تصرف المالك في ملكه.

قلنا مجرد المنع عن بعض أنحاء التصرف لا يوجب الحرج فان الحرج هو الضيق والمشقة التي لا يطيقها الانسان وإلا لكانت أغلب التكاليف حرجية. هذا مضافا الى أن أدلة الحرج في مرتبة أدلة (لا ضرر) لأن كلا منها ينفي التكليف واذا كان في مرتبته كان نفي الضرر الذي يقتضي عدم تصرف المالك في ملكه يعارض كلا من نفي الحرج ونفي الضرر الذي يقتضي جواز تصرفه في ملكه نظير الاستصحاب الواحد الذي يعارض استصحابين في مرتبة واحدة كما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين وفي أحدهما يوجد استصحابان للطهارة لانه في السابق سقط عليه المطر وسقط في الكر. والآخر فيه استصحاب واحد وهو سقوط المطر عليه.

إن قلت إن تعارض الضررين هنا لا وجه له لأن التعارض إنما يتصور هنا بأن تكون قاعدة لا ضرر دلت على نفي جواز تصرف المالك فتكون دالة على ثبوت الحكم بنفي جواز تصرف المالك الضرري على الغير وهذا الحكم المستفاد من (لا ضرر) حكم شرعي يتعارض مع نفس لا ضرر أيضا لأن هذا الحكم فيه ضرر على المالك لمنعه من التصرف في ملكه فيكون منفيا عن المالك هذا النفي

٢٤٣

(بلا ضرر) وهذا نظير ما يقال (كل كلامي كاذب) في شموله لنفس هذا الكلام. وبعبارة اخرى يكون حكم لا ضرر على المالك هو فيه ضرر فتنفيه نفس القاعدة فهذا غاية ما يمكن من تصوير التعارض في المقام. وهو باطل إذ لا يعقل ان الدليل يتكفل إبطال نفسه أو أحد أفراده وإلا لزم من وجوده عدمه أو من وجوده عدم فرده وهو محال (فلا ضرر) لا يعقل أن ينفي نفس (لا ضرر).

ودعوى أن الاستصحاب في الشك السببي في المسببي كذلك حيث الحكم الاستصحابي في الاول ينفي الثاني فلا يضر أن ينفي أحد المصاديق المصداق الآخر. فاسدة لأن الاستصحاب في السبب إنما يرفع الشك في المسبب فلا يجري الاستصحاب فيه لعدم موضوعه لا من جهة ان الاستصحاب في السبب رفع الاستصحاب في المسبب.

قلنا التعارض الذي ذكرناه غير هذا الذي توهمه الخصم فان عدم الجواز لحفر البئر المضرة بالغير والجواز لحفر البئر كل منهما حكم ضرري منفي بقاعدة الضرر جعله بالجعل الاستقلالي أو التبعي وليست قاعدة (لا ضرر) ينشأ بها حكم شرعي حتى يقال إنها لا يصح أن تنفي الحكم الشرعي الذي هو مفادها وانما هي إخبار عن عدم وجود الحكم الضرري لا استقلالا ولا تبعا. ولو سلمنا انه ينشأ بها حكم شرعي فالضرر المتولد من صدقها في المورد المذكور لا تشمله لأنها لو شملته لزم التسلسل لأن نفي ذلك النفي فيه ضرر على الجار وهلم جرا وهو يلزم منه التسلسل فلا بد أن تقول بأن لا ضرر إما غير صادقة في المقام أو إنها مختصة بنفي الحكم الاول دون ما يتولد منه فان كانت غير صادقة في المقام فهو المطلوب وان كانت صادقة وقع التعارض بين أفرادها في الحكمين المذكورين وقد تقدم في مقام الايرادات على هذه القاعدة في جواب الايراد الرابع توضيح ذلك.

٢٤٤

إن قلت إن عدم الجواز ليس بحكم شرعي فلا تنفيه قاعدة لا ضرر.

قلنا سيجيء ان شاء الله في المقام السابع في بيان الموارد التي تجري فيها القاعدة من ان عدم الجواز مجعول للشارع وحكم له باعتبار ان الجواز بيده جعله ورفعه وان أبيت فقل حرمة حفر البئر وهي حكم شرعي تنفيه قاعدة (لا ضرر) لأن الحرمة لحفر البئر فيها ضرر على المالك كما ان الجواز لحفر البئر فيه ضرر على الجار.

إن قلت قد ذكر بعض المعاصرين ان الجواز للحفر حكم إباحي غير إلزامي فلا تجري فيه قاعدة (لا ضرر) كقاعدة (لا حرج) قلنا سيجيء ان شاء الله في الموارد التي يصح التمسك بقاعدة لا ضرر من ان الأحكام غير إلزامية ان كان ضررها بالنسبة الى المرتكب لا تجري فيها القاعدة المذكورة أما الأحكام غير الإلزامية اذا كان ضررها بالنسبة الى غير فهي تجري فيها القاعدة المذكورة وفيما نحن فيه كانت الإباحة للبناء ضررها بالنسبة للغير فهي أيضا لا تجري فيها القاعدة.

ان قلت ان المحكي عن الشيخ في المبسوط في باب (إحياء الموات) وعن العلامة في التذكرة وعن ابن إدريس في السرائر أنهم نفوا الخلاف في جواز حفر الكنيف والبالوعة لمالك الدار وان كان جاره يتضرر بذلك كما لو كان قد حفرهما بقرب بئر جاره وأدى ذلك الى تغير ماء بئره بل عن جماعة من القدماء دعوى الاجماع على ذلك. وعن العلامة في التحرير والقواعد جواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر الغير. وعن جامع المقاصد جواز تصرف المالك في ملكه وان تضرر الغير مستندا الى قاعدة السلطنة.

قلنا لم نظفر بدعوى الاجماع من أحد وانما هو منقول عن

٢٤٥

جماعة لم تذكر اسماؤهم ولعل مستند دعوى الاجماع وعدم الخلاف هو قاعدة السلطنة كما هو ظاهر المحكي عن جامع المقاصد وقد عرفت حكومة لا ضرر عليها فالحق هو ما ذكرناه.

ان قلت ان أدلة نفي الاكراه تقتضي الجواز لأن الفرض أنّ المالك يتضرر بترك التصرف.

قلنا ان أدلة الاكراه تختص بما اذا كان هناك جائر يكره الانسان على العمل وفيما نحن فيه لا إكراه اذ لم يكن شخص يكرهه على التصرف.

ثالثها أن يكون في تصرفه ضرر على الغير وفي ترك تصرفه حرج عليه كبناء حديقة في داره يصر عليها عائلته فيها ضرر على جاره وفي هذه الصورة يتساقط (لا ضرر) و (لا حرج) لتعارضهما ويرجع لقاعدة السلطنة أعني قاعدة «الناس مسلطون على أموالهم» وقاعدة «حرمة إضرار الغير» وقد عرفت في الفرع السابق تقديم الثاني على الاول.

رابعها عكس الثالث أن يكون في تصرفه في ملكه حرج وضيق على الغير وفي ترك تصرفه ضرر عليه كأن يضع آلة في داره لها صوت مزعج لجاره وفي هذه الصورة أيضا يتساقط لا ضرر مع لا حرج ويرجع الى قاعدة السلطنة فيكون المالك له السلطنة على وضع مثل هذه الآلة.

خامسها ان يكون في تصرفه حرج على الغير وفي ترك تصرفه حرج عليه كما في فتح روشن لضياء غرفته كان في فتحه حرج على الجار وفي تركه حرج عليه وفي هذه الصورة يتساقط لا حرج في فردية ويرجع الى قاعدة سلطنة المالك على ملكه.

سادسها ان يكون في تصرفه ضرر أو حرج على الغير وفي ترك التصرف فقدان منفعة له كأن يصنع بالوعة أخرى للدار فيها

٢٤٦

منفعة للدار وفيها ضرر على الجار. وفي هذه الصورة يرجع الى قاعدة (لا ضرر) أو (لا حرج) حيث لا معارض لهما ولا يرجع لقاعدة السلطنة لما عرفت من أنهما مقدمان على قاعدة السلطنة لكون قاعدة السلطنة تثبت التكليف وقاعدة (لا ضرر) أو (لا حرج) لسانها لسان نفي التكليف وتحديد وجوده فهما حاكمان على قاعدة السلطنة.

وأما الثاني وهو التعارض بين القاعدة والادلة الاجتهادية فان كانت الادلة الاجتهادية أخص وغير قابلة للتأويل والطرح فأدلة الجهاد قدمت على قاعدة الضرر اذ لو قدمت عليها لزم طرحها بل حتى لو كانت أعم من وجه ولكن بتخصيصها (بلا ضرر) يوجب بقاء الفرد النادر الشاذ بحيث لا يصح استعمال العام فيه أيضا تخصص (لا ضرر) بها ولا تقدم (لا ضرر عليها) إذ لو قدمت عليها لزم إما طرحها أو تأويلها والفرض إنها غير قابلة لذلك كما في أدلة الحج وأما مثل أدلة نجاسة الملاقي للنجس فانه في أغلب أفراده فيه ضرر على المالك كاراقة مرقة المتنجس وعجينه ودهنه ومثل أدلة وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته وكان ضررا عليه وكأدلة وجوب الغسل على المريض الذي تعمد الجنابة وان كان الغسل ضررا عليه فانها لو تمت أدلتها بالنسبة الى قواعد الضرر بحيث كانت نصا عليها وغير قابلة للتخصيص بغير موارد الضرر نظير قولنا (أكرم العلماء) ثم قال (لا تكرم الفساق حتى العلماء منهم) فانه لا يمكن تخصيص (لا تكرم الفساق) المذكور بأكرم العلماء ففي هذه الصورة أيضا تقدم الأدلة على أدلة (لا ضرر) لأنها فيها نص على التخصيص فلو قدمت (لا ضرر) عليها لزم إلغاء نص تلك الأدلة فانه وان كان بعض أفراده (لا ضرر فيه) لكن لو خصصناها بأدلة (لا ضرر)

٢٤٧

لم يبق تحت أدلة الحج إلا الفرد الذي ليس فيه ضرر وهو شاد نادر لا يصح استعمال تلك الأدلة فيه فلذا قدمنا أدلة الضمان وخصصنا أدلة (لا ضرر) بها. وأما ان كانت أدلة لا ضرر أخص منها قدمت أدلة لا ضرر عليها لتقديم الخاص على العام كما لو قلنا إن أوامر الاطاعة تكليفية فان أدلة (لا ضرر) تكون أخص منها. وأما ان كانت بينها وبين أدلة (لا ضرر) عموم من وجه كما هو الحال في أدلة (لا ضرر) مع أدلة الصوم والوضوء والحج ونحوها فانها تجتمع في الصوم المضر وكما في البيع للمعيب فان أدلة البيع تقتضي لزوم البيع وأدلة لا ضرر تقتضي عدم لزومه فالظاهر هو تقدم أدلة (لا ضرر) على الادلة الاجتهادية سواء كانت تكليفية أو وضعية لكون أدلة (لا ضرر) حاكمة على أدلة التكاليف لأنها تشرح وتبيّن مقدار مدلولها وتفسر المراد منها وان المجعولات الشرعية ليست توجب الضرر نظير حكومة أدلة نفي الشك لمن كثر شكه على أدلة احكام الشكوك ويرشدك الى كونها حاكمة انها واردة في مقام المنة في رفع التكاليف الضررية وهذا إنما يكون فيه منة لو كانت أدلة التكاليف تثبت الاحكام في موارد الضرر حتى يكون رفعها عنها بقاعدة (لا ضرر) فيه منة وانما يتحقق رفعها بها لو كانت حاكمة عليها وإلا فهي لا تصلح لتخصيصها لأنها أعم منها من وجه. مضافا الى ان لسانها مبين ان التكاليف ليست بثابتة في مورد الضرر وهو معنى الحكومة لأن الحكومة تكون بشرح مقدار دلالة الدليل عموما أو خصوصا وهذه أدلة القاعدة تشرح وتبين بمداليلها اللفظية ان التكاليف غير ثابتة في مواردها الضررية على أنّا لو قدمناها على أدلة لا ضرر لم يبق (للا ضرر) مورد وان بقي فهو شاذ نادر فليس بين القاعدة وبين أدلة الاحكام الشرعية تعارض حتى يحتاج الى إعمال الترجيح

٢٤٨

بينها وبين أدلة التكاليف في موارد اجتماعها كالصوم المضر والحج المضر بالشهرة أو موافقة الكتاب أو مخالفة العامة أو موافقة الأصل أو نحو ذلك فلا يصح تقديم شيء من عمومات الأحكام الشرعية على قاعدة نفي الضرر وان بلغت من القوة ما بلغت خلافا للمحكي عن المحقق السبزواري وصاحب الرياض والفاضل النراقي والمحقق القمي حيث حكي عنهم القول بالتعارض والرجوع الى المرجحات.

واما الثالث وهو التعارض بين أدلة (لا ضرر) وبين الأدلة الفقاهتية أعني أدلة الاصول العملية كأدلة الاحتياط مثلا فالظاهر ان أدلة (لا ضرر) واردة عليها في مورد التعارض كالاحتياط اذا لزم ضرر عليه. وذلك لأنه قد أخذ في موضوع أدلة الاصول عدم الدليل وأدلة (لا ضرر) نعم الدليل فتكون رافعة لموضوعها.

وأما الرابع وهو تعارض الضررين فنقول بأنه لا ريب في عدم جواز إضرار الغير لكن فيما اذا كان الضرر متوجها للانسان فهل له أن يدفعه عن نفسه للغير كأن سقط عليه شيء فدفعه عنه الى الغير أو أريد قتله فأنكر أنه هو وقال أنه هو ذلك الشخص الآخر. أو كان السيل متوجها لداره فجعله يتوجه لدار بكر حفظا لداره فانه لا ريب ان قاعدة (لا ضرر) تنفي جواز ذلك لكون جواز ذلك عبارة عن جواز إضرار الغير وقاعدة (لا ضرر) تنفي كل حكم يستلزم الضرر كما إنها تنفي وجوب تحمل الضرر لرفعه عن الغير لأنه حكم يستلزم الضرر. ففي المقام لا يجوز توجيه الضرر للغير ولا يجب أن يتحمل الضرر فله دفع الضرر عن نفسه بنحو لا يضر بالغير واما اذا كان الضرر غير متوجه نحوه بل هو كان في معرضه ولكنه اذا جنب نفسه عنه يقع على الغير كأن سقط

٢٤٩

من السطح شيء لكنه اذا جنب نفسه عنه يقع على من تحته أو كأن شخص يشهر السيف ليضرب من أمامه وزيد يفر من بين يديه فيضرب صاحب السيف من خلف زيد أو كأن السيل كان متوجها نحو داره فجعل لداره سدا لدفعه عنها فتوجه لدار بكر من دون ان يسلطه عليها وفي هذه الصورة لا ريب في عدم وجوب تحمل الضرر عن الغير لأن الوجوب المذكور حكم ضرري فله أن يتحرز عن هذا الضرر.

والحاصل انه لا ريب في عدم وجوب دفع الضرر عن الغير وعدم وجوب تحمل الضرر عن الغير فلو توجه السيل الى داره فله دفعه عن داره ولا يجوز له ان يدفعه لدار الغير لكون ذلك ضررا عليه نعم لو كان دفعه عن داره يستلزم ذهاب السيل لدار الغير جاز له ذلك لأنه لم يدفعه لداره وإنما السيل قد توجه للغير.

اذا عرفت ذلك فنقول ان الضررين اذا تعارضا فان كانا عائدين لشخص واحد فقد ذكروا له صورا ثلاثا :

إحداها ان يكونا مباحين له كما لو أدخلت دابته رأسها في قدره ولم يكن إخراجها منها إلا بكسر القدر أو ذبحها جاز له ارتكاب كل منهما وان كان أحدهما أكثر ضررا من الآخر بل يجوز له ارتكابهما معا.

والثانية أن يكون أحد الضررين حراما عليه ارتكابه دون الآخر كما اذا دار الأمر بين أن يشرب الخمر أو يعطي شيئا من المال ومثله ما اذا دخل رأس عبده في قدره فلا ريب في تقديم ارتكاب المباح على الحرام.

الثالثة أن يكون كلا الضررين محرمين عليه مثل ما لو دار أمره بين أن يشرب الخمر أو يزني ونظيره ما لو دار أمره بين أن يضرب زيدا أو يقتله ونظيره أيضا ما لو دار أمره بين أن يضرب

٢٥٠

خالدا أو خويلدا فيكون المقام من باب التزاحم بين المحرمين والمرجح فيه هو حكم العقل لأن التزاحم بينهما إنما كان في مرتبة الامتثال والمحكم فيها هو العقل ولا ريب أنّ العقل يحكم بارتكاب أقل المحذورين وأزيل الضرر الاعلى بالضرر الادنى اتباعا لحكم العقل بارتكاب أخف الضررين وأقل المحذورين واذا لم يدرك الأقل منهما فما احتمل انه أقل محذورا من الآخر ومع التساوي حتى في الاحتمال المذكور بأن احتمل الأقلية في المحذور في كل منهما أو جزم بتساويهما يتخير بينهما هذا كله فيما اذا دار الأمر بين الضررين لشخص واحد واما اذا دار الأمر بين الضررين لشخصين فقد ذكروا له أيضا صورا ثلاثا : ـ

أحداها أن يكون ذلك بفعل أحد الشخصين منهما بأن يكون أحدهما هو الذي أوجب أن يتضرر هو أو يتضرر الآخر وفي هذه الصورة يجب على الفاعل أن يتحمل الضرر على نفسه ويخلّص الغير من الضرر لأنه هو الذي أوقعه في هذا الضرر مثل أن يأخذ زيد رأس دابة بكر فيدخله في قدره. ولا ريب في هذه الصورة انه يجب على الفاعل منهما وهو زيد في المثال المذكور أن يكسر قدره ويسلّم عين المال وهو الدابة في المثال المذكور للآخر وهو بكر لقاعدة (ان على اليد ما أخذت حتى تؤدي) ولا سيما اذا كان غاصبا فانه يؤخذ بأشق الاحوال. نعم اذا تعذر عليه رد العين كان المثل أو القيمة. كما اذا كان أحد الضررين محرما عند الشارع نقطع بعدم رضاه بارتكابه مثل ما اذا كان الفاعل قد وضع رأس غلامه المحقون الدم في قدر الآخر فانه على الفاعل كسر قدر الغير لتخليص غلامه وعليه ضمان المثل أو القيمة أو رضي الشخص الآخر بالقيمة أو المثل لماله لكن هذا لا يتم في جميع الموارد لهذه الصورة أعني صورة الدوران بين الضررين بفعل أحدهما وانما يتم في خصوص ما اذا كان فعل أحدهما بالتصرف في مال الغير كأن

٢٥١

يأخذ ماله ويجعله في حال يدور الأمر بين إتلافه أو إتلاف ماله. واما لو دار الأمر بين ضررين عرضيين لشخصين بفعل أحدهما فانه ليس عليه أن يسلّم عرضه لتخليص عرض الآخر. وهكذا لو دار الآمر بين الضررين النفسيين لشخصين بفعل أحدهما ليس عليه أن يسلّم نفسه لتخليص نفس الآخر بل وهكذا لو دار الأمر بين الضررين الماليين لشخصين بفعل أحدهما لكنه ليس بنحو التصرف في مال الآخر كما لو أدخله في مكان أوجب أن يتضرر هو أو صاحبه بتسليم أحدهما ما عليه من الثياب فانه ليس عليه أن يدفع ثيابه لتخليص الغير فمن الغريب ما بلغنا عن بعضهم من القول في هذه الصورة بوجوب تحمل المرتكب للضرر عن الآخر.

ثانيها أن يدور الأمر بين الضررين العائدين لشخصين بفعل شخص ثالث أجنبي عنهما كأن يدخل زيد رأس دابة بكر في قدر خالد ولا يمكن تخليص أحدهما عن الآخر إلا بكسر أحدهما. وفي هذه الصورة على الشخص الثالث أن يرضي أحدهما على إتلاف ماله واعطائه العوض عنه مثلا أو قيمة وان يسلم للآخر عين ماله لأن ذلك كان بتصرفه في مال الغير فعليه إما إرجاعه بنفسه أو ببدله وليس له التخيير في ذلك كما نسب الى بعض أساتذة العصر لأنه غير مالك للعين وانما الاختيار لمالكي العينين لأنهما لهما السلطة عليهما فيكونان هما المرجعين فيهما ومع النزاع بين المالكين يرجع الى الحاكم الشرعي. فأما أن يرجع الأمر للقرعة فما وقعت عليه القرعة يسلم الشخص الفاعل بدله. ومع الامتناع عن قبول القرعة يجبر أحدهما الذي هو الأقل ضررا على قبول البدل لئلا يخسر الفاعل ضررا أكثر كما هو مقتضى قاعدة العدل والانصاف إلا اذا كان هذا الفاعل غاصبا وقلنا انه يجوز أن يؤخذ بأشق الاحوال. ثم لا يخفى أن هذا لا يتم في جميع الموارد لهذه الصورة كما ينسب الى بعض المعاصرين حفظهم الله تعالى فانه

٢٥٢

يجيء الكلام فيها المتقدم في الصورة الاولى.

ثالثها ان يكون ذلك غير مستند الى فعل شخص وانما كان بقضاء وقدر مثل أن تكون الدابة قد أدخلت رأسها في قدر الغير بحسب الصدفة والاتفاق والحكم في هذه الصورة كالحكم في الثانية ولا وجه لما نسب الى المشهور في هذه الصورة بلزوم اختيار أقل الضررين حيث لا دليل على ذلك مع انه كل من المتضررين على مستوى واحد في سلطنته على ماله وكل منهما منفي عنه وجوب تحمل ضرر الآخر بقاعدة (لا ضرر) نعم اذا رجعا الى الحاكم الشرعي فله أن يلزم صاحب المال الذي حكم عليه ببقاء ماله أن يسلم نصف البدل لمن حكم عليه بتلف ماله لكون الضرر كان متوجها عليهما معا فليس من العدل والانصاف أن يتحمله أحدهما فقط كما ان على الحاكم الشرعي إتلاف ما هو الأقل قيمة منهما ليكون الضرر على المالكين أقل كما هو مقتضى العدل والانصاف.

المقام السابع في الموارد التي تمسك فيها الفقهاء بقاعدة لا ضرر وفيه يتبين شمول قاعدة لا ضرر للضرر الشخصي والنوعي. وانها كما ينفى بها التكاليف قد يثبت بها التكاليف.

المقام السابع ان الفقهاء قد تمسكوا بأدلة لا ضرر في موارد أحدها في نفي الاحكام الشرعية أو الوضعية في موارد الضرر الشخصي كما في الوضوء أو الصوم أو الحج التي فيها الضرر أو السجود الذي فيه الضرر كمن أجرى عملية يضر به السجود فان لا ضرر ترفع جزئيته للصلاة والظاهر ان هذا هو القدر المتيقن من أدلة (لا ضرر).

ثانيها نفي الاحكام الشرعية التكليفية أو الوضعية عن الموضوعات التي فيها الضرر النوعي فان ظاهر جملة من الفقهاء هو ذلك حيث تمسكوا برفع لزوم البيع مع الغبن أو مع العيب

٢٥٣

بقاعدة (لا ضرر) بدعوى ان لزوم البيع المذكور فيه ضرر على المغبون والمنتقل اليه المعيب نوعا فيكون اللزوم للبيع المذكور في تلك المواضع منفيا بقاعدة الضرر وهكذا في حق الشفعة فقد قالوا إن لزوم البيع على الغير فيه ضرر على الشريك نوعا وفي أغلب الموارد فهو منفي (بلا ضرر) ولا ريب أنّ الضرر فيما ذكر انما هو في الأغلب اذ قد لا يكون في تملك المعيب ضرر على الانسان وهكذا عدم تملك الشريك قد لا يكون فيه ضرر على الانسان بل قد لا يكون في الغبن ضرر على الانسان وعليه فلو كان الموضوع كليا له أفراد وفي نوع أفراده ضرر كبيع المعيب فان في نوع أفراده ضررا وكان هذا الكلي مندرجا تحت كلي آخر كعنوان البيع في المثال وذلك الكلي الآخر له حكم وهو اللزوم كما في المثال فهل يتمسك بعموم أدلة حكم ذلك العنوان في أفراده غير الضررية أو يتمسك بأدلة (لا ضرر) باعتبار انها أفراد نادرة لكلي في نوع أفراده الضرر ففي المثال المذكور أعني بيع المعيب باعتبار أن في نوع أفراده ضررا يحكم على أفراده غير الضررية النادرة باللزوم باعتبار إنها أحد أفراد مطلق البيع الذي قامت الأدلة على لزومه مطلقا أو يحكم عليه بعدم اللزوم باعتبار ان أدلة لا ضرر كما تدل على نفي التكليف الذي يلزم في شخص متعلقه الضرر كذلك تدل على نفي التكليف عن موضوع يكون في نوع أفراده الضرر فيكون بيع المعيب غير لازم حتى في أفراده النادرة غير الضررية باعتبار أنّ نوعه فيه ضرر. وبعبارة أخصر ان أدلة لا ضرر كما تنفي التكليف الضرري عن الفرد الخارجي الشخصي كالوضوء في هذا الوقت كذلك تنفي التكليف عن الكلي اذا كان في نوعه الضرر إلا ما شذ من أفراده وندر.

والحاصل إنا ان قلنا ان أدلة (لا ضرر) تشمل الضرر الشخصي

٢٥٤

والضرر النوعي بمعنى انها كما تدل على نفي التكليف عن الموضوع الخارجي الشخصي مثل شخص الوضوء الذي فيه ضرر على هذا الشخص في هذه الحال كذلك تدل على نفي التكليف عن الموضوع الكلي الذي يكون في نوعه الضرر فلا بد أن نقدم القاعدة على ما دل على ثبوت التكليف فيه بعمومه كما في المثال المتقدم فان الدليل الدال على لزوم البيع (كأوفوا بالعقود) يدل بعمومه على لزوم بيع المعيب فاذا قلنا بأن أدلة (لا ضرر) تدل على نفي التكليف عن الموضوع الخارجي الضرري والموضوع الكلي الضرري كانت أدلة لا ضرر حاكمة على أدلة لزوم البيع في كلي بيع المعيب وتكون الأفراد النادرة من بيع المعيب التي لا ضرر فيها أيضا قاعدة الضرر تقتضي نفي التكليف باللزوم عنها. واما لو كان الدليل الدال على ثبوت التكليف قد دل عليه بخصوصه كأن يفرض في المثال أنه قد دل الدليل على لزوم بيع المعيب بهذا العنوان بخصوصه فلا بد أن يقدم الدليل على أدلة (لا ضرر) لأنا لو قدمنا أدلة (لا ضرر) لزم إلغاء الدليل المعتبر وقد عرفت أن الدليل الحاكم إنما يقدم على الدليل المحكوم اذا لم يلزم منه إلغاء الدليل المحكوم كما لو كان المحكوم أعم منه. هذا كله اذا قلنا انّ أدلة (لا ضرر) تدل على نفي الحكم عن الموضوع الضرري سواء كان الموضوع شخصيا فيه الضرر أو كليا في نوعه الضرر. وأما اذا قلنا انها انما تدل على نفي الحكم عن خصوص الموضوع الخارجي الذي فيه الضرر فقط وانها لا تشمل الموضوع الكلي الذي في نوعه الضرر ففي المثال المذكور لا تكون دالة على نفي الحكم عن عنوان بيع المعيب. وانما تدل على نفي الحكم عن كل بيع كان في شخصه الخاص ضرر فما كان من بيع المعيب في شخصه ضرر فهو منفي عنه الحكم بلزوم البيع وما لم يكن في شخصه ضرر فهو غير منفي

٢٥٥

عنه الحكم بلزوم البيع هذا غاية ما يمكن من تحرير محل الكلام في هذا المقام.

والحق فيه ما هو ظاهر الفقهاء من ان أدلة لا ضرر تنفي الحكم عن الموضوع الذي فيه الضرر مطلقا سواء كان شخصيا أو كليا حيث تمسكوا في نفي الاحكام عن بعض الموضوعات الكلية التي في نوع افرادها الضرر كما في مبحث الشفعة للشريك وبيع المعيب والمغبون فانهم تمسكوا لعدم لزوم البيع فيها بلا ضرر مع انه يوجد في بعض أفرادها الشاذة عدم الضرر كما ان من راجع أخبار قاعدة الضرر يجد الأئمة عليهم‌السلام كذلك تمسكوا بها في نفي الحكم عن الموضوع الكلي الذي فيه الضرر النوعي. وهذا يوجب الوثوق بظهور أدلة لا ضرر في الشمول للموضوع الكلي الذي في نوعه الضرر. والاعتبار يساعد على ذلك فان أدلة لا ضرر ظاهرة في نفي الحكم عن الموضوع الذي فيه الضرر أعم من أن يكون ذلك الموضوع شخصيا أو كليا. نعم لا بد في شمولها للموضوع الكلي أن يكون في نوعه الضرر بحيث يصدق عند العرف انه في عنوانه الضرر بحيث يكون العرف يرى أنّ تلك الأفراد منه التي لا ضرر فيها في حكم العدم لندرتها وشذوذها وهذا ليس من قبيل الاشتباه في المصداق لأن المأخوذ فيها ما في ذاته ونفسه الضرر عند العرف سواء كان فردا أو كليا والكلي المذكور يكون في ذاته الضرر عند العرف وهذا نظير ما ذكروه في (لا تنقض اليقين بالشك) وعليه فأدلة (لا ضرر) انما تشمل الموضوع الكلي الذي فيه الضرر بحيث العرف يرى ان الأفراد منه التي لا ضرر فيها لندرتها وشذوذها بحكم العدم ولا تشمل الكليات التي فيها الضرر ولكن لا يصدق عند العرف ان في نفسها الضرر لكون الكثير من أفرادها لا ضرر فيه. وقد أوضحنا هذا

٢٥٦

المطلب في كتاب الاحكام عند التكلم في قاعدة لا حرج في المقام الثالث في المرفوع بها. واما دعوى أنّه لو كانت قاعدة (لا ضرر) تشمل الضرر النوعي لكانت تنفي وجوب الجهاد والقصاص ونحو ذلك مع انها لا تنفيها ولم يتمسك بها الفقهاء في نفيها. فهي مدفوعة بما عرفته منا من ان أدلة لا ضرر انما هي تنفي الحكم عن الموضوع اذا كان ثبوته له بنحو العموم لا ما اذا كان ثابتا له بنحو الخصوص فان دليله حينئذ يكون أخص من أدلة (لا ضرر) فلو قدمنا (لا ضرر) عليه يلزم إلغاؤه بالمرة ولذا الدليل الحاكم لا يقدم على الدليل المحكوم اذا كان دليل المحكوم أخص منه هذا مع قطع النظر عما قيل من ان المذكورات من الجهاد ونحوه ليست فيها ضرر نوعي لانها بها حفظ النظام كما هو مقتضى كون الاسلام جاء لسعادة البشر في الدارين لا لشقائهم فيكون خروجها عن قاعدة (لا ضرر) من قبيل التخصص لعدم كون متعلقات تلك الاحكام على هذا ضررية وعليه فيتمسك بقاعدة (لا ضرر) في رفع تلك الاحكام عن أفراد متعلقاتها اذا كان فيها ضرر زائد عن المتعارف كما لو كان في القصاص بقطع اليد ضرر زائد على المتعارف لكون أدلة قاعدة الضرر اذ ذاك تكون حاكمة على أدلتها نظير حكومتها على سائر أدلة الاحكام الشرعية. واما اذا قلنا أنها مخصصة لأدلة قاعدة (لا ضرر) كما هو الحق لأن الظاهر من الضرر هو الضرر المتعارف فحينئذ لا يتمسك بقاعدة (لا ضرر) في نفي تلك الاحكام لا عن موضوعاتها لانها أخص من أدلة لا ضرر وصريحة الثبوت بها ولا عن افراد موضوعاتها التي يكون فيها ضرر زائد على المتعارف لكونها قد خرجت تلك الموضوعات عن قاعدة (لا ضرر) بتخصيصها لها.

والحاصل ان أدلة لا ضرر كما تنفي الحكم عن الموضوع

٢٥٧

الضرري الشخصي كذلك تنفي الحكم عن الموضوع الضرري النوعي ولكن لا بد في نفيها للحكم الضرري النوعي من كون الضرر ثابتا في أغلب الافراد بحيث يكون ما لا ضرر فيه من الافراد شاذا نادرا جدا بحكم العدم بحيث يرى العرف انه ضرر في نفسه وعنوانه لا ان الضرر في بعض افراده فان المتبادر من لا ضرر هو نفي مثل ذلك. ولذا كان تشخيص مثل هذه الاحكام الضررية في غاية الصعوبة فان من الصعب احراز كون الكلي على ممر الدهور يكون في نوعه الضرر عند العرف. نعم أهل بيت العصمة عليهم‌السلام لا يعسر عليهم ذلك ولذا بعض الاخبار اشتملت على نفي الحكم الشرعي الضرري النوعي لكون الامام عليه‌السلام اطلع على ذلك. والذي يهون الامر في هذا المقام أنّك لا تجد موردا كليا ينحصر الدليل عليه بقاعدة (لا ضرر) إلّا ما شذ كخيار الغبن وقد تمسك بعضهم عليه ببناء العقلاء فمسألة شمول قاعدة (لا ضرر) للضرر النوعي ليست بذات اهمية كبرى يبتني عليها فروع جلى ومسائل عظمى وسيجيء ان شاء الله التأمل في هذا الموضوع في ثالث الموارد التي لا يصح التمسك بلا ضرر.

ثالث الموارد التي تمسك بها الفقهاء بأدلة نفي الضرر هو اثبات بعض الاحكام الشرعية كاثبات الخيار في البيع المغبون والمعيب واثبات حق الشفعة واثبات الضمان ونحو ذلك والوجه في ذلك مع ان (لا ضرر) لسانها نفي الحكم الضرري لا إثبات حكم بها هو ان المتمسكين بها يرون الملازمة في موارد التمسك بهاتين نفي الحكم الضرري وبين ثبوت ذلك الحكم فمثلا المتمسك بها لاثبات الخيار في بيع المعيب يرى ان (لا ضرر) ينفي لزوم البيع للمعيب ولازم نفي لزوم البيع هو ثبوت الخيار للمشتري وكما تمسكوا بها على ثبوت الضمان لأن (لا ضرر) انما تدل على

٢٥٨

ان كل حكم يلزم منه الضرر سواء كان تكليفيا أو وضعيا منفي في الاسلام وعليه فعدم تدارك ما ادخل على المضرور من الضرر منفي بلا ضرر ولازم ذلك هو ثبوت الضمان على الضار بدعوى منهم ان التدارك أما ان يكون من جانب الله أو من بيت المال المعد لمصالح المسلمين أو من مال الضار لا سبيل الى الاول لانه ليس في الدنيا بحسب الوجدان تدارك من الله (تعالى) ولا في الآخرة لان التدارك الأخروي خلاف ظاهر الاخبار ولم يكن وعد به بل هو ليس بتدارك ولا سبيل الى الثاني لأن بيت المال معد للمصالح العامة فتعين الثالث. فهم تمسكوا بها لاثبات الضمان لأنهم رأوا ملازمة نفي عدم التدارك للضمان وعلى هذا يحمل تمسك أهل بيت العصمة عليهم‌السلام في بعض الاخبار (بلا ضرر) على ثبوت بعض الأحكام الشرعية فانهم اطّلعوا بأنوارهم القدسية على الملازمة فتمسكوا (بلا ضرر) على ثبوت ذلك الحكم الشرعي.

رابعها انه قد عرفت في ان لا ضرر يتمسك بها لنفي الاحكام الوجودية اذا كان فيها ضرر مثل ما يتمسك بها لنفي وجوب الوضوء اذا كان فيه ضرر ولنفي لزوم البيع اذا كان فيه ضرر فهل يصح ان يتمسك بها لنفي اعدام الاحكام اذا كان في عدمها ضرر فيثبت اذ ذاك بها حكم وجودي لأن نفي النفي اثبات نظير ان يتمسك بها لنفي عدم جواز تصرف المالك في ملكه اذا كان فيه ضرر عليه ويثبت به جواز تصرفه في ملكه ولنفي عدم الضمان فيما اذا كان عدم الضمان فيه ضررا عليه كمن حبس الانسان فماتت دابته فان عدم ضمانها على الحابس فيه ضرر على المحبوس ونحو ذلك. المحكي عن الفاضل التوني وصاحب الرياض والسيد في ملحقات العروة هو التمسك بها وقد يورد عليه بان عدم الحكم الشرعي ليس من الاحكام المجعولة حتى يكون موردا للقاعدة

٢٥٩

لوضوح كفاية بقاء العدم في العدمية من دون حاجة الى انشاء الشارع للعدمية. ولا يخفى ما فيه فان الوجود للحكم لما كان بيد الشارع كان عدمه مستندا اليه في هذا الظرف غاية الامر لا يحتاج الى مئونة الانشاء بل عدم جعل الوجود للحكم الشرعي هو موجب لجعل العدم من الشارع وأدلة (لا ضرر) تنفي كل مجعول للشارع فيه ضرر سواء كان مجعولا بالذات أو بالتبع لا انها تنفي خصوص المجعولات بالانشاء أو خصوص المجعولات بالذات وربما يؤيد شمول (لا ضرر) للعدميات هو تمسك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصة سمرة بقاعدة لا ضرر لنفي عدم تسلط الانصاري على قلع العذق الذي كان هذا العدم فيه ضرر على الانصاري وتمسك الصادق عليه‌السلام على اثبات الشفعة بقاعدة (لا ضرر) لنفي عدم ثبوت الشفعة للشفيع فان عدم ثبوت الشفعة له ضرر فيه عليه هذا وقد ناقش بعضهم في الأمثلة لهذا الموضوع ولا يهمنا التعرض لذلك بعد ما اتضح صحة التمسك بها.

المقام الثامن في الموارد التي لا تجري فيها قاعدة لا ضرر

قد عرفت ان قاعدة لا ضرر تجري في سائر الموارد من الاحكام الشرعية سواء كانت تكليفية أو وضعية نفسية أو غيرية تعبدية أو توصلية عينية أو كفائية تبعية أو أصلية نعم ربما وقع الكلام أو يقع في أمور : ـ

أحدها في الوجوب التخييري اذا كان في أحد أفراده ضرر مثلا اذا فرض أن الصوم مضر لمن كان عليه الكفارة مخيرا بين الاطعام والصوم والعتق فهل تنفي قاعدة (لا ضرر) الوجوب التخييري عن هذا الفرد الذي فيه الضرر أم لا. الظاهر ان الأدلة لا تنفي هذا الوجوب التخييري عن هذا الفرد اذ ليس في رفعه منة على العبد اذ للعبد اختيار باقي الافراد التي ليس فيها الضرر. نعم أدلة

٢٦٠