مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

معروض الضرر. سلمنا انها لطبيعته ولكن الكناية المذكورة انما تكون فيما اذا نفي الموضوع في مورد خاص فيكون كناية عن رفع حكم طبيعته العامة عن ذلك المورد الخاص ويكون حاكما على الادلة المثبتة للحكم لطبيعته العامة ومخصصة لها واما اذا كان الموضوع ذو الحكم قد نفي على وجه العموم فيكون معارضا لتلك الأدلة اذ لم يبق مورد لها وفيما نحن فيه لو فرض ان للضرر حكما وأثرا قد ثبت له بالدليل فالقاعدة تعارض ذلك الدليل لكون النفي فيها مسلطا على مطلق الضرر فتكون منافية للأدلة التي تثبت الحكم لمطلق الضرر فلا يصح الاستشهاد بها في نفيه.

إن قلت انه قد ثبت في التراكيب العربية والشرعية رفع الطبيعة كناية عن رفع آثار معروضها كما في حديث الرفع حيث كان (رفع الخطأ والنسيان) فيه كناية عن رفع آثار ما يعرض عليه الخطأ والنسيان لا رفع نفس آثار الخطأ والنسيان. وعليه فلا ضرر يصح جعلها كناية عن رفع آثار معروض الضرر لا آثار نفس الضرر.

قلنا بناء على الوجه الثالث لا ننكر ان في نفي الضرر الذي اشتملت عليه القاعدة هو يقتضي نفي آثار معروضات الضرر من أفراد موضوعات الاحكام الشرعية كما هو الحال في رفع الخطأ والنسيان وانما ننكر أن يكون وجه دلالة نفي الطبيعة عليه بنحو الكناية باعتبار أن المعنى المكنى عنه لا بد وأن يكون لازما للمعنى الحقيقي. ونفي الطبيعة الذي هو المعنى الحقيقي لا يلزمه نفي آثار معروضاتها وانما يلزمه رفع آثار نفس الطبيعة باعتبار ان ارتفاع الموضوع انما يستلزم رفع آثاره واحكامه لا رفع آثار ما يعرض عليه فرفع الضرر انما يستلزم رفع آثار نفس الضرر واحكامه ولا يستلزم رفع آثار واحكام الوضوء الذي عرض عليها

٢٢١

الضرر فلا يصح أن يجعل رفع الضرر كناية عن الثاني وانما يصح ان يجعل كناية عن الاول. فلا وجه لما صنعه بعض المعاصرين في هذا المقام من الاشكال والرد فظهر ان النحو الاول لا يصح في المقام كما ان النحو الثاني يلزم منه التجوز اما بالحذف أو في الكلمة.

إن قلت ان الضرر ينفي باعتبار أنه عنوان للفعل فان فيه فيكون نفيه عبارة عن نفي الفعل المعنون بذلك العنوان فيكون معنى (لا ضرر) هو نفي الفعل الضرري فتكون دالة على ان الوضوء الضرري منفي والصلاة الضررية منفية والحج الضرري منفي ومعنى نفيه عبارة عن نفي آثاره واحكامه فتكون القاعدة مخصصة لأدلة الاحكام بغير الضرر كما هو الحال في رفع الخطأ والنسيان فان المراد منهما رفع فعل الخطأ ورفع فعل فيه النسيان فيتم النحو الاول وهو رفع الحكم برفع موضوعه. ودعوى أن الضرر ليس عنوانا للفعل الخارجي حيث لا يحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي وانما الضرر قد يكون مسببا عنه وقد يكون قائما فيه فالفعل الخارجي لا يكون بنفسه منفيا وانما المنفي هو نفس الضرر. مدفوعة بأن رفع الخطأ والنسيان أيضا ليسا بعنوانين للفعل الخارجي وانما هما قائمان فيه مع أن المرفوع هو الفعل الخارجي فليكن ما نحن فيه كذلك.

قلنا مقتضى ظهور اللفظ في المعنى الحقيقي هو حمل النفي والرفع على نفس الطبيعة من ضرر وخطأ ونسيان ونحو ذلك من مدخولات (لا) النافية لا نفي الفعل المتصف بها والقائم بها وهذا المعنى الحقيقي يصح إرادته في قاعدة نفي الضرر حيث أنه يصح أن ينفي الضرر حقيقة في قواعد الاسلام باعتبار عدم ما يقتضي الضرر فيها لما عرفت من صحة نفي الضرر على سبيل الحقيقة في الخارج باعتبار عدم ما يوجبه في الامور الخارجية وصحة نفيه في

٢٢٢

عالم التشريع وفي اطار الشريعة باعتبار عدم ما يوجبه من الاحكام في عالم التشريع. وهذا بخلاف الخطأ والنسيان فان رفعهما لا يكون على سبيل الحقيقة ، اذ لم يكن المقصود من نفيهما ورفعهما قطعا هو عدم وجود أحكام تقتضيها كما يظهر ذلك من سياق حديث الرفع فلا بد أن يحمل نفيهما على غير المعنى الحقيقي ولو سلمنا عدم القطع واحتملنا إرادة المعنى الحقيقي فلا بد من الحمل عليه. وهذا هو الفارق بين النفي في قاعدة الضرر وبين حديث رفع الخطأ والنسيان.

فتلخص أن ظاهر لسان قاعدة الضرر هو نفي ما يوجب الضرر في عالم التشريع كالبيع للمعيب فلا يشرع لزومه وكالوضوء الضرري فلا يشرع وجوبه ونحو ذلك.

ويرد عليه انه على هذا الوجه إنما تدل على نفي جعل الاحكام التي يلزم منها الضرر على المكلف ولا تدل على ثبوت حكم في موردها مع إن القوم استدلوا بها على الضمان والشفعة والخيار.

والجواب عنه بوجوه : ـ

أحدها بأن نفي الحكم الضرري قد يستلزم ثبوت حكم آخر والقوم إنما يستدلون بها على ثبوت بعض الاحكام اذا كان نفي الحكم في موردها يستلزم ثبوت تلك الأحكام الأخر فمثلا قاعدة الضرر تدل على نفي لزوم البيع مع الغبن أو العيب ونفي اللزوم إنما يستدعي ثبوت الخيار لأنه أقرب مرتبة للّزوم من مرتبة فساد البيع. وهكذا قاعدة الضرر تدل على نفي براءة الضار من العقاب وأقرب مرتبة لها أن تكون ذمة الضار مشتغلة بالبدل وهو عبارة عن الضمان وهكذا الكلام في الشفعة. ولا يخفى ما فيه لأن نفي الشيء لا يستدعي ثبوت أقرب مرتبة له بعد انتفائه لا عقلا ولا عرفا ولا شرعا على أنا لا نسلم أنّ ذلك أقرب مرتبة إذ من

٢٢٣

الممكن أن يكون جبران المضرور من بيت المال.

ثانيها إنه إنما صح الاستدلال بها على الضمان باعتبار أن ثبوت براءة ذمة التالف للمال ضرر على المالك فهي مرفوعة بقاعدة الضرر وعدم ثبوت حق الشفعة للشريك ضرر عليه فهو مرفوع ذلك العدم وعدم ثبوت الخيار في الشرع مع الغبن والعيب ضرر على المالك أو صاحب المال فهو مرفوع بقاعدة الضرر فالقوم إنما استدلوا بها على تلك الامور بها الاعتبار.

إن قلت ان هذا ينافي الفقرة الثانية من الخبر وهي قوله عليه‌السلام (ولا ضرار) فانه يقتضي أن لا تثبت الغرامة والضمان على التالف لانه يكون إذ ذاك ضرارا حيث يكون كل منهما قد ضر صاحبه فالأول ضره صاحبه باتلاف ماله ، والثاني ضرّه صاحبه بتغريمه التالف اللهم إلا أن يقال بأن معنى الضرار هو الضرر كما ذكره جملة من اللغويين فتكون الجملة (لا ضرار) مؤكدة للاضرار كما في قولنا (لا يأكل زيد ولا يدخل في فمه الطعام).

قلنا لا يقتضي ذلك فان معنى (لا ضرار) على هذا الوجه بمقتضى السياق هو نفي الاحكام التكليفية والشرعية الموجبة للضرار أي للمشاركة في الضرر بأن يضر كل منهما صاحبه كأن يأمرهما الشارع بأن يتضاربا أو يتقاتلا. وعليه فالحكم بضمان المتلف ليس فيه أمر بالمشاركة بالضرر بل هو حكم استيفائي لما أتلفه المتلف نظير الأمر بالقصاص أو الحد أو التعزير فانها ليست أوامر (ضرارية).

ثالثها ان القوم لم يستدلوا بها على تلك الأمور وانما تمسكوا بها هناك من باب التأييد والتأكيد. ولا يخفى ما فيه فانه صريح كلامهم التمسك بها على سبيل الاستدلال وسيجيء ان شاء الله في

٢٢٤

مبحث الايرادات على القاعدة في الايراد الرابع ما ينفعك هنا فراجعه.

رابع الوجوه المحتملة ان معنى لا ضرر هو ان من طبق القواعد الاسلامية لا يصيبه الضرر نظير تفسير المرحوم والدنا واستاذنا الرضا قدس‌سره وان كان لم يقسر القاعدة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا عدوى في الاسلام) ان معناه هو ان من طبق القواعد الاسلامية ومشى على النظم الاسلامية لا تصيبه العدوى من أحد. وعليه فتكون القاعدة لبيان حكمة التشريع فلا يصح التمسك بها ولكن هذا المعنى خلاف الظاهر فلا يحمل عليه اللفظ. مضافا الى انه لا يناسب استشهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام بها في مقام بيان الحكم الشرعي.

خامس الوجوه المحتملة ان المراد بها النهي ولكن ليس نهي السلطة الالهية وانما هو نهي السلطة الزمنية فيكون المراد النهي المولوي السلطاني فان الرسول الاعظم تارة ينهى ويأمر بالأوامر والنواهي الإلهية كأمره بالصلاة ونهيه عن شرب الخمر وأخرى يأمر وينهى بما هو له السلطة الزمنية والولاية على الرعية مثل أوامر ونواهي صاحب البيت على أهل البيت فان أوامره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونواهيه قد لا تكون بعنوان التشريع كما في طلباته العادية وشئونه الخاصة كأمره بالحرب ونهيه ولا ضرر من قبيل الثاني فان مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يضر أحد غيره ولا يضر كل الآخر فهو نهي صادر منه بما هو حاكم وسلطان لا بما هو نهي الهي. وعليه فلا يصح التمسك بهذه القاعدة في إثبات الحكم الشرعي.

ولكن لا يخفى ما فيه فانه في قصة سمرة قد علل بها الرسول حكمه في الواقعة فلو كانت هي من أحكام الرسول لا من أحكام الله

٢٢٥

لم يكن من الحسن بمكان. ودعوى أن المقام لما كان مقام عرض شكوى الرعية للسلطان فالحكم سلطاني لا آلهي فاسدة فان السلطانية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما كانت آلهية لا شعبية فالاحكام الصادرة منها تكون تابعة لها على ان الاعتماد على القاعدة ممن هو سائر أطواره وشئونه ترجع للاله تكون قرينة في المقام تقتضي كونها آلهية مضافا الى استشهاد الامام عليه‌السلام بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها فانها لو كانت من أحكام الرسول لا من أحكام الله تعالى لما صح استشهاد الامام عليه‌السلام بها. هذا مضافا لفهم العلماء وأهل اللغة من أدلتها انها حكم الله تعالى وفهمهم كعملهم موجب للوثوق بجهة الصدور وانها صادرة من المعصومين باعتبار انها حكم الله تعالى مضافا الى ان ضرب القاعدة بنحو الحكم العام الشامل لجميع الأفراد والأزمان لا يصدر من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا من غيره من المعصومين عليهم‌السلام إلا باعتبار أنه حكم الله تعالى. مضافا الى ما تقدم من أن الرسول لا ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى بل اعمال كذلك أيضا ولذا قال الله تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فهي بوحي من الله تعالى فتكون من أحكام الله تعالى وقد تقدم لك في بحث اجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ينفعك هنا. ثم انه كيف يعقل ان يحكم الرسول بين الرعية في أموالهم بغير حكم الله تعالى فانه فيه إعراض عن حكم الله تعالى والعمل بحكم نفسه. وفي القضاء لا يجوز الحكم بغير حكم الله تعالى.

٢٢٦

المقام الخامس فيما يورد على هذه القاعدة : ـ

وقد أورد عليها بأمور : ـ

أحدها ان نفي الضرر كيف يصح مع ما نشاهده من التكليف بالجهاد والحج والصيام في شدة الحر والجهاد وأمثالها وقد أجيب عنه بوجوه : ـ

أحدها ما يحكى عن صاحب العوائد والعناوين من ان الضرر في تلك الموارد متدارك بالنفع الدنيوي من دفع بلية أو حفظ نعمة أو زيادة مال كما دلت عليه الأخبار في الخمس والزكاة أو متدارك بنفع أخروي من ثواب عظيم وأجر كريم بحيث لا يكون ما أصابه من الضرر ضررا حقيقة فان مع التدارك لا يكون الضرر ضررا حقيقة ألا ترى ان من يبذل ماله لنفع دنيوي كما في البيع والشراء لا يقال انه تضرر بأخذ ماله منه لأنه قد تدارك نقصان ماله بما أخذه من العوض وفي الموارد المذكورة يستكشف من أمر الشارع بها الضرر المأمور به كالزكاة والجهاد والخمس كان متداركا بنفع دنيوي أو أخروي بحيث لا يكون ذلك ضررا عليه. وعليه فاذا دل الدليل على ثبوت الحكم للأمر الضرري على نحو الخصوص كالأدلة الدالة على وجوب الجهاد أو بنحو العموم كالادلة الدالة على وجوب الوضوء على نحو العموم للوضوء الضرري وغيره فانه يستكشف منها أن ذلك الموضوع الضرري وان ذلك الفرد الضرري ليس بضرر وأنه متدارك بنفع أكثر منه يوجب كونه ليس بضرر ضرورة تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد. وعلى هذا فتكون قاعدة نفي الضرر من قبيل الأصول العملية لا يتمسك بها إلا في مقام عدم الدليل على الحكم اذ مع وجود الدليل على الحكم ولو بنحو العموم يكون الضرر ليس بضرر فلا تشمله قاعدة لا ضرر كما هو الشأن في الاصول العملية فتكون من

٢٢٧

قبيل الاصول العملية لا من قبيل الأدلة اللفظية ولا العقلية. ولا يخفى ما في ذلك فان الأخبار المتقدمة المتضمنة للمتمسك بقاعدة (لا ضرر) تدل على التمسك بالقاعدة في مقابل الأدلة للدالة على خلافها كما في قصة سمرة فانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمسك بالقاعدة في مقابل ما دل على عموم سلطنة المالك في تصرفه في ماله من الطريق والعذق وكذا أثبت بها الشفعة في مقابل عموم لزوم الوفاء بالعقد الى غير ذلك مما يجده المتتبع مضافا الى أن تمسك الفقهاء بها في مقابل العمومات كرفع الوجوب عن الوضوء الضرري ونحوه مما يدل على إنها ليست كما ذكره الخصم مضافا الى أن الضرر المأخوذ في القاعدة هو الضرر العرفي لأن الروايات في بيان عظمة الاسلام ومراعاة قوانينه للمنفعة البشرية فهي لا بد وان تكون ناظرة لما يراه العرف ضررا والعرف لا يرى أن مثل تلك المنافع ترفع الضررية عن الضرر حقيقة كيف لا والمتبادر من الضرر المنفي هو الضرر الدنيوي الحاصل بنقص في المال أو العرض أو البدن فان التدارك الأخروي لا يزيل صدق الضرر بالمعنى المذكور على أفراده. مضافا الى أن لسان أدلة لا ضرر هو لسان الحكومة وبيان للاحكام الصادرة من الشارع فهي ناظرة الى الاحكام الشرعية ومفسرة ومبينة الى أن متعلقها ليس فيه ضرر فتكون حاكمة على عموم أدلة الاحكام ولازم ذلك انها تكون شارحة الى ان متعلقاتها الضررية ليست فيها مصلحة تقتضي ثبوت الحكم لها وإلا لم يكن لحكومتها وجه فان الشارع اذا أوجب الوضوء على نحو العموم لصورة التضرر به كان ذلك كاشفا عن وجوه مصلحة فيه حتى في مورد الضرر لتبعية الاحكام عندنا للمصالح والمفاسد. لكن حكومة هذه القاعدة على إطلاق الأمر بالوضوء يكشف عن عدم وجود المصلحة في مورد الضرر

٢٢٨

يتدارك بها الضرر الموجود وإلا لو فرض وجود المصلحة في مورد الضرر يتدارك بها الضرر لم يبق مورد لهذه القاعدة ولم تكن لها حكومة على أدلة عمومات الاحكام وهو خلاف ظاهر أدلتها بل صريحها.

ثانيها تسليم ان تلك الامور إضرار حقيقة لكن الضرر المأخوذ في القاعدة هو الضرر غير المتدارك وهذه الأمور المأمور بها كالجهاد ونحوه أضرار متداركة بنفع دنيوي أو أخروي وفيه ما في قبله.

ثالثها ان أدلة قاعدة الضرر وان كانت لسانها لسان حكومة ومقتضى القاعدة هو تقديمها على سائر الأدلة لكن الدليل الحاكم لا يعقل تقديمه على ما هو أخص منه وإلا لزم لغويّة الأخص ففي المقام لا بد من تخصيص أدلة قاعدة الضرر بأدلة تلك الاحكام التي كان موضوعها ضرريا اذ لو لم نخصصها بها لزم لغوية أدلة تلك الاحكام حيث إنه لم يبق لها مورد فصونا لكلام الحكيم عن اللّغويّة خصصناها بها. ودعوى أنه يلزم تخصيص قاعدة (لا ضرر) بالأكثر لكثرة التكاليف التي كانت موضوعاتها ضررية. وعليه فلا يصح التمسك (بلا ضرر) لوهن عمومها بذلك. فاسدة لأنه لم يبلغ التخصيص حد الاستهجان ولذا تمسك بها النبي والأئمة عليهم‌السلام كما في الاخبار المتقدمة وإلا لزم سقوطها وعدم صحة التمسك بها.

ان قلت انه على هذا يسقط الاستدلال بها على نفي الاحكام الضررية لأنه ان كان فيها نص فهو مخصص للقاعدة وان لم يكن فيها نص من الشارع فهو غير مجعولة فلا يحتاج في نفيها لقاعدة (لا ضرر).

قلنا تخصص بها الأعم منها الذي لا يلزم من تخصيصه بها

٢٢٩

استهجانه كتخصيص وجوب الوضوء ونحوه بها كما انه نرفع بها الاحكام الضررية المحتمل ثبوتها كجواز إضرار الغير وسيجيء ان شاء الله موارد التمسك بها في المقام.

ان قلت ان نفي الضرر كان حكما امتنانيا فهو آب عن التخصيص.

قلنا كونه امتنانيا لا يأبى عن التخصيص اذا كانت المصلحة في المخصص كما في الاحكام الحرجية.

رابعها ان هذه الاحكام الشرعية لا ضرر فيها فان فيها المصلحة والنفع التام إما للفرد كما في الصوم أو للمجتمع وهو الجهاد فان فيه رفع شئون المسلمين وتوسعة دائرتهم وهكذا الخمس والزكاة فان فيها سد فاقة الفقير عن التعدي على الغير وحصول التحاب بين الغني والفقير كما ان كل مشقة وكل تعب في مقابل الاجرة لا يسمى ضررا. كما ان تشريع القصاص وأخذ الديات من المباشر أو العاقلة والحكم بجواز قتل مجموع العشرة المشتركين في قتل واحد مع دفع تسعة أعشار الدية الى وارثهم وبيع طعام المحتكر وضمان التالف والغاصب وأمثالها من الاحكام فانها ليست بأحكام ضررية لما فيها صلاح المجموع وسد باب الضرر وصون النفوس عن الوقوع في المهالك وصيانة الاموال عن التلف فعد تلك الاحكام من الأحكام الضررية ناشئ عن العفلة والجهالة كما يشتري الملابس لئلا يقع في البرد ولذا هذا النحو من الاحكام شرعه العقلاء لدولهم والملوك لأتباعهم في سبيل سعادتهم ورقي مجتمعهم.

ثاني الايرادات عليها ان قاعدة الضرر ان كانت حكمة فهي لا يمكن أن يعتمد عليها في استفادة الاحكام الشرعية الكلية أو الجزئية وان كانت علة لزم أن يدور الحكم الشرعي مدارها

٢٣٠

وجودا وعدما. فيخصص بموارد وجودها ويعم بموارد عدمها. وعليه فيلزم أن يخصص حق الشفعة بموارد لزوم الضرر من الشركة الثانية. ويلزم ثبوت حق الشفعة في غير البيع من المعاملات.

وجوابه ان (لا ضرر) كلا حرج يقتضي رفع الضرر الشخصي فكل مورد فيه الضرر ترفع حكمه قاعدة الضرر كالصوم والوضوء والحج اذا وجد فيها الضرر. وهكذا تقتضي رفع الضرر النوعي فكل حكم وجد في نوع أفراده الضرر ترفع تشريعه القاعدة فلزوم البيع على غير الشريك في نوع أفراده الضرر فترفع تشريعه القاعدة المذكورة كما قررناه في قاعدة الحرج وهكذا في باقي المعاملات لكن لما كانت القاعدة إنما هي ترفع الحكم ولا تثبت حكما إلا اذا كان لازما لرفع ذلك الحكم والملازمة تارة تكون واضحة وتارة يكشفها المعصوم عليه‌السلام ففي باقي المعاملات ان كانت واضحة اقتضت ثبوت ذلك الحكم الآخر وإلا فلا وسيجيء إن شاء الله توضيح ذلك في الموارد التي يتمسك بالقاعدة فيها وفي الايراد الثالث.

ثالث الايرادات ان (لا ضرر) انما هي تنفي الاحكام الشرعية الضررية فكيف استدل بها القوم على إثبات بعض الاحكام الشرعية كحق الفسخ وحق الشفعة ونحوها.

وجوابه ان الظاهر أنهم انما استدلوا بها على نفي لزوم البيع لغير الشريك وعلى نفي لزوم البيع للمعيب أو مع الغبن. ولكن لما كان نفي ذلك يستلزم ثبوت حكم آخر استدلوا بها عليه فان نفي لزوم البيع للمعيب لازمه الخيار وهذا الاستلزام تارة يكون بينا واضحا عند المستدل بها فيستدل بها على ذلك الحكم واخرى يكون خفيا ولكن المعصوم عليه‌السلام استدل بها على الحكم

٢٣١

ومقتضى استدلاله عليه‌السلام أن يكون قد اطلع على الاستلزام فاستدل بها عليه.

رابع الايرادات ان قاعدة لا ضرر كما تدل على نفي لزوم البيع مع الغبن للزوم الضرر على المغبون من الطرفين المتبايعين كذلك تقتضي نفي الخيار عند البيع مع الغبن للزوم الضرر على غير المغبون من الطرفين باسترجاع ملكه الذي استفاده بواسطة ثبوت حق الخيار للمغبون وقس على هذا باقي الموارد. ودعوى ان استرداد المبيع ليس فيه ضرر على المشتري وانما هو عدم نفع له لا تنفع لأنا نفرض الكلام فيما كان في ذلك ضرر عليه على أنه يكون من قبيل الخسارة المالية وهي ضرر عليه.

وجوابه ان مرتبة الخيار متأخرة عن مرتبة البيع فاذا كان البيع فيه ضرر فتشمله قاعدة لا ضرر قبل ضرر الخيار فلا يبقى مجال لشمولها لضرر الخيار لأنه ينافيه نظير الاستصحاب في الشك السببي والمسببي.

وتنقيح الحال وتحقيقه أن يقال ان الاحكام الشرعية اذا لزم من صدقها التسلسل تثبت في مصداقها الاول دون البقية فمثلا وجوب رد التحية يقتضي التسلسل لأن الرد أيضا تحية وهلم جرا وهكذا الحكم بأن من قتل نفسا متعمدا يقتل بها يقتضي التسلسل لأن المقتص بالقتل يصدق عليه الموضوع ففرارا من التسلسل الذي يقطع بعدم إرادته يحمل الكلام على إرادة الفرد الاول منه ، وفيما نحن فيه نفي لزوم البيع الضرري الذي دلت عليه قاعدة لا ضرر يتولد من نفس هذا النفي ضرر على البائع للمعيب بارجاع بضاعته له وهو حكم شرعي أيضا فمقتضى القاعدة نفي هذا النفي المذكور ونفي هذا النفي المذكور فيه ضرر على المشتري وهو حكم شرعي فمقتضى قاعدة (لا ضرر) ففيه وهلم جرا فيلزم التسلسل

٢٣٢

فيدور الأمر بين إلغاء القاعدة في المعاملات أو جعلها مختصة بضررها الاول. ولا ريب في عدم صحة إلغاء القاعدة في المعاملات لتمسك الفقهاء بها فيها ولتمسك المعصومين عليهم‌السلام بها فيها وأظهرها ما ورد من قصة سمرة بن جندب.

خامس الايرادات ما ذكره المرحوم الانصاري وتبعه بعضهم وحاصله إن قاعدة (لا ضرر) يوهنها كثرة التخصيصات بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي كما لا يخفى على المتتبع خصوصا على تفسير الضرر بادخال المكروه فانه يلزم تخصيصها بأحكام القصاص والديات والضمان والزام المحتكر ببيع الطعام وأخذ الدية من العاقلة والحكم بجواز قتل العشرة من المشتركين في قتل واحد مع دفع تسعة أعشار الدية الى وارثهم واشباه ذلك من الحج والجهاد والصوم والصلاة والخمس والزكاة ووجوب الانفاق على واجبي النفقة والكفارات ونحو ذلك فان كثرة التخصيص يدل على ان المراد بالعام معنى غير هذا المعنى بحيث لا يوجب كثرة التخصيص به فتكون قاعدة (لا ضرر) مجملة أو يكون عمومها ليس بمراد فلا يصح التمسك بها إلا في الموارد المنصوص عليها أو الموارد التي عمل الاصحاب بها كقاعدة (القرعة). واجاب عنه بأنه يمكن أن يكون التخصيص بهذه الموارد بعنوان واحد جامع. ولا استهجان في التخصيص بالأكثر اذا كان بعنوان واحد. وعليه فلا مانع من التمسك بقاعدة (لا ضرر). وأشكل عليه في الكفاية تبعا لغيره من أنّ التخصيص بالاكثر مستهجن سواء كان بعنوان واحد أو بعناوين متعددة.

والحق في الجواب إن أغلب هذه الاحكام هي للتخلص من الضرر وسد أبوابه على العباد وصون نفوسهم من معرض التهلكات وصيانة أموالهم وأعراضهم عن التعديات. وأما مثل الحج

٢٣٣

والجهاد ونحوهما فهي ليس من الضرر بل يحصل الضرر بتركها لأنها فيها من المصالح العامة والخاصة ودفع المفاسد ما يوجب عدم كونها ضررا ألا ترى إن العرف والعقل لا يرى اصلاح ذات البين ضررا وان كلف القائم به العناء الكثير وهكذا شرب الدواء والفصد والحجامة لا ذهاب الداء ليس من الضرر وان تألم الانسان منه أو بذل فيه المال لما يترتب على ذلك من المصالح ودفع المفاسد فالمذكورات أغلبها من هذا القبيل فان الجهاد فيه رفع مستوى البشرية وانقاذها من أيدي العتاة المردة. والحج فيه الجمع بين أهل الجدة من المسلمين للتعارف فيما بينهم وللتفاهم فيما يرفع مستواهم في إخلاص نية وتوجه نحو الله عزوجل. والضمانات والديات والقصاص ونحوها انما شرعت لدفع الفساد وإزالة الظلم والعدوان فلا يلزم التخصيص للقاعدة بالأكثر لأن أغلب المذكورات لم يكن فيها ضرر والباقي منها على تقدير وجوده فهو قليل جدا لا يضر تخصيص القاعدة به. على إنا لو سلمنا أنّ المذكورات بأجمعها فيها ضرر واضعافها مثلها فالتخصيص بها ليس بتخصيص بالأكثر فان نسبتها الى الاحكام الشرعية نسبة القطرات الى البحر والذرات الى التراب فقاعدة (لا ضرر) تشمل سائر الأضرار في متعلقات الاحكام الشرعية من دون مخصص لها سوى المذكورات ونحوها وهي أقل القليل من الباقي تحتها.

المقام السادس في تعارض قاعدة لا ضرر

ان التعارض في قاعدة لا ضرر على أقسام : ـ

أحدها أن يقع التعارض بين ادلتها وبين أدلة القواعد التي في مرتبتها ولا حكومة لها عليها كقاعدة الحرج كما لو كان تصرف المالك في ملكه مضرا بجاره مع ان منعه من التصرف في ملكه حرج

٢٣٤

عليه وكقاعدة عدم الاكراه كما في صورة ما اذا أكره على ضرر الغير فان قاعدة الاكراه تقتضي جواز إضراره للغير وقاعدة لا ضرر تنفي الجواز.

ثانيها أن يقع التعارض بين أدلة لا ضرر والأدلة الاجتهادية للاحكام الشرعية كما في صورة ما اذا كان الوضوء فيه ضرر عليه فان أدلة الوضوء تقتضي وجوبه حتى لو كان ضرريا وأدلة الضرر تقتضي عدم وجوبه.

ثالثها أن يقع التعارض بين أدلة لا ضرر وبين الأدلة الفقاهية للاحكام الشرعية أعني بينها وبين أدلة الأصول العملية كما في الشبهة المحصورة اذا كان ارتكاب بعض أطرافها مضرا فان أدلة الاحتياط تقتضي الاتيان بجميع أطرافها وأدلة الضرر تقتضي عدمه.

رابعها في تعارض الضررين كما اذا أدخلت الدابة رأسها في قدر الغير بحيث لا يخرج رأسها إلا بكسر القدر أو بكسر رأسها أما في الاول وهو التعارض بينها وبين ما كان في مرتبتها فانه لما كانت ليست لها حكومة عليه ولا أخصية منه. فالقاعدة هو الرجوع لقواعد التعادل والتراجيح على نحو سائر التعارض بين القواعد العامة والذي قيل بتعارض قاعدة لا ضرر معه من القواعد ووقع البحث فيه هو قواعد ثلاث قاعدة الحرج وقاعدة الاكراه وقاعدة السلطنة.

أما قاعدة الحرج اذا وقع التعارض بينها وبين قاعدة لا ضرر فمقتضى القاعدة هو التساقط لعدم حكومة إحداهما على الاخرى لكون كل منهما ناظرا لنفي الحكم ولا أخصية لاحدهما على الاخرى وتساويهما في المرجحات الدلالية والسندية فمثلا لو كان ضرر في تصرفه في ملكه على الجار وترك تصرفه فيه حرج عليه كما لو أراد

٢٣٥

حفر بالوعة في داره وكان فيها ضرر على جاره وترك حفرها حرج عليه فهنا تعارضت قاعدة لا حرج مع قاعدة لا ضرر لأن لا حرج تقتضي نفي حرمة إضرار الجار وقاعدة لا ضرر تقتضي حرمة التصرف في الدار لأن فيها ضررا على الجار فيتساقطان ويرجع الى قاعدة السلطنة حيث لا قاعدة مقدمة عليها فيتصرف في داره واذا لحق الضرر على جاره ضمنه لقاعدة الضمان.

وأما تعارض قاعدة لا ضرر مع قاعدة الاكراه فالقاعدة هو ما ذكرناه من تساقطهما لعدم حكومة إحداهما على الاخرى لأن كلا منهما لسانها لسان نفي التكليف وقد مثل لذلك بما لو اكرهه الجائر على إضرار الغير فان قاعدة الاكراه تقتضي جواز اكراهه وقاعدة لا ضرر تقتضي عدم جواز اكراهه لأن جواز إضرار الغير فيه ضرر على الغير.

ولكن التحقيق ان قاعدة الاكراه لا تعارضها في المقام قاعدة لا ضرر لأن قاعدة لا ضرر تتعارض أفرادها فيه بنحو التكاذب وذلك لأن (لا ضرر) تنفي حرمة أضرار الغير عن المكره لانها فيها ضرر عليه بواسطة إكراه الظالم له على إضرار الغير واباحة ضرر الغير التي هي بالمعنى الأعم والتي ترجع لعدم حرمة ضرر الغير أيضا تنفيها (لا ضرر) لأنه فيها ضرر الغير. وان شئت قلت ان الاباحة والاستحباب والكراهة والوجوب لإضرار الغير تنفيها (لا ضرر) فلا بد أن تكون (لا ضرر) كاذبة أما في حرمة اضرار المكره للغير أو في إباحة ضرر المكره للغير لأن الموجود في الواقع أما الحرمة المذكورة أو عدمها الذي هو الاباحة بالمعنى الأعم لاستحالة ارتفاع النقيضين فهو نظير تكاذب قول المولى (كل خبر يخبر به العادل عني فهو صحيح مطابق للواقع) في الخبرين المتعارضين المتنافيين كالخبر بأن ثمن العذرة سحت والخبر بأن

٢٣٦

ثمن العذرة ليس بسحت لأن قاعدة لا ضرر كما تقدم إنما هي أخبار عن عدم جعل الحكم الضرري وفيما نحن فيه لما كان لا بد من أحد الحكمين أما حرمة إضرار الغير أو عدمها في صورة الاكراه على إضرار الغير فيكون الاخبار بعدم أحدهما يكذبه الاخبار بعدم الآخر واذا لم تجيء قاعدة لا ضرر فيه فيبقى عندنا في المقام قاعدة الاكراه مع التكليف بحرمة إضرار الغير ويقع التنافي بينهما فقاعدة الاكراه تقتضي عدم حرمة إضرار الغير والتكليف بحرمة إضرار الغير يقتضي ثبوت الحرمة باضرار الغير ويمكن ان يقال بل ربما قيل بتقديم قاعدة الاكراه على حرمة إضرار الغير لأن أدلة قاعدة الاكراه حاكمة على أدلة التكاليف الشرعية لكون لسانها لسان نفي لكل تكليف أوّلي يكره الانسان على مخالفته. ولا ريب ان حرمة إضرار الغير نظير حرمة شرب الخمر من التكاليف الأولية فترتفع عند الاكراه على مخالفتها كما ترتفع حرمة شرب الخمر. ولكن يمكن ان يقال ان أدلة نفي الاكراه لا تشمل صورة الاكراه على إضرار الغير لوجهين : ـ

الأول إن المستفاد من أدلة الاكراه ولو بقرينة الحال ومناسبة الحكم للموضوع أنّ نفي الحكم عما أكره عليه ليس إلا من جهة دفع الضرر وعدم تحققه على المكلف. وعليه فلا يعقل أن تكون أدلة الاكراه تشمل المورد الذي يكون نفي الحكم عنه يوجب الضرر على المكلف. فان ما شرع لعدم تحقق شيء لا يعقل أن يوجد هذا التشريع في مورد يوجب ذلك الشيء. وعليه فلا تشمل أدلة الاكراه ما نحن فيه لأن رفع حرمة إضرار الغير عند الاكراه على إضراره يستلزم تحقق الضرر على الغير وهو خلاف ما شرعت له فلا بد أن نلتزم بعدم تشريعها في المقام وهذا نظير قولهم عليهم‌السلام «انما جعلت التقية ليحقن بها الدماء فاذا بلغ الدم فلا تقية»

٢٣٧

الثاني ان أدلة نفي الاكراه انما كانت واردة في مقام الامتنان على الأمة باباحة ما أكرهوا عليه ولا منّة على الأمة في إباحة الاضرار بالغير مطلقا. وعليه فيكون الثابت في مقام الاكراه على إضرار الغير هو حرمة الاضرار للغير بلا معارض. ولكن يمكن أن يجاب عن الوجهين المذكورين.

إما عن الأول فبأن أدلة الاكراه هي ترفع كل حكم كان يحدث بسببه الضرر. وفيما نحن فيه الحكم بحرمة إضرار الغير يحدث بسببه الضرر على المكره من الجائر بخلاف عدم هذه الحرمة فانه لا يحدث بسببها الضرر على الغير لأن الضرر على الغير كان متوجها من الجائر إليه سواء امتنع المكره عن إضراره أم لم يمتنع وبهذا تعرف الجواب عن الوجه الثاني لأن المنة هي عدم حدوث الضرر بالتكليف وأما رفع التكليف الذي يكون الضرر موجودا سواء رفع أم لم يرفع فلا منّة في رفعه وفي المقام رفع حرمة إضرار الغير فيها منّة على المكره لأن بالحرمة يتوجه عليه الضرر من المكره وليس برفعها يتوجه ضرر على الغير لأن الضرر هو متوجه على الغير من الجائر سواء رفع الشارع الحرمة أم أبقاها. وبهذا يظهر لك إن قاعدة لا ضرر أيضا لا تتعارض في المقام لأنها إنما ترفع التكليف الذي به يتوجه الضرر. وعدم حرمة اضرار الغير قد عرفت إنه لا يتوجه به ضرر على الغير لأن الضرر متوجه له من الجائر سواء رفعت حرمة إضرار الغير من المكره أم لم ترفع بل ان من مقام المنة أن يرفع حرمة إضرار الغير عن المكره إذ لو لم يرفعها لكان الجائر يوقع الضرر على المكره وعلى الغير فيكونان تضررين بدل الواحد. وعليه فقاعدة (لا ضرر) وقاعدة الاكراه متفقتان على رفع حرمة إضرار الغير عن المكره لتوافقهما بحسب المؤدى بل وقاعدة لا حرج فيما اذا كان بمخالفة الجائر حرج عليه وعند ذا

٢٣٨

يرفع اليد عن حرمة إضرار الغير لأن هذه القواعد الثلاث حاكمة على أدلة التكاليف الأولية كحرمة شرب الخمر ونحوها. وعند ذا يجوز له إضرار الغير اذا أكره عليه.

نعم الضمان يكون ثابتا للغير فيما اذا أتلف من ماله شيئا لقاعدة الضمان ولكن الضامن هو الجائر لا المكره لأن المسبب هو الجائر وهو أقوى من المباشر. نعم لو علم من الخارج إن المكره عليه لا يرضى الشارع بارتكابه ولو أكره عليه كهدم الكعبة ونحوه فأدلة الاكراه لا تشمله وهكذا الدماء لو أكره عليها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «جعلت التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغ الدم فلا تقية» فان أدلة الاكراه تكون مخصصة بذلك والأخص من العام لا يكون العام حاكما عليه وإلا لم يبق للخاص مورد. هذا والمعروف عن صاحب الجواهر والشيخ الانصاري انهما اختارا كون الاكراه مسوغا للاضرار بالغير مطلقا حتى لو كان الضرر المتوعد عليه أقل من الضرر المكره عليه المتوجه للغير من المكره واستدلوا على ذلك أولا باطلاق أدلة رفع الاكراه فانها واردة في مقام الامتنان وهي تقتضي دفع الضرر عن المكره لأنه لم يتوجه إليه الضرر إلا على تقدير المخالفة ولا تقتضي رفع الضرر المتوجه للغير بنحو الحتمية من جانب المكره.

وثانيا بالمصحح أو الموثق عن أبي جعفر عليه‌السلام «انما جعل التقية ليحقن بها الدم فاذا بلغ الدم فليس تقية» حيث دل على إن حد التقية بلوغ الدم فتشرع لما عداه. وحكي عن بعضهم ما ظاهره إن المسألة من باب التعادل والتراجيح بين ما يظلم به الغير وبين ما يخشاه من الظلم عليه فيرتكب ما هو الأقل ومع التعادل يتخير. وحكي عن بعض المعاصرين لزوم تحمل المكره الضرر لو كان مباحا والرجوع الى باب التزاحم اذا كان الضرران مباحين كما

٢٣٩

لو اكره على سرقة مال الغير أو الزنا بزوجته وأما تعارض لا ضرر مع قاعدة السلطنة الثابتة بالحديث النبوي المشهور المروي في كتب الاصحاب المعمول به عندهم وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الناس مسلطون على أموالهم» فالظاهر تقديم قاعدة (لا ضرر) عليها كما ينسب ذلك الى المحقق القمي ولغيره لحكومتها عليها لأن (لا ضرر) لسانها لسان نفي التكاليف الضررية وقاعدة السلطنة لسانها لسان إثبات حكم وضعي لأنها تثبت السلطنة للمالك على ماله. وقد مثلوا لذلك بمثل ما اذا كان التصرف في داره أو ماله موجبا لتضرر الغير دون أن يكون في ترك تصرفه في ملكه ضرر عليه أو حرج عليه فانه في هذه الصورة لا يعارض قاعدة (لا ضرر) إلا قاعدة السلطنة وقد عرفت أنّ قاعدة (لا ضرر) مقدمة عليها لأنها ناظرة إليها وشارحة لمقدار دلالتها. ويؤيد ذلك استقرار سيرة العقلاء على الرجوع حتى لمحاكم الجور فيما لو تضرر الجار من جاره. بل وسيرة الاصحاب لأنهم استندوا في إثبات الشفعة الى قاعدة الضرر مع مخالفتها لقاعدة السلطنة لأن تسلط الشفيع على فسخ العقد ونزع المال من يد صاحبه مناف لعموم السلطنة الثابتة بوقوع العقد صحيحا. وما في الأخبار المتقدمة من استناد الصادق عليه‌السلام الى قاعدة نفي الضرر في إثبات الشفعة والأخبار التي اشتملت على فصة سمرة.

إن قلت إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الناس مسلطون على أموالهم» وارد في مقام إمضاء طريقة العقلاء. وعموم قاعدة (لا ضرر) وان صلح لتخصيص عموم السلطنة إلا ان عموم السلطنة من حيث نظره الى إمضاء عموم تصرفات ذوي الأموال التي من جملة أفرادها المتداولة تضرر الجار بتصرفهم يكون مبيّنا لقاعدة لا ضرر وحاكما عليها ومما يوضح ذلك ان قوله صلى الله

٢٤٠