مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين.

وبعد فيقول المفتقر الى الله تعالى علي نجل المرحوم الشيخ محمد رضا نجل المرحوم الشيخ هادي من آل كاشف الغطاء قد وضعت هذا الكتاب للبحث عن الأدلة والأصول التي تستمد منها الفقهاء القوانين الشرعية وتستنبط منها المسائل الفرعية وترجع إليها في معرفة الأحكام الفقهية سواء أفادت القطع بالحكم الشرعي أو الظن المعتبر به أو كانت مما يرجع إليها في مقام الشك في الحكم الشرعي كالأصول العلمية بل يمكن لأرباب القوانين المدنية ان يستفيدوا منها وينهلوا من معين معدنها متوخيا في ذلك سبيل الاختصار المثمر الذي لعله يغنيهم عن التطويل وباحثا عن كل دليل أو أصل اتخذه الفقهاء مستندا للحكم الشرعي الفرعي أو اتخذه أرباب القوانين المدنية مصدر وسميته ب «مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني».

والله الموفق للانتفاع به

٣

التنبيه الخامس في استصحاب الامور غير القارة : ـ

الموجودات على قسمين : ـ

قارة ودفعية وهي التي يكون بقاؤها بوجود واحد مستمر كالطهارة والنجاسة وكزيد وعمرو.

وغير قارة وتدريجية وهي التي يكون بقاؤها بوجود تدريجي منصرم يتجدد شيئا فشيئا فلا يتحقق جزء منه الا بعد انعدام ما قبله وهو : ـ

أما ان يكون تدرجه بالذات وهو : ـ

الزمان كالليل والنهار واليوم وغيرها من أقسام الزمان.

وزماني كالحركة والقراءة وجريان الماء والدم والمشي والأكل وغيرها من الأفعال الزمانية التي يكون وجودها متصرما لا يتحقق جزء منه الا بعد انعدام ما قبله.

وإما أن يكون تدرجه وعدم قراره بالعرض بواسطة تقيده بأمر غير قار بالذات الا في نفسه يكون قارا كما لو أمره المولى بالإمساك طول النهار أو بالسكوت عند تكلم أبيه.

والظاهر هو صحة الاستصحاب في جميع ذلك فيصح استصحاب الليل والنهار والسنة واستصحاب سيلان دم الحيض وجريان الماء من المادة واستصحاب كون الامساك امساكا في النهار وكون الصمت صمتا عند قراءة القرآن بل واستصحاب سعة الزمن والوقت للعمل بمستحباته فاذا شك في كون الوقت بقي منه ما يسع الصلاة بوضوئها أو الغسل لها أو انه ضيق فيكون حكمه التيمم لها استصحب السعة وان أبيت فيصح منه ان يستصحب بقاء الوقت الى حين تمام العمل بشرائطه فيستصحب بقاء الوقت لصلاة الفجر بمقدماتها من وضوء أو غسل ويكون من الاستصحاب

٤

للامور المستقبلة الذي سيجيء ان شاء الله منا الكلام في صحته وقد اشتهر الايراد على صحة الاستصحاب في الامور غير القارة بعدم تحقق اركان الاستصحاب فيها لان المتيقن من وجودها السابق مقطوع الزوال والمشكوك من وجودها مقطوع عدمه في السابق فكلما يشك في وجود جزء منه يؤول الشك الى الشك في حدوثه ووجوده ابتداء وان شئت قلت انه في هذه الأشياء لم يتحقق معنى البقاء.

أما في غير القار بالذات فلوضوح ان البقاء عبارة عن وجود الشيء الموجود في الزمان الاول بعينه في الزمان الثاني ولا ريب ان هذا المعنى لا يتصور بالنسبة لغير القار بالذات لأن وجود كل جزء منه مرتب على انعدام الجزء السابق منه حيث ان اجزاءه تتحقق على سبيل التدريج ولازمه عدم صدق البقاء لآن المتيقن وجوده منه مقطوع عدمه في زمان الشك.

وأما في غير القار بالعرض كالإمساك في نهار الخميس فلأن التمييز بين أجزائه يكون بأجزاء ما قيد به من الأمر التدريجي فيكون كل جزء منه مقرونا ومتقوما بجزء من الأمر التدريجي وعليه فيكون تحقق كل جزء منه مرتبا على انعدام جزئه المتحقق قبله لأن المقيد لا بقاء له بعد انتفاء قيده.

وجوابه أن يقال ان المعتبر في الاستصحاب هو امكان بقاء المستصحب على نحو وجوده الثابت له فلو كان وجوده الثابت له بنحو القرار فالمعتبر في الاستصحاب هو امكان بقائه له بنحو القرار وان كان وجوده الثابت له بنحو التجدد وعدم القرار فالمعتبر في الاستصحاب هو امكان بقائه له بنحو التجدد وعدم القرار حتى انه لو قدر عدم امكان بقائه بذلك النحو لم يكن ذلك

٥

البقاء بقاء له فالوجود وبقاء الوجود لماهية المستصحب وشخصيته لا بد في الاستصحاب من كونها من سنخ واحد وإلّا لم يكن البقاء بقاء لوجود طبيعة المستصحب أو شخصيته وليس يعتبر في الاستصحاب كون بقاء المستصحب بوجود آخر فلا يتفاوت الحال في جريان الاستصحاب بين انحاء الوجود وبهذا التقريب لا تسامح في المستصحب غير القار ولا في معنى بقائه إلّا انه يمكن ان يقال عليه ان هذا يصح لو استصحب بقاء نفس الليل أو نفس النهار لصدق أن الشخص كان على يقين من وجود الليل والآن يشك في بقائه فيستصحبه إلّا أن ذلك لا ينفع في إثبات كون الجزء المشكوك فيه من الليل حتى يصدق على فعل إنه وقع في الليل إلا على القول بالأصل المثبت فهو نظير من كان يعلم ورثته انه عنده ثوب أمانة من زيد ، وشكوا في دفعه له فان استصحاب بقاء الأمانة لا يثبت أن هذا الثوب الموجود عنده وحده هو ثوب الأمانة لأنه لازم عقلي فكذا ما نحن فيه فالأولى أن يستصحب وجوده في الليل أو وجود الليل له أو عنوان الليل للزمان الذي نحن فيه فالزمان كنا نقطع بأنه كان متصفا بالليل والآن نشك في اتصافه به فنستصحبه وهكذا وصف السعة للعمل وضيقه فمثلا كان الليل يسع لهذا العمل فاذا شككنا في سعته له أو ضيقه فنستصحب السعة ومن هذا الباب استصحاب سعة الوقت للصلاة مع الوضوء واذا أبيت عن ذلك فلك أن تقول أن المناط في الاستصحاب هو صدق النقض عرفا على معاملة العدم مع المتيقن السابق بأن يعامل المتيقن السابق معاملة عدمه وصدق عدم النقض عرفا على معاملة البقاء والابقاء مع المتيقن السابق بأن يعامل المتيقن السابق معاملة وجوده فعلا وهو في الامور غير القارة حاصل وذلك لأن الأجزاء المتدرجة في الخارج تعدّ عرفا

٦

وجودا واحدا فترى العرف يعدّ الليل أمرا واحدا وتراه يعد النهار أمرا واحدا وهكذا في التكلم فانه يعدّه أمرا واحدا فيعدون القصة أو القضية أو مجموع الصادر منه في خطبة أو قصيدة أو مجلس واحد أمرا واحدا ويرشد الى أن وجود هذا الامور الواحد التدريجي عندهم وجودا واحدا مستمرا هو عدّهم وجوده بوجود أول جزء منه فيقال وجد الليل أو الفرد الكذائي من الكلام أو الإمساك وعدّهم تدرّج أجزائه في الوجود بقاء له وانعدامها ارتفاعا له وبهذا تعرف إن الميزان في عدّ الأمر التدريجي واحدا موكول الى العرف فكون هذا الكلام واحدا فيستصحب أو الكلام متعددا فلا يستصحب تابع لنظر العرف.

والحاصل انه لما كان عند العرف تدرج الأجزاء للأمور غير القارة بقاء لها فيما كان منها يعدّ عندهم أمرا واحدا كالليل والخطبة كانت أدلة الاستصحاب شاملة لها.

وقد أجاب عنه بعضهم أي عن الايراد على استصحاب الامور التدريجية بأنا نستصحب الأمور الملازمة للزمان والمعرّفات له كأن يستصحب عدم الطلوع أو عدم الغروب أو عدم وصول القمر الى درجة يرى فيها أو عدم سكوت المتكلم ولا يخفى ما فيه فانه يقتضي ترتب آثار هذه الملازمات وأما الأحكام المرتبة على نفس الليل والنهار فلا يثبت به إلّا على القول بالأصل المثبت.

وأجاب بعضهم عنه باستصحاب عدم ضد الزمان المشكوك فاذا شك في بقاء الليل أو النهار يستصحب عدم النهار وعدم الليل والعدم ليس أمرا تدريجيا : وفيه ما تقدم من انه يرتب عليه أحكام الأعدام. وأن أبيت عن استصحاب الزمان .. فنستصحب نفس الحكم الشرعي المرتب على الأمر التدريجي كأن يستصحب

٧

وجوب الصوم أو وجوب الإفطار بدليل قوله عليه‌السلام «صم للرؤية وافطر للرؤية». ومثله ما لو شك في مفهوم الزمان كما لو شك في أن النهار اسم للزمان حتى سقوط القرص أو حتى ذهاب الحمرة فانه لا يصح الاستصحاب للنهار لأنه أن كان بالمعنى الأول فقد زالت حقيقته. وان كان بالمعنى الثاني فحقيقته قطعا باقية فلا بد من استصحاب نفس الحكم الشرعي والمناقشة في صحة هذا الاستصحاب بعدم احراز الموضوع فاسدة لكون الزمان ليس بموضوع بل الموضوع هو نفس الصوم أو الافطار في المثال وهكذا ما كان من هذا القبيل.

نعم الشك في الحكم مسبب عن الشك في الزمان إلّا انه قد تقرر في محله أنّ الأصل اذا لم يجر في السبب كما هو المفروض جرى في المسبب بلا معارض مع إن المنع من جريان الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي لأمثال ما ذكرناه اجتهاد في مقابل النص وهو الرواية المتقدمة هذا كله واضح في استصحاب الزمان والزمنيات.

واما استصحاب الأمور القارة المتقيدة بالزمان محل الكلام فيها ما اذا شك في بقاء الحكم مع القطع بارتفاع الزمان الذي أخذ قيدا له كما لو ورد (صم يوم الخميس) وشك في بقاء وجوب الصوم ليوم الجمعة لأنه لو كان الشك من جهة الشك في انقضاء الزمان أو الزماني فيرجع الى الشك السببي والمسببي لأن الشك حينئذ في حكم مسبب عن الشك في وجود الزمان أو الزماني.

والحاصل ان الشك في الحكم تارة يكون من جهة الشك في انقضاء الزمان أو الزماني فيكون الشك في الحكم حينئذ مسببا عن الشك في وجود المقيد فالمرجع استصحاب المقيد فيقال كان

٨

الإمساك امساكا في النهار فهو الآن إمساك فيه ان كان الحكم الشرعي ثابتا للامساك وكالمؤتم بإمام الجماعة اذا شك في أن إمام الجماعة رفع يده عن صلاته لمعركة صارت أمامه فانه يستصحب بقاء الإمام على صلاته ويبقى على الإتمام به وهو من استصحاب الموضوعات الثابت لها الحكم المتقدم. ويمكن أن يستصحب القيد أعني الزمان فيقال في المثال المتقدم كان الزمان نهارا فهو الآن نهار فيجب الامساك فيه لكن هذا لا يتم إلا أن يكون النهار من قبيل الظرف بأن يكون وجوب الامساك ثابتا في ظرف النهار لا من قبيل القيد بأن يكون الامساك النهاري قد ثبت له الوجوب لانه يكون من الأصل المثبت وكيف كان فهذا ليس محل كلام القوم في هذا المقام وانما محل كلامهم هو ما اذا شك في بقاء الحكم مع القطع بارتفاع القيد وهو الزمان أو الزماني بأن احتمل ثبوت الحكم للمقيد وان لم يكن القيد الذي هو الزمان أو الزماني موجودا كأن احتمل أن يكون ذكر القيد لبيان أفضل الفردين كما لو قال لك المولى (صم يوم الخميس) وشككت في بقاء وجوب الصوم الى يوم الجمعة فان الزمان جزّأ الصوم الى صوم يوم الخميس وصوم يوم الجمعة ومثله ما لو قال لك حج أول سنة استطاعتك وشككت في بقاء الوجوب الى السنة الثانية أو قال لك (صلّ أول الوقت) وشككت في بقاء الوجوب بعده ومثله لو قال لك (صم من الفجر حتى سقوط القرص) وشككت في وجوب بقاء الصوم الى ذهاب الحمرة فان فرض كون القيد يراه العرف وبحسب متفاهمهم منوّعا للموضوع ومقوّما له فالمرجع هو استصحاب عدم الحكم كما في مثال صم يوم الخميس لا غيره فيقال إن الصوم الواقع في يوم الخميس واجب والواقع منه يوم الجمعة مشكوك الوجوب فيستصحب عدمه ولا مجال لاستصحاب الوجوب لتعدد الموضوع.

٩

وأما لو فرض ان القيد يراه العرف وبحسب متفاهمهم من حالات التكليف وظروفه أو من حالات موضوع التكليف وظروفه لا من مقوماته ومنوعاته وان كان له دخل في المصلحة بحسب الواقع وقيدا بحسب الدليل كأن يرى العرف من ان الواجب هو الامساك نفسه وكون الدليل قيده بالنهار الى سقوط القرص وغيبوبته من باب الظرفية له لمصلحة هناك وان وجوب الامساك بعد الغيبوبة الى ذهاب الحمرة بقاء لذلك الوجوب السابق إلّا انه وجوب جديد فالمرجع هو استصحاب الوجوب الى ذهاب الحمرة المشرقية لأنه يكون شكا في بقاء وجود الوجوب في هذا الزمان على حد سائر الموجودات الخارجية فكما ان وجود زيد لم يجزّئه الزمان فيستصحب له وجوب الاكرام كذلك هذا الحكم ولا ريب ان العرف يعاملون الفعل المقيد بالزمان أو الزماني في مثل صم الى سقوط القرص معاملة الذات الواقعة في الزمان في اعتبارهم الزمان ظرفا.

والحاصل أن العبرة في تعيين الموضوع للحكم وكون الشك شكا في بقائه هو نظر العرف للحكم ولا ريب ان نظرهم في سائر الموارد التي تعلق الحكم فيها بفعل مقيدا بالزمان أو الزماني من دون دليل على نفيه عما عداه وان نفس الفعل هو موضوع للحكم وان الزمان أو الزماني ظرف له وحالة من حالات الموضوع وعليه فيستصحب الحكم عند الشك. نعم لو قام النص على قيدية الموضوع بالزمان أو كان العرف يرى ان الموضوع مقيد به كما لو قال صم يوم الخميس فقط فان العرف يرى ان الموضوع هو الصوم المقيد بيوم الخميس لم يصح الاستصحاب للحكم واستصحب عدم الحكم فيستصحب في المثال عدم وجوب صوم يوم الجمعة وبعبارة أخرى ان أخذ الزمان قيدا في الدليل لا يؤثر في نظر العرف لأن العرف يرى ان الموضوع هو نفس العمل المتعلق

١٠

للوجوب وتلك الأمور من حالاته وظروفه الا مع الدليل الصريح على خلاف نظر العرف ومن هنا ظهر لك عدم الوجه لدعوى المعارضة في المقام بين الاستصحاب الوجودي للحكم واستصحاب عدمه كما صدرت من عدة من الفحول لما عرفت من كون الزمان والزمنيات ظرفا أو حالة لموضوع الحكم عند العرف وانهم يرون نفس العمل هو الموضوع وان بقاءه عبارة عن بقاء نفس ما يرونه موضوعا له ومع نظرهم ذلك لا يصح استصحاب عدم الحكم لأنه انما يصح اذا كان العرف يراه حكما آخر لا بقاء لذلك الحكم الاول وان كان نفس الدليل يدل على ثبوت الحكم مقيدا بالزمان. نعم لو قدر أن الشك في كون الزمان من أي النوعين عند العرف لم يصح الاستصحاب لانه لم يحرز ان الشك كان شكا في البقاء فيكون التمسك بالاستصحاب من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ولكن قد عرفت ان العرف يرى ان الموضوع هو نفس العمل الذي تعلق به الحكم وان بقاء الحكم ببقائه وان الزمان أو الزماني الذي أخذ في الدليل قيدا يكون ظرفا وحالة للموضوع وليس الحكم منوطا ببقائه به نظير بقاء الذوات فانه ليس بقاؤها منوطا ببقاء الزمان بحيث يكون الزمان منوعا لها فاذا تيقن بوجود زيد في الصبح وشك في وجوده في الظهر يستصحب وجوده لأن الصبح لا يوجب ان يكون زيد في الصبح غير زيد في الظهر. فان قلت ان الزمان لا يؤخذ في الدليل إلّا اذا كان لخصوصيته دخل في حصول المصلحة الكامنة في العمل الذي قيد به الشارع سواء أخذه ظرفا لثبوت الحكم أو منوعا لموضوعه.

قلنا نعم إلّا ان المناط في صحة الاستصحاب هو صدق البقاء عند العرف بحيث انه لو جعل الشارع الحكم المماثل للسابق كان العرف يراه استمرارا وامتدادا للحكم السابق وهذا يحصل

١١

بمجرد وحدة الموضوع الذي تعلق به الحكم في نظر العرف وان كان بحسب المصلحة والدليل والعقل مختلفا لصدق النقض عرفا عند المخالفة وقد تقدم منا تحقيق ذلك وتنقيحه في اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب. هذا كله فيما اذا كانت الشبهة موضوعية.

وأما اذا كانت حكمية كما لو كان الشك من جهة إجمال اللفظ مثل ما اذا شككنا في ان الغروب الذي جعل غاية للصوم عبارة عن استتار القرص أو عن ذهاب الحمرة المشرقية أو كان من جهة تعارض الأدلة مثل ما اذا تردد آخر وقت صلاة العشاء بين منتصف الليل كما هو المحكي عن المشهور وبين الفجر كما نسب الى بعض الفقهاء مع التزامه بحرمة التأخير عن منتصف الليل فلا ريب في عدم صحة استصحاب الموضوع بأن يستصحب النهار الى زوال الحمرة والعشاء الى طلوع الفجر لكون النهار على تقدير استتار القرص يكون قد انعدم قطعا وعلى تقدير ذهاب الحمرة فهو باق فلا شك فيه. نعم يصح استصحاب الحكم اذا كان العرف يرى وحدة الموضوع كما في المثال السابق فان العرف يرى ان الصوم من سقوط القرص حتى ذهاب الحمرة امتداد للصوم الواقع قبل سقوط القرص وبقاء له لا انه صوم جديد غير ذلك الصوم لأنه يرى ان الزمان في مثل ذلك غير منوّع للصوم حتى يكون الموضوع وهو الصوم قد تبدل بتبدل الزمان أما اذا رأى العرف عدم وحدة الموضوع أو شك فيها فلا يصح استصحاب الحكم وهو الوجوب لتعدد الموضوع وهو الصوم.

التنبيه السادس في الاستصحاب الاستقبالي : ـ

وهو أن يكون المتيقن فعليا يشك في بقائه في الاستقبال كما اذا علمنا بالاستطاعة في أول الحج وشككنا في بقائها الى آخره

١٢

فانه يستصحب بقاءها الى آخره أو يستصحب عنوان المستطيع ، وكما اذا علمنا بعدم الضرر في الصوم أول النهار وشككنا في ضرره في آخر النهار فانه يستصحب في أوله عدم ضرره الى آخر النهار ، وهكذا المرأة المبتدئة اذا رأت الدم أول يوم وشكت في بقائه ثلاثة أيام تستصحب بقاءه الى ثلاثة أيام بناء على ترتب أثر الحيض على بقاء الدم ثلاثة أيام ، وهكذا يجوز البدار لذوي الاعذار عند شكهم في بقاء العذر الى آخر الوقت استصحابا لبقاء العذر.

وهذا الاستصحاب يسمى بالاستصحاب الاستقبالى لأنه يثبت الأمر في المستقبل لا في الحال. ولا بد في اجرائه في الموضوعات من ترتب الأثر الشرعي فعلا على البقاء في الاستقبال فلو قدر عدم الأثر فلا وجه لجريانه فمثلا نعتقد بعدالة زيد فعلا ونشك في ثبوتها في المستقبل فاستصحابها لا ثمرة له فعلا اللهم إلّا أن يقال أثرها جواز جعله قيما على الصغير والمناقشة في المثال ليس من دأب المحصلين والدليل عليه السيرة فان الاعمال الواجبة التدريجية لو لا هذا الاستصحاب لم يحرز المكلف بقاءه على صفة الوجوب الى حين تمامها وعنده فكيف يصح منه قصد الوجوب بل عمل العقلاء عليه في سائر أعمالهم التدريجية مضافا الى دلالة الاخبار عليه فان قوله عليه‌السلام «ان اليقين لا ينقض بالشك» يدل على عدم جواز نقض اليقين بالشك حتى لو كان الشك قد تعلق بالأمر المستقبل.

التنبيه السابع في الاستصحاب التعليقي : ـ

ان الاستصحاب ينقسم باعتبار المستصحب الى تنجيزي وتعليقي وذلك لأن المستصحب : ـ

١٣

ان كان أمرا موجودا فعليا كحرمة الخمر سمي الاستصحاب تنجيزيا.

وان كان أمرا وجوده معلق على شيء ومشروط به فيسمى الاستصحاب له بالاستصحاب التعليقي أو الاستصحاب التقديري فالدليل الشرعي اذا كان دالا على حكم مشروط وفيه إهمال بالنسبة للحالة المشكوك فيها كان استصحابه تعليقا واشتهر المثال له باستصحاب نجاسة العصير للعنب وحرمته المعلقين على الغليان اذا صار العنب زبيبا نظرا الى أن العرف يرى ان العنبية والزبيبية حالات طارئة على هذا الثمر. وان كان الدليل دالّا على حكم غير مشروط وكان مهملا بالنسبة الى الحالة المشكوك فيها كان استصحابه تنجيزيا وبهذا ظهر لك انه يعتبر في الاستصحاب التعليقي أمران : ـ

الاول أن يكون المستصحب وجوده مشروطا بشيء لم يكن موجودا ذلك الشيء وقت اليقين اذ لو كان موجودا كان تنجيزيا وعليه فليس منه استصحاب نجاسة أو حرمة عصير العنب بعد أن اتصف بالغليان كأن شك في ذهاب ثلثيه لأنه يكون استصحابا لآمر منجّز وبهذا ظهر لك إنه لا وجه لما عن بعضهم من التمثيل بنجاسة الماء المعلقة على تغيره باستصحابها بعد زوال تغيره من نفسه فانه يكون استصحابا للنجاسة المنجّزة.

والثاني أن يكون المستصحب نفس بقاء المعلق بتعليقه ومشروطيته لا استصحاب نفس الحكم بدون شرطه بأن يستصحب في المثال المتقدم نفس حرمة العصير بدون تعليقها على الغليان فانه لا أشكال في عدم صحته لكونه مقطوع العدم أو انه لا حظ له من الوجود ولا استصحاب نفس الشرط فان استصحابه استصحاب لأمر موجود فعلي كما لو غلى العصير العنبي وشك في بقاء غليانه.

١٤

فان استصحاب غليانه استصحاب لأمر موجود فعلي ولا استصحاب نفس شرطية وتعليق الحرمة على الغليان فانها بعد تعليق الشارع للحكم عليه صارت متحققة بالفعل وموجودة بنحو التنجيز وانما المستصحب فيما نحن فيه هو الحكم حال كونه معلقا على أمر لموضوع تبدل حاله ففيما نحن فيه يستصحب الحرمة أو النجاسة الثابتة للعصير العنبي المشروطة والمعلقة على الغليان عند ما تزول العنبية منه وتطرأ عليه الزبيبية ولا ينبغي الريب في صحته لأن الحكم بانشاء الشارع له وجعله له صار له نحو وجود لم يكن سابقا فاذا طرأ عليه بعض الحالات أو الظروف التي يشك في بقائه معها صح استصحابه لتمامية ما يعتبر في الاستصحاب فيه من اليقين السابق بمجعولية الشارع له في هذا الموضوع والشك في بقائه لطرو بعض الحالات على الموضوع.

وقد أورد على صحة استصحاب الحكم المعلق بايرادات ثلاثة : ـ الأول هو عدم عموم أدلة الاستصحاب للحكم التعليقي المشكوك البقاء لعدم وجوده في السابق حتى يستصحب اذ الوجود التقديري المشروطي في الحقيقة عدم لأن وجوده مرتبط بوجود ما شرط فيه وما علق عليه والفرض عدم ما علق عليه فيكون متيقن العدم وقد أصر الاستاذ كاظم الشيرازي على ذلك ومنع من جريان الاستصحاب التعليقي.

وجوابه ان الحكم المعلق بما هو معلق موجود بالفعل ولذا يصح حمل الوجود عليه ولا يصح سلبه عنه فنقول الحكم المعلق بما هو معلق موجود وثابت فعلا ولا يصح أن نقول انه ليس بموجود بوصف انه معلق فعلا لأن القضية المعلقة تصدق بمجرد وجود التعليق ولا يعتبر في صدقها تحقق طرفيها فقولنا ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود صادقة حتى في الليل ولا يعتبر في

١٥

الاستصحاب إلّا اليقين السابق والشك اللاحق وهما موجودان فيما نحن فيه ففي حال العنبية عندنا اليقين بنجاسة العصير اذا غلى وفي حال الزبيبية نشك في نجاسة العصير اذا غلى.

الايراد الثاني : هو بعد تسليم جريان الاستصحاب في الحكم المعلق لكنه معارض باستصحاب ضده وهو الحكم المطلق الموجود في موضوعه فاستصحاب حرمة العصير المعلقة بالغليان الى ما بعد الغليان حال الزبيبية يعارضه استصحاب الحلية المنجزة الفعلية الثابتة للعصير قبل الغليان الى ما بعد الغليان حال الزبيبية.

والحاصل ان الزبيب قبل الغليان ثابت لعصيره الحلية قطعا فتستصحب الى ما بعد الغليان وهو يعارض استصحاب الحرمة المعلقة.

واجيب عن اشكال المعارضة بعدة أجوبة : ـ

أحدها ما ذكر صاحب الكفاية من ان الحلية الفعلية مع الحرمة المعلقة لا تضاد بينهما لكونهما كانا مجتمعين حال اليقين بهما سابقا والمستصحب هو نفس المتيقن السابق أعني نفس الحرمة المعلقة التي كانت مجتمعة مع الحلية المطلقة فما كان يعامل معهما حال اليقين السابق بهما يعامل فعلا معهما. ففي المثال المذكور كان حال اليقين يعامل العصير للعنب عند عدم الغليان بالحلية وبالحرمة بعد الغليان كذلك بالاستصحاب يعامل عصير ما صار من العنب زبيبا بالحلية قبل الغليان وبالحرمة بعده وأورد على هذا الجواب استاذنا كاظم الشيرازي بتوضيح وتنقيح منا إنه إن أريد استصحاب غائية الغليان للحلية وسببيته للحرمة بحيث يكون المستصحب حكما وضعيا فلا إشكال ويكون هذا من استصحاب الحكم الفعلي المطلق لأن السببية والغائية أحكام فعلية للغليان لا تقديرية وان أريد استصحاب نفس الحكم التكليفي فانا نستصحب

١٦

الحلية الى ما بعد الغليان ونقول ان من المحتمل ان يكون المحرم هو خصوص عصير العنب بالغليان دون العصير الزبيبي وان الحلية تكون مستمرة الثبوت لعصير ما صار زبيبا حتى بعد الغليان بأن يكون الغليان غاية لخصوص حلية العصير في حال العنبية دون حال الزبيبية ومع هذا الاحتمال يكون الشك في بقاء الحلية بعد الغليان لعصير الزبيب ثابتا فيصح استصحاب الحلية لما بعد الغليان ويعارضه الاستصحاب التعليقي الذي يقتضي الحرمة بعد الغليان.

الجواب الثاني : إن الحلية في الزبيب وان كانت متيقنة قبل الغليان إلّا أنها مرددة بين أنها هي الحلية التي كانت ثابتة للعنب بعينها حتى تكون مغياة بالغليان أو انها حلية غيرها جديدة حادثة للزبيب بعنوانه فتكون باقية بالاستصحاب ولا ريب ان الأصل عدم حدوث حلية جديدة وبقاء الحلية السابقة المغياة بالغليان وهي ترتفع به فلا تكون قابلة للاستصحاب فالمعارضة المتوهمة غير تامة.

قلنا انا نستصحب نفس الحلية في المادة عند ما كانت عنبا الى ما بعد الغليان فانا نحتمل بقاءها بعد اتصاف المادة بالزبيبية بعد غليان عصيرها لاحتمال ان الحلية مغياة بخصوص الغليان حال العنبية دون حال الزبيبية فانه هو محل الشك والتردد وبعبارة أخرى نحن نستصحب حال الزبيبية بعد الغليان الإباحة المغياة بالغليان حال العنبية فانها المتيقنة عندنا وهي تعارض الحرمة حال الغليان عند الزبيبية.

الجواب الثالث : إنا نتكلم في استصحاب الحكم التعليقي مع فرض بقاء الموضوع عرفا لما عرفت من انه مع عدم بقائه لا تكون مخالفته نقضا له ففي المثال المذكور المفروض ان العنب باق

١٧

في نظر العرف وان الزبيبية طارئة على العنب لا إنها تقلبه عند العرف الى موضوع غير العنب وعليه فالاستصحاب يقتضي ثبوت الحلية له قبل الغليان والحرمة ثابتة له بعد الغليان لأن حكم العنب قبل طرو الزبيبية له هو ذلك فلو عومل بعد طرو الزبيبية عليه بغير ذلك كن نقضا لحالة العنب السابقة وبعبارة أخرى الميزان هو صدق النقض عند العرف فاذا فرض ان ذات العنبية عند العرف باقية حال طرو الزبيبية عليها وان الزبيبية من عوارض ذات العنبية لا انها مزيلة لها كانت الحلية بعد الغليان نقضا للحكم السابق لها لأن الحكم السابق لها بعد الغليان هو الحرمة بخلاف الحرمة فانه بقاء لحكمها السابق ولعل ما سبق من الأجوبة ناظر لما ذكرناه.

الايراد الثالث : بأنه من الاصول المثبتة ، لأنه بالاستصحاب التعليقى يراد إثبات الحكم المعلق فعلا بعد حصول ما علق عليه وهذا أمر لازم عقلا لتعليق الحكم وليس بمجعول شرعا بداهة إن المجعول الشرعي هو نفس الحكم المعلق وبعد حصول ما علق عليه يحكم العقل بفعليته وتنجزه ولزم امتثاله لا الشرع.

وجوابه ان الأثر اذا كان أثرا للشيء سواء كان ثابتا في الواقع أو الظاهر لم يكن ثبوته بالاستصحاب من الأصل المثبت وحكم العقل بفعلية التكليف عند حصول شرطه ووجوب امتثاله من آثار التكليف سواء كان ثابتا في الواقع أو في الظاهر فهو لازم عقلي للظاهري والواقعي كوجوب المقدمة والنهي عن الضد ونحو ذلك على القول بها ولذا التكليف الفعلي باستصحابه يثبت به وجوب امتثاله مع ان وجوب الامتثال حكم عقلي وأثر غير شرعي لا أثر للظاهري منه والواقعي.

١٨

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات

ما تقدم كان في استصحاب الحكم الشرعي من حيث وجوده في الخارج وعالم التشريع والكلام هنا في استصحاب الموضوعات من جهة تحققها ووجودها في الخارج فيما اذا كان الموضوع الخارجي تحققه مشروط بشيء ثم شك في تحقق ذلك الموضوع مع تحقق شرطه لطارئ طرأ ولحادث تحقق مثلا ان هذا الثوب كان اذا القي في هذا الحوض يطهر فألقي فيه وشك في تغيّر ماء الحوض في هذا الحوض يطهر فألقي فيه وشك في تغيّر ماء الحوض بنجاسة وقعت فيه فيستصحب هذا التعليق في طهارة الثوب فيقال ان طهارة هذا الثوب كانت معلقة على إلقائه في مائه والآن يشك في ذلك لاحتمال تغيّر ماء الحوض بالنجاسة فيستصحب هذا التعليق في الموضوع ويحكم بطهارة الثوب ، ولعل أغلب الموضوعات التي يشك في تحقيقها ترجع الى ذلك فيقال ان الوضوء يتحقق بغسل الاعضاء والآن يشك في ذلك لاحتمال حدوث حاجب فيستصحب ذلك ويغسل ولا يتفحص عن وجود الحاجب ويبني على حصول الطهارة بل يمكن أن يدعى قيام سيرة العقلاء على ذلك فانه في أغلب أعمالهم يجرون على هذا الاستصحاب التعليقي ففي ذهابهم لشرائهم من السوق يكون بهذا الاستصحاب باعتبار أنهم اذا ذهبوا الى السوق يجدون اللحم فيشترونه ولا يعتنون باحتمال موت صاحب اللحم وهكذا حتى في جزئياتهم فهم يفتحون القفل بهذا المفتاح ولا يحتملون حدوث المانع فيه بل حتى في أدويتهم بالنسبة الى أمراضهم التي اعتادوا شفاءهم بها الى غير ذلك.

ودعوى انه معارض بالاستصحاب التنجيزي لعدم الموضوع المعلق الأزلي كعدم دخول الوقت المعارض لاستصحاب دخول الوقت المعلق على بلوغ الساعة اثنى عشر مدفوعة بأن عمل

١٩

العقلاء واستقرار سيرتهم على العمل بالاستصحاب المعلق وتقديمه على الاستصحاب المنجز هذا اذا عملنا به من باب بناء العقلاء وأما اذا عملنا به من باب الاخبار فنقول ان العرف يرى ان الباقي هو موضوع الاستصحاب التعليقي لا الاستصحاب التنجيزي للعدم فان العرف يرى ان الساعة اذا بلغت الثانية عشر دخل الوقت أما استصحاب عدم دخول الوقت الأزلي فموضوعه حينئذ عند العرف هو العدم مع عدم بلوغ الساعة لهذا الحد.

ودعوى انه من الأصل المثبت لأن المستصحب لم يكن حكما شرعيا لأنه عبارة عن تلازم بين موضوعين في الخارج ففي المثال يكون عبارة عن تلازم بين بلوغ الساعة الثانية عشر وبين دخول الوقت وليس بذي أثر شرعي لأن وجوب الصلاة ليس أثرا لهذا التلازم وانما هو أثر لنفس تحقق الدخول في الخارج.

والحاصل ان الاستصحاب التعليقي مرتب على الملازمة العادية بواسطة جريان العادة بثبوت المعلق وهو الدخول على تقدير ثبوت المعلق عليه وهو بلوغ الساعة الحد المذكور وهو نظير استصحاب حياة زيد لإثبات خروج لحيته ليفي بنذره لو خرجت. فاسدة فان حجية الاستصحاب هنا من جهة بناء العقلاء عليه في هذا المورد حيث قد عرفت أن أعمالهم وقضاياهم كلها مبنية على العمل بهذا الاستصحاب في هذا المقام لا من جهة حصول الاطمئنان بل بمجرد اليقين السابق والشك اللاحق يجرون على الملازمة والمولى له حق العقاب على عبده لو خالف بل للدولة العقاب لو لم يعمل بالملازمة.

سلمنا ان حجية الاستصحاب حتى في هذا المورد من باب الأخبار فنقول ان عدم العمل بالملازمة يكون نقضا لليقين السابق فان من كان متيقنا بأن الوقت يدخل ببلوغ الساعة لهذا الحد

٢٠