مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

يخصص عامه بالاستصحاب ولا بسائر الاصول ولا يقيد مطلقه به ولا بسائر الاصول ولا مساويه يعارضه ولا سائر الاصول تعارضه. نعم قد يكون الاستصحاب متمما لعموم الدليل المعتبر أو لاطلاقه كما لو تيقن بوجود العالم المحكوم بوجوب اكرامه ثم شك في بقائه فيستصحب بقاءه وانما وقع النزاع فيما بينهم في ان تقديم الدليل الظني المعتبر على الاستصحاب كان بنحو التخصص أو التخصيص أو الورود أو الحكومة أو التوفيق العرفي ولا بد قبل الخوض في ذلك من بيان هذه المفاهيم الخمسة والفرق بينها وان كان محل ذلك باب التعارض إلا إنه لتوضيح المقام وتحقيقه لا بد من التعرض لها ولو بنحو الاجمال الذي يتضح به الحال فنقول ان خروج بعض أفراد موضوع الدليل عن حكم الدليل تارة يكون بنحو التخصص والتقيد بان يدل الدليل على إن هذا البعض غير محكوم بالحكم الذي تضمنه الدليل الآخر بلسان خروجه عن موضوعه تكوينا وحقيقة سواء كان صدوره قبل ذلك الدليل الآخر أو بعده كما لو قام الدليل على وجوب اكرام العالم أو العلماء ثم قام الدليل على ان من هرم أو جن لم يكن بعالم واقعا وتكوينا فان هذا النحو من الخروج يسمى بالتخصص والتقيد والدليل الذي قام عليه يسمى بالمتخصص به والمتقيد به (بالفتح) والدليل الاول يسمى بالمتخصص والمتقيد (بالكسر) ومنه ما اذا قام الدليل القطعي على الحكم الشرعي في الحالة اللاحقة فان هذا الدليل يكون متخصصا به دليل الاستصحاب لانه يخرج فرد الاستصحاب عنه تكوينا وواقعا حيث ان موضوع الاستصحاب متقوم بالشك في الحكم في الحالة اللاحقة وقد زال بدليل الدال على القطع بالحكم فيها وهكذا الحال في باقي الأصول العملية. ومثله ما اذا قلنا بأن المأخوذ في موضوع الاصول

٨١

العملية هو الشك بمعنى عدم الدليل والحجة والبيان من الشارع لا الشك بمعنى التردد النفسي في الحكم الواقعي فان دليل الاصول العملية حتى الاستصحاب يكون متخصصا بدليل الأمارة لأن دليل الأمارة يثبت بأن الامارة دليل وبيان جعله الشارع فبقيامها يزول موضوع الاصول العملية تكوينا وحقيقة وواقعا فيحصل بقيامها التخصص لأدلة الاصول العملية سواء كانت استصحابا أو غيره فيكون تقديم الدليل الظني المعتبر على الاصول بنحو التخصص وتارة يكون الخروج بنحو الورود بأن يدل الدليل على أن هذا البعض غير محكوم بحكم الدليل الآخر بلسان خروجه عن موضوع الدليل الآخر تنزيلا له منزلة عدمه لا تكوينا ولا حقيقة فيكون مضيّقا لموضوعه أو محكوما بحكمه تنزيلا له منزلة وجوده فيكون موسعا لموضوعه مثال الاول كقول الشارع «لا شك لكثير الشك» حيث إنه دل على خروج شك كثير الشك عن عمومات واطلاقات أحكام الشك تنزيلا لشكه منزلة عدمه ومثال الثاني كقول الشارع «الطواف في البيت صلاة» حيث دل على أن الطواف محكوم بحكم الصلاة تنزيلا له منزلة الصلاة وجودا وكما لو قال المولى (النبيذ خمر) فانه يدل على ثبوت حكم الخمر للنبيذ بلسان تنزيله منزلة الخمر وجودا. والدليل الموسع أو المضيق يسمى بالوارد والدليل المشتمل على الحكم يسمى بالمورد. ومنه ما لو قلنا بأن الشك المأخوذ في موضوع الاصول العملية هو الشك بالحكم الواقعي والتردد النفسي فيه فان الأدلة الدالة على حجية الامارة ودليليتها اذا قلنا بأنها تدل على ان مؤدى الأمارة يعامل معاملة الحكم الواقعي أو هو الحكم الواقعي وان الشك مع الامارة بمنزلة العدم فان دليل الأمارة يكون واردا على الاصول فتكون دالة على تنزيل الشك

٨٢

منزلة العدم فيرتفع بها موضوع الاصل تنزيلا.

وتارة يكون الخروج بنحو التخصيص والتقييد بأن يدل الدليل على ان هذا البعض غير محكوم بحكم الدليل الآخر بلسان إنه فرد خرج عن حكم الدليل الآخر لا إنه فرد خرج عن موضوعه واقعا أو تنزيلا ويسمى الدليل الدال على الخروج بالخاص أو المقيد والدليل الدال على الحكم بالعام أو المطلق كقول المولى (اكرم العلماء أو العالم) فانه لو قال (لا تكرم الفلاسفة) كان فيه خروج لبعض أفراد العلماء أو العالم بلسان فرديته عن حكمهم بخلاف ما اذا قال يشترط في اكرام العلماء أو العالم عدم فلسفته فانه وان كان اخراجا للفلاسفة لكن لا بلسان الفرد حيث لم يعبر بالفلاسفة فانه لا يسمى هذا تخصيصا للعلماء بل ولا تقيدا للعالم اصطلاحا ولو سمي فهو خلاف الاصطلاح ارتكب لانه في النتيجة واحدة. ومثله قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فانه لو صدر من الشارع استثناء بلسان الفردية كما لو قال وحرّم البيع وقت النداء كان تقييدا وأما لو قال البيع حلال بشرط عدم النداء فانه وان كان اخرج البيع وقت النداء لكنه ليس بتقييد ولو سمي فهو خلاف الاصطلاح ارتكب لانه في النتيجة واحدة.

وتارة يكون الخروج بنحو الحكومة وهو أن يكون أحد الدليلين لسانه لسان بيان وتفسير لجهة من جهات حكم الدليل الآخر من الارادة لحكمه في بعض موارده أو في غيرها أو من حيث الجعل له أو من حيث أنه تقية أو امتحان أو بنحو التفسير لموضوعه أو لمحموله كقول المولى لم أرد أو لم أقل أو لم أحكم أو لا مصلحة أو نحو ذلك وبها قد يتسع المراد من الدليل الآخر وقد يتضيق ويسمى الدليل الذي لسانه لسان بيان وتفسير

٨٣

بالحاكم والدليل الآخر بالمحكوم مثل أدلة نفي الحرج فانها تكون مبنية لمقدار ما يريده المولى من أدلة الاحكام الشرعية وانه ما كان من الاحكام التي ليس فيها حرج وعسر على العبد ومثله أدلة (لا ضرر) بالنسبة الى أدلة الاحكام الشرعية ومثله أدلة نفي السبيل على المحسنين بالنسبة الى أدلة الضمان فان هذه الادلة وان كانت بحسب النتيجة مخصصة للادلة المذكورة لكن لا بلسان اخراج الفرد تكوينا لانها لم تكن بلسان ان التكليف الحرجي ليس بتكليف واقعا حتى تكون موجبة للتخصص. ولا تنزيلا لأنها لم تكن بلسان أن التكليف الحرجي منزل منزلة العدم حتى تكون موجبة لورودها عليها ولا بفرديته لانها لم تكن بلسان ان التكاليف الحرجية غير مجعولة حتى تكون موجبة لتخصيصها بل انما أوجبت الخروج لانها كانت شارحة ومبينة ان الحرجية في العمل مانعة من جعل الحكم عليه وهكذا لو قال المولى لا تأكل الرمان ثم قال الحموضة هي المانعة من أكله فان الدليل الثاني حاكم على الاول لأنه مبين ان موضوعه مطلق الحامض وبهذا ظهر ان الحاكم قد يكون مضيقا لدائرة المحكوم وتارة يكون موسعا لها وتارة يكون من باب التوفيق العرفي وهو أن يكون مقتضى الجمع بين الدليلين عند العرف كحملهم للظاهر على الأظهر والمجمل على المبين والاظهر على النص مثل أن يقول عندي أسد ثم يقول إنه يحسن الرماية فان أسدا ظاهر في الحيوان المفترس وان كان يحتمل فيه ارادة الشجاع ويحسن الرماية ظاهر في الرمي بالآلة الجارحة ويحتمل انه يرمي الحجارة في مشيه لكن يحمل الأسد على الرجل الشجاع لاظهرية الرمي في الرمي بالجارحة ومثل ما اذا قال اذا أفطرت فأعتق رقبة متورعة وقال اذا أفطرت لا عليك إلا أن تعتق رقبة عادلة فانها تحمل متورعة على العادلة ومنه الأدلة المشتملة على

٨٤

الشروط والقيود بالنسبة الى الادلة المطلقة ومنه ما اذا كانت قرينة خارجية عقلية أو نقلية على تقديم أحدهما على الآخر عرفا كالاجماع أو نحوه. هذا ما يقتضيه التعمق في كلمات القوم والجمع بينها في تفسير هذه الألفاظ.

إذا عرفت ذلك فبعضهم أدعى بأن تقديم الدليل الظني المعتبر على الاستصحاب بل سائر الاصول العملية من باب التخصيص لأن كل ما دل عليه الدليل الظني على خلاف الاستصحاب فهو مسبوق بالعدم الأصلي. فيكون دليل الاستصحاب أعم مما دل على حجية الدليل الظني.

وبعضهم ادعى أنه من باب التوفيق العرفي باعتبار إن لسانه لسان بيان الواقع بخلاف الاصول فان لسانها لسان وظيفة الشاك بالواقع إما براءة أو احتياط أو تخيير أو امتداد للواقع باستصحابه والعرف يرى ما كان كذلك مقدما في مقام الإطاعة على الثاني وبعضهم ادعى إنه بنحو التخصص لأن عند وجود الدليل الظني لا يوجد موضوع الأصول العملية كما لا يكون موجودا عند وجود القطع بالواقع بدعوى ان الشك المأخوذ في موضوعها المراد به عدم الحجة المجعولة وعدم البيان من الشارع وبالدليل الظني توجد الحجة والبيان من الشارع.

وبعضهم ادعى انه بنحو الورود لأن الدليل الذي يدل على اعتبار الدليل الظني يدل بالالتزام على تنزيل الشك مع الدليل الظني منزلة العدم لانه يدل على ان مؤداه هو الواقع.

وبعضهم ادعى انه بنحو الحكومة لأن الدليل الظني بواسطة ما دل على اعتباره مفسر لأدلة الاصول العملية ومبين لها بأن المراد منها غير ما كان الدليل الظني موجودا من جهة أنه يدل على وجوب العمل بمؤدى الدليل الظني وان الشك لا أثر له معه.

٨٥

اذا عرفت ذلك فالحق أن تقديم الدليل الظني المعتبر على الاستصحاب وعلى باقي الاصول العملية من باب التخصص والتقيد لارتفاع موضوع الاصول به تكوينا وواقعا لا تنزيلا حيث أخذ في موضوع الاصول الشك بمعنى عدم الحجة على الواقع وعدم البيان من الشارع الموجب للتحير والتردد من استعمال المسبب في السبب فانه اكثر من ان يحصى باعتبار أن المسببات غير مقدورة الا بواسطة اسبابها ولعله هو المتبادر من الشك فان العقلاء والعلماء وأرباب الفنون لا يستعملون لفظ الشك إلا ويريدون به هذا المعنى. سلمنا لكن مناسبة الحكم للموضوع تقتضي ذلك لأن المناسب لجعل الحكم للشك في صورة عدم قيام الحجة على الواقع أما مع قيامها فهو غير مناسب لمعرفة الواقع بالحجة لأن الحجة انما جعلت حجة وطريقا لمعرفة الواقع عند الشك فيه والتردد والتحير فيه لا عند اليقين به ولأن الشك بمعناه الحقيقي هو تساوي الطرفين هو نادر الوجود في مقام ضرب القاعدة في اخبار الاستصحاب وباقي الاصول فلا بد أن يكون قد استعمل في المعنى المتعارف وهو عدم الحجة فانه أقرب المجازات ولأن مقابلته باليقين والتعبير عنه بعدم العلم تقتضي ذلك لأن أغلب موارد الاستصحاب إلا ما شذ (لا علم) بمعنى اليقين بالحكم وانما يقوم الدليل كالخبر أو الامارة كالبينة واليد على الحالة السابقة وهكذا في باقي الاصول فانه مع قيام الحجة لا يقال انه لا يعلم هذا مضافا الى ان المعرفة تستعمل في ألسنة الائمة عليهم‌السلام بالاطلاع على الدليل ومعرفة الحجة عليه كما في المقبولة «وعرف أحكامنا» فان معرفة أحكامهم عليهم‌السلام من احاديثهم مع ان غالبها ظنيّة دلالة أو سندا وكذا قوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فان المراد بعدم العلم هو عدم قيام الدليل على

٨٦

الحكم الشرعي عندهم فان الذي يقوم عنده الأمارة المعتبرة لا يجب عليه السؤال واذا كان المراد من الشك هو عدم الحجة يكون قيام الامارة المعتبرة رافعا لما هو معتبرة في موضوعه وهو الشك حقيقة وتكوينا نظير ما لو انقلب فرد العام بأن اتصف بضد العام كأن يكون العالم الذي هو من أفراد العلماء في قول المولى (اكرم العلماء) جاهلا.

نعم لو قلنا بان المراد بالشك هو التردد الواقعي بالحكم كان دليل الامارة واردا على دليل الاستصحاب وباقي الاصول لأن دليل الامارة ينزلها منزلة العلم ولازمه عدم الشك في الواقع تنزيلا وعليه فالامارة بواسطة دليلها يرتفع الشك بها بحكم الشارع تنزيلا لا أنه ارتفاع تكويني وواقعي وقد يقرّب ورود الامارة على الاستصحاب كما هو المنسوب الى الآخوند بأن أفراد العام في لا تنقض ليس اليقين والشك بل أفراده هي أفراد النقض فانه هو المحرم بقوله عليه‌السلام «لا تنقض» ومع قيام الحجة لا نقض لليقين بالشك بل إنما هو نقض بالحجة الذي يحكم العقل بوجوب متابعتها ولو في حال الشك إلا إن هذا لو تم يكون تخصصا لا ورودا لأنه يكون ارتفاع لموضوع الاستصحاب تكوينا لا تنزيلا.

ان قلت إنما ذكرت يتم اذا كان دليل الامارة يشمل الامارة في مورد الاستصحاب وهو مبني على عدم تخصيص دليل الاستصحاب لدليل الامارة بغير هذا المورد اذ لو خصصه في غير هذا المورد لما كان النقض بالدليل المعتبر إذ لم يكن الدليل معتبرا في هذا المورد حينئذ.

قلنا دليل الأمارة يشمل الأمارة في هذا المورد قطعا لوجود موضوعه وهو الامارة بشرائطه ودليل الاستصحاب غير شامل للنقض في هذا المورد لانه لم يكن فيه النقض نقضا بالشك بل

٨٧

بالامارة المعتبرة فدليل الامارة يمنع من شمول دليل الاستصحاب اما دليل الاستصحاب فلا يمنع من شمول دليل الامارة لانها لا ينفقد موضوعها ولا شرط من شرائطها حتى لو فرض ان دليل الاستصحاب يكون شاملا لموردها فانه يكون بينهما التنافي والتعارض في المؤدى.

والحاصل إن التعارض والتدافع بين الامارة والاستصحاب انما يكون لو شمل دليل كل منهما لمورد اجتماعهما في مرتبة واحدة أما اذا كان أحدهما يشمل المورد دون الآخر فهو المقدم وفيما نحن فيه دليل الامارة يشمل مورد الاجتماع لوجود الامارة بموضوعها وشرائطها وأما دليل الاستصحاب فلا يشمل مورد الاجتماع لارتفاع موضوعه لانه يكون النقض نقضا بالدليل وهو الامارة الموجودة لا بالشك اللاحق.

التنبيه السابع عشر في تعارض الاستصحاب مع الاصول : ـ

وفيه مقامان : ـ

المقام الاول في تعارض الاستصحاب مع الأصول العملية التي هي غيره كأصل البراءة أو الاحتياط أو التخيير أو الطهارة أو نحو ذلك. والمراد بالتعارض ليس معناه الاصطلاحي وانما المراد به مجرد التقابل الصوري البدوي ولو كان احدهما ساقطا بالورود أو التخصص أو الحكومة أو إنه أطلق التعارض باعتبار أنه أظهر الأفراد واكثرها وكيف كان فالظاهر الاجماع على تقديم الاستصحاب عليها ولكن الخلاف وقع بينهم في وجه التقديم والظاهر ان وجه تقديمه على الاصول العقلية منها كالبراءة والاحتياط والتخيير هو إن الاستصحاب بدليله رافع لموضوعها تكوينا لا تنزيلا لأن موضوع البراءة العقلية هو عدم الحجة والبيان من الشارع للوظيفة والاستصحاب نعم البيان من الشارع وموضوع الاحتياط العقلي الواجب هو عدم المؤمّن من

٨٨

العقوبة من الشارع والاستصحاب نعم المؤمن من الشارع منها وموضوع التخيير العقلي عدم المرجح لأحد أطراف التخيير والاستصحاب الجاري في أحدها يكون مرجحا لاحدها فالاستصحاب يكون به التخصص لها لا التخصيص ولا الورود لما عرفت من زوال موضوعها بالاستصحاب لا إنه يرفع الحكم عن موضوعها حتى يكون مخصصا ولانه يرفع موضوعها تنزيلا حتى يكون واردا عليها.

وأما النقلية من الاصول العملية كالبراءة الشرعية والاحتياط على قول الأخباريين فالظاهر أن تقديم الاستصحاب عليها من جهة التوفيق العرفي كما نسب الى جماعة من الاصوليين من جهة إن لسان دليل الاستصحاب وان لم يكن لسان حكاية عن الواقع كالامارات لكنه لسانه لسان امتداد للواقع المتيقن سابقا بخلاف الاصول النقلية الشرعية فانها ليس لها ذلك اللسان وانما لسانها لسان اثبات البراءة والاحتياط عند الجهل بالواقع فكان العرف يرى تقديم الاستصحاب عليها وبهذا تعرف إن الاصول المحرزة للواقع أعني ما يكون دليله دالا على ثبوت الواقع تعبدا في ظرف الشك كقاعدة التجاوز والصحة والحرية مقدمة على الاصول التي لا تكون كذلك وربما يقال إن تقديمه عليها من جهة التخصيص لأن الاستصحاب موضوعه خصوص الشك المسبوق باليقين بخلاف البراءة فان موضوعها مطلق ما لا يعلمون سواء كان مسبوقا بالعلم بالحالة السابقة أم لا. ولكن لا يخفى ما فيه فانه ان تم فانما يتم بالنسبة الى البراءة فقط وأما في الاحتياط والتخيير مما كان موضوعه الشك المسبوق بالعلم باشتغال الذمة أو بالتكليف فلا. إذ يكون بينهما عموم من وجه وربما يقال بل قد قيل منسوبا الى المحقق الآخوند (ره) من تقديمه عليها بنحو الورود كتقديم الامارة عليها أو بنحو الحكومة فلا وجه له فان موضوع

٨٩

الاستصحاب عين موضوع الاصول النقلية وليس لسان دليله رافعا لموضوعها تنزيلا ولا إن لسان دليله مفسر لدليلها سعة أو ضيقا.

إن قلت إن قوله عليه‌السلام «لا تنقض اليقين بالشك» يدل على إن الشك ملغى عند اليقين السابق فيدل على تنزيله منزلة عدمه مثل لا شك مع كثرة الشك ولا سهو في كثرة السهو فيكون الاستصحاب واردا عليها لانه يرفع ما أخذ في موضوعها تنزيلا.

قلنا هذا لو تم لكان اليقين في الاستصحاب أمارة مجعولة يثبت به حتى لوازمها كالامارات ولكن قد عرفت أن أدلة الاستصحاب لا تدل على ذلك وانما تدل على جعل الشارع المتيقن في ظرف الشك وليس الشك ملغى فيها كالامارات وكيف كان فقد أورد على تقديم الاستصحاب على الاصول العملية :

أولا إن البراءة مقدمة على الاستصحاب فيما لو دار الأمر بين الأقل والاكثر فان البراءة من وجوب الاكثر مقدم على استصحاب بقاء التكليف عند الإتيان بالأقل ولا يخفى ما فيه فان الذي يصلح للاستصحاب هو وجوب الأقل لانه هو المتيقن والزائد عليه مشكوك وجوبه من الاول فالاصل البراءة منه فاختلف موردهما.

وأورد عليه ثانيا بالموثقة «كل شيء لك حلال حتى تعلم إنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب عليك ولعله سرقه». حيث إن ظاهرها كون الحلية في الامثلة المذكورة مستندة الى أصالة البراءة مع أنّ فيها الاستصحابات التي تقتضي الحرمة وذلك يكشف عن تقديم أصالة البراءة على الاستصحاب.

وجوابه إنا لو سلمنا ذلك فللشارع أن يقدم أي أصل على أي أصل في موارد خاصة ومحل تنقيح هذه الرواية في مبحث أصل البراءة.

ويرد عليه ثالثا بمثل ما اذا غسل ثوبه النجس بماء مشكوك

٩٠

النجاسة فانهم حكموا بطهارة الثوب استنادا الى أصل طهارة الماء فقدموا أصل الطهارة في الماء على استصحاب نجاسة الثوب وبمثل ما اذا توضأ بماء يحتمل حرمته فانهم قدموا أصالة اباحة الماء على استصحاب عدم الطهارة من الحدث الى غير ذلك.

وجوابه إن أصل البراءة انما جرى في الشك السببي وهو مقدم على الاصل في الشك المسببي حتى لو كان استصحابا كما سيجيء ان شاء الله في تقديم الاصل في السببي على الاصل في المسببي مطلقا.

مبحث تعارض الاستصحابين : ـ

المقام الثاني في مخالفة الاستصحاب لاستصحاب آخر ومنافاته له ويسمى بمبحث (تعارض الاستصحابين) تسمية له بأشهر أفراده إذ من أفراده المخالفة بين الشك السببي والمسببي ولم يكن بينهما تعارض حقيقي أو إن المراد به مجرد التقابل الصوري البدوي ولو كان أحدهما ساقطا بالورود أو بحكومة الآخر عليه ولا يخفى إن الاستصحابين اللّذين يتخالفان في مقتضاهما إما أن يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك الآخر كما لو غسل ثوبه النجس بالماء المتيقن طهارته سابقا وشك في حدوث نجاسته قبل غسل الثوب به فان الشك في طهارة الثوب مسبب عن الشك في طهارة الماء أو يكون الشك فيهما معا مسببا عن أمر ثالث سواء كان موردهما موضوعين كما لو كان أخوان في دار واقتتلا وعلمنا إجمالا إن أحدهما قتل الآخر فاستصحاب بقاء كل منهما معارض باستصحاب بقاء الآخر. وكما لو علم بنجاسة أحد الإناءين المعلوم طهارتهما سابقا فاستصحاب طهارة كل منهما معارض باستصحاب طهارة الآخر أو في موضوع واحد كالجلد المطروح المشكوك طهارته

٩١

فان استصحاب عدم تزكيته يقتضي نجاسته واستصحاب طهارته حال حياته يقتضي طهارته أو حكمين كما لو علم بحلية أكل هذا اللحم وحرمة أكل ذلك اللحم ثم اشتبه عليه اللحم الحلال بالحرام فاستصحاب حلية كل منهما معارض باستصحاب حلية الآخر أو مختلفين موضوعا وحكما أو وجوديين أو عدميين أو مختلفين في الوجود والعدم الى غير ذلك من الاحتمالات.

وبعضهم احتمل صورة ثالثة وهي كون الشك في كل منهما مسببا عن الآخر ومثّل لذلك بعضهم بما اذا ورد الكر تدريجيا على الماء القليل النجس بدعوى ان الشك في نجاسة كل منهما مسبب عن ناقضية كل من الطهارة والنجاسة للاخرى والتمثيل لها بالعامين من وجه بدعوى إن الشك في أصالة عموم كل منهما مسبب عن الشك في اصالة عموم الآخر ولا يخفى إنها مستحيلة الوقوع اذ من المستحيل ان يكون الشيء مسببا عما هو مسبب عنه ضرورة أنه دور واضح. وتخيل انه دور معيّ مثل طرفي الطاق المتوقف كل منهما على الآخر. فاسد ضرورة ان الموقوف والموقوف عليه نفس وجود الشكين لا كونهما على صفة خاصة ففي مثال الطاق تكون صفة طرفه بهذا الوضع موقوفة كل منهما على الآخر نظير الأبوة والبنوة والقرب للآخر والبعد عن الآخر ونحو ذلك من الصفات لا إن نفس الوجود يكون موقوفا بل في الحقيقة يكون ذلك مستندا لعلة ثالثة ففي الطاق مستند للبناء فانه هو الصانع لذلك وفي الابوة والنبوة هي الولادة وفي الثالث هو المقترب من الآخر. وفيما نحن فيه يكون الفرض نفس الوجود ويكون موقوفا.

وأما المثالان المذكوران فالأول منهما يكون الشكان مسببين عن ثالث وهو احتمال اعتبار الدفعة في الالقاء. وأما المثال الثاني

٩٢

فالشكان فيه مسببان عن ثالث وهو العلم الاجمالي بكون أحد العامين مخصصا بالآخر فيندرج المثالان في الصورة الثانية هذا ويستثنى في هذا المقام عن محل البحث صورتان :

احداهما ما اذا كان التنافي بين الاستصحابين من جهة عجز المكلف عن العمل بمؤداهما كما اذا شك في بقاء وجوب الانفاق على ولده من جهة احتمال إنه صار غنيا وشك في بقاء وجوب الانفاق على زوجته من جهة احتمال نشوزها ولم يكن عذره إلا نفقة احدهما فان التنافي بين الاستصحابين لوجوبي النفقتين من جهة عجزه عن العمل بمؤداها ومثله ما اذا شك في بقاء نجاسة المسجد وارتفاعها بالمطر مع الشك في إتيانه بالصلاة وهو في الوقت فان التنافي بين الاستصحابين لوجوبي الازالة والصلاة من جهة عجزه عن امتثال مؤدى الاستصحابين فان في هذه الصورة يكون المرجع هو باب التزاحم من الأخذ بالمؤدى الذي هو أهم أو بما لا بدل له أو ما أخذت فيه القدرة الشرعية على ما هو المقرر في باب التزاحم فان أدلة الاستصحاب لا تثبت إلا آثار اليقين السابق واليقينين السابقين في هذين الاستصحابين لو فرض أنهما لم يحصل معهما شك لا حق لا يقتضيان إلا أعمال باب التزاحم في متعلقهما وانما محل كلامنا هنا فيما كان التنافي بين الاستصحابين من جهة العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة وارتفاعها بحيث نعلم بكذب احد الاستصحابين كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين اللذين علم سابقا طهارتهما فان استصحاب طهارتهما تنافي نجاسة أحدهما وكالماء النجس المتمم كرا بماء قليل طاهر فان استصحاب نجاسة ذلك الماء النجس واستصحاب طهارة الماء القليل الذي تممه كرا نعلم بكذب أحدهما للعلم بانتقاض الحالة السابقة لاحدهما من جهة الاجماع القائم على إن الماء الواحد لا تختلف اجزاؤه في

٩٣

الطهارة والنجاسة

والحاصل إن صورة التنافي بين الاستصحابين من طرف عجز المكلف وقصوره لا يمنع من جريان الاستصحابين وليست هي محل كلامنا لعدم العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما فلا يعلم بكذب أحد الاستصحابين وانما محل كلامنا هو صورة التنافي بين الاستصحابين من جهة العلم بانتقاض وارتفاع الحالة السابقة في أحدهما من دون تعيين.

الصورة الثانية هو ما اذا كان احدهما قد خرج مورده عن محل الابتلاء أو لا أثر شرعي يترتب عليه أو غير ذلك مما يوجب عدم جريانه فانه يجري الآخر حيث زال ما يعارضه وينافيه.

اذا عرفت ذلك من ان محل البحث هو الاستصحابان المتنافيان من جهة العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما لا بعينه وكان الاثر الشرعي يترتب عليهما والكلام في ذلك ينحصر في مسألتين :

احداهما ان يكون الشك في أحد الاستصحابين مسببا عن الشك في الآخر ويسمى بالاستصحاب السببي والمزيل والوارد. ويسمى الاستصحاب في الشك المسبب بالمزال وبالمورد وبالمسببي.

ويحكى عن الفاضل النراقي في المناهج انه المبتدع لهذه المسألة ولا سابق له في ذلك إلا إن الفاضل التنكابني في شرحه على الرسائل رد عليه وقال قد ذكر فقيه عصره في كشف الغطاء ما هذا لفظه ولا يعارض بقاء المستصحب أصالة ما يتبعه من الحوادث اللاحقة له.

المسألة الثانية ما كان الشكان مسببين عن العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما بدون تعيين سواء كان هذا العلم من جهة قيام اجماع كالماء النجس المتمم كرا بماء طاهر فان العلم الاجمالي بانتقاض الحالة في أحد الاستصحابين من جهة ذلك

٩٤

الاجماع أو من جهة قيام دليل على ذلك أو من جهة الامور الخارجية.

أما الكلام في المسألة الاولى أعني ما اذا كان أحد الشكين مسببا عن الآخر فالحق كما هو المشهور بين القائلين بحجة الاستصحاب بل كاد أن يكون الاجماع عليه هو تقدم الأصل السببي على المسببي كما حكاه عنهم الشيخ علي في تعليقاته على الروضة. ويحكى عن الرياض والقوانين الجمع بين الأصلين والعمل بهما في موردهما وعن الفاضل الكلباسي في آخر مسألة التعادل والتراجيح اعمال مرجحات التعارض ثم التخيير مع عدمها وعن المحقق (ره) الحكم بالتعارض والتساقط والرجوع الى الاصول الأخر. ولكن الحق ما عليه المشهور من تقديم الأصل السببي على المسببي وهو يتصور على وجوه ثلاثة : ـ

الاول ان يكون الشك السببي في موضوع والشك المسببي في آثاره الشرعية التوليدية إذ غير التوليدية تكون معلومة الوجود سابقا بالعلم بوجود السبب فاستصحابها لا يعارض استصحاب السبب كما لو تطهر قبل الوقت يقينا وشك في بقائه على الطهارة بعد الوقت فيتعارض استصحاب بقاء الطهارة الى ما بعد الوقت باستصحاب العدم الازلي للاحكام التي تتولد له بعد دخول الوقت من جواز الصلاة التي يحدث وجوبها وجواز الاتيان بها بعد دخول ذلك الوقت أو بعد حدوث الآيات السماوية.

الثاني أن يكون الشك السببي في موضوع والمسببي في موضوع آخر وقد تأخر زمان الشك المسببي عن الشك السببي كما لو كان عنده ماء وشك في طهارته فاستصحبها ثم غسل ثوبه النجس فيه فشك في طهارته به لشكه السابق في طهارة الماء.

الثالث ان يكون الشكان في موضوعين كالوجه الثاني ولكن حصلا في زمان واحد وانما التأخر لأحدهما عن الآخر كان ذاتيا

٩٥

بواسطة السببية والمسببية كما لو رمى صيدا فوقع في الماء القليل دون أن يصيب الماء دمه واحتمل إنه مات بواسطة الماء لا بصيده فانه يحدث شكان في آن واحد أحدهما شك في طهارة الماء لاستصحاب عدم تذكية ما وقع فيه فيكون الماء القليل قد لاقى ميتة نجسه ويعارضه استصحاب طهارة الماء القليل فالشك السببي وهو الشك في تذكية الصيد والشك المسببي وهو طهارة الماء قد حدثا وتولدا في آن واحد لموضوعين أحدهما تذكية الصيد والآخر طهارة الماء ولكن الثاني وهو الشك في طهارة الماء متأخر رتبة عن الاول وهو الشك في تذكية الصيد من جهة تأخر المسبب عن السبب رتبة وكما لو حصل الشك في طهارة ثوب متنجس غسل بماء قد شك في طهارة ذلك الماء بعد الغسل لاحتمال إنه قد اصابته نجاسة قبل غسل الثوب به فان الشك السببي والمسببي قد حصلا معا ويدل على التقديم مطلقا في الاوجه الثلاثة أدلة الاول أخبار الباب فان حكم الامام عليه‌السلام بأخذ الحالة السابقة والعمل بالمتيقن في الوضوء أو غيره مع كون آثارهما الشرعية مسبوقة بالعدم الازلي يكشف عن إلغاء الاستصحاب المسببي وإلّا يلزم من جعل الحجية عدم الحجية إذ لا معنى للحجية فيه إلا الأخذ بآثاره الشرعية ويمكن أن يقال فيه بأن هذا إنما يقتضي تقديم الاستصحاب السببي على المسببي في الوجه الاول لأن المذكور في أخبار الاستصحاب من الموارد كلها من قبيل الوجه الاول اللهمّ إلّا ان يقال ان ترك الاستفصال من الامام عليه‌السلام وعدم القول بالفصل بين المتقدمين يثبت به المطلوب.

الدليل الثاني الاجماع على تقديم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي في موارد لا تحصى كالطهارة من الحدث والخبث وكرية الماء واطلاقه وحياة المفقود وغير ذلك فان

٩٦

استصحاب هذه الموارد مقدم على استصحاب عدم آثارها الشرعية الأزلية ويجيء فيه ما ذكرناه في الرد على الدليل الاول مضافا الى ان نفس الاستصحاب غير مجمع على حجيته.

الدليل الثالث ان الاستصحاب السببي وارد على الاستصحاب المسببي لزوال الشك عن المسبب من جهة تبين الحكم في المسبب بالدليل الشرعي وذلك الدليل الشرعي هو الاستصحاب في السبب لأن الاستصحاب في السبب يقتضي ثبوت آثاره ومن آثاره الحكم في المسبب فلا يبقى مجرى للاستصحاب في المسبب.

والحاصل إنه في الحقيقة لا تعارض ولا تنافي بينهما إلا بدوا فهو يشبه تعارض الاصل والدليل المعتبر ويمكن أن يقال عليه أولا بأن التأمل في أخبار الاستصحاب يقتضي العمل بالاستصحاب في الشك المسببي والعمل بالاستصحاب في الشك السببي وترتيب آثار السبب الشرعية على استصحاب السبب ما عدا الأثر الشرعي الذي يقتضي إلغاء الاستصحاب المسببي فيعمل بهما في غير محل التنافي والتدافع بينهما وأما في محل التنافي فيعمل بالاستصحاب المسبب دون السبب لأنه لو عمل بالاستصحاب السببي يلزم منه إلغاء الاستصحاب المسببي كلية. ولا ريب إن إلغاء الاستصحاب بالنسبة الى بعض آثاره الشرعية المرتبة عليه أولى من الغاء استصحاب آخر بالكلية. وبعبارة أخرى ان ترتيب جميع الآثار للمستصحب في كل من الاستصحابين السببي والمسببي إلا الأثر الشرعي الذي هو مورد التدافع والتنافي بينهما أولى من طرح أحدهما بكليته وجميع آثاره ففى المثال المتقدم بواسطة الاستصحاب المسببي لنجاسة الثوب يحكم ببقاء نجاسة الثوب ويرتب عليها الآثار الشرعية لنجاسته من عدم جواز الصلاة به وعدم جواز الطواف به ونحو ذلك ويحكم

٩٧

بواسطة الاستصحاب السببي ببقاء طهارة الماء ويرتب على طهارته سائر آثارها الشرعية من جواز شربه والتوضؤ به والاستنجاء به وغيرها إلا الأثر الشرعي لها وهو تطهير الثوب المغسول به لانه هو مورد التنافي بين استصحاب طهارة الماء الذي هو الاستصحاب السببي وبين استصحاب نجاسة الثوب الذي هو الاستصحاب المسببي لأن الاول يقتضي طهارة الثوب المغسول به والثاني يقتضي عدم طهارة ذلك الثوب المغسول به وبقاءه على نجاسته.

والحاصل إنه يعمل بكلا الاستصحابين ويرتب جميع آثارهما الشرعية في غير مورد التنافي فان آثار الاستصحاب السببي تترتب على بقاء السبب الا في هذا الموارد أعني نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء وهو مورد التنافي فهذا الماء المستصحب طهارته يرتب عليه جميع آثاره الشرعية من جواز الوضوء به وشربه والغسل به ونحوها إلا تطهيره لهذا الثوب المغسول به المستصحب نجاسته كما إن استصحاب نجاسة هذا الثوب يرتب عليها الآثار الشرعية لنجاسته بأجمعها من دون استثناء لبعضها.

ودعوى أنه من آثار الاستصحاب المسببي ثبوت السبب به لاستحالة وجود المسبب بدون السبب ففي المثال المذكور يلزم من استصحاب نجاسة الثوب الذي هو الاستصحاب المسببي أن يكون الماء قد تنجس به فلا يصح الوضوء منه ولا شربه. فاسدة لأن ذلك من آثاره الواقعية ولوازمه العقلية لا من آثاره الشرعية فان ثبوت المسبب يلزمه عقلا ثبوت السبب حتى لو كانت السببية شرعية فان السببية الشرعية إنما تقتضي الثبوت الشرعي للمسبب اذا ثبت السبب ولازمه عقلا ان المسبب اذا ثبت ثبت السبب فيكون استصحاب المسبب لنجاسة الثوب لإثبات نجاسة الماء الذي غسل به من الأصل المثبت وبهذا تعرف فساد ما ذهب اليه المشهور

٩٨

من كون الاستصحاب في الشك السببي هو المقدم على الاستصحاب المسببي بحيث يلغى الاستصحاب المسببي بالكلية ففي المثال يجرون الاستصحاب لطهارة الماء الذي هو الاستصحاب السببي ويلغون الاستصحاب لنجاسة الثوب الذي هو الاستصحاب المسببي بالكلية بحيث يرتبون آثار طهارة الثوب الشرعية من جواز الصلاة والطواف به ونحو ذلك وتقريب هذا الاشكال بعبارة أخرى أوضح أن يقال ثانيا على المشهور بأن عموم (لا تنقض) يشمل الاستصحابين السببي والمسببي معا لا سيما في الوجه الثالث على حد سواء فان الشمول وعدمه تابع لدلالة اللفظ فيلزم العمل بهما قدر الامكان فيقتصر في عدم العمل على المقدار الذي لا يمكن العمل بهما وهو خصوص مورد التنافي بينهما. ولا حاجة الى طرح الاستصحابين بالكلية أو طرح أحدهما بالكلية كما صنع المشهور حيث طرحوا الاستصحاب المسببي بالكلية وذلك لإمكان دفع المنافاة بينهما بالتزام التفكيك بين اللوازم الشرعية في جانب الاستصحاب السببي فلا نجريه بالنسبة الى الأثر الشرعي الذي هو مورد التنافي ونجريه بالنسبة الى باقي آثاره الشرعية ففي المثال المذكور يكون الاستصحاب السببي يثبت به جميع آثار طهارة الماء إلا تطهيره لهذا الثوب المغسول به ويكون الاستصحاب يجري في المسبب فيستصحب نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء ويرتب جميع آثاره نجاسة الثوب.

ويمكن أن يقال ثانيا على المشهور بأن ثبوت جميع الآثار للمستصحب السببي إنما هو بدلالة الاقتضاء من جهة الصون لكلام الحكيم عن اللغوية فلا بد أن تكون بمقدار لا يوجب لغويته سعة أو ضيقا فلو أثبت له آثار كثيرة توجب لغويته لم يصح ذلك كما لو أثبت له آثار قليلة توجب لغويته لم يصح ذلك ولا ريب إن إثبات

٩٩

الآثار للمستصحب السببي ما عدا أثره الذي هو مورد التنافي أعني المستصحب المسببي يصان به الكلام عن اللغوية بخلاف ما اذا ثبتت آثاره حتى هذا الأثر الذي هو مورد التنافي لزم لغوية الاستصحاب المسببي وبعبارة اخرى إن إثبات الآثار للمستصحب من جهة الحكمة والحكمة تقتضي هذا المقدار من الآثار أعني ما عدا المستصحب المسببي لئلا يلزم لغويته.

ودعوى إنه يلزم من هذا التفكيك بين الآثار الشرعية المتلازمة ففي المثال يلزم التفكيك بين طهارة الماء الذي غسل به الثوب وبين طهارة الثوب المغسول به حيث بالاستصحابين يكون الماء طاهرا دون المغسول به وهو الثوب. فاسدة فان التفكيك في الآثار كثير وقوعه في الشرعيات وموارده اكثر من أن تحصى كاقرار أحد الزوجين بالزوجية مع إنكار الآخر حيث يحكم بترتيب آثار الزوجية على المقر دون المنكر وكمن تطهر بمائع مردد بين البول والماء غفلة فانه يحكم بطهارة بدنه بالاستصحاب لطهارته وبعدم صحة وضوئه بالاستصحاب لعدم طهارة المتطهر.

ودعوى إن هذا يتم في الوجه الثالث فقط دون الوجهين السابقين فانه في الوجهين السابقين كان الشك السببي مشمولا للأدلة قبل شمولها للشك المسببي زمانا فلا يبقى مجال لشمولها للشك المسببي لزوال حكمه بالمزيل الشرعي بخلاف الوجه الثالث فان شمول الأدلة للشكين كان في دفعة واحدة وزمان واحد على نهج واحد ونمط واحد فيكون شمولها لهما في عرض واحد لا طوليا بخلاف الوجهين السابقين فان شمولها كان لهما طوليا. والاختلاف في المرتبة في الوجه الثالث لا ينفع في الأسبقية في الشمول فان الشمول وعدم الشمول تابع لدلالة اللفظ فاسدة لأن أخبار (لا تنقض) تشمل كلا الشكين السببي والمسببي دفعة

١٠٠