مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

سيرة الخلق جارية على خلافه كما ان المستفاد من قوله لهذا الانصاري أيضا ذلك. فدلالة صدر الخبر مع قطع النظر عن (لا ضرر) على خلاف المدعى أولى.

قلنا لا يخفى إنها ظاهرة في منع سمرة من التصرف في ملكه تصرفا يضر بالغير بلا نفع يعود اليه. اذ الدخول بلا إذن لا نفع له به لامكانه الدخول مع الاذن لا سيما بملاحظة غضب النبي وتغيره حتى بلغ تغيره الى حد الامر بقطع العذق ورميه اليه ولا ريب ان تغيره وغيظه لم يكن لأمر دنيوي بل يكون لأمر شرعي وهو مخالفة حكم الله تعالى.

ثانيها هو ما يستفاد من ذيل الخبر من قوله (لا ضرر ولا ضرار) حيث يدل على نفي عموم أفراد الضرر والضرار لكونه نكرة واقعة في سياق النفي. وخصوصية المورد لا تخصص الوارد وهنا اشكال معروف على هذه الروايات الواردة في قصة سمرة وذلك لعدم دلالة قاعدة الضرر إلا على عدم دخول سمرة بدون استئذان لأن الضرر انما كان فيه فقط لا في قلع عذقه فالقاعدة لا تقتضي قلع عذقه فكيف استدل بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قلع عذقه كيف وعدم تشريع الحكم الضرري لا يقتضي الاضرار بالغير بقلع شجرته بل لو كانت القاعدة تقتضي قلع عذقه لكان الأمر يقتضي تعارض الضررين ضرر سمرة بقلع عذقه وضرر الانصاري ببقاء عذق سمرة فما هو وجه الترجيح لاحدهما. كيف ولم يذهب أحد الى صحة منع الجار لصعود صاحب الدار لسطحه لكون ذلك ضرر عليه بالرؤية لأهله.

ويمكن الجواب عنه بان عدم فهم وجه حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقطع النخلة مع ان نفي الضرر لا يقتضيه لا يقتضي سقوط الاستدلال بالحديث اذ غاية الأمر ان يقال انه قضية في

١٨١

واقعة وبعبارة أخرى جهلنا بوجه الاستدلال لا يوجب عدم صحة الحديث والرواية اذ لعله قد خفي علينا ذلك هذا مضافا الى ان دخول سمرة بدون الأذن تصرف مضر بالغير ولم يكن في تركه ضرر عليه اذ الاعلام بالدخول لتوقي أهل الدار عنه لا ضرر فيه على سمرة وهو يضر بأهل الدار وقاعدة الضرر انما استدل بها النبي على ذلك لا على قلع العذق كما هو ظاهر رواية ابن مسكان عن زرارة وظاهر رواية الحذّاء وأما أمر النبي بالقطع للعذق فهو من جهة ولايته على المسلمين وخوف الفتنة من بقائه لا من جهة الضرر على الانصاري ولو فرض من جهة تعارض الضررين فيقدم ضرر الانصاري لانه مأمون على سمرة لا بانه غير مأمون عليه كما تقدم وكيف كان فالاشكال لا يضر بالاستدلال بالرواية على ثبوت أصل القاعدة كما هو المحكي عن الشيخ الانصاري وقد ذكر في وجه تقديم ضرر الانصاري على ضرر سمرة مع اشتراكهما في أصل الضرر المنفي وجوه منها أن سمرة كان قاصدا لإضرار ومتغرضا في ذلك كما يومي إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إنك رجل مضار). ومنها أنه كان غرضه من ذلك الاطلاع على أهل الانصاري وحالاته وهو لا يرضى بذلك فحكم بنفي الاضرار على المؤمن. ومنها ان ضرر سمرة كان مما يمكن تداركه وجبره ولو بالمعارضة حسبما ذكر في الروايات بخلاف ضرر الانصاري اللازم من هتك عرضه باطلاع الاجنبي عليه فانه لا يمكن جبره. ومنها أن ضرر الانصاري قد أقدم عليه سمرة بنفسه من جهة عدم استئذانه وعدم قبوله بالمعارضة بخلاف ضرر سمرة فانه لم يقدم عليه الانصاري ولم يرده. ومنها ان التعارض في المقام حقيقة بين الملك والحق فانه كان لسمرة حق المرور في ملك الانصاري وكان الارض ملكا للانصاري فراعى صلى‌الله‌عليه‌وآله

١٨٢

وسلم جانب الملك ورجحه على الحق. ومنها ان ضرر الانصاري كما يرتفع بمنع دخول سمرة للدار كذلك يرتفع بقطع العذق فصح الحكم بقطع العذق لأجل الضرر. وتحقيق الحق في صحة هذه الوجوه يظهر بالتأمل فيها فلا حاجة للاطالة فيها.

الثاني من الاخبار المحكي عن فروع الكافي من رواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام «قضى رسول الله بالشفعة في الأرضين والمساكن وقال لا ضرر ولا ضرار» والمحكي عن بعض نسخ من لا يحضره الفقيه المصححة في باب الشفعة «لا ضرر ولا اضرار» وفي نسخة الوسائل فقال (لا ضرر فلا ضرار) بالفاء لا بالواو إلا أن المحكي عن شيخ الشريعة ان النسخ الصحيحة من الكافي متفقة على الواو.

الثالث رواية اخرى عنه عليه‌السلام فيما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في آخرها لا ضرر ولا ضرار.

الرابع من الاخبار ما في المستدرك عن أبي عبد الله إنه قال «في الأرض تكون حبيسا على القوم فيبني بعضهم ثم يموت فيبيع بعض ورثته حصته هل لصاحبه شفعة. قال نعم له الشفعة لانه يدخل على ما بقي مضرة اذا كان بهدم نصف كل بيت فيدخل في ذلك فساد».

الخامس من الاخبار الروايات الصادرة في خصوص الاحتكار وكفاك ما في نهج البلاغة في عهده عليه‌السلام للأشتر حين ولاه مصر ثم استوصى بالتجار واهل الصناعات الى ان قال «واعلم مع ذلك ان في كثير منهم ضيقا فاحشا وشحا قبيحا واحتكارا للمنافع وتحكما في المبايعات وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاة فامنع الاحتكار فان رسول الله منع منه الى أن قال «فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاتب من غير إسراف».

١٨٣

السادس من الاخبار ما في كتاب المستدرك عن أبي عبد الله انه قال «ليس لمن اكترى دارا أن يدخل فيه ما يضر بالدار وبالجيران فان اكتراها ولم يسم ما يعمل فيها فليس لصاحب الدار أن يمنعه من عمل يعمل به ما لم يكن يضر وكذلك الحوانيت».

السابع ما في المستدرك عن دعائم الاسلام روينا عن أبي عبد الله انه سئل عن جدار الرجل وهو سترة فيما بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه قال «ليس يجبر على ذلك إلا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاخرى بحق أو شرط في أصل الملك ولكن يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقك إن شئت قيل له فان كان الجدار لم يسقط ولكنه هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه الى هدمه قال لا يترك وذلك إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «لا ضرر ولا ضرار» وان هدمه كلّف أن يبنيه».

الثامن ما في الفقيه ص ٢٤٣ ج ٤ طبع النجف الأشرف قوله عليه‌السلام «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام» وبهذا تعرف ما في كلام شارح الرسائل الشيخ غلام رضا من انه لم يعثر في الكتب المعتبرة على مثل قوله عليه‌السلام «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام». نعم عن التذكرة ونهاية اللغة ذكرهما هذا الخبر مرسلا عن النبي لكن المحقق في محله إن مرسلات العلماء ليست بحجة ولو قلنا بحجية الخبر المرسل وسيجيء ان شاء الله في الطائفة (العشرون) من أخبار هذا الباب ما يرتبط بهذا المقام.

التاسع ما رواه في المستدرك عن أبي عبد الله «انه سئل عن الجدار بين الرجلين ينهدم فيدعوا أحدهما صاحبه الى بنيانه ويأبى الآخر قال ان كان مما ينقسم قسم بينهما وبنى كل واحد منهما حقه ان شاء أو ترك إن لم يكن ذلك يضر بصاحبه وان كان مما لا ينقسم قيل له ابن أو بع أو سلّم لصاحبك إن رضي أن

١٨٤

يبينه ويكون له دونك وان اتفقا على ان يبنيه الطالب أو ينتفع فان أراد الآخر الانتفاع به معه دفع اليه نصف النفقة».

العاشر الصحيح الذي رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين قال «كتبت الى أبي محمد : ـ رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية الى قريته الماء في غير هذا النهر وتعطل هذه الرحى له ذلك فوقع عليه‌السلام يتقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضر أخاه المؤمن».

الحادي عشر الصحيح المروي عن التهذيب والكافي وهو خبر هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله «رجل شهد بعيرا مريضا يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم فجاء واشترك فيه رجل بدرهمين بالرأس والجلد فقضي أن البعير برأ فبلغ ثمنه دنانير قال فقال لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فان قال أريد الرأس والجلد فليس له ذلك هذا الضرار. قد أعطى حقه اذا أعطى الخمس».

الثاني عشر ما رواه في الكافي في باب الضرار من كتاب المعيشة عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين قال كتبت الى أبي محمد عليه‌السلام «رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة اخرى الى قرية له كم يكون بينهما في البعد حتى لا تضر احداهما بالاخرى في الأرض اذا كانت صلبة أو رخوة فوقع عليه‌السلام على حسب أن لا تضر احداهما بالاخرى ان شاء الله».

الثالث عشر ما رواه محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن محمد بن حفص عن رجل عن أبي عبد الله قال «سألته عن قوم كانت لهم عيون في الأرض قريبة بعضها من بعض فأراد رجل أن يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه وبعض العيون اذا فعل بها ذلك أضر بالبقية من العيون وبعضها لا يضر

١٨٥

من شدة الارض قال فقال ما كان في مكان شديد فلا يضر وما كان في أرض رخوة بطحاء فانه يضر وان عرض رجل على جاره أن يضع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد قال ان تراضيا فلا يضر وقال يكون بين العينين ألف ذراع»

الرابع عشر ما رواه محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن عبد الله بن هلال عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله «في رجل أتى جبلا فشق فيه قناة فذهب الآخر بماء قناة الاول قال فقال يتقاسمان بعقائب البئر ليلة ليلة فينظر أيتهما أضرت بصاحبتها فان رأيت الأخيرة أضر بالأولى فلتعوّر». ورواه الصدوق باسناده عن عقبة بن خالد نحوه وزاد «وقضى رسول الله بذلك وقال ان كانت الاولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الاول سبيل». وعن محمد بن الحسن باسناده عن أبي عبد الله قريب منه.

الخامس عشر صحيحة البزنطي عن حماد عن معلى بن خنيس عنه قال «من أضر بطريق المسلمين شيئا فهو ضامن».

السادس عشر صحيحة الكناني عن أبي عبد الله قال «من أضر بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن».

السابع عشر ما رواه المشايخ الثلاثة باسنادهم عن الحلبي وفيه كل شيء يضر بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه وهذه الأخبار ظاهرة في إن من أضر بشيء من الطريق للمسلمين بأن ينصب مرزابا أو يحفر بئرا أو يرش ماء أو وضع حجرا ونحو ذلك فهو ضامن لما يتلف بسبب ذلك الضرر ويستفاد من ذلك أن ذا الحق أو المالك يمنع من التصرف فيما هو ملكه أو حقه اذا تضرر سائر ذوي الحقوق أو الملاكين لأن الطرق والشوارع إما مملوكة للناس أو محبوسة على الحقوق العامة لهم وعلى التقديرين

١٨٦

المضر واحد منهم. ودعوى ان هذه الاخبار ظاهرة في ثبوت القاعدة بالنسبة الى الحكم الوضعي الذي هو الضمان خاصة. لا تنفع مدعيها لأن الظاهر عدم القول بالفصل بين الحكم الوضعي والتكليفي في هذه القاعدة مضافا الى ما عرفته من دلالتها على المنع من التصرف اذا حصل به الضرر على الغير.

الثامن عشر من الاخبار ما في الكافي في باب الضرار من كتاب المعيشة من رواية عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نفع الشيء وقضى صلى عليه وآله وسلم بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلأ فقال لا ضرر ولا ضرار» وفي بعض النسخ بدل (نفع الشيء) (نفع البئر) وفي رواية عبادة بن الصامت (نقع البئر) والمراد ما يفصل من ماء البئر. والمراد فلا يمنع فضل ماء هو أن يمنع الماء الزائد لئلا يصير الكلأ فترعى به الماشية. نعم قد يستشكل في هذه الرواية بان قاعدة الضرر إنما تنفي الحكم الضرري للغير لا الاحكام التي لا نفع فيها للغير ومنع نفع البئر للنخل أو منع فضل الماء للكلإ لرعي الماشية هي أحكام لمنع نفع الغير لا أحكام لإضرار الغير. ولا يخفى ما فيه فانه فيها ضرر على مال الغير حيث إنه يتضرر بذلك النخل والماشية.

والحاصل ان ظاهر الرواية ان البئر والماء لا يملكهما المانع لهما بل هما للنفع العام للجميع فمنع الشخص للانتفاع بهما في نخله وماشيته فيه إضرار على الغير من دون تصرف بما ينفع المانع فقاعدة لا ضرر تقتضي عدم جواز المنع.

التاسع عشر رواية طلحة بن زيد عن الصادق عليه‌السلام «إن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم» ولعل المراد ان الرجل

١٨٧

كما لا يضار نفسه ولا يعد ما يصدر منها إثما عليه أو لا يوقعها في الإثم كذلك ينبغي أن لا يضار جاره ولا يعد ما يصدر منه إثما عليه أو لا يوقعه في الإثم.

العشرون من الأخبار ما عن العلّامة في الذكرى والتذكرة. والطريحي في مجمع البحرين والهيثمي في مجمع الزوائد. وعلاء الدين الحنفي في بدائع الصنائع ، والسرخسي في المبسوط ، وابن الأثير في النهاية. والصدوق في باب ان المسلم يرث الكافر مرسلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام». وعن كنز العمال عن رسول الله «لا ضرر في الاسلام». وقد حكي بعضهم عن النسخة المصححة للفقيه إنه قال عليه‌السلام «لا ضرر ولا ضرار في الاسلام». وعن كتاب الخلاف للشيخ وعن ابن زهرة في باب خيار العيب وعن مسند بن حنبل والبيهقي في السنن. والحاكم في المستدرك. والنووي في الاربعين. وعن ابن ماجة والدار قطني. ومالك في الموطأ. والسيوطي في الجامع الصغير انه قال النبي «لا ضرر ولا ضرار» بدون التقييد ب (في الاسلام).

الواحد والعشرون ما في المستدرك عن دعائم الاسلام عن أبي عبد الله عليه‌السلام انه قال «من أراد أن يحول باب داره عن موضعه أو يفتح معه بابا غيره في شارع مسلوك نافذ فذلك له إلا أن يتبين ان في ذلك ضررا بيّنا وان كان في رائقة سكة غير نافذة لم يفتح فيها بابا ولم ينقله عن مكانه إلا برضا أهل الرائقة».

الثاني والعشرون المروي في نوادر وكالة المستدرك عن أبي جعفر عليه‌السلام قال «وان علم انه تعمد شيئا من الضرر ردّ بيعه وشراؤه».

الثالث والعشرون ما في نكاح المستدرك عن أمير المؤمنين

١٨٨

عليه‌السلام في التوصية في حق النساء إنه قال عليه‌السلام «وإنهنّ أمانة الله عندكم فلا تضاروهن ولا تعضلوهن».

الرابع والعشرون ما في تجارة الكتب المذكورة في مداخلة أموال اليتيم عن أبي عبد الله قال «ان يكن دخولكم عليهم فيه منفعة فلا بأس وان كان فيه ضرر فلا».

الخامس والعشرون ما ورد من الاخبار الكثيرة في مدة رضاع الاولاد وعدم الاضرار بهم وبأمهاتهم.

السادس والعشرون ما رواه الشيخ الانصاري في مكاسبه في مبحث حرمة الغش قال وفي رواية العيون قال رسول الله بأسانيد «ليس من المسلمين من غشّ مسلما أو ضره أو ماكره». فقاعدة (لا ضرر) متواترة معنى وان اختلفت الألفاظ والموارد بل متواترة إجمالا بمعنى القطع بصدور بعض هذه الاخبار الدالة عليها ولو سلمنا عدم التواتر فاستناد المشهور اليها موجب للوثوق بها وانجبار ضعفها فلا إشكال فيها من جهة سندها بل لعل هذه القاعدة بلسان (لا ضرر ولا ضرار) يحصل الوثوق بصدورها ان لم يحصل القطع لاشتمال كثير من الاخبار عليها بهذا اللسان كما تقدم التصريح بذلك في محكي الايضاح في باب الرهن بل هو الظاهر من العلامة في التذكرة ومن الشيخ في الخلاف وفي تفسيره التبيان حيث نسبا جملة لا ضرر ولا ضرار للنبي على وجه الجزم اليقين بل الظاهر تواتره عند أهل السنة أيضا كما يظهر من ابن الأثير ومسند ابن حنبل. فان المحكي عن مسند أحمد بن حنبل أنه قد روى (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوسط ابن عباس. وعن سنن ابن ماجة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوسط عبادة. وعن النووي انه حسنه في الأذكار.

١٨٩

المقام الثاني في شرح الألفاظ الواردة في هذه القاعدة : ـ

المقام الثاني : في التعرض لدلالتها وشرح الألفاظ الواردة فيها من الضرر والضرار والاضرار وبيان معانيها فنقول :

الكلام تارة يقع في بيان مفهوم مواد تلك الالفاظ واخرى في هيئاتها. أما الكلام في مادة تلك الألفاظ وبيان مفادها فهو أن يقال إن الضرر قد يستعمل مصدرا (لضرّ) المجردة وقد يستعمل اسم مصدر فان استعمل في نفس صدور الضرر من فاعله كان مصدرا وإن استعمل في نفس الضرر صار اسم مصدر فان الفرق بين المصدر واسمه أن الاول يستعمل في نفس الحدث بلحاظ صدوره من فاعله واسم المصدر يستعمل في نفس الحدث وماهيته. وكيف كان فمعناه النقصان سواء كان في الأموال أو الأعيان أو الأعراض أو الجاه ونحو ذلك ولعله يقصد هذا المعنى من فسّره بالضيق من باب تفسير اللفظ بأحد مصاديقه حكى المرحوم والدي الرضا عن بعض مشايخه بأن الضرر عبارة عن فوات ما يجده الانسان من نفسه وعرضه وماله وجوارحه فاذا نقص ماله أو طرف من أطرافه بالاتلاف أو التلف بالاختيار أو بدونه فقد تضرر بل اذا كان النفع قد تم اقتضاؤه ثم فات فقد تضرر ومن هنا يظهر لك فساد من جعله مقابلا للنفع تقابل العدم والملكة بمعنى أن الضرر هو عدم النفع عما من شأنه أن يقبل النفع ووجه الفساد أن عدم النفع المذكور قد يجتمع مع عدم الضرر كما لو كانت تجارته لم تربح ولم تخسر فان النفع قد عدم عما من شأنه أن يقبل النفع مع عدم تحقق الضرر. نعم الضرر عبارة عن العدم المذكور بشرط أن يكون مع عدم كون الشيء تاما وهو المسمى بالنقص. وعليه فيكون الضرر عبارة عن نقص ما يقبل الاتصاف بالنفع فهو نظير تقابل الزيادة

١٩٠

والنقصان ونظير تقابل الأسفل والأعلى. بمعنى انه يوجد بينهما أمر وسطي فبين الضرر والنفع هو التمام وبين الأسفل والأعلى هو الوسط وبين الزيادة والنقصان هو الكمال وبين الربح والخسارة هو المساواة فمرادهم بتقابل الضرر للنفع هو كون كل منهما في طرف أحدهما في طرف المبدأ وهو الضرر والآخر في طرف المنتهى وهو النفع كما في التقابل بين المذكورات. ومرادهم بقولهم ان الضرر عدم ملكة النفع هو عبارة عن النقص فيما يكون من شأنه النفع وأقرب التعابير لمعناه وأتمها وأشملها هو تفسيره بالنقص المخل بالشيء وإلا فالنقص الغير المخل ليس بضرر كالكرم وقص الاظافر والختان. نعم الضرر انما يكون بالنقص الذي يحس. وأما النقص غير المحسوس أعني النقص في المعنويات والاعتبارات فلا يسمى ضررا لأنها لا يتصف الشيء فيها بالنفع فزيادة الجاه للشخص لا يصدق فيها النفع للشخص كما في زيادة المال والصحة. نعم لو كان نقص الجاه والمنزلة قد أوجب الأذى للشخص صار ضررا له لأن الأذى أمر محسوس كما ان زيادة الجاه تكون نفعا للشخص لو أوجبت ابتهاج النفس له وهكذا الحال في هتك العرض فانه اذا أوجب الأذى للشخص صح نسبة الضرر الى ذلك الشخص عند ما يقع في الأذى المذكور وإلّا فلا تصح تلك النسبة. ولعله كان نظر من فسر الضرر بادخال الملالة والكراهة على المضرور الى ذلك كما يظهر من المصباح حيث قال «إن الضرر بفتح الضاد مصدر ضرّه يضرّه مما من باب ملّه إذا فعل به مكروها». إلا انه تفسير بالأخص وذلك لأن الضرر قد يحدث في المضرور من دون التفات منه إليه كما لو سرق ماله من دون التفات منه الى سرقته فانه اذ ذاك لا يحدث في نفسه الكراهة فتلخص ان الضرر ضد النفع ولهما ضد ثالث وهو

١٩١

لا ضرر فيه ولا نفع.

ودعوى أنّ تعريف الضرر بادخال النقص على المضرور في حقه كما يظهر من النهاية حيث قال ما هذا لفظه فمعنى قوله لا ضرار أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه تنافيه الروايات الواردة المتقدمة ذكرها في قصة سمرة بن جندب فان الضرر في تلك القضية ليس إلا التعريض بعرض الانصاري وليس الضرر فيها نقض حق من حقوقه مع استشهاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله «لا ضرر ولا ضرار» فاسدة لأن سمرة قد آذى الانصاري بدخوله على عائلته بلا استئذان حيث انه قد أنقص من ناموسه وجاهه برؤيته لعائلته وهتك حرمتها فهو قد أضر ثم انه لا فرق في الضرر بين المالي والعرضي والنفسي. ثم المالي أعم من العين والمنفعة والحقوق المالية كحق الاولوية في المدارس والمساجد. والنفسي أعم من النفس والعضو والجرح والألم بالضرب. والعرضي أعم من الزنا وغير مما يخل بالعرض. كما ان هذه الامور تختلف باختلاف الأشخاص والحالات فان الدرهم قد يكون ضررا لشخص دون آخر وفي حال دون آخر كما ان الظاهر ان المراد هو نفي الضرر الدنيوي الحاصل من النقص في ماله أو بدنه أو عرضه فانه هو المتبادر.

واما الكلام في هيئات تلك الالفاظ المستعملة في بيان هذه القاعدة ومعناها فنقول : ـ

أما (الضرر) بفتح أوله مع عدم الإدغام فهو مصدر من (ضرّ) وليس كما توهمه بعض المعاصرين من انه اسم مصدر ونظيره الملل والمدد. نعم لا ينكر ان المصدر طالما يستعمل بمعنى اسم المصدر كما تقدم ثم انه لا يجوز مع عدم الإدغام إلا فتح أوله واما ما اذا أدغم فانه يقرأ بالفتح ويكون مصدرا وبالضم فيكون

١٩٢

اسم مصدر لندرة مجيء المصدر من الثلاثي المضاعف بهذا الوزن فلذا جعله القوم اسم مصدر وقد ادعى بعضهم الفرق بين الضم والفتح في المشدد بأنه اذا ضم فيراد به سوء الحال أو الفقر أو شدة في البدن واذا فتح فهو ضد النفع. ثم ان بعضهم ادعى بأنه اذا جمعت بين الضر والنفع فتحت الضاد واذا أفردت الضرّ ضممتها اذا لم تستعمله مصدرا كقولك (ضررت ضرا) يراد به مجرد فعل الضرر كما هو شأن المصادر المجردة ولم أتأكد من صحة هذه الدعوى بل لعل الاستعمال على خلافها ولا تقتضيها القواعد اللغوية.

وأما (الضرار) بكسر أوله مصدر لضار كما ان مصدره يأتي أيضا على مضاره لأن فاعل مصدره القياسي فعال ومفاعلة مثل قاتل قتالا ومقاتلة فلا وجه لجعله مصدرا للثلاثي وهو ضرّ لأنه لم يكن مصدره القياسي ذلك فلا يجوز حمله على غير القياس مع وجود الحمل له على القياس كما احتمل ذلك استاذنا المشكيني واذا ثبت أنه مصدر (ضار) وضار تأتي لمعان كثيرة إلا أن أظهرها هو المشاركة فيكون معناها مشاركة كل منهما الآخر في الضرر نظير ضاربته وعانقته فيكون معنى لا ضرار ولا مضارّة أي لا يضر كل منهما الآخر والآخر يضره نظير لا ضراب ولا عناق فلو استعمل في نفي نفس الحدث كان من المجاز وهو خلاف الأصل وقد يأتي بمعنى التصدي للحدث وان لم يقع الحدث كما في يخادعون الله تعالى ويماكرون الله ويراءون. وحمل على هذا المعنى قوله تعالى (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) قوله تعالى (مسجدا ضرارا) وعد منه. عاجله بالعقوبة وبارزه بالحرب وساعده التوفيق فالمراد بالضرار هو التصدي للضرر ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسمرة «إنك رجل مضار» أي متصدّ

١٩٣

للضرر. كذا قرره بعض المحققين ولكن المنقول عن أهل اللغة أن المعنى المشهور لهذا الوزن هو ما ذكرناه إلا انه بهذا المعنى وهو التصدي يوافق معناه معنى الاضرار كما سيجيء ان شاء الله ولكن لا بد من حمله على معنى المشاركة لأنه هو المعنى الظاهر واذا ورد استعمال هذه الهيئة في غير هذا المعنى فهو بواسطة القرينة التي التي تمنع من إرادته وليس في المقام ما يمنع من إرادة هذا المعنى وبهذا يظهر لك الجواب عمن زعم بأن الضرر والضرّ لا يستعمل إلا في الضرر النفسي أو المالي. والضرار لا يستعمل إلا في الأذى والكراهة والإيلام كما في قوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) فان المراد انه لا تؤذي الأم من قبل الأب ولا تكره بنزع ولد عنها ولا يؤذى الأب من قبل الأم بولده بعدم رضاعه. وفي قضية سمرة استعمل بهذا المعنى في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما أراك يا سمرة إلا مضارا» فان المراد به ما أراك إلا مؤذيا ومؤلما ومدخلا للكراهة على الأنصاري. وقد عرفت أن هذا هو معنى الضرر فان النقص في الامور المعنوية لا يكون ضررا إلا اذا أوجب إدخال الأذى على المضرور فيكون بهذا المعنى من قبيل عطف الخاص على العام فيكون تأكيدا مضافا الى انه خلاف ما هو ظاهر الهيئة. وفي قصة سمرة القرينة قامت على استعمالها في خلاف معناها بل يمكن أن يقال باستعمالها في معناها بأن يراد منه أنك في المستقبل تكون مضارا للانصاري أي أنت تضره وهو يضرك فان اسم الفاعل يستعمل في المستقبل كما يقال أنت مقاتل أم مسالم وسيجيء ان شاء الله عما قريب في مبحث الفرق بين الضرر والضرار والاضرار ما يوضح لك المقال بأكثر من هذا.

واما الاضرار فهو مصدر لأضر (بالهمزة) لأن المصدر القياسي لأفعل كأكرم الافعال فلا وجه لجعله مصدرا للثلاثي لأنه

١٩٤

لم يكن هذا الوزن قياسا له واذا ثبت انه مصدر (لأضرّ) فنقول إن أضر المزيد فيه الهمزة يأتي لمعان كثيرة ولكن المعاني الغالبة منها : ـ

أحدها التعدية بان تدل الهمزة فيه على الجعل (كأذهبت زيدا) فان معناه جعلت زيدا ذاهبا فيكون الفاعل مفعولا للجعل الذي دلت عليه الهمزة ولذا كان المتعدي لواحد متعديا لأثنين بواسطة أن فاعله يكون مفعولا للجعل ومفعوله مفعول لأصل الفعل كقولك (أحفرت زيدا النهر) فان معناه جعلت زيدا يحفر النهر والمتعدي لأثنين يكون متعديا لثلاثة بواسطة ان فاعله يصير مفعولا للجعل. والثاني والثالث مفعولان لأصل الجعل نحو أعلمت عمرا خالدا ذاهبا أي جعلت عمرا يعلم خالدا ذاهبا وكان أصله علم عمرو خالدا ذاهبا ولا يوجد من ذلك في لغة العرب إلا أعلم وأرى. ورد على الأخفش حيث قاس (أظن أحسب واخال) على (أعلم وأرى) لأن الزيادات في الافعال ليس قياسا مطردا بل هو أمر سماعي. ولا ريب أنّ (أضر) لم يرد منه هذا المعنى لأنه متعد لواحد بنفسه ولذا استعمل مع الهمزة لم يعدّ لمفعول ثان بل قد يعدى للمفعول الأول بالباء فيقال أضرّ به فهذا الوزن لم يقصد به هذا المعنى.

وثانيها التعريض بأن تدل على ان المفعول معرض لأصل الحدث سواء صار مفعولا له حقيقة أولا نحو أبعت الفرس فان معناه عرضته للبيع سواء بعته أم لا ، بخلاف بعته فانه يدل على وقوع البيع عليه. وهكذا أقتلته فان معناه عرّضته للقتل سواء قتل أم لا ، بخلاف قتلته وهكذا أسقيته فان معناه عرّضته للسقي سواء شرب أم لا بخلاف سقيته وهكذا أقبرته فان معناه عرّضته على القبر سواء قبرته أم لا ، بخلاف قبرته وعليه فيمكن ان يكون المراد (بأضرّ) هو ذلك بمعنى أن يراد به التعويض للضرر ويكون

١٩٥

معنى (لا ضرر ولا ضرار) هو نفي الضرر ونفي تعريضه للضرر.

وثالثها الصيرورة وهو صيرورة ما هو فاعل الفعل صاحب ما اشتق منه نحو (اغدّ البعير) أي صار ذا غدة. و (ألحم زيدا) أي صار ذا لحم. و (أطفلت المرأة) أي صارت ذات طفل. وأعسر وأيسر وأقل أي صار ذا عسر وذا يسر وذا قلة وأعشر واتسع أي صار صاحب عشر سنين وتسع سنين. وأما نحو أجرب الرجل بمعنى صار ذا إبل جرب فهو ليس من الغالب. ولا وجه لإرادة هذا المعنى من أضر لأن هذا الوزن بهذا المعنى إنما يكون في اللازم واضرّ متعد وتوجد معان أخرى لها الوزن. إلا ان التحقيق أنها ليست بغالبة كالتأكيد نحو أقلته البيع. وللسلب نحو أشكيته أي أزلت شكواه وعليه فيكون معنى (لا اضرار) كما في رواية ابن مسكان لقصة سمرة هو نفي التعريض للضرر لعدم صلاحية المعاني الغالبة لهذا الوزن إلا ذلك ويؤكد إرادة هذا المعنى إنه في قصة سمرة انما كان في دخول سمرة للدار بدون الاستئذان تعريض للضرر على الانصاري لا أنه يحدث به الضرر الفعلي إذ لعل سمرة يدخل ولا يطّلع على أهل الانصاري. ومن هنا ظهر لك فساد ما ذكره بعضهم من ان الضرر والاضرار والضرار بمعنى واحد وان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا ضرار أو لا إضرار) بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا ضرر) للتأكيد. فان الزيادة على مادة اللفظ لا بدّ أن تكون لغرض إما لفظي كما في الإلحاق أو معنوي بأن تدل على معنى زائد على أصل اللفظ وإلا كانت لغوا وعبثا ولذلك قيل في إن الباء من (كفى بالله) و (من) في مثل (ما من إله إلا الله) إنها للتأكيد والتقرير للمعنى ولذا ذهب المحققون الى أن الهمزة في (أقالني) التي بمعنى قالني للتأكيد والمبالغة وقد اشتهر عندهم أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.

١٩٦

(الفرق بين الضرر والضرار والاضرار)

مما تقدم ظهر لك الفرق بين الضرر والضرار والاضرار وان الاول فعل الضرر الصادر من الواحد ، والثاني فعل الضرر الصادر من الاثنين كل منهما على الآخر. والثالث التعريض لوقوع فعل الضرر وقع أم لا.

وقد أورد على ذلك بأن الضرار ليس معناه المشاركة في الضرر بين الاثنين فصاعدا بدليل أنه في الخبر العاشر استعمل الضرار في فعل الضرر من واحد حيث قال عليه‌السلام فيه (هذا الضرار مشيرا الامام عليه‌السلام الى أخذ رأس البعير وجلده بدل الدرهمين مع أنه بهذا الفعل لم يصدر من الآخر وهو مشتري البعير ضرر على صاحب الدرهمين). ودعوى ان ذلك اطلاق مجازي. مدفوعة بالأصل مضافا الى ان الاطلاق في المقام من قبيل الحمل وهو من أمارات الحقيقة كما حقق في محله ويشهد أيضا بصدق المقال قول الله المتعال (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) في سورة البقرة وقوله تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) في سورة التوبة تقريب الاستشهاد إما بالآية الاولى فانها وردت بخصوص من يطلق المرأة حتى كاد أن يحل أجلها راجعها ثم يفعل ذلك ثلاث مرات وانت خبير بأن المقام ليس مما أخذ فيه المجازاة والاثنينية. واما بالآية الثانية فبتقريب أن مورد نزولها على ما عليه المفسرون هو «أن بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قبا وبعثوا الى رسول الله أن يأتيهم فأتاهم وصلى فيه فحسدهم جماعة من المنافقين من بني عنم ابن عوف فقالوا نبني مسجدا نصلي فيه ولا تحضر جماعة محمد فبنوا مسجدا الى جنب مسجد قبة فلما فرغوا منه أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتجهز الى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية

١٩٧

وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه لنا وتدعوا بالبركة فقال إني على جناح سفر ولو قدمنا أتيناكم ان شاء الله فصلينا لكم فيه فلما انصرف رسول الله من تبوك نزلت عليه تلك الآية الشريفة في شأن المسجد فأنفذ رسول الله الى هذا المسجد فهدمه وأحرقه». اذا عرفت ذلك يظهر لك ان ما أطلق عليه الضرار ليس مما قد أخذ فيه المجازاة والاثنينية وحمل الضرار في الآيتين الشريفتين على المجاز خلاف الأصل يحتاج الى دليل صارف هذا مضافا الى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما أراك يا سمرة إلا مضارا» فاستعملها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعنى اسم الفاعل من مجرد الحدث لأنه ليس في مقابلة من يضره. مع إنها اسم فاعل من ضرار كما يظهر الذهاب الى ذلك من استاذنا المشكيني ويظهر منه الاستشهاد بقوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) حيث ذهب بعض اللغويين الى انه استعمل في مجرد الحدث ولا يراد به المشاركة وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ. وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) وفي مكاتبة محمد بن الحسين «ولا يضار لأخيه المؤمن». وقوله عليه‌السلام «الجار كالنفس غير مضار». مع انه لو أريد منه نفي المشاركة لكان ذلك منافيا لمثل قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) وقوله تعالى (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ما دل عليه قاعدة الاتلاف وغيره فان ذلك كله يقتضي أن يكون (الضرار) مستعملا في معنى الضرر لا في المشاركة.

وفيه ما لا يخفى فان ما ذكرناه لما كان هو الغالب في المعنى فيكون اللفظ ظاهرا فيه عند التجرد من القرائن وأما ما استشهد به الخصم فالقرائن ان كانت موجودة على إرادة غير المشاركة حملنا اللفظ عليها وان لم تكن قرائن على ذلك وجب حمل اللفظ على

١٩٨

ما هو المتعارف إرادته منه. ولسان قاعدة نفي الضرر المذكورة في الاخبار وهو قوله (لا ضرر ولا ضرار) كان واردا بلا قرينة فلا بد من حمله على إرادة المعنى المتعارف هذا مع امكان المناقشة في الأمثلة المذكورة لكن لا يهمنا ذلك ولا يصح أن تجعل القرينة على ذلك هو إطلاق (مضار) على سمرة لانه يمكن أن يكون من قبيل إطلاق اسم الفاعل على من يتلبس بالحدث في المستقبل فان اسم الفاعل يستعمل في الماضي والحاضر والمستقبل وفي المقام استعمل في المستقبل كما يقال لمن يستعد للحرب إنك مقاتل أو مضارب فانه يراد به أنك ستتلبس بالقتال مع الغير. وفيما نحن فيه أيضا كذلك فان المراد به انك يا سمرة ستتلبس بالمضارة مع الغير أنت تضره وهو يضرك باعتبار التعدي عليه وهو أبلغ في منع سمرة مما لو قال له إنك (ضار) فانه لا يحدث الامتناع بخلاف ما لو قال له انك كما تضره يضرك والغريب من بعض المعاصرين جعل مضار من المبالغة مع ان (مضار) بضم الميم ولا ريب ان المبالغة تكون على وزن (مفعال) بكسر الميم وأما آية و (لا تضار) فلا مانع من حملها على المشاركة وان الوالدة لا تضر الولد ولا الولد يضرها ولا ينافي ذلك لو أطلق في مورد نفي الحكم الضرري عن أحدهما. وأما ما ذكره المشكل من منافاة ذلك لجعل القصاص وقاعدة الاتلاف وقوله تعالى (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها). ففيه ما لا يخفى من الفساد لانه في هذا كله لم يجعل الشارع المشاركة في الضرر وانما جعل ضررا آخر بعد وقوع ضرر من الاول فهو ينافي (لا ضرر) نفسها ولا ينافي (لا ضرار) بمعنى المشاركة في الضرر فان الذي ينافيها هو أن يشرّع الشارع الضرر من كل واحد لآخر كأن يقول تقاتلا أو تضاربا أو ليأخذ كل منكما حق الآخر واما الأمر بأخذ العوض ممن ضرّه فليس من الأمر

١٩٩

بالمشاركة في الضرر الذي هو معنى (الضرار) وانما هو أمر بالضرر لمن أقدم على ضرره هذا على تقدير أن يكون القصاص ضررا أيضا وأما على تقدير إنه ليس بضرر كما هو رأي بعضهم فلا وجه لتوهم المشاركة في الضرر.

وقد يجعل الفرق بين الضرر والضرار بأن الاول هو ابتداء الفعل والثاني الجزاء عليه بأن تفعل الضرر فيمن ضرك كما هو ظاهر نهاية ابن الاثير. ولكن لا يخفى ما فيه فان القصاص لا يطلق عليه الضرار على إنك قد عرفت أن هذا الوزن لم يوضع لمعنى الجزاء كما ان (ضرر) لم توضع لابتداء الضرر بل هي موضوعة لمطلق الضرر كما هو شأن المصادر المجردة وقد يجعل الفرق بين الضرر والضرار بأن الاول ما تضرر به صاحبك وتنتفع انت به. والثاني أن تضره من غير أن تنتفع به. وقد حكي عن ابن الأثير نسبته الى القيل وكيف كان ففيه إن الضرر كثيرا ما يطلق في غير صورة الانتفاع مثل ما تقدم من المروي في نوادر كتاب المستدرك من قوله عليه‌السلام «وان علم انه تعمد شيئا من الضرر ردّ بيعه وشراؤه» ومن المروي في تجارة الكتاب المتقدم في مداخلة أموال اليتيم من قوله عليه‌السلام «أن يكون دخولكم عليهم فيه منفعة فلا بأس وان كان فيه ضرر فلا» بتقريب أن الخبر الاول يدل على بطلان وكالة الوكيل في صورة التعمد بالضرر وصل اليه نفع في هذا التعمد أم لا. وكذلك الخبر الثاني يدل على حرمة المداخلة في مال اليتيم في صورة وصول الضرر من المباشر سواء وصل اليه نفع أم لا. وكذلك الكلام في الضرار فان كثيرا ما يطلق في صورة الانتفاع كما يشهد بذلك الخبر العاشر المتقدم فان الامام عليه‌السلام منع عن مطالبة الرأس والجلد واطلق الضرار على أخذ الجلد

٢٠٠