مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

واحدة وعلى نهج واحد فلا وجه لملاحظته الترتيب في الشمول نظير شمول أدلة حجية الخبر للمتعارضين اذ ان الشمول انما يكون بدلالة اللفظ على مفهوم واحد يعم الجميع من دون ملاحظة للافراد عند التكلم به حتى يلاحظ الترتيب في شمولها.

ودعوى إن قوله عليه‌السلام (لا تنقض اليقين) يشمل الشك السببي قطعا وشموله للشك السببي مانع عن شموله للشك المسببي لأنه بشموله للشك السببي لا يبقى شك في المسببي وتكون الحالة السابقة فيه معلومة بالدليل الذي هو الاستصحاب السببي فلو عمل بالاستصحاب في المسببي لزم منه نقض اليقين في السببي بلا دليل وبعبارة أخرى ان الأمر يدور بين إهمال الاستصحاب في السببي ويلزم منه تخصيص لا تنقض بلا مخصص وبين إهمال الاستصحاب في المسببي بواسطة قيام الدليل عليه وهو الاستصحاب السببي ويلزم منه تخصيص لا تنقض بالمخصص ومن الواضح ان الثاني هو المتعين لان التخصيص بلا مخصص غير جائز والتخصيص بالمخصص اكثر من أن يحصى ولا ريب في جوازه. وعليه فلا يصح العمل بالاستصحاب في المسببي كلية لخروجه عن أخبار (لا تنقض) بواسطة الاستصحاب السببي فاسدة لما عرفت من ان (لا تنقض) لها مفهوم واحد يشملها معا وليس الأمر دائرا بين التخصيص بلا مخصص والتخصيص بالمخصص بل الأمر يدور بين ذلك وبين تقييد الاستصحاب السببي بعض آثاره الشرعية مع المحافظة على شمول (لا تنقض) للاستصحابين السببي والمسببي بأن يلتزم بالتفكيك في آثار الاستصحاب السببي كأن يلزم في المثال المذكور بالحكم بطهارة الماء استصحابا لها وترتيب جميع آثارها من جواز شربه والتوضؤ به ونحو ذلك إلا تطهيره للثوب المغسول به ويؤخذ بالاستصحاب المسببي ويلتزم بترتيب جميع آثار نجاسة الثوب

١٠١

وأما في مورد التنافي فيؤخذ بالاستصحاب المسببي وهو استصحاب نجاسة الثوب ويهمل اطلاق الآثار للاستصحاب السببي بتقييده بهذا المورد فان الدال على إطلاق آثاره هو دلالة الاقتضاء التي تقتضيها الحكمة أعني صون كلام الحكيم عن اللغوية وبذلك يصان كلام الحكيم عن اللغوية الحاصلة بالتنافي دون أن يخرج أي من الاستصحابين عن المفهوم والحاصل ان مفهوم (لا تنقض) أول الأمر يشمل الشك السببي والمسببي في آن واحد لانطباقه عليهما دفعة واحدة ثم بعد ذلك يجيء حكم العقل بترتب الآثار الشرعية عليهما صونا لكلام الحكيم عن اللغوية ولكن حكم العقل بترتب الآثار في السببي يكون مقيدا بغير ما هو مناف للمسببي بقرينة سبق شمول (لا تنقض) للمسببي. نعم لو فرض حدوث الشك في السبب قبل الشك في المسبب صح التقديم لأنه بأسبقية شمول (لا تنقض) للسببي تترتب جميع آثاره بحكم العقل وبدون أي قرينة على استثناء بعضها فيكون المسبب منفيا.

ودعوى إن ذلك إنما يتجه لو كان ما فرض من الفردين في مرتبة واحدة من الفردية إما اذا توقف فردية أحدهما على رفع اليد عن العموم بالنسبة الى الفرد الآخر ولم يكن هناك ما يوجب الرفع وجب الحكم بعدم فرديته والاخذ بالعام في الفرد الآخر كما فيما نحن فيه فان فردية الشك المسببي للعام موقوفه على رفع اليد عن فردية الشك السببي له وليس هناك ما يوجب الرفع بخلاف السببي فان فرديته غير موقوفه على رفع اليد عن الشك المسببي لانه ليس من آثاره الشرعية رفع الشك السببي بخلاف السببي فانه من آثاره الشرعية رفع المسببي فاسدة بان فردية الشك المسببي ليست موقوفه على رفع اليد عن فردية الشك السببي بل على تقييد إطلاقه بغير هذا المورد وتقييده إطلاقه إنما كان

١٠٢

بواسطة قرينة الحكمة فانه لو لا تقييده للزم إخراج الشك المسببي عن العموم واذا دار الأمر بين تخصيص العام وتقييد المطلق قدم التقييد على التخصيص ففردية الشك المسببي هي الثابتة.

ودعوى أن فردية الشك المسببي توجب الدور المحال لأن فردية الشك المسببي لعموم (لا تنقض) تتوقف على رفع اليد عن عموم (لا تنقض) للشك السببي اذ مع عدم الرفع لا يكون الشك المسببي فردا للعموم لأنه ينفيه الاستصحاب للشك السببي لأن الشك المسببي من آثاره الشرعية ورفع اليد عن العموم للشك السببي تتوقف على فردية الشك المسببي له للمنافاة فتوقفت فردية الشك المسببي للعموم على نفسها فكان ادخال الشك المسببي في العموم محالا كما إن إخراج الشك السببي عن العام محال أيضا لأن نسبة العموم الى الشك السببي والمسببي ليست على حد سواء لأن شموله للسببي لا مانع منه وشموله للمسببي يلزم منه الدور فالشك السببي داخل في العموم قطعا ولا وجه لاخراجه عن العموم إلا من جهة دخول الشك المسببي وقد عرفت إن دخول الشك المسببي محال للزوم الدور فتعين إخراج الشك المسبب وادخال الشك السببي.

فاسدة لما عرفته من إن فردية الشك المسببي لعموم (لا تنقض) لا تتوقف على رفع اليد عن عموم (لا تنقض) للشك السببي بل تحصل بتقييد الآثار الشرعية الثابتة به بغير مورد التنافي مضافا الى ان فردية الشكين السببي والمسببي للعام وجدانية كما هو مقتضى اللفظ إذ لا ريب في شمول العام لجميع أفراده الموجودة والمقدرة حتى لو كان بينها ترتيبا ذاتيا أو وجوديا كلفظ الضوء ولفظ الوجود فانهما يشملان العلة والمعلول.

والحاصل إن العموم المستفاد من (لا تنقض) له جهتان :

١٠٣

الاولى شموله لليقين والشك بالبقاء في السببي والمسببي وجدانا وبذلك تتحقق فرديتهما له.

والثانية عموم الآثار الشرعية المدلول عليها بدلالة الاقتضاء وهاتان الجهتان هما اللتان صارتا سببا للتدافع والتعارض بين الاستصحابين في مورد التنافي فلا بد إما من رفع اليد عن الجهة الاولى كما عليه المشهور من عدم شمول (لا تنقض) للاستصحاب المسببي أو من رفع اليد عن الجهة الثانية من عدم عموم الآثار في الاستصحاب السببي لجميع آثاره.

والحاصل إن الأمر يدور بين تخصيص (لا تنقض) باليقين المسببي يرفع اليد عن الاستصحاب المسببي وبين تقييد آثار الاستصحاب السببي بمورد التنافي يرفع اليد عن إطلاق الآثار في الاستصحاب السببي وجعل (لا تنقض) تشمل الاستصحاب المسببي وهذا الدوران في مرحلة الارادة كالتنافي بين البينتين والخبرين المتعارضين ونحو ذلك وإلّا في مرحلة الدلالة والاستفادة يكون كل منهما في مرتبة واحدة وعلى نهج واحد يشملها (لا تنقض) كالبينتين في شمول دليل حجيتهما لكل منهما بالوجدان والترتب العلّي لا يوجب تقدما في الشمول وانما كل منهما في عرض واحد بالنسبة الى الدليل بل الاولى رفع اليد عن الجهة الثانية خلافا للمشهور لأن الجهة الثانية إنما كانت بدلالة الاقتضاء التي تكون من جهة صون كلام الحكيم عن اللّغوية ويرفع اليد عن الجهة الثانية من جهة شمول اللفظ للاستصحاب المسببي واثبات باقي آثار الاستصحاب السببي يحصل صون الكلام عن اللغوية وبه يندفع ما يمكن أن يقال ان لازم هذا التقرير هو طريان الاجمال في دليل الاستصحاب لدوران الأمر بين الاحتمالين ولا معيّن لأحدهما. وما ذكرناه من الأمثلة التي تثبت بها التفكيك

١٠٤

بين اللوازم الشرعية كالاقرار بالزوجية ونحوها فانما يصلح شاهدا للصحة لا للتعيين فيتوجه الحكم بالتوقف والرجوع لأصل آخر كما نسب ذلك الى الرياض وهو الظاهر من كلامه في مسألة ماء الحمام.

والتحقيق أن يقال ان الشك في مورد المسببي لما كان مسببا عن الشك السببي فلا محالة من تأخر وجوده عنه لامتناع تحقق السبب والمسبب في آن واحد فان وجود الثاني متولد من وجود الاول ومتوقف عليه حتى لو فرض تحقق الشكين في زمان واحد على حد سواء كما سبق وحينئذ ينطبق عموم (لا تنقض) على الشك السببي قبل تحقق الشك المسببي بلا معارض ويؤثر فيه جميع الآثار الشرعية التي من جملتها إزالة النجاسة عن الثوب في المثال المتقدم فلا يبقى للشك المسببي مجال لانطباق العموم عليه لأنه يكون النقض فيه نقضا باليقين وهو الدليل الذي هو الاستصحاب في مورد الشك السببي.

إن قلت إنه يمكن أن يتأخر الشك السببي عن الشك المسببي في بعض الموارد كما لو غسل الثوب النجس بماء مردد بين المطلق والمضاف فمقتضى الاستصحاب الحكم ببقاء نجاسة الثوب ثم بعد هذا حصل اليقين بكونه ماء مسبوقا بالاطلاق ولكن شك في بقاء اطلاقه الى حين الغسل فيكون الشك السببي وهو الشك في اطلاق الماء قد تحقق بعد الشك المسببي وهو الشك في نجاسة الثوب.

قلنا ذلك لا يمكن لاستحالة تحقق المسبب قبل وجود السبب والمثال المذكور لم يتحقق فيه ذلك اذا الشك في بقاء النجاسة للثوب الذي كان مسببا عن الشك في إطلاق الماء لا يبقى بعد ارتفاع التردد وانكشاف أنه ماء مطلق والشك الموجود ثانيا هو شك حادث عن جهة حدوث الشك في بقاء الاطلاق للماء فهذا المثال

١٠٥

في الحقيقة راجع الى تقدم الشك السببي.

إن قلت إن ما ذكر من تقديم الاصل السببي على المسببي إنما يتم فيما اذا كان لكل واحد منهما دليل مستقل حتى يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الدليل الآخر أما اذا كان دليل واحد يشمل بعمومه أو اطلاقه الاثنين كما في المقام فليزم تقدم الدليل الواحد على نفسه.

قلنا إن الدليل الواحد إنما يدل بانطباقه على المورد وانطباقه على أحدهما غير انطباقه على الآخر ويكون أحد الانطباقين مقدّما على الآخر فدليل (لا تنقض) باعتبار انطباقه على الأصل السببي رافع لما هو موضوع الاصل المسببي.

إن قلت إن الموضوع للاستصحابين هو اليقين السابق لا الشك فإن الابقاء هو حكم لليقين السابق لا للشك اللاحق ولا ريب أن اليقينين في الاستصحاب السببي والمسببي لا سببية بينهما وانما السببية والمسببية بين الشكين.

قلنا نعم لو لوحظا بنفسهما أما لو أخذ الشك اللاحق قيدا لهما صار وجود أحدهما بقيده متأخرا عن الآخر على أن التحقيق إن الشك هو موضوع الحكم المراد إثباته بالاستصحاب كيف وهو حكم ظاهري لا يثبت إلا في مورد الشك.

الثالث من الادلة التي اقيمت على تقديم الاصل السببي ما أقامه بعض المحققين إن الأصل السببي يتنقح به موضوع كبرى شرعية توسعا أو ضيقا يكون دليل اجتهادي دال عليها وهذا الدليل الاجتهادي هو الذي يقدم على الاصل المسببي فاستصحاب طهارة الماء يكون منقحا للموضوع الدليل الدال على كبرى شرعية وهي ان المغسول بالماء الطاهر يطهر وهذا الدليل يكون واردا على الاستصحاب المسببي وهو استصحاب نجاسة الثوب المغسول به

١٠٦

فيرجع الأمر الى تقديم الأمارة على الاستصحاب فتقديم الاصل السببي على المسببي ليس من جهة وروده أو حكومته على الاصل المسببي بل لحكومة الدليل الاجتهادي على الأصل لأنه بالاصل السببي قد نقح موضوع الدليل الاجتهادي فصار موضوعه متحققا وجوده كالمثال المتقدم أو عدما كما لو كان الماء المغسول به الثوب مسبوقا بالقلة فباستصحاب القلة يندرج الماء في موضوع أدلة انفعال الماء القليل فيقدم ذلك الدليل على الاستصحاب المسببي ويمكن أن يقال عليه بأن هذا الوجه إنما يتم لو كانت أدلة الاستصحاب تشمل الأصل السببي دون المسببي أما لو كانت آثار الأصل السببي مقيدة بما عدا الأثر الشرعي الذي هو مورد التنافي فلا يثبت به موضوع كبرى شرعيته.

والحاصل ان ما ذكره مبني على الشمول وعدمه ومتفرع عليه فكان اللازم هو إثبات ان الآثار الشرعية بأجمعها تثبت بالاصل السببي فاذا ثبتت تم المطلوب وإلا فمجرد ثبوت السبب بدون الأثر الشرعي الذي هو مورد التنافي لا تثبت الكبرى ومع ثبوت الأثر المذكور لا نحتاج الى ثبوت الكبرى.

ويلحق بهذا الموضوع أمور : ـ

الاول في جريان الاستصحاب في الشك المسبب : ـ

الأمر الاول : إنه يجري الاستصحاب في المسبب اذا لم يجر الاستصحاب في السبب أما لمعارضته باستصحاب آخر كما لو غسل ثوبه في أحد الإناءين اللذين علم بوقوع النجاسة في أحدهما إجمالا فإن استصحاب الطهارة للاناء المغسول به لا يجري لمعارضته بالاستصحاب في الاناء الآخر فيتساقطان ويرجع للاصل الجاري في المسبب وهو عدم طهارة الثوب. وأما لعدم تمامية اركان

١٠٧

الاستصحاب فيه وعدم وجود أصل آخر فيه يعين الحكم كما لو سجد على شيء لم يعلم إنه يصح السجود عليه أم لا. ولا أصل يعين إنه مما يصح السجود عليه فان استصحاب عدم امتثال الصلاة جار بخلاف ما لو كان هناك أصل يعين إنه مما يصح السجود عليه.

الثاني السببي يقدم على المسببي في باقي الاصول : ـ

الأمر الثاني : إن ما ذكرناه من تقديم الاستصحاب في الشك السببي على المسببي جار حتى في غير ذلك من الاصول فأصل البراءة اذا كان جاريا في الاصل السببي يقدم حتى على الاستصحاب الجاري في الاصل المسببي ولذا لو شك في صحة وضوئه من جهة شكه في حرمة الماء فأصالة البراءة من حرمة الماء حاكمة على استصحاب عدم صحة الوضوء به فيجوز له أن يتوضأ به وهكذا لو شك في طهارة ثوبه الذي تنجس وغسله بماء مشكوك طهارته فأصالة الطهارة في الماء حاكمة على استصحاب نجاسة الثوب لعين ما ذكرناه في وجه تقدم الاستصحاب السببي على المسببي.

الثالث السببية والمسببية لا بد ان تكون شرعية : ـ

الامر الثالث ان تكون السببية والمسببية شرعية لا عقلية ولا عادية بمعنى ان يكون متعلق الشك المسببي أثرا شرعيا لمتعلق الشك السببي لا أثرا عقليا كما لو شك في علمية شخص من جهة الشك في وجوده فاستصحاب نفس وجوده لا يثبت علميته. نعم له أن يستصحبها معا الوجود مع العلمية وذلك لما عرفت من ان الوجه في تقدم الاستصحاب السببي على المسببي من جهة أنه يتحقق به الموضوع للمسببي ويرتفع به الشك عن المسبب وهذا إنما يتم لو كان المسبب من آثاره الشرعية دون آثاره العقلية

١٠٨

والعرفية لما تقدم في مبحث الاصل المثبت ان المستصحب إنما تثبت به آثاره الشرعية دون غيرها.

المسألة الثانية من مسائل تعارض الاستصحابين : ـ

قد تقدم الكلام في المسألة الاولى من تعارض الاستصحابين في الشك السببي والمسببي والكلام فعلا في تعارض الاستصحابين في الشكين المسببين عن أمر ثالث كالعلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما لا بعينه وهذه المسألة من مسائل الشبهة المحصورة وهي من فروع القول بمانعية العلم الاجمالي من جريان الأصل في الاطراف اذا استلزم المخالفة القطعية العملية دون المخالفة الالتزامية فتحقيق المقام منوط بالتكلم بتلك المسألة إلا إنا نتكلم فيها تبعا للقوم فنقول انه لا يمكن الرجوع فيها الى المرجحات بخلاف الامارات لأن المرجحات المذكورة في باب التعارض تدل على الحكم الواقعي فلا يقوى بها الأصل لأن الأصل يدل على الحكم الظاهري أعني على الحكم في مرتبة الجهل والشك والمرجحات تدل على الحكم الواقعي فهما مختلفان في المدلول والمرتبة فلا يقوى أحدهما بالآخر ولهذا كان الاصل لا يرجح الأمارة هذا مضافا الى ان أخبار الترجيح بالمميزات المذكورة مختصة بالاخبار المتعارضة ولا تشمل الاصول ومنه يعلم عدم جواز الترجيح بالظن الغير المعتبر لاختلاف المؤدى ولأنه لا دليل على الترجيح به واما الترجيح بالظن المعتبر فهو وان وجب العمل على طبقه لكن الاستصحاب وسائر الاصول تسقط عن الحجية مع وجوده واما الترجيح بالاصول فلأن ما كان الاستصحاب مقدما عليها فهي ليست بمعتبرة معه وانما تكون معتبرة عند سقوطه عن الحجية واما ما كانت مقدمة على الاستصحاب فالاستصحاب يسقط

١٠٩

عن الحجية معها فلا تكون مرجحة له اذا عرفت ذلك فالمقام يتصور على وجوه ثلاثة :

أحدها ما يلزم من العمل بالاستصحابين المخالفة العملية القطعية للعلم الاجمالي كما في إناءين طاهرين سابقا ثم علم بتنجس احدهما فان استصحاب طهارة كل منهما تستلزم المخالفة القطعية في العمل للعلم الاجمالي بنجاسة احدهما فالاستصحابان لا يجريان للزوم محذور المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم بالاجمال لكن المخالفة انما تكون محذورا اذا كانت معصية فانه على هذا الفرض يكون العمل بالاستصحابين معصية قطعية والعمل بأحدهما ارتكاب لمحتمل المعصية فهو محتمل الضرر الاخروي والعقل حاكم بوجوب ترك محتمل الضرر الاخروي والمخالفة انما تكون معصية بأمرين :

أحدهما عدم شمول أدلة الاصول لاطراف العلم الاجمالي فانها لو كانت تشملها وهي تدل على الترخيص في ارتكابها فلا معصية في مخالفة العلم الاجمالي لأن الشارع يكون هو الذي رخص ارتكابها وقد تقدم وسيجيء ان شاء الله في الصورة الثالثة الكلام في ذلك.

ثانيهما ان يكون المعلوم حكما إلزاميا لا ترخيصيا كالكراهة والاستحباب فان الحكم الترخيصي لا عصيان في مخالفته.

والحاصل إن المهم في هذه الصورة إثبات إن مخالفة الحكم المعلوم بالاجمال تكون من المعصية للمولى.

ثاني الصور ما لا يلزم من العمل بالاستصحابين المخالفة العملية القطعية لكن قام الدليل المعتبر على عدم الجمع بين المستصحبين كالماء النجس المتمم كرا بالطاهر القليل فان استصحاب نجاسة الماء النجس واستصحاب طهارة الماء الطاهر مع وحدتهما

١١٠

واختلاطهما لا يلزم منه مخالفة قطعية بارتكابه لاحتمال ان النجس قد طهر فالاستصحاب لم ينافه العلم الاجمالي بالنجاسة لاحتمال ان النجاسة قد زالت بخلاف الصورة الاولى فانه يوجد علم إجمالي بالنجاسة سواء استصحب الطرفان أم لا. واذا عمل بهما يعلم بالمخالفة لحكم إلزامي وهو وجوب الاجتناب عن النجاسة بخلافه هنا فانه لو عمل بهما لا يحصل له العلم القطعي بالمخالفة للحكم الواقعي لاحتماله إن الماء قد طهر واقعا ولكنه قام الاجماع على ان حكم الماءين اذا صارا ماء واحدا أما النجاسة فقط أو الطهارة فقط واقعا وظاهرا. وعليه فلا يجري الاستصحابان للزوم محذور المخالفة القطعية للدليل الذي قام على خلافهما وهو الاجماع والدليل مقدم على الاستصحاب.

ثالثة الصور ما لا يكون كذلك أي ليس يلزم من جريان الاستصحابين محذور المخالفة القطعية العملية ولا محذور المخالفة القطعية للدليل وانما كان في جريانهما مخالفة التزامية للواقع فيجوز العمل بالاصلين ولا يوجب العلم الاجمالي بارتفاع احدهما عدم جريان الاستصحابين كما لو كان الاستصحابان يثبتان التكليف مع العلم الاجمالي بارتفاع أحدهما كما لو علم إجمالا بحدوث الطهارة لأحد الإناءين المعلوم نجاستهما سابقا فان استصحاب نجاستهما لا يلزم منه مخالفة عملية قطعية للعلم الاجمالي بطهارة أحدهما اذ يجوز له ترك الطاهر وفعله ولا مخالفة للدليل وهكذا كل مورد يكون العلم الاجمالي متعلقا بتكليف غير الالزامي كالاستصحاب والكراهة والاباحة فان المخالفة له لا تكون مخالفة عملية لانه يجوز معه الفعل والترك كما لو علم به تفصيلا ومن هذا الباب ما لو توضأ غفلة بماء مردد بين البول والماء فانه يجري استصحاب طهارة بدنه واستصحاب بقاء الحدث

١١١

مع أنه يعلم إجمالا إما بارتفاع طهارة بدنه أو بارتفاع حدثه لانه ان كان ماء فقد ارتفع حدثه وان كان بولا فقد ارتفعت طهارة بدنه ولكن العمل بهذين الاستصحابين لم يلزم منه مخالفة قطعية عملية لتكليف لان العمل بهما هو إن يعيد وضوءه بدون تطهير بدنه وليس في ذلك مخالفة قطعية عملية لتكليف لانه يحتمل ان ما توضأ به سابقا كان ماء ولا مخالفة لدليل عقلي أو نقلي اذ لم يقم دليل على امتناع ان يكون الشخص محدثا وطاهر بدنه.

والحاصل ان المكلف المتردد بين طهارة بدنه وبين حدثه لا حكم له معين حتّى يكون استصحابهما مخالفا لذلك الحكم ولا لدليل العقل ولا النقل يمنع من الجمع بين الاستصحابين وبعبارة أخرى إن الحكم بوجوب الوضوء وعدم غسل الاعضاء الذي هو مقتضى الاستصحابين ليس فيه مخالفة قطعية لحكم شرعي معلوم بالتفصيل ولا مخالفة للدليل المعتبر. نعم إنما تلزم المخالفة الالتزامية للواقع لأن الواقع المعلوم بالاجمال في المثال الاول هو طهارة أحدهما فالالتزام بنجاستهما من جهة الاستصحاب مخالف له وكذا في المثال الثاني كان الواقع المقطوع به بنحو الاجمال هو إما طهارة بدنه مع ارتفاع حدثه أو نجاسة بدنه مع بقاء حدثه فالالتزام بواسطة الاستصحاب ببقاء طهارة بدنه وبقاء حدثه مخالف للواقع وحيث كانت المخالفة الالتزامية بهذا النحو فلا دليل على حرمتها لانها ترجع الى المخالفة بحسب الالتزام لا بحسب العمل والمطلوب هو العمل لا الالتزام فان الموافقة الالزامية لا دليل على وجوبها أما العقل اذ لا يحكم إلّا بوجوب الاطاعة وحرمة المعصية عملا واما الالتزام بحكم المولى وان كان يراه العقل من مراتب الانقياد والعبودية للمولى إلا إنه ليس كل ما كان من مراتبها يحكم بوجوبه العقل واما نفس أدلة التكاليف فلا تشتمل

١١٢

إلا على طلب الفعل أو تركه دون الالتزام به ولو دلت عليه فهي لا تدل على الالتزام مع الشك والتردد لان مدلولها طلب معين فهي لو دلت كانت دالة على الالتزام بما هو مدلولها المعين مع ان الالتزام بالتكليف المحتمل لا يراه العقل من العبودية لاحتمال إنه التزام بضد ما شرعه المولى وهو مما يقبّحه العقل واما أدلة وجوب الانقياد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصديقه بما جاء به اجمالا فهو لا يعارض ما يدل على ان الحكم الظاهري كذا وان الحكم الواقعي غير المنجز كذا فان ذلك تصديق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه الالتزام بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرحلة الظاهر هذا مضافا الى ان في المخالفة الالتزامية لا يكون الحكم واقعيا منجزا لأنه لا أثر له في الظاهر حتى يصح باعتباره التعبد به. وأما مجرد العلم الاجمالي به فغير مانع لأن العلم الاجمالي بحكم الواقعة انما يمنع من جعل حكم يضاده في الظاهر اذا كان له أثر باعتباره يتنجز ويبلغ مرتبة الفعلية فيضاد المجعول في الظاهر وأما مع عدم أثر له في العمل فهو باق على واقعيته وشأنيته غير متعد منها الى مقام العمل فلا يضاد المجعول في الظاهر في مقام العمل وعليه فلا مانع من جريان الأصلين اللذين يلزم منهما المخالفة الالتزامية للواقع الغير المنجز وعدم الموافقة القطعية الالتزامية له.

إن قلت إن العلم الاجمالي يمنع بنفسه من جريان الاستصحابين وعليه فلا فرق بين الصور الثلاث لان قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية (لكن انما ينقضه بيقين آخر) يقتضي نقض اليقين السابق باليقين اللاحق بالخلاف ولو كان اجماليا لإطلاقه وعدم تقييده بخصوص اليقين التفصيلي فكل من الاستصحابين أو الاستصحابات الجارية في اطراف العلم الاجمالي

١١٣

لا تجري لحصول الغاية في أدلتها وهو العلم بالخلاف في كل واحد منها اجمالا. وعليه فلا فرق في عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي في الصور الثلاث لأن العلم الاجمالي بالخلاف يكون بنفسه هو المانع من شمول دليل الاستصحاب لأطراف العلم الاجمالي لحصول غاية الاستصحاب به فلا يصح إعمال الاستصحاب ولا في مجموعها لحصول غايته وهي تعلق العلم الاجمالي بالخلاف فيه ولا في واحد من الأطراف باعتبار إنه أحد الأفراد المردد انطباق المعلوم الاجمالي بينها وهكذا الكلام في أصل البراءة ونحوه وخلو هذه القضية عن هذا الذيل وهو قوله عليه‌السلام «لكن إنما ينقضه بيقين آخر» في بعض الأخبار لا ينافي سريان تقييده لها لوحدة السياق الموجب لظهور وحدتها مع القضية المقيدة بهذا الذيل. وليس هذا الذيل مؤكدا للقضية المقرونة به حتى تكون دلالته تابعة لدلالتها بل هو محدد لها ومقيد لها بأن مضمونها وهو حرمة النقض مقيد بصورة عدم انقلاب الشك باليقين بالخلاف تفصيلا أو إجمالا وتظهر ثمرة النزاع في مثل الإناءين المعلوم نجاستهما سابقا ثم علم بطهارة أحدهما إجمالا.

فان قلنا ان المانع من جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي هو لزوم المخالفة القطعية العملية فيجري استصحاب النجاسة لكل منهما لعدم لزوم المخالفة العملية ويتنجس الملاقي لأحدهما وان قلنا ان المانع من جريان الاستصحاب هو نفس العلم الاجمالي بالخلاف فالاستصحاب غير جار فيهما ولا ينجس الملاقي لأحدهما.

قلنا ان ظاهر هذا الذيل وهو قوله عليه‌السلام «وانما ينقضه بيقين آخر» ان اليقين الناقض متعلق بنفس ما تعلق به

١١٤

اليقين السابق وليس كذلك في المقام لتعلق اليقين السابق بكل واحد من المستصحبين وتعلق اليقين الاجمالي بأحدهما لا بعينه فلا بد أن يكون المراد به اليقين التفصيلي ولا أقل من احتمال ذلك والدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال وبعضهم ذكر ان ذيل الرواية «بل تنقضه بيقين مثله» فيكون أدل على المطلوب واظهر بقرينة مثله فانه يدل على ان اليقين اللاحق كاليقين السابق في كونه تفصيليا ومتعلقا بعين ما تعلق به السابق بل يمكن ان يقال ان الظاهر من أخذ مثله قيدا لليقين حصر الناقض باليقين التفصيلي وعدم الاعتناء باليقين الاجمالي في مقام النقض ولكن لم أجد هذا الذيل في روايات الاستصحاب فيما يحضرني منها ولعله قد وجده في غيرها ومما ذكرناه يظهر الحال في باقي الاصول العملية المغياة بالعلم بالخلاف فانا لا نسلم ان العلم الذي أخذ فيها يشمل العلم الاجمالي ولا أقل من الاحتمال وهو كاف في رد الاستدلال ويؤكد ظهور الذيل في خصوص اليقين التفصيلي الاطلاق للشك المأخوذ في أصل قضية «لا تنقض اليقين بالشك» حيث إنه يشمل صورة الشك مع العلم الاجمالي أو بدونه كالشك البدوي فأصل القضية يدل على حرمة نقض اليقين السابق بالشك اللاحق حتى لو كان الشك اللاحق مقترنا بالعلم الإجمالي.

والحاصل ان أصل الرواية ظاهر في شمولها لاطراف العلم الاجمالي صدرا وذيلا فتكون دالة على جريان الاستصحاب في الاطراف مضافا الى ذلك إنه لا يعقل ناقضية اليقين الاجمالي بالخلاف لليقين التفصيلي السابق المتعلق بجميع الاطراف كما ذكره المرحوم المحقق الاصفهاني فلا يعقل ان يكون اليقين الاجمالي بالطهارة ناقضا لليقين التفصيلي بالنجاسة السابق المتعلق بجميع الاطراف في المثال المتقدم لانه ان كان ناقضا له من

١١٥

جهة اليقين الموجود فيه فهو باطل لأن اليقين الموجود فيه لم يتعلق بالخلاف في سائر الاطراف وانما هو تعلق بواحد مردد بينها وان كان ناقضا له من جهة الشك الموجود فيه رجع نقضه الى نقض اليقين التفصيلي بالشك لأن كل واحد من الاطراف كان مشكوكا وبقاء المتيقن فيه وان كان ناقضا له في طرف واحد معين فهو أيضا باطل لأنه ترجيح بلا مرجح وبلا معين بل أيضا يرجع الى ناقضية الشك لليقين التفصيلي السابق حيث إن المعين له مشكوك وجوده فيه لتردده بين الاطراف وان كان ناقضا له في واحد من الاطراف لا بعينه نظرا الى تعلق العلم الاجمالي بالمردد فهو باطل لأن اللامعين بوصف انه لا متعين وانه مردد ليس له فردية ولا تشخص في الخارج ولا واقعية له فان الشيء ما لم يتعين وما لم يتشخص لا يوجد في الخارج ولا حظّ له من الواقع فان الشيء المردد عبارة عن مفهوم عقلي يحتمل انطباقه على واحد من أشياء متعددة فاذا تعين في فرد ذهب وصف تردده وانقلب الى ضده وهو التعين فلا تتصور الناقضية فيه في عالم الخارج لان الناقضية فيه انما تكون بزوال العلم التفصيلي فيه بعينه فلا معنى لحرمتها وان كان ناقضا له في خصوص الطرف الذي تبدل واقعه وصار في متن الواقع طاهرا في المثال المتقدم فهو باطل لانه يرجع الى نقض اليقين بالشك لعدم معرفته وتردده بين سائر الاطراف فالعلم الاجمالي لم يتعلق به بخصوصه ثم إن بملاحظة الواقع لا علم إجمالي لأن الواقع المتبدل في نفسه لا تردد فيه وبعبارة اخرى انه لا استصحاب في الواقع لأن الاستصحاب في مرتبة الشك والظاهر وليس هو في مرتبة الواقع فان الواقع إما أن تبدل أو لا. فلا استصحاب بالنسبة اليه وان كان العلم الاجمالي ناقضا لليقين التفصيلي باعتبار تعلقه بمجموع الاطراف على وجه الانضمام

١١٦

وذلك اليقين بالمجموع قد انتقض بارتفاع أحدهما فان الكل يرتفع بارتفاع الجزء فهو أيضا باطل لأن اليقين التفصيلي بمجموع الاطراف ليس بموضوع الحكم لا تنقض فلا يشمله وانما الموضوع له كل يقين تفصيلي لكل طرف من أطراف العلم الاجمالي فان (لا تنقض) تشمل كل يقين تفصيلي بكل طرف على حده وهو فرد بنفسه لا ربط له بفردية الآخر من قبيل شمول العام لأفراده ولا ريب ان مجموعها منضم بعضها الى بعض ليس بفرد له كما هو شأن كل عام وكل مطلق فان مثل مفهوم (العالم) يشمل (زيدا وعمرا وخالدا) كلا في حد ذاته ونفسه من دون انضمام زيد الى عمر وخالد بل اذا اعتبر الانضمام لم يكن فردا للعالم فانه لازمه جزئيته للمفهوم ويكون شمول المفهوم له من قبيل شمول المركب لاجزائه لا من قبيل شمول العام لأفراده ولذا كان الحكم الثابت للعام يفهم منه ثبوته للافراد لا للمركب منها.

فتلخص إن العلم الاجمالي لا يصلح لنا قضية العلم التفصيلي بجميع الوجوه والانحاء وانما كان الناقض للعلم التفصيلي هو الشك الموجود معه المختلط به فتشمله أدلة (لا تنقض).

إن قلت لا ريب إن العقل يحكم بوجوب الاجتناب للإناءين اللّذين وقع في أحدهما السم القاتل والعقلاء سيرتهم على ذلك ولذا يمتنعون من شراء المأكولات التي يعلمون إجمالا بتسمم بعضها وفيما نحن فيه نعلم بوجود القبح والضرر بالمخالفة في واحد من أطراف العلم ففي ارتكاب الجميع نقطع بارتكاب القبح والضرر وبارتكاب أحدهما يكون ارتكابا لمحتمل الضرر وعليه ففي الصورة الاولى نحكم بعدم جريان الاستصحابين.

قلنا هذا حكم للعقل ولذا يتبعه المتشرع والملحد ولم يصدر من العقل حكم بضده عند الشك فيه وهو تابع سعة وضيقا لحكم

١١٧

العقل فان كان الضرر مما لا يتحمله الانسان منعه من ارتكابه حتى لو كانت الشبهة بدويّة غير مسبوقة بالعلم الاجمالي بخلاف ما نحن فيه فان الحكم المعلوم بالاجمال حكم شرعي ونفس مشرعه وهو الشارع قد اجاز مخالفته واسقط مراعاته وامتثاله بواسطة أدلة الاصول الشاملة لأطراف العلم الاجمالي فالمشرع في الاول هو العقل والمشرع في الثاني هو الشرع ولعل خلط أحدهما بالآخر هو الذي أوهم جمعا من العلماء فذهبوا الى التنجيز بالعلم الاجمالي.

إن قلت كلما حكم به العقل حكم به الشرع وقد فرض إن العقل فيما ذكر يحكم بالاجتناب فلا بد ان يكون الشرع يحكم أيضا.

قلنا يمكن الجواب عن ذلك :

أولا بالنقض بانه لو تم ذلك لكان اللازم الحكم بالاجتناب حتى في الشبهة البدوية فان العقل يحكم بالاجتناب مع احتمال الضرر في شيء فانه مع احتمال ان في شيء سما قاتلا يحكم العقل بالاجتناب.

وثانيا بالحل بأن الضرر في المورد انما استفادة العقل من حكم الشرع فاذا الشرع أباح الارتكاب فالعقل لم يدرك ضررا منجّزا عليه تركه لأن اباحة الشرع دليل على تداركه والّا لم يبحه واذا الضرر ادركه العقل بنفسه كان الحكم ما يحكم به العقل كالسم فاذا حكم بوجوب اجتنابه كان حكمه حتى في الشبهة البدوية ويكون الشرع تابعا له ولا يجري الاستصحاب لقيام الدليل العقلي على وجوب الاجتناب وهذا انما يكون فيما يوجب الوقوع في التهلكة فيكون المقام من قبيل الصورة الثانية التي يقوم الدليل فيها على خلاف مؤدى الاستصحاب.

والحاصل ان الضرر الذي يدركه العقل من المولى وبواسطة حكم المولى بالوجوب أو الحرمة يكون حكم العقل بوجوب الاجتناب

١١٨

عنه تعليقا بمعنى أنه معلق على عدم الترخيص من المولى. وأما الذي يدركه العقل بنفسه فالعقل اذا حكم بوجوب الاجتناب عنه كان حكم العقل تنجيزيا غير معلق على ترخيص المولى فيه ولذا يجتنبه حتى في الشبهة البدوية بخلاف الاول. وأما الضرر الأخروي فهو لا يحتمل لأن الشارع قد جوّز الارتكاب بواسطة شمول أدلة الاصول لاطراف العلم الاجمالي وذلك يقتضي عدم العقاب على ارتكابها.

والحاصل ان الضرر المحتمل من جهة حكم الشارع هو تابع لحكم الشارع وحيث الشارع قد جوّز الارتكاب بواسطة شمول أدلة الاصول لها فالعقل يجوزه وهذا هو محل كلامنا وأما الضرر المحتمل من جهة حكم العقل كالتسمم بالسم والوقوع في المرض أو من شاهق فالاجتناب عنه تابع لحكم العقل بوجوب الاجتناب سعة وضيقا فالتسمم البسيط العقل لا يمنع الارتكاب كما في التدخين بالتتن ونحوه كما انه في المحتمل المهلك يحكم العقل بالاجتناب حتى لو كانت الشبهة بدوية. وأما الضرر الاخروي فهو لا يحتمل بعد تجوز الشارع للارتكاب بواسطة شمول بياناته لجواز ارتكاب الاطراف.

ان قلت ان العالم بالعلم الاجمالي بثبوت التكليف وان كان شاكا في مورد تكليفه لكنه عالم بان في البين تكليفا فيتنجز عليه بالقدر المعلوم منه تفصيلا وهو (عدم جواز ترك الاطراف) فان هذا التكليف معلوم تفصيلا لأن بترك الاطراف في الشبهة الوجوبية يعلم بترك الواجب تفصيلا وبفعل الاطراف في الشبهة التحريمية يعلم بارتكاب الحرام تفصيلا وهذا المقدار من التكليف ليس فيه ستر ولا حجب وذلك يقتضي الّا يجعل المولى عذرا لمخالفته لأنه ليس للمولى الترخيص في مخالفة المعلوم بالتفصيل وهذا معنى

١١٩

ما تسمعه من ان تأثير العلم الاجمالي بالنسبة الى المخالفة القطعية تنجيزي وليس بمعلق على عدم الأذن من المولى وانه يمتنع ذلك منه لانه اذن في المعصية فان بعد العلم الاجمالي بتعلق الارادة الجدية من المولى بأمر لا يبقى مجال للشك في حكم العقل بتنجيزه بمعنى عدم جواز مخالفته القطعية واستحقاق العقاب عليه.

قال استاذنا الشيخ الاجل الشيخ كاظم الشيرازي : ـ «انه الى ذلك يرجع كلام شيخنا الاكبر من أن الجهل غير قابل لأن يكون عذرا» معللا استاذنا الشيرازي ذلك بأن الجهل الموجود في العلم الاجمالي من كون المعلوم مرددا مورده لا ربط له بتأثير العلم الاجمالي بهذه المرتبة. نعم الجهل المذكور انما يؤثر في وجوب الموافقة القطعية فيمكن ان يقال ان الجهل المذكور لما كان المورد غير معلوم معه ومحجوبا عنا به أمكن للمولى جعل حكم ظاهري بالنسبة إليه.

والحاصل ان حكم العقل بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية تنجيزي غير معلق على عدم صدور الترخيص من المولى وبالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية تعليقي بمعنى ان العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعية اذا لم يرخص المولى بتركها بأن يأذن فيما عدا مقدار المعلوم الاجمالي ومن هذه الجهة جعل استاذنا المذكور إن التعرض لحكم العلم الاجمالي بحرمة المخالفة في مباحث القطع لانها ترجع لمخالفة العلم التفصيلي والتعرض لحكم العلم الاجمالي بوجوب الموافقة في مباحث الاشتغال.

قلنا إن كون العلم الاجمالي علة تامة لحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية بحيث يمتنع على المولى الترخيص بها والاذن فيها نمنع منه فان ذلك انما يكون اذا تنجز الخطاب المولوي بالعلم الاجمالي وهو لم يتنجز به اذ لو تنجز به لوجبت وجوبا تنجيزيا

١٢٠