مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

والرأس وهو فيه نفع للمضر. هذا مع أن هذا التقييد في معنى الضرر والضرار لا تقتضيه مادة لفظهما ولا هيئتهما. نعم قد كثر إطلاق الضرر في صورة الانتفاع به والضرار في سورة عدم الانتفاع به كما يظهر للمتتبع في موارد الاستعمالات لكن هذا المقدار لا يكفي في إثبات هذا الفرق. وقد جعل بعضهم الفرق بين الضرر والضرار أنّ الضرر مصدر أول من ضرّ يضر والضرار مصدر ثان منه. قال وتوضيح الفرق إن المبدأ وهو ذات الحدث قد يلاحظ بمجرد النسبة التقيدية الناقصة من دون اعتبار زائد في انتسابه ويعبر عنه بالمصدر الاول وقد يلاحظ انتسابه على وجه الاتصاف به وهذه خصوصية زائدة على الاول ويعبر عنه بهذا الاعتبار بالمصدر الثاني وامثال ذلك كثيرة كالكتب والكتاب والوصل والوصال والفر والفرار البعد والبعاد وغيرها فمدلول الضرار هو الاتصاف بالضرر كما ان مدلول الوصال هو الاتصاف بالوصل والفرار هو الاتصاف بالفر والكتاب هو الاتصاف بالكتب والبعاد هو الاتصاف بالبعد وهذا هو الفرق بين الضرر والضرار فكأن الى المقامين أشار عليه‌السلام بقوله «لا ضرر ولا ضرار.

ولا يخفى ما فيه فانه على هذا لا فرق بينهما بحسب اللب على إنا لا نسلم ما ذكره من كون المصدر الثاني بهذا المعنى بل كثيرا ما تستعمل العرب للمصدر الثلاثي المجرد أوزانا فقد يكون مصدر الفعل الثلاثي له أوزانا كثيرة ولكنها كلها سماعية لا قياسية على أن مثل (كتاب) لا نسلم أنه مصدر بل هو اسم عين جنس ما كان مكتوبا بين الدفتين وأما باقي ما ذكره فقد يكون فيه المشاركة فمادة فرار يمكن أن يراد به كل منهما فرّ من الآخر وكذا لفظ (وصال) يمكن أن يراد به كل منهما وصل الآخر

٢٠١

وكذا لفظ (بعاد) كل منهما بعد عن الآخر فالفاظ فيها مع التجرد عن القرينة تحمل عليها. وكيف كان فالأمر سهل في الفاظ هذه القاعدة فانها بقرائن الاحوال يتضح المراد منها.

المقام الثالث في زيادة بعض الألفاظ على هذه القاعدة : ـ

المقام الثالث في الزيادة على متنها بلفظ (على مؤمن) أو بلفظ (في الاسلام) فنقول إن اكثر أخبار الباب قد جاء بلفظ (لا ضرر ولا ضرار) بدون زيادة كما في موثقة عبد بن بكير في قصة سمرة ابن جندب بل هو ظاهر رواية الحذّاء حيث قال فيها. النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما أراك يا سمرة إلا مضارا» حيث لم يقيدها كأن يقول مضار المؤمن أو في الاسلام. وهكذا المروي في تفسير الشيخ الطوسي التبيان فانه قال في الحديث (لا ضرر ولا ضرار) من دون زيادة أصلا بعضها بلفظ (لا ضرر ولا ضرار على مؤمن) بزيادة على مؤمن كما في مرسلة ابن مسكان في قصة سمرة بن جندب وظاهر الخبر الصحيح التاسع حيث فيه ولا يضر أخاه المؤمن وبعضها بلفظ (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) وهو الخبر الثامن المروي عن الفقيه والخبر العشرون المرسل عن العلامة والطريحي والنهاية لابن الأثير وظاهر ما في الخبر السادس عشر حيث فيه ليس من المسلمين من غش مسلما أو ضره أو ماكره. ولكن التحقيق ان الذي ينبغي أن يؤخذ به هي الطائفة الاولى التي هي بدون الزيادة لأنها القدر المتيقن ولأن الكثير من أخبار الباب عند ما تشتمل على نقل القاعدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تذكرها بدون قيد (على المؤمن) أو في الاسلام ما عدا مرسلة ابن مسكان وهي مرسلة لا حجة فيها.

والخبر الصحيح العاشر لم يكن ظاهرا في التقييد إلا اذا قلنا

٢٠٢

بحجية مفهوم الوصف. وخبر الفقيه الثامن مرسل ليس بحجة وهكذا خبر العلامة وابن الأثير فانه أيضا مرسل وهكذا الخبر السادس عشر فان مفهوم الوصف ليس بحجة. على أنه مرسل ومرسلات الفقهاء ليست بحجة وان قلنا مراسيل الرواة الموثقين حجة لأنهم طالما يرسلون الخبر لاجتهادهم في المعنى أو لأن العمومات أو المطلقات أو المفاهيم تشملها من دون رواية خاصة تخصها فقوة هذا الاحتمال في مراسيلهم أوجب عدم الاعتماد على متن مراسيلهم. ويقوي عدم وجود هذين القيدين في القاعدة هو أن الروايات التي وردت عن الأئمة عليهم‌السلام فيها الاستشهاد بقول النبي في هذه القاعدة لم يكن فيها هذان القيدان بل كانت كلها من قبيل الطائفة الاولى. ودعوى كما في تقريرات بعض أساتذة العصر ـ أن رواية الفقيه لا يضر إرسالها لأن التعبير فيها لم يكن بلفظ (روي) ونحوه وانما كان بلفظ (قال) وهو ظاهر في كون الرواية ثابتة عند الصدوق وإلا لم يجز له الاخبار بها بتا لو لا ثبوت القول عنده مدفوعة بأن الارسال انما يضر بالرواية لعدم معرفة الواسطة ومع التعبير المذكور لم تعرف الواسطة أما الثبوت عند الراوي وعدمه فلا يرفع الارسال ولا يدفع المحذور المذكور. نعم يمكن أن يقال بل قد قيل ان القرائن الحالية دالة على التقييد ب (في الاسلام) باعتبار ان الناطق بهذه القاعدة والضارب لها هو المشرع للاسلام بصفة كونه مشرعا وهو يريد بيان صفات الاسلام وكيفية الدين فلا بد أن يكون نظره لضرب القاعدة التي يقتضيها الاسلام لكن هذا لا يوجب التقييد به فانه على بعض التفاسير (للأضرار) يكون التقييد غير مستحسن كما لو جعلناها بمعنى النهي فان المعنى يكون لا تضر في الاسلام كما يقال لا تشرب الخمر في الاسلام ولا يخفى ما في هذه الظرفية من البشاعة إلا ان

٢٠٣

تجعل (في) سببية ومع ذلك فيها شيء من البشاعة والزيادة غير المحتاج اليها.

المقام الرابع في بيان المراد من لا ضرر

المقام الرابع في بيان المراد من (لا ضرر) لا ريب في عدم إرادة المعنى الحقيقي منه لوقوع الضرر في الاسلام كثيرا فانه طالما أضر مسلم مسلما بسرقة أو نهب أو نقص في عرض على انه لو كان المراد بها المعنى الحقيقي فلا وجه لحكم النبي بها في قضية سمرة إذ مع عدم وقوع الضرر في الاسلام فلما ذا يستبدل المال بعذقه ومع إبائه يقلع عذقه فلا بد من إرادة معنى مجازي فيها. وقد ذهب القوم في تشخيصه الى عدة وجوه.

أحدها ما هو المحكي عن البدخشي وعن صاحب الجواهر وشيخ الشريعة الاصفهاني وهو الذي يظهر من ابن الأثير في نهايته بل من أغلب اللغويين حيث حكي عنهم في تفسير الحديث أنهم قالوا معنى (لا ضرر) أي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه ففسروا (لا) بالناهية بأن يراد به تحريم الضرر وإنه لا يجوز أن يضرّ أحد آخر ولا يجوز أن يتضارا فيضر كل منهما الآخر نظير قوله تعالى في سورة البقرة (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ) ونظير قوله عليه‌السلام «لا غش بين المسلمين» ونظير قوله عليه‌السلام «لا رهبانية في الاسلام» وقوله «لا قياس في الدين» وقوله «لا عول ولا تعصيب» وقوله «لا بيع وقت النداء». وهذا المعنى يتصور إرادته على انحاء : ـ

النحو الاول ان تكون (لا) نافية للجنس وتكون الجملة خبرية سلبية استعملت بداعي إنشاء طلب ترك الشيء لا بداعي الاعلام والاخبار عن عدمه كما ان الجملة الخبرية الايجابية تستعمل

٢٠٤

بداعي إنشاء طلب الشيء لا بداعي الاعلام بوجوده كقوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وكقوله عليه‌السلام «يسجد للسهو».

(النحو الثاني) ان تكون (لا) للنهي ولا مانع فيه من ناحية المعنى لأنه تكون داخلة على العمل وهو المصدر كما انه لا يلزم التجوز لكثرة استعمال (لا) في النهي وانشاء التحريم بها إلا إنه خلاف ما قرره علماء النحو من ان لا الناهية لا تدخل الا على الفعل المضارع دون المصادر واسماء الأعيان.

(النحو الثالث) ان تكون لا نافية والجملة باقية على حقيقتها الخبرية والكلام فيه حذف للخبر ويقدر (بجائز ونحوه) وان أصل الكلام لا ضرر مشروع أو جائز أو سائغ أو مباح أو مأذون به من الشارع في الاسلام فكل فعل يكون فيه ضرر على الغير يكون غير مأذون فيه شرعا فيكون حراما وعلى هذا الوجه بانحائه الثلاثة يكون مفاد القاعدة وهو الحرمة المولوية في الفعل الضرري فتكون القاعدة عبارة عما ثبت بالعقل والاجماع والكتاب والسنة من حرمة الضرر والضرار والاضرار بالغير ولا تدل على نفي الحكم الوضعي أو ثبوته للعمل الضرري فان النهي المولوي لا يستفاد منه إلا الحرمة التكليفية وبالملازمة يدل على الفساد في العبادة. نعم النهي الارشادي حيث إنه يرشد الى ما في العمل من الفساد يقتضي فساد المعاملة ولذا قالوا ان النهي التحريمي المولوي لا يدل إلا على مبغوضية المعاملة دون فسادها. والنهي الارشادي يدل على فساد المعاملة ولا يقتضي مبغوضيتها والعقاب عليها. ودعوى استفادة الفساد من الحرمة المولوية كما يستفاد الصحة من الأمر المولوي بالوفاء بالشروط والعقود كما يحكى عن الشيخ الأنصاري. فاسدة لأنه قياس في اللغة مع ان الأمر بالوفاء بالعقد إنما هو التزام بترتب أثره عليه وهو عبارة عن الصحة.

٢٠٥

والحاصل ان قضية (لا ضرر) على هذا الوجه تقتضي اجتماع الأمر والنهي في الواجبات التي طرأ عليها الضرر. واما في المعاملات فهي انما تقتضي مبغوضيتها واستحقاق العقاب عليها دون عدم لزومها كما انه على هذا الوجه لا تقتضي هذه القاعدة الضمان لأن الحرمة التكليفية لا تقتضي الضمان.

ويرد على هذا الوجه الاول : ـ

أولا انه بالنحو الاول منه يلزم استعمال الخبر في الانشاء وبالنحو الثاني منه انه لم يعهد استعمال (لا) الداخلة على الاسم في النهي وبالنحو الثالث ان الخبر اذا كان حدثا مخصوصا فلا يجوز حذفه. وفيه ان استعمال الخبر في الانشاء اذا كان بقرينة صح حمل الكلام عليه والقرينة في المقام حالية وهو كون المتكلم في مقام اعمال مولويته وبيان تشريعه وتنفيذه وهو يناسب الانشاء لا الاخبار واما كون (لا) لا تصلح للنهي عند دخولها على الاسم لا مستند له الا قول اللغويين وهو يستند الى استقرائهم وهو ناقص ليس بحجة. واما حذف الخبر مع كونه صفة خاصة فهو إنما لا يصح حيث لا قرينة على ذلك المتعلق أما مع وجود القرينة المقالية والحالية فلا مانع منه ولا ريب أن في قصة سمرة وأغلب الأخبار المتقدمة كانت القرينة موجودة على إرادة نفي جواز الضرر ومشروعيته.

ويرد عليه ثانيا أنه مناف لما استقر عليه سيرة العلماء من الاستدلال بهذه القاعدة على خيار العيب والغبن والتدليس وحلول الديون بموت المديون واخراج المؤن قبل الزكاة وبيع ما يتسارع اليه الفساد من الرهن والضمان وجواز تزويج الأمة مع العنت وخيار الزوجة مع فقر الزوج. مع أن الحرمة التكليفية لا تستدعي ثبوت هذه الاحكام الوضعية والتكليفية كما هو واضح

٢٠٦

فلو كان مفاد القاعدة المذكورة هو الحرمة التكليفية لما صح الاستدلال المذكور من العلماء الاعلام ولا التمسك المزبور منهم على إثبات الحكم الوضعي والتكليفي وفهم العلماء للرواية كتمسكهم بها يوجب الوثوق بمدلولها.

ويرد عليه ثالثا انه لا يناسب استدلال العلماء بها على ثبوت حق الشفعة ولا استدلال المعصومين عليهم‌السلام بهذه القاعدة على ثبوت حق الشفعة إذ ليس في موردها فعل يتعلق به التحريم لأنه اذا باع أحد الشريكين حصة من المال المشترك فالفعل الذي يمكن أن يتعلق النهي التكليفي به أما ايقاع العقد أو إبقاؤه ولا ريب أن الامام عليه‌السلام لا يريد حرمة إيقاع العقد لأنه حلال بالاجماع بل بالضرورة ولا يريد الثاني لأن الابقاء من فعل الله تعالى دون العبد لأن صحة المعاملة أو فسادها يرجع أمره للشارع مع ان حرمة الابقاء لا تستلزم ثبوت حق الشفعة لعدم المنافاة بين حرمة الابقاء وعدم ثبوت حق الشفعة للشفيع نظير عدم استلزام حرمة بيع المستطيع الزاد والراحلة فانه حرام مع أنّ العقد ممض وباق مفعوله. وقد أجيب عن ذلك بوجهين : ـ

أحدهما بأنه في الشفعة يحمل النهي في القاعدة على الحرمة ويكون المراد هو استقلال كل من البائع والمشتري في التصرف في الثمن والمبيع مع عدم إذن الشريك الآخر. وفيه ما لا يخفى فان ظاهر كلمات العلماء وظاهر روايات الشفعة ان قاعدة (لا ضرر) علة لثبوت نفس الشفعة لا لحرمة التصرف.

ثانيهما ان النهي في قاعدة (لا ضرر) يحمل على الحرمة التشريعية دون التكليفية بأن يراد بتحريم الضرر تحريم الالتزام بالحكم الذي يترتب عليه الضرر بداهة حرمة الالتزام بالحكم المنفي شرعا. ولا يخفى ما فيه فان القائلين بهذا الوجه

٢٠٧

يريدون الحرمة التكليفية الذاتية مع ان المعصومين عليهم‌السلام والعلماء الذين تمسكوا بهذه القاعدة لم يكن نظرهم الى الحرمة التشريعية. مع ان الجملة الخبرية السلبية ليست لها مناسبة ولا استحسان في إنشاء الحرمة التشريعية حتى تستعمل فيها.

إن قلت ان رواية الشفعة وهي الخبر الثاني المتقدم نقله عن الكافي عن عقبة بن خالد عن الصادق عليه‌السلام وهو قضى رسول الله بالشفعة في الأرضين والمساكن وقال (لا ضرر ولا ضرار) الظاهر انه من الجمع في الرواية بأن كان قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشفعة في الأرضين والمساكن في مقام ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا ضرر ولا ضرار» في مقام آخر وجمعها الراوي عند النقل كما هو المحكي عن المرحوم شيخ الشريعة الاصفهاني واستدل عليه جماعة من المعاصرين بأن الشريك قد لا يتضرر بالبيع ومع هذا يثبت له حق الشفعة فلا يصح الاستدلال لثبوت حق الشفعة (بلا ضرر) بل قد يتضرر الشريك بالبيع ولا يثبت له حق الشفعة كما لو كان الشركاء متعددين فكيف يصح الاستدلال (بلا ضرر) على ثبوت حق الشفعة مع ان حق الشفعة لا يدور مداره. هذا مضافا الى ان (لا ضرر) انما تقتضي عدم لزوم بيع الشريك فان الضرر انما كان في بيعه ولا تقتضي ثبوت حق الشفعة لشريكه ويؤيد ذلك أعني كون (لا ضرر ولا ضرار) قضية مستقلة لا ربط لها بالمتقدم هو تخلل الواو مع من قال بينها وبين ما قبلها. فان ذلك يشعر بأنه من الجمع في الرواية بين حديثين فالحق ان هذه الرواية عبارة عن روايتين جمعنا في رواية واحدة فليس فيها استدلال (بلا ضرر) على ثبوت حق الشفعة. نعم لو كانت هذه الرواية من باب الجمع في المروي بأن كان قضاء رسول الله المذكور مقترنا (بلا ضرر) في مقام واحد وكلام واحد

٢٠٨

كانت الرواية دليلا على تمسك المعصوم عليه‌السلام (بلا ضرر) على ثبوت حق الشفعة. هذا مع ما ذكره بعضهم من ضعفها بمحمد بن عبد الله بن هلال المجهول وعقبة بن خالد الذي لم يوثّق.

قلنا الظهور السياقي يقضي كونهما من كلام واحد فلا يرفع اليد عن هذا الظهور إلا بقرينة قطعية. وما ذكر لا يصلح للقرينة فان ما ذكره الخصم من أن الشريك قد لا يتضرر لا وجه له لما سيجيء ان شاء الله في المقام السابع في موارد التمسك بهذه القاعدة إنها قد يتمسك بها في رفع الامور الكلية لثبوت الضرر النوعي فيها ولا يمنع ذلك وجود بعض الافراد من ذلك المورد الكلي ليس فيه ضرر ولكن بشرط أن يكون في غاية الندرة بحيث يعد في العرف به نزلة العدم وسيجيء ان شاء الله ان ذلك لا يدركه إلا المعصوم ففيما نحن فيه المعصوم قد أدرك وجود الضرر النوعي على الشريك فحكم بثبوت حق الشفعة بواسطة قاعدة (لا ضرر) بخلاف ما اذا تعدد الشركاء فانه لما لم يكن في البيع لحصة واحدة منها ضرر نوعي على الشريك فلم يدرك المعصوم الضرر في لزوم البيع في هذا النوع لم يحكم فيه بثبوت حق الشفعة فيه. نعم لو وقع في بيع بعض حصص الشركاء فرد فيه ضرر على الشركاء أو أحدهم لا يكون البيع لازما لحكومة قاعدة لا ضرر على لزوم البيع والسلطنة.

والحاصل انه يكفينا احتمال ان يكون حكم المعصوم عليه‌السلام بثبوت حق الشفعة في عموم صورة عدم تعدد الشركاء هو وجود الضرر على الشريك ، أي وجود الضرر النوعي في هذا النوع ويكفينا احتمال أن يكون حكم المعصوم بعدم ثبوت حق الشفعة في صورة عموم تعدد الشركاء هو عدم وجود الضرر على الشريك أعني

٢٠٩

عدم وجود الضرر النوعي في هذا النوع. وإلا لو فرض وجود ضرر شخصي على أحد الشركاء كانت قاعدة الضرر تقتضي ثبوت حق الشفعة لحكومتها على الأدلة العامة فيتقدم عليها.

وأما دعوى ان لا ضرر لا تقتضي ثبوت حق الشفعة وانما تقتضي نفي لزوم البيع فقط. فهي واضحة الفساد فانه لو اقتضت ذلك فقط لكان الضرر على البائع لأن عدم بيعه لما له ضرر عليه لأن البائع لا يبيع إلا لاحتياجه الى المال فلا بد أن يكون (لا ضرر) يرفع لزوم البيع ويثبت لزوم الشراء على الشريك الشافع بعين الثمن لو أراد المالك البيع حتى لا يكون ضرر على البائع في منعه من بيع حصته على غير الشريك.

وأما دعوى ضعف الرواية فهي فاسدة لجبر سندها بعمل الاصحاب بها.

ويرد عليه رابعا بما هو المشهور وأكده بعض المعاصرين ان حمل النفي على النهي لا يناسبه تقييده القاعدة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (في الاسلام) اذ النهي انما يقصد به الإنشاء للحرمة فيكون المقام مقام إنشاء وتقييده ب (في الاسلام) يقتضي الاخبار عن عدم وجود هذا الشيء في الاسلام فيكون المقام مقام إخبار. ولا ريب في منافاة مقام الانشاء لمقام الاخبار وهذا التقريب منا أحسن مما ذكره بعضهم من ان الاسلام عبارة عن أحكامه تعالى فيصير المعنى يحرم الضرر في أحكامه تعالى وهو غير مقصود قطعا. وفيه ما لا يخفى فان الوجدان يكذبه فان الفقهاء يقولون (لا تفعل هذا الامر في فتواي) والعامة تقول (لا تصنع هذا العمل في رأينا أو في عرفنا). وسره أنه يمكن أن تكون (في) ليست بظرفية وانما هي سببية. والمعنى لا يضر أحد الآخر بسبب أن الاسلام يحرم ذلك. أو يكون من قبيل القاء الموضوع بين يدي المخاطب

٢١٠

واحضاره بنفسه عند المخاطب ففي المقام يحضر المتكلم الحكم الانشائي للمخاطب ويخبره عن وجوده في الاسلام أو في فتواه أو في رأيه. وهذا كما يقول الواضع عند وضعه لفظ زيد لمعنى (زيد وضعته لهذا المعنى) هذا كله مع ما قد عرفت فيما سبق من عدم ثبوت هذا القيد.

ويرد عليه خامسا ما ذكره بعض المعاصرين انه لا يصح إرادة النهي لأن هذا التركيب إنما يصح إرادة النهي فيه من النفي فيما لو كان للمنفي حكم ثابت في الشرائع السابقة أو عند العقلاء كما في قوله عليه‌السلام «لا رهبانية في الاسلام» فان الرهبانية كانت مشرعة في الامم السابقة وغير مشرعة في الاسلام ومثله قوله عليه‌السلام «لا قياس في الدين» فان حجية القياس كانت مرتكزة عند أهل السنة. والضرر لم يكن جائزا عند الشرائع السابقة ولا عند العقلاء فلا يصح إرادة النهي من نفيه. ولا يخفى ما فيه فان إرادة النهي من النفي لا تستدعي ذلك. سلمنا انها تستدعيه لكن العقلاء ما زالوا يضرون الغير في سبيل مصالحهم والنهي يكفي لصحته ردع الغير عنه كما في النهي عن الخبائث واذا صح النهي صح التعبير عنه بالنفي للطبيعة وبغيره.

ثاني الوجوه المحتملة في (لا ضرر) والمنسوب الى الفاضل التوني وهو كون (لا) نافية والجملة حملية خبرية على حقيقتها إلا أنّ في الكلام حذفا واصل الكلام لا ضرر غير متدارك في الاسلام ولا ضرر من غير جيران في الشرع فيكون المراد ان الضرر غير المتدارك لا يوجد في الاسلام نظير ما قيل في قوله تعالى (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) إن المراد لا ريب معتد به فيه وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا عسر ولا حرج في الدين» انه لا عسر معتد به ولا حرج معتد به في الدين ولازمه ان الشارع لم يطلبه ولم يرده

٢١١

ومقتضى ذلك نفي الحكم الطلبي عن الضرر غير المتدارك وفساد المعاملة التي تقتضي الضرر غير المتدارك فالوضوء المضر حيث انه ضرر غير متدارك منفي وغير موجود في الشرع فيكون فاسدا ، والحج المضر حيث انه ضرر غير متدارك منفي في الشرع فيكون فاسدا. واتلاف مال الغير بلا تدارك ضرر عليه عرفا فهو منفي في الشرع فلا بد من تداركه والجاهل بالغبن والعيب تمليك ماله بما دون قيمته ضرر عليه غير متدارك فهو غير موجود في الشرع فلا بد ان يكون التمليك كذلك فاسدا ولعل الذي دعاه الى هذا الاضمار والتقدير المذكور. هو ما رآه من ان معظم الاحكام الالهية كالحج والجهاد والصوم والزكاة والخمس والكفارات وأخذ الدية من العاقلة وتكليف الاولياء بحفظ المولّى عليه والقصاص وغير ذلك من الاحكام التي فيها الضرر الكثير والعناء العظيم قد كان كل ذلك لمصلحة أو منفعة عامة أو خاصة قد تدارك فيها الضرر أو صار حاجزا ومانعا عن وقوعه فان الحقوق المالية فيها سد حاجات الدولة التي تحفظ النفوس. وحفظ الفقراء من التلف وتشريع القصاص والضمان للمنع من وقوع الضرر من الغير وردعه عنه الى غير ذلك مما لا يسع المقام شرحه. فهذا هو الذي دعا ذلك القائل الى تقييد القاعدة بالضرر غير المتدارك بحسب الظاهر ثم لا يخفى أن إرادة هذا المعنى من هذا اللفظ يتصور على انحاء : ـ

النحو الاول ان يكون في اللفظ حذف لصفة الضرر وتقديرها لا ضرر غير متدارك ولا ضرار غير متدارك ويكون المقام من باب تعدد الدال والمدلول لا من باب استعمال الكلي في أحد مصاديقه ويقدر الخبر إما في الاسلام أو في الدين أو موجود أو نحو ذلك. وأما أن يكون من باب حذف الخبر على أن يقدر الخبر

٢١٢

(غير متدارك).

النحو الثاني ان يكون من قبيل استعمال الكلي في أحد مصاديقه بأن استعمل الضرر في الضرر غير المتدارك مجازا في الكلمة من باب وحدة الدال وتعدد المدلول.

النحو الثالث أن يكون المراد الضرر غير المتدارك بنحو المجاز العقلي على مذهب السكاكي. بدعوى كون الضرر المتدارك ليس بضرر فلفظ الضرر في لا ضرر لا تشمل الضرر المتدارك تنزيلا للضرر المتدارك منزلة عدم الضرر وهذا نظير قول السكاكي في جاء أسد يرمي من إن (أسدا) استعمل في معناه الحقيقي وهو الحيوان المفترس وانما نزلنا الرجل الشجاع منزلة الاسد فأردناه منه. بل لعله يذهب القائل المذكور الى أنا لا نحتاج الى التنزيل المذكور بدعوى أن الضرر المتدارك ليس بضرر حقيقة فان من أخذ ما يستحقه من الأجرة على نزح البالوعة ليس نزحه يكون ضررا حقيقة ولذا لا يقال إنه قد تضرر بالنزح فالضرر المتدارك ليس بضرر هذا كله اذا أريد بالتدارك التدارك الدنيوي كما هو الظاهر وأما اذا أريد به التدارك الاخروي أو الأعم من الدنيوي والاخروي فلا تدل القاعدة على الضمان ولا على غيره من الاحكام بل إنما تدل على عطف الرحمن على العباد عند تضررهم وتقوية قلوبهم على تحمل الضرر لاحتمال أن يكون التدارك في الآخرة فيكون من قبيل قولنا (ان الله ينصر المظلوم) (وانّ لكل كبد حرى أجرا عند الله تعالى).

ويرد عليه مضافا الى كونه مجازا لا يصار إليه إلا بالدليل والقرينة أولا ان هذا الوجه يثبت الضمان فقط لو كان المقدر هو المتدارك الدنيوي لأنه نفي الضرر غير المتدارك في الدنيا معناه إن الضرر لو وقع فلا بد من تداركه في الدنيا فيكون الضرر كالاتلاف

٢١٣

سببا للضمان. وعليه فتكون هذه القاعدة كسائر أدلة الضمان لا علاقة لها بأدلة التكاليف مع إنك قد عرفت أنّ رواياتها تدل على رفعها للاحكام الضررية كسلطنة الناس على أموالهم في قضية سمرة وكثبوت حق الشفعة في روايات الشفعة كما تقدم ذلك. وفيه ان المقدر وهو غير المتدارك ان كان هو الخبر كان مفادها هو نفي سلب التدارك عن جنس الضرر ولازمه هو ثبوت التدارك لجنس الضرر فيكون معنى القاعدة هو (ان كل ضرر فهو متدارك في الاسلام) ولازم ذلك هو ثبوت التدارك لكل ضرر في التشريع الاسلامي وتدارك الضرر إما برفع الحكم الذي يقتضيه كرفع الوجوب عن الوضوء الضرري ورفع سلطنة سمرة على ماله أو بالتقاص من الضار أو إقامة الحد عليه أو بجعل بدل المثل لعمل الانسان. نعم لو أريد بالتدارك هو البدل لزم اختصاص القاعدة بالضمان واما اذا كان المقدر هو الوصف للضرر أو كان الضرر مستعملا في الضرر غير المتدارك أو يكون الخبر هو (موجود) أو (كائن) فيكون لسانها لسان نفي الموضوع المقيد وهو يكون بنفي آثاره واحكامه فتشمل المذكورات كما عرفته في تقرير هذا الوجه. نعم يلزم عليه التجوز في الكلمة أو في العقل أو الحذف للصفة وكل منها خلاف الظاهر.

ويرد عليه ثانيا ان تنزيل الضرر المتدارك منزلة عدم الضرر إنما يصح في الضرر المتحقق تداركه في الخارج كمن تضرر بخسارة زراعته ثم عوض عنها بالمال فانه اذ ذاك ينزّل عرفا ضرره بمنزلة عدم الضرر فيقال انه لم يتضرر بزراعته. واما الضرر الذي لم يتدارك في الخارج وانما كان محكوما عند الشارع بالتدارك فبمجرد حكم الشارع بتداركه لا ينزل وجوده منزلة عدمه فلا يصح نفي طبيعة الضرر في عالم التشريع باعتبار

٢١٤

أن الشارع قد جعل ما يتدارك به الضرر وما يكون حائلا دون تحققه كالوعد بالعقاب وجعل القصاص وجعل البدل. فلا يصح أن يقال لا سرقة في الدولة باعتبار تشريعها العقاب والعوض عنها. نعم إنما يصح ذلك بالتكلّف والتجوز.

ويرد عليه ثالثا إن الضرر اذا كان بازائه عوض فهو غير منفي بالقاعدة المذكورة فيلزمه أن لا تكون القاعدة المذكورة تقتضي ارتفاع الاحكام الشرعية عن أفرادها الضررية لأن مقتضى عموم تلك الاحكام لتلك الافراد الضررية أن تكون في تلك الافراد مصلحة ومنفعة تستدعي ثبوت الاحكام لها لتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد فيكون الضرر فيها متداركا فلا تنفيه القاعدة ولا تشمله فمثلا عمومات أدلة الوضوء والحج تشمل الوضوء الضرري والحج الضرري ومقتضى شمولها أن يكون في الوضوء الضرري والحج الضرري مصلحة ملزمة فيكون الضرر فيها متداركا فلا تدل القاعدة على نفي الوجوب عنهما وهكذا المعاملات مقتضى عموم أدلتها لأفرادها الضررية أن تكون مصلحة في أفرادها الضررية وهي تتدارك الضرر الموجود فيها فلا تشملها القاعدة.

والجواب عنه كما هو المحكي عن العوائد بزيادة منا وتوضيح هو ان الأمر المتعلق بالحج والوضوء انما يقتضي المصلحة والمنفعة في ماهيتها ولا يقتضي وجود العوض والتدارك في مقابل الضرر لو طرأ على أحد أفرادها فيكون الضرر فيهما غير متدارك ودعوى احتمال انه متدارك اذ لعله في الواقع أنه قد حصل نفع خاص في مقابله في تلك الافراد التي طرأ عليها فيكون متداركا فيكون التمسك بالقاعدة من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو باطل لا تنفع فان القاعدة انما قيد الضرر فيها بما أحرز تداركه كالخمس ونحوه أو أحرز جعل الشارع له ما يتداركه كالاجرة على

٢١٥

الواجبات الشرعية التي تتعلق بالمصالح العامة وكاعطاء البدل عن مال المحتكر وكاعطاء تسعة أعشار الدية الى كل واحد من العشرة المشتركين في قتل واحد اذا قتلوا بدله. وذلك لأن العقل والعرف انما ينزل الضرر منزلة العدم عند إحراز التدارك لا عند احتماله.

ويرد عليه رابعا ان كل ضرر في الخارج ليس مما حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا ألا ترى ان التاجر لو تضرر بواسطة بيع تاجر آخر البضاعة التي عنده بقيمة أقل وادنى من التي عنده لم يكن مجعولا من الشارع شيئا لتدارك ضرره كذا ذكره بعض المعاصرين.

ولا يخفى أن هذا الأشكال لا يرد على من جعل عدم التدارك صفة للضرر فانه يكون المنفي فيه أحكام الضرر غير المتدارك ويكون الحال فيه مثل ما اذا لم يقيد الضرر. نعم لو جعل (عدم التدارك) خبرا أمكن ذلك اذا لم يقيد الضرر بكونه من جهة التشريع باعتبار ان المتكلم به هو الشارع بما هو شارع لبيان حسن تشريعه ومطابقته للصالح العام.

ويرد عليه خامسا أنه لو كان المراد (بلا ضرر) وجوب تدارك الضرر لزم جواز الاضرار من باب المجازاة والتدارك مع انه منفي بالفقرة الثانية بناء على ان معناها المجازاة فيقع التعارض بين الفقرتين. وفيه ان المجازاة ليست بأضرار وانما هي استيفاء للحق. سلمنا لكن الفقرة الثانية قد تقدم ان المراد بها هو المشاركة في الضرر بأن يضر كل منهما الآخر ابتداء مثل المقاتلة والمعانقة.

ثالث الوجوه المحتملة في (لا ضرر) وهو الذي عليه المشهور من الأصحاب هو أن يكون النفي باقيا على حقيقته ويكون المراد نفي الاحكام الشرعية التي فيها ضرر على العباد سواء كانت تكليفية أو وضعية أي ليس حكم مجعول للشارع يلزم من العمل به الضرر

٢١٦

على المكلفين وله نظائر كثيرة كقضية لا عسر ولا حرج في الدين وهذا يتصور على أنحاء.

النحو الاول أن يكون من قبيل الكناية بأن يكنى عن نفي الاحكام بنفي موضوعها لانه لازم نفي الموضوع انتفاء أحكامه نظير ما يكنى بكثرة الرماد عن لازمه وهو الكرم. والقرينة على ذلك هو وجود الضرر في الخارج فلا بد أن يكون المراد غير المعنى الحقيقي لهذه الجملة وأقرب المجازات لها هو ذلك ويكون المقام من باب الكناية بالسبب عن المسبب لأن انتفاء الموضوع سبب لانتفاء حكمه نظير أن يكنى عن خبث الانسان بكونه ليس بأصيل ويكنى بنفي الرجولية في الرجل عن عدم شجاعته كقوله (يا أشباه الرجال ولا رجال) فان الرجولية سبب للشجاعة وهذا يشترط فيه أن يكون الموضوع الداخل عليه النفي مندرجا تحت طبيعة عامة ثابت لها الحكم ولو عند ملة أخرى نظير (لا شك لكثير الشك) فان الموضوع الداخل عليه النفي هو شك كثير الشك وهو مندرج تحت طبيعة عامة وهي طبيعة مطلق الشك وهذه الطبيعة قد ثبت لها أحكام من بطلان العمل أو البناء على الاكثر ونحو ذلك. ومنه «لا رهبانية في الاسلام» بناء على كون المراد منه نفي أحكام الرهبانية الثابتة لها عند النصرانية. وأما بناء على ان المراد منها النهي عن الترهب فتكون (لا) ناهية.

والحاصل ان نفي أحد أفراد الطبيعة أو نوع منها يكون كناية عن نفي احكامها عن ذلك الفرد أو ذلك النوع لأن عدم الموضوع يستلزم عدم أحكامه فيصح أن يكنى به عن عدم احكامه ولو كني به عن عدم كماله احتاج الى القرينة مثل (لا صلاة لمن جاره المسجد إلا في المسجد) وانما اشترطنا في هذا النحو أن يكون الموضوع الداخل عليه النفي من أفراد الطبيعة لا عينها ولا نفسها لأنه لو

٢١٧

كان نفسها لزم التناقض بينه وبين ما دل على ثبوت الحكم لها كما إنه لو لم يكن لها حكم مجعول أصلا لا يصح الكناية بنفيه عن نفي الاحكام له لأن معناه انه لا حكم له أصلا وهو باطل لأن كل شيء له حكم شرعي ولا أقل من الإباحة. وعليه فيكون معنى لا ضرر ولا ضرار هو نفي الاحكام الثابتة للموضوعات حال كونها ضررية كالوجوب الثابت للغسل الضرري والجزئية الثابتة للقيام الضرري في الصلاة.

والحاصل ان القاعدة تنفي كل حكم ثابت لموضوع ضرري وهذا هو الذي نسب الى صاحب الكفاية اختياره. في (لا ضرر) النحو الثاني أن يكون في الكلام حذف والتقدير لا حكم ضرري أي لا حكم ينشأ منه الضرر فيكون الكلام فيه حذف للموصوف وهو الحكم وحذف لياء النسبة أو انه تجوز عن الحكم الشرعي الضرري (بالضرر) فاستعمله فيه ويكون المقام من قبيل المجاز في الكلمة والعلاقة هي حسن الاستعمال أو علاقة المسببية والسببية باعتبار ان الضرر مسبب عن الحكم الشرعي فاستعمل فيه فانه طالما يقع مثل هذه التعابير في السن أهل الفن والصناعة فيقول الصيدلي (لا تسمم عندنا) فان مراده لا دواء تسممي عندنا أي لا دواء ينشأ منه التسمم عندنا ويقول الجراح (لا أذية عندنا) فان مراده لا عملية مؤذية وموجبة للأذى عندنا وهذا النحو هو المنسوب اختياره الى الشيخ الانصاري. وقد ذكر بعضهم إن الفرق بين النحوين المذكورين إنه على النحو الاول لا يكون تقدير في الكلام وانما يكون كناية عن ارتفاع الاحكام الثابتة لمتعلقاتها اذا اتصفت تلك المتعلقات بالضرر كما في وجوب الوضوء اذا كان في الوضوء ضرر لأن نفي الموضوع إنما يقتضي نفي الاحكام الثابتة له فهو إنما يكون كناية عن ذلك. وأما على النحو الثاني

٢١٨

فالقاعدة تدل على الأعم من ذلك لأنها تدل على نفي الحكم الضرري سواء كان في متعلقه الضرر كما في الصوم اذا صار فيه الضرر ونحو ذلك أو كان في نفسه الضرر كما في لزوم بيع المغبون فان بيع المغبون لا ضرر فيه عليه إلا اذا لزم أما اذا لم يلزم وكان له الخيار فلا ضرر فيه عليه بخلاف الصوم المضر فانه اذا ارتكبه الانسان أضره وهكذا في الشفعة فان البيع على غير الشريك لا ضرر فيه على الشريك اذا كان حق الشفعة ثابتا له اذ له الخيار. وانما يكون عليه الضرر لو لزم البيع على غيره ولم يكن له الخيار. ولا يخفى ما فيه فان المتعلق في نفسه ضرر في كلا الموردين وليس الضرر من نفس الحكم فان نفس الحكم إنشاء تابع لمتعلقه فاذا كان لا ضرر في متعلقه كيف يكون فيه الضرر فالحق انه بكلا النحويين لو تما يكون الحكم الضرري مرتفعا بنفي الضرر.

النحو الثالث أن يكون المراد نفي الموضوع بنفسه حقيقة باعتبار عدم ما يوجبه ويستلزمه ويقتضيه كما يقال (لا غش في الاسلام) باعتبار عدم ما يوجب الغش من قوانينه. (ولا شقاء في الاسلام) باعتبار عدم وجود حكم فيه وجب الشقاء ومثله (لا حرج ولا عسر في الاسلام) باعتبار عدم حكم يوجب العسر والحرج فيه. والفرق بين هذا النحو والنحو الأول ، انه في الأول يكون من قبيل الكناية بانتفاء الموضوع عن انتفاء احكامه وآثاره الشرعية ، وفي هذا النحو يكون بنحو الادعاء وتنزيل عدم الشيء منزلة عدم ما يوجبه ويقتضيه فانه بهذا المعنى الثالث يكون نفي الموضوع على سبيل الحقيقة باعتبار عدم ما يوجب تحققه في ضمن نطاق الاسلام واطاره فانه اذا عدم في نطاق الاسلام والدين ما يوجب تحقق الشيء صح نفي الشيء عن الاسلام كما لو عدم سبب الشيء في بلد صح نفي ذلك الشيء عن ذلك البلد كما يقال

٢١٩

(لا غش في هذا البلد) (ولا جريمة في هذه المملكة).

وتوضيح الحال ان الضرر له أسباب تكوينية كالحرق والغرق والتعدي على العرض ونحو ذلك وله أسباب تشريعية وهو إن يسن قانونا يقتضيه ويوجبه كسن الضرائب الجائرة فكما يصح نفيه في الخارج لانتفاء أسبابه التكوينية كذلك يصح نفيه في عالم التشريع لانتفاء أسبابه التشريعية فيقال لا ضرر في قوانين هذه الدولة لانتفاء ما يوجب من القوانين فيها وعليه فيكون قيد على الاسلام في محله.

والحاصل انه على هذا يكون المنفي هو الطبيعة المسببة عن أحكام الاسلام وقوانينه ولازمه عدم وجود حكم وقانون في الاسلام يقتضي هذه الطبيعة وهي الضرر ولا ينافي ذلك وجود بعض الاحكام الضررية كالجهاد والخمس ونحوها فانها لو سلمت ضرريتها فتكون من قبيل المخصص. اذا عرفت ذلك فالحق ان إرادة نفي الاحكام بالنحو الاول من القاعدة لا يصح لأن نفي الحكم إنما يكون بنفي الموضوع فيما لو كان لطبيعة الموضوع حكما فانتفاؤه يكون انتفاء لحكم طبيعته عنه كما في الربا. والغيبة والشك فان لها أحكاما عند الشارع فاذا نفاها الشارع في مورد خاص كما في قضية (لا ربا بين الزوج والزوجة) حيث نفى فيها الربا بين الزوج والزوجة كان هذا النفي كناية عن نفي تلك الآثار الثابتة للربا من الحرمة وبطلان المعاملة وفيما نحن فيه لم يكن لطبيعة الضرر أحكام خاصة عند الشارع حتى تكون القاعدة تنفيها بنفي موضوعها وهو الضرر مضافا الى ان مقتضى الاستشهاد في تلك الموارد بالقاعدة من المعصومين عليهم‌السلام لم يكن المنفي بها أحكام الضرر وانما المنفي بها أحكام لموضوعات خاصة غاية الأمر انه قد طرأ عليها الضرر وبواسطة الضرر ارتفعت عن

٢٢٠