مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

الشيخ علي كاشف الغطاء

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي كاشف الغطاء


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مطبعة العاني
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٩
الجزء ١ الجزء ٢

ايقاع العبد نفسه في التهلكة تقتضي النهي عن هذا الفرد الذي فيه الضرر فيكون المقام من باب اجتماع الامر والنهي.

ثانيها المحرمات التي كان بعض افرادها مضرا تركه كما لو فرض انه توقف علاجه على أكل شيء من الميتة ونحوها من المحرمات فقد يقال بعدم حكومة أدلة (الضرر) على أدلتها قياسا على أدلة الحرج. ولكن التحقيق هو حكومة أدلة الضرر على أدلتها. والقياس بأدلة الحرج لا وجه له لقيام الاجماع على ثبوت الحرمة للمحرمات حتى للافراد الحرجية.

ثالثها الاحكام المتعلقة بالعناوين المضرة نوعا كالقصاص فانه لا يتمسك بلا ضرر فيها وإلّا لم يبق لها مورد وان بقي فهو شاذ نادر يقبح إرادته من عمومات أدلة القصاص. نعم يصح التمسك في نفي التكليف بالافراد من القصاص التي يكون فيها ضرر اكثر من المتعارف كأن يقتص منه بقطع يده بأشد أنواع القطع لأن أدلة (لا ضرر) لها حكومة عليها في هذا المقدار الزائد من الضرر.

رابعها الاحكام المضرة بالمرتكب غير الالزامية كالاستحباب والاباحة والكراهة ونحوه فانه ليس من المنة رفعها اذ للعبد ان لا يفعلها. نعم ادلة ايقاع النفس في التهلكة تقتضي الحرمة وهكذا الكلام في الاباحة للأمر المضر بالمرتكب ولهذا افتى بعضهم بصحة الوضوء والغسل الضررين مع الفتوى منه بعدم صحة العبادة الضررية باعتبار انهما مستحبان وقاعدة (لا ضرر) لا تقتضي رفع الاستحباب بخلاف باقي العبادات المضرة الواجبة غير مستحبة بالذات. وقد عرفت منا ان العبادات الضررية يصح اتيانها مع العلم بالضرر ومع الجهل به هذا كله بالنسبة الى الأحكام غير الالزامية المضرة بالمرتكب للعمل واما المضرة بغير المرتكب كاباحة التصرف للمالك

٢٦١

بملكه اذا أوجب تضرر الجار دون ان يتضرر بترك التصرف. فالمنة على العبادة تقتضي رفع تلك الاباحة فقاعدة (لا ضرر) تقتضي رفعها.

خامسها الاحكام التي التزم بها المكلف ابتداء باختياره لا بالزام الشارع بها كأن أجر نفسه على أمر مضر كالحراسة ليلا أو باع ما يضر كأن يبيع قارورة الدم فان (لا ضرر) لا يرفع ذلك لما ذكرناه غير مرة من ان القاعدة واردة في مقام الامتنان على العبد وليس من المنة رفع الالتزام بشيء هو في حين انه هو راغب وطالب للالتزام به هذا مضافا الى ان أدلة (لا ضرر) كأدلة (لا حرج) ظاهرة في عدم ايقاع الشارع العبد في الضرر والحرج بواسطة التكليف المجعول من نفس الشارع وهنا الشارع لم يوقع العبد في الضرر وانما هو اوقع نفسه. نعم الالتزام بما هو ضرر بالنذر واليمين أو العهد لا يصح من جهة اعتبار عدم الضرر ورجحان العمل في متعلقها فراجع أدلتها هذا من ناحية أدلة (لا ضرر). واما من ناحية أدلة النهي عن ايقاع النفس في التهلكة فما كان من العمل مضرا بحيث يصدق عليه انه ايقاع للنفس في التهلكة يكون العمل محرما فلا يصح الالتزام به.

سادسها الاحكام المضرة التي اوقع المكلف نفسه بها بسوء اختياره كما لو فعل ما يوجب الكفارة المضرة بحاله وكما لو جامع في البرد الشديد مع دخول الوقت فان أدلة (لا ضرر) لا ترفع وجوب الغسل عليه لكونه هو أوقع نفسه في هذا الضرر وقد عرفت ان أدلة (لا ضرر) انما تدل على أنّ الشارع لم يوقع العبد في الضرر اما ان العبد اذا أوقع نفسه في الضرر فالادلة غير ظاهرة في رفع التكليف بذلك الضرر ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الأخبار من وجوب الغسل على المريض الذي اجنب متعمدا وان اصابه ما أصابه.

٢٦٢

ويؤيده أيضا ما ورد في الغاصب من أنه يؤخذ بأشق الاحوال. ومن هنا يظهر لك وجه عدم شمول أدلة نفي الضرر لوجوب الحد أو القصاص أو التعزير وان كانت بمنتهى الضرر عليه لايقاع العبد نفسه بسوء اختياره فيها ولذا لا يعد العقلاء السلطان الذي يعدل في رعيته ويصرح بعدم الضرر في قوانينه لو عاقب على الجريمة التي توعد عليها بالعقاب انه ليس بعادل وانه مضر لرعيته.

سابعها الأحكام المتعلقة بالأمور الضررية المتولدة من أمر الشارع بالاطاعة لشخص فتكليف الشارع الولد باطاعة والديه والعبد باطاعة مولاه فانه ربما يقال بأن أدلة نفي الضرر لا تشملها فاذا كلف الوالد ابنه بأمر مضر فأدلة نفي الضرر لا تدل على نفي هذا التكليف. وفيه أنّ الادلة تشمل ذلك لأنه يرجع الى تكليف الشارع به وجعله على حد سائر التكاليف الحادثة باسباب شرعية كوجوب الوضوء عند الحدث وفيما نحن فيه يكون وجوب العمل قد حدث بسبب أمر المولى. نعم لو كان العبد كافرا جاز الزامه بما فيه الضرر لأنه ليس أهلا للمنة.

المقام التاسع في صحة العبادة الضررية سواء جهل ضررها أو علمه وصحة المعاملة الضررية اذا علم ضررها واقدم عليها : ـ

المقام التاسع انه اذا علم الضرر في العبادة واقدم عليها فاتى بالعبادة صحت العبادة وهكذا اذا جهل الضرر في العبادة واتى بها صحت العبادة ولو انكشف له ضررها. واما المعاملة التي فيها الضرر اذا علم انها فيها الضرر واقدم عليها وأتى بها صحت المعاملة وكانت لازمة واما اذا جهل ضررها ثم انكشف له ضررها فله امضاؤها وله فسخها فلو صام من يتضرر بالصوم عالما بضرره يصح صومه ولا اعادة عليه وهكذا من جهل ضرره فصام صح

٢٦٣

صومه. وقد حكي الاجماع على صحة العبادة الضررية مع الجهل بضررها ومن أقدم على المعاملة الغبنية مع علمه بالغبن كان العقد لازما في حقه ومن أقدم على شراء المعيب مع علمه بأنه معيب كان العقد لازما في حقه ولذا ترى الفقهاء قيدوا خيار الغبن والعيب بما اذا جهل المغبون ولا خيار له مع العلم بذلك واذا اذن صاحب المال باتلاف ماله جاز الاتلاف ولا ضمان.

وتحقيق ذلك وتنقيحه ان المقدم على الضرر باعتبار الادلة الدالة على عدم جواز ايقاع النفس في الهلكة يكون ارتكابه لكل ضرر من هذا القبيل محرما ومنهيا عنه شرعا ولذا كان عند الجميع الوضوء هو المتعين مع كون الضرر الحاصل به سهلا وكذا لو كانت المشقة الحاصلة به يسيرة وعليه فان كان ذلك المضر الذي يوقع ضرره النفس في التهلكة من قبيل العبادات كانت العبادة فاسدة اذا كان المكلف ملتفتا الى الوقوع في الهلكة ومنجّزا في حقه هذا التكليف لأن المقام يكون من قبيل اجتماع الأمر والنهي لأنّ العبادة قد طرأ عليها عنوان الوقوع في الهلكة فهي نظير العبادة التي طرأ عليها عنوان الغصب فان النهي إنما يوجب فسادها من جهة عدم التمكن من التقرب بها وهو إنما يكون مع تنجّز النهي في حقه لا مع عدمه بخلاف النهي عن العبادة فانه موجب لفسادها حتى مع عدم تنجزه كما قرر في محله. واما اذا كان لوقوعه في المضر من قبيل المعاملة بأن كانت المعاملة موجبة لوقوعه في التهلكة فانها اذ ذاك تكون المعاملة محرمة ومنهيا عنها شرعا ولا يوجب فسادها فيما كان الاقدام على الضرر يصدق عليه أنّه اقدام على الوقوع في التهلكة او كان من الموارد التي قام الدليل على حرمتها بخصوصها كما يقال في قطع بعض الاعضاء على تقدير عدم الضرر ببقائها واما اذا لم يكن المضر ضرره يكن كذلك بمعنى ان الضرر

٢٦٤

الموجود فيه لا يوجب إيقاع النفس في التهلكة فليس دليل على حرمته بل قام الدليل على جوازه فان الادلة قد دلت على حصول الضرر بأكل كثير من المباحات المضرة كأكل التفاح الحامض وأكل الجبن في النهار وكثرة أكل السمك ونحوها مما يجده المتتبع في كتاب الاطعمة والاشربة.

ان قلت ان قاعدة (لا ضرر) تدل على حرمة اضرار الانسان نفسه أو غيره كما يظهر ذلك من بعض حواشي العروة فانه قال أدلة نفي الحرج لا تقتضي تحريم الفعل الحرجي بخلاف أدلة نفي الضرر فان الضرر فيها محرم.

قلنا لو كانت (لا ضرر) معناها النهي عن الضرر كان لما ذكره وجه لكنك قد عرفت ان معناها هو الاخبار بعدم جعل الاحكام الضررية والضرارية هذا كله باعتبار ما دل على حرمة اضرار النفس.

ان قلت قد دلت الأخبار على حرمة ارتكاب ما فيه الضرر ففي صحيحة الحلبي عن الصادق عليه‌السلام «الجنب يكون معه الماء القليل فان هو اغتسل به خاف العطش أيغتسل به أو يتيمم قال عليه‌السلام بل يتيمم» وفي صحيحة ابن سرحان عن الصادق عليه‌السلام «في الرجل تصيبه الجنابة وبه جرح أو قرح أو يخاف على نفسه من البرد فقال عليه‌السلام لا يغتسل ويتيمم» ومثلها صحيحة البزنطي عن الرضا عليه‌السلام.

قلنا الظاهر ان ذلك من الخوف في الوقوع في التهلكة فان العطش به تزهق النفس وهكذا من كان به جرح أو قرح فان المراد بهما من يخاف على نفسه الموت باصابة الماء لهما ولذا افتى الفقهاء بعدم جواز التيمم لما كان به جرح أو القرح يسير وهكذا المراد الخوف من البرد الموجب للتهلكة ويدلك على ذلك ما ورد عن

٢٦٥

المعصومين عليهم‌السلام من عدم الالزام بالتيمم مع الجرح والقرح ففي صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام «عن الرجل يكون به القرح والجراحة يجنب قال عليه‌السلام لا بأس بان لا يغتسل ويتيمم». فان ظاهره اباحة التيمم لا الالزام به ومقتضى الجمع بينها وبين ما سبق هو حمل الجرح والقرح على ما هو الشديد الذي يلزم باستعمال الماء الوقوع في التهلكة وصحيحة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام «انه قال في رجل اصابته جنابة في السفر وليس معه الا ماء قليل ويخاف ان هو اغتسل ان يعطش قال عليه‌السلام ان خاف عطشا فلا يهرق منه قطرة وليتيمم فان الصعيد أحب اليه». فان تعليله عليه‌السلام يكون الصعيد احب اليه يدل على عدم لزوم التيمم فلا بد من حمل العطش على العطش الذي لا يخاف منه الوقوع في التهلكة جمعا بينها وبين الاخبار المتقدمة. وخبر ابن أبي يعفور قال «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب ومعه ماء قدر ما يكفيه لشربه أيتيمم أو يتوضأ به فقال عليه‌السلام يتيمم أفضل». وصحيح سليمان بن خالد وغيره عن الصادق عليه‌السلام «انه كان وجعا شديد الوجع فأصابته جنابة وهو في مكان بارد قال عليه‌السلام فدعوت الغلمة فقلت لهم احملوني فاغسلوني فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا عليّ الماء فغسلوني». وصحيح محمد بن مسلم فقد ورد فيه «انه عليه‌السلام اضطر الى الغسل وهو مريض فاتوا به مسخنا فاغتسل وقال عليه‌السلام لا بد من الغسل». وهذه الروايات تدل أيضا على أصل المطلب من أنّ الضرر غير الموقع في التهلكة لا يوجب حرمة الغسل أو الوضوء وانما يوجب الرخصة في التيمم بدلا عنهما فلا وجه لما يظهر من السيد في عروته من بطلان الوضوء والغسل. ثم لا يخفى أنه

٢٦٦

يستفاد من هذه الادلة انه لا فرق في الضرر المحرم بين العلم به وبين الخوف منه لأن الشارع قد جعل الخوف منه في الأخبار المذكورة طريقا اليه مضافا الى انه لو لم يكن الخوف منه طريقا اليه للزم الوقوع في الضرر المحرم بكثرة وهو خلاف الحكمة. واما باعتبار قاعدة (لا ضرر) فقد يقال بل قد قيل بفساد عبادته المضرة لأن قاعدة (لا ضرر) تدل على ارتفاع الحكم الشرعي لتلك العبادة فهي تدل على ارتفاع وجوب الوضوء المضر والحج المضر والغسل المضر والصوم المضر فاذا ارتفع حكم العبادة لم يكن اتيانها مسقطا للواجب منها لأنها حينئذ ليست من افراده وهكذا معاملاته تدل قاعدة (لا ضرر) على ارتفاع الحكم الضرري عنها كاللزوم للبيع الغبني أو للمعيب وإن أقدم عليه المشتري عالما بالغبن أو العيب لأن اللزوم حكم ضرري فهو مرفوع بقاعدة (لا ضرر) ولكن يمكن ان يقال ان قاعدة (لا ضرر) لا تقتضي فساد العبادة ولا عدم لزوم المعاملة الضررية اذا أقدم المكلف عليهما عالما بالضرر حيث انها لا تقتضي رفع الحكم الضرري اذا أقدم المكلف على العمل عالما بالضرر وذلك لوجهين : ـ

أحدهما هو ظهور قاعدة (لا ضرر) في الضرر الذي لا يرضى به المكلف فانّ المتبادر العرفي من مثل قولنا لا حرج ولا خسارة ولا ضرر هو عدم الحكم الحرجي الذي لا يرضى به العبد وعدم الحكم الذي فيه الخسارة التي لا يرضى بها العبد وعدم الحكم الضرري الذي لا يرضى به العبد كيف لا يكون كذلك وهي واردة في مقام الامتنان فانّه ليس من المنة رفع الحكم الضرري الذي يرتضيه العبد ولا يوقعه في التهلكة.

وثانيهما ان قاعدة (لا ضرر) كقاعدة الحرج إنّما تنفي اللزوم لا غير ويبقى الملاك على حاله لانها انما تتعارض مع أدلة

٢٦٧

التكاليف في اللزوم والنفوذ ولا تعارضها في الدلالة الالتزامية على وجود الملاك الذي يقتضي المطلوبية للمولى في العبادات لا بنحو الوجوب ويقتضي الصحة في المعاملات لا بنحو اللزوم في نفوذها ولذا ذهب القوم الى ان المتعارضين تسقط حجيتهما في مدلولهما المطابقي ولا تسقط في مدلولهما الالتزامي وهو نفي الحكم الثالث. نعم على الوجه الاول من يقدم على الوضوء الضرري عالما به فقاعدة الضرر لا ترفع وجوبه لعدم شمولها له ومن أقدم على بيع الغبن عالما به فقاعدة الضرر لا ترفع لزومه لعدم شمولها له لكون الضرر كان مرضيا للعبد وعلى الوجه الثاني يرفع الوجوب عن الوضوء في المثال المذكور ويرتفع لزوم المعاملة المذكورة بلا ضرر لشمولها لهما ولكن يبقى الملاك في الوضوء الموجب لمشروعية ومطلوبيته للمولى لا بنحو الوجوب والملاك للمعاملة الموجب لصحتها لا بنحو اللزوم وقد جعل بعضهم الوجه في صحة العبادة والمعاملة الضرريتين عند اقدام عليهما ممن يعلم بضررهما هو ان أدلة (لا ضرر) ظاهرة في نفي الحكم الشرعي الذي ينشأ منه الضرر ولا ريب أنّ العالم بالضرر اذا أقدم على العبادة الضررية لم يكن الضرر الذي أصابه قد نشأ من الحكم الشرعي بها وانما ينشأ من تعمده لارتكابها وهكذا عند الجهل بالضرر يكون الذي نشأ منه الضرر هو جهله بالضرر لا الحكم الشرعي فلا تدل قاعدة نفي الضرر على ارتفاع الحكم الشرعي عند الاقدام على الضرر مع العلم به ولا على ارتفاعه عند الجهل بالضرر. نعم في خصوص المعاملة الضررية عند الجهل بها ينفع حكمها الاستمراري باللزوم عند انكشاف الضرر لأنه حينئذ يستند الضرر لحكمها الاستمراري باللزوم. وبعضهم من جعل الوجه في لزوم المعاملة الضررية عند الاقدام عليها ممن يعلم بالضرر هو أنّ بناء العقلاء على التحفظ

٢٦٨

بالمالية عند المعاملة وبناء العقلاء على ذلك يوجب ان يكون التحفظ المذكور شرطا ضمنيا ارتكازيا عند المعاملة وذلك يقتضي ثبوت خيار الغبن والعيب لانه يقتضي تخلف الشرط الضمني الارتكازي المذكور فيكون خيار الغبن والعيب من باب خيار تخلف الشرط لا من باب قاعدة لا ضرر وعليه يكون الاقدام على الغبن والعيب من العالم بهما اسقاطا لهذا الشرط الارتكازي الضمني ولا يهمنا تحقيق هذين الوجهين لموافقتهما لنا في المدعى.

ومن هنا يظهر لك انه مع الجهل بضرر العبادة كالوضوء ثم انكشف له بعد إتيانه بانها مضرة كانت صحيحة لأن فسادها إما ان يكون من جهة الادلة الدالة على حرمة الضرر ولا ريب أنّه مع الجهل بالضرر فحرمة العبادة الضررية لم تكن منجّزة في حقه نظير من جهل غصب الدار فصلى فيها فانّ الصلاة تكون صحيحة حيث لم تكن الحرمة منجّزة فيها حتى تمنع من تنجّز الوجوب.

واما ان يكون فسادها من جهة قاعدة (لا ضرر) فان العبد الآتي بالعبادة المضرة بعد اتيانه بها والتفاته اليها يرضى بها حيث لا يرضى باعادتها أو قضائها وقد عرفت ان الضرر الذي يرضى به العبد لا تشمله قاعدة (لا ضرر) ولأنها واردة في مقام الامتنان وليس من المنة اعادة العبادة أو قضاؤها وبهذا تعرف وجه ما حكى من الاجماع على صحة العبادة الضررية اذا اتى بها مع الجهل بضررها وهذا بخلاف المعاملة اذا أوقعها العبد ولم يعلم بضررها فانه اذا انكشف له ضررها ولم يكن راضيا بها فتشملها أدلة لا ضرر واما لو انكشف له ضررها ورضي بها تكون ماضية نافذة لعدم شمول أدلة (لا ضرر) لضررها وعليه فالبيع الضرري اذا علم به المضرور وأقدم عليه فقاعدة (لا ضرر) لا ترفع لزومه واما ان جهل به فيكون الاختيار بيد المضرور فاذا رضي به لزم

٢٦٩

البيع لأن ضرره قد حصل الرضا منه به فلا تشمله قاعدة (لا ضرر) وان لم يرض به فلا يلزم لشمول قاعدة (لا ضرر) له.

المقام العاشر في الشك في الضرر مفهوما أو مصداقا

ان المناط في المقام هو صدق الضرر عرفا ولغة وقد ذكرنا في الاحكام وأطوارها في المقام الخامس من قاعدة لا حرج ما يوضح لك هذا المقام تماما فلا نعيد الكلام مرة ثانية.

المقام الحادي عشر في شمول القاعدة للموضوعات الضررية سواء وجدت باختيار المكلف أو بغير اختياره

ظاهر أدلة (لا ضرر) يقتضي نفيها التكليف عن سائر الموضوعات الضررية سواء كان المكلف أوجدها باختياره كأن كان باختياره استعمل شيء يوجب ضرر الماء عليه أو ضرر الصوم منه إلّا اذا قام الدليل على ثبوت الحكم فيه فانه يكون مخصصا لأدلة القاعدة كما قيل في المريض الذي تعمد الجنابة بقيام الدليل على وجوب الغسل عليه وان تضرر به وليس عندي متسع من الوقت لأن انظر في هذا الفرع وتمامية الدليل المذكور فليراجع في باب غسل الجنابة وكما في الأدلة التي قامت على وجوب رد المغصوب على المغصوب منه وان تضرر الغاصب ولذا يحكم بقلع بنائه وتحقيق ذلك يطلب من كتاب الغصب.

المقام الثاني عشر في ان القاعدة تدل على اشتراط نفس عدم الضرر للاحكام لا عدم الضرر المعلوم أو المظنون.

ظاهر أدلة نفي الضرر انها تنفي الأحكام الشرعية الواقعية فانها تدل على ان الأحكام المستلزمة للضرر في الواقع ليست في

٢٧٠

الشرع الاسلامي سواء كان المكلف عالما بالضرر أو شاكا فيه أو معتقدا للخلاف فيكون الضرر من الموانع الواقعية للحكم الشرعي من غير فرق بين العبادات والمعاملات فلو فرض ان المكلف كان عالما بعدم تضرره بالغسل وبالصوم وفي الواقع كان يتضرر بهما كان التكليف بهما بمقتضى أدلة نفي الضرر مرتفع. فانّ ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لا ضرر) هو تسليط النفي على الواقع فلا بد أن يكون المراد منه انه ليس حكم في الدين فيه ضرر في الواقع سواء كان المكلف عالما بالضرر أو ظانا به أو شاكا فيه خلافا للمحكي عن الشيخ الانصاري حيث ذهب الى ان المنفي هو الحكم الذي يكون فيه الضرر معلوما لا مجهولا بحيث لو فرض المكلف معتقدا لعدم تضرره بالوضوء أو الصوم مثلا فتوضأ ثم انكشف أنّه تضرر به فدليل نفي الضرر لا ينفي الوجوب الواقعي للوضوء المذكور. مستدلا على ذلك بان ظاهر أدلة (لا ضرر) ان الشارع لم يوقع العبد في الضرر بسبب حكمه الشرعي ولا ريب أنّ الحكم الفعلي المنجّز هو الذي يوقع العبد في الضرر واما الحكم الثاني فلا يوقع العبد في الضرر لأنه لا يوجب بعث العبد نحو العمل بخلاف الفعلي المنجّز فانه هو الذي يبعث العبد نحو العمل. وعليه فلا ضرر انما تقتضي انتفاء الحكم الفعلي بالعمل المستلزم للضرر لانه هو الذي يوقع العبد في الضرر ولا تقتضي انتفاء الحكم الشّأني بالضرر لانه لا يوقع العبد في الضرر. وعليه فاذا كان العبد عالما بالضرر كان الشارع قد نفى الحكم عليه بذلك. العمل لأن الحكم المذكور لو وجد كان باعثا للعبد نحو الضرر واما اذا لم يكن عالما بالضرر كان الحكم المتعلق بالعمل شأنيا وهو غير باعث نحو العمل فلا يكون مرفوعا هذا الحكم ويكون باقيا على حاله وانما يكون الباعث له هو تخيل الحكم

٢٧١

بالعمل فالمنفي في هذه القاعدة الشريفة هو الحكم الفعلي دون الواقعي. ولا يخفى ما فيه فانه خلاف ظاهر الادلة من نفي الحكم المستلزم للضرر مضافا الى أنّ الحكم الضرري مع بقائه يكون هو الذي اوقعه في الضرر لأن الفعلية انما تكون له لا لحكم آخر والأولى ان يقال ان أدلة (لا ضرر) حيث انها واردة في مقام المنة ففي العبادات لو أتى العبد بالمضر منها جهلا بالضرر لا منة في رفع حكمها لأن رفعه يستدعي قضاءها أو اعادتها وفي ذلك كلفة على العبد ولذا نسب الى الفقهاء صحة العبادات المضرة مع الجهل بضررها واما المعاملات لو اتى العبد بالمضر منها جهلا بالضرر فمن المنة ارتفاع حكمها وبطلانها ولذا ذهب الفقهاء الى بطلان المعاملة مع الجهل بالعيب أو الغبن وقد تقدم في المقام الثامن في صحة العبادات الضررية سواء علم بضررها أو جهل وصحة المعاملات الضررية مع العلم بضررها ما ينفعك في هذا المبحث.

المقام الثالث عشر في قبول قاعدة لا ضرر للتخصيص : ـ

ان قاعدة نفي الضرر هل هي من القواعد غير القابلة للتخصيص المسماة باصول المذهب مثل الحر لا يكون عبدا أو هي من القواعد القابلة للتخصيص المسماة بالقواعد العامة كقاعدة حليّة البيع أو هي من القواعد التي يرتفع موضوعها بالدليل. المسماة بالاصول العملية كقاعدة البراءة الحق هو الثاني لأنها قابلة للتخصيص وورودها في مقام الامتنان لا يمنع من تخصيصها اذ لعل ذلك المورد الذي فيه الضرر من المنة ثبوت الحكم فيه كالجهاد وليست من الاصول العملية لأنها تقدم على الادلة الاجتهادية لكونها حاكمة عليها.

٢٧٢

المقام الرابع عشر في لزوم الفحص بالتمسك بهذه القاعدة في الشبهة الحكمية.

ان التمسك بهذه القاعدة في الشبهة الحكمية لنفي التكليف يشترط فيه الفحص عن المخصص لها كما هو الشأن في سائر القواعد العامة ولا يصح التمسك بها في الشبهة الموضوعية فانه لو شك في ان الوضوء فيه ضرر لم يصح ان يتمسك بقاعدة لا ضرر في نفي وجوبه وليس عليه ان يفحص عن وجود ضرر فيه ام لا. نعم لو قلنا بأن خوف الضرر مؤثر في رفع وجوب الوضوء وكان الشك المذكور موجبا للخوف من الضرر كان الوضوء المحتمل الضرر مرتفعا وجوبه.

ومن أراد الاطلاع على باقي القواعد الفقهية كقاعدة الحرج والسلطنة فليراجع كتابنا الأحكام وأطوارها وشئونها.

تمّ بعون الله المجلد الثاني من كتاب مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني ويليه ان شاء الله المجلد الثالث تتناول مباحثه (التعارض والتعادل والتراجيح) وما توفيقنا إلّا بالله.

الناشر

الشيخ عباس كاشف الغطاء

٢٧٣

فهرست الموضوعات

التنبيه الخامس في استصحاب الامور غير القارة................................... ٤

التنبيه السادس في الاستصحاب الاستقبالي...................................... ١٢

التنبيه السابع في الاستصحاب التعليقي......................................... ١٣

الاستصحاب التعليقي في الموضوعات........................................... ١٩

التنبيه الثامن في الأصل المثبت................................................ ٢٢

استدلال جدنا كاشف الغطاء على عدم حجية الاصل المثبت...................... ٢٧

مثبتات الاصول ومثبتات الأمارات.............................................. ٢٨

جملة من الفروع تمسك فيها بالأصل المثبت أو تخيل ان الاصل فيها مثبت............ ٣٧

التنبيه التاسع في المستصحب المجعول شرعيا أو ذا أثر شرعي في ظرف الشك... ٤٥

التنبيه العاشر في استصحاب المركب........................................... ٤٧

التنبيه الحادي عشر في استصحاب العدم الازلي................................. ٤٩

التنبيه الثاني عشر في استصحاب الامور الاعتقادية............................... ٤٩

التنبيه الثالث عشر في استصحاب حكم الخاص................................. ٥١

التنبيه الرابع عشر في استصحاب باقي المركب.................................. ٦٣

التنبيه الخامس عشر في اصالة الصحة واستصحابها.............................. ٦٤

التمسك بقاعدة الفراغ في اثبات الصحة........................................ ٦٨

الصحة بعد الفراغ العمل...................................................... ٧٠

الصحة في فعل الغير......................................................... ٧٠

٢٧٤

المراد بالصحة : ـ الصحة الفاعلية أو الواقعية أو العذرية............................ ٧١

ما يشترط في الفاعل في حمل فعله على الصحة................................... ٧٢

ما يشترط في العمل الذي يحمل على الصحة.................................... ٧٤

مقدار ما تثبته اصالة الصحة.................................................. ٧٥

مقدار الصحة الذي يثبت بأصل الصحة........................................ ٧٨

تقديم اصالة الصحة على سائر الاصول......................................... ٧٩

اصالة الصحة في الاقوال...................................................... ٧٩

اصالة الصحة في الاعتقادات.................................................. ٨٠

التنبيه السادس عشر في مخالفة الاستصحاب للأدلة............................. ٨٠

التنبيه السابع عشر في تعارض الاستصحاب مع الاصول.......................... ٨٨

مبحث تعارض الاستصحابين................................................. ٩١

الاول في جريان الاستصحاب في الشك المسبب................................ ١٠٧

الثاني السببي يقدم على المسببي في باقي الاصول................................ ١٠٨

الثالث السببية والمسببية لا بد ان تكون شرعية................................. ١٠٨

المسألة الثانية من مسائل تعارض الاستصحابين................................. ١٠٩

المصدر الرابع والعشرون اصالة تأخر الحادث والاستصحاب في مجهولي التاريخ. ١٢٣

استصحاب مجهول التاريخ وجودا أو عدما..................................... ١٣٣

ما يشكل على استصحاب مجهول التاريخ...................................... ١٤٠

ثمرة النزاع في جريان الاستصحاب............................................. ١٤٦

المصدر الخامس والعشرون اصالة تقدم الحادث

٢٧٥

والاستصحاب القهقري..................................................... ١٤٨

المصدر السادس والعشرون قاعدة اليقين...................................... ١٤٩

المصدر السابع والعشرون قاعدة المقتضي والمانع............................. ١٥٧

المصدر الثامن والعشرون شم الفقاهة......................................... ١٥٩

خاتمة في الفحص عن المعارض............................................... ١٦٣

وجوب الفحص في الادلة................................................... ١٦٣

وجوب الفحص في الموضوعات المستنبطة...................................... ١٦٥

الفحص في الموضوعات الصرفة............................................... ١٦٥

مقدار الفحص فيما يعتبر فيه الفحص........................................ ١٦٨

المصدر التاسع والعشرون قاعدة لا ضرر ولا ضرار............................ ١٦٩

المقام الاول في مدرك قاعدة لا ضرر........................................... ١٦٩

المقام الثاني في شرح الالفاظ الواردة في هذه القاعدة............................. ١٩٠

الفرق بين الضرر والضرار والإضرار........................................... ١٩٧

المقام الثالث في زيادة بعض الالفاظ على هذه القاعدة........................... ٢٠٢

المقام الرابع في بيان المراد من لا ضرر.......................................... ٢٠٤

المقام الخامس فيما يورد على هذه القاعدة...................................... ٢٢٧

المقام السادس في تعارض قاعدة لا ضرر....................................... ٢٣٤

المقام السابع في الموارد التي تمسك فيها الفقهاء بقاعدة لا ضرر.................... ٢٥٣

المقام الثامن في الموارد التي لا تجري فيها قاعدة لا ضرر........................... ٢٦٠

المقام التاسع في صحة المعاملة الضررية......................................... ٢٦٣

٢٧٦

المقام العاشر في الشك في الضرر مفهوما أو مصداقا............................. ٢٧٠

المقام الحادي عشر في شمول القاعدة للموضوعات الضررية....................... ٢٧٠

المقام الثاني عشر في ان القاعدة تدل على اشتراط نفس عدم الضرر للأحكام لاعدم الضرر المعلوم أو المظنون        ٢٧٠

المقام الثالث عشر في قبول قاعدة لا ضرر للتخصيص........................... ٢٧٢

المقام الرابع عشر في لزوم الفحص بالتمسك بهذه القاعدة في الشبهة الحكمية....... ٢٧٣

فهرس الموضوعات.......................................................... ٢٧٤

آثار المؤلف العلمية......................................................... ٢٧٨

اولا : ـ المطبوعات.......................................................... ٢٧٨

ثانيا : ـ المخطوطات......................................................... ٢٧٩

جدول الخطأ والصواب...................................................... ٢٨٠

٢٧٧

آثار المؤلف العلمية : ـ

اولا : المطبوعات : ـ

١ ـ نهج الصواب الى حل مشكلات الاعراب ، المطبعة الحيدرية ، النجف الاشرف ، ١٣٤٩.

٢ ـ نهج الهدى ، المطبعة الحيدرية ، النجف الأشرف ، ١٣٥٤ ه‍.

٣ ـ نظرات وتأملات ، مطبعة الزهراء ، النجف الأشرف ، بدون تاريخ.

٤ ـ اسس التقوى لنيل جنة المأوى ، رسالة عملية ، الجزء الاول ، طبعة اولى ، مطبعة القضاء ، النجف الاشرف ، ١٣٧٨ ه‍.

٥ ـ أسس التقوى لنيل جنة المأوى ، رسالة عملية ، الجزء الثاني ، ط ٤ ، مطبعة الآداب ، النجف الاشرف ، ١٣٩١ ه‍.

٦ ـ نقد الآراء المنطقية وحل مشكلاتها ، مطبعة النعمان ، النجف الأشرف ، ١٣٨٢ ه‍.

٧ ـ النور الساطع في الفقه النافع ، المجلد الاول ، مطبعة الآداب ، النجف الأشرف ، ١٣٨١ ه‍ ، المجلد الثاني ، ١٣٨٣ ه‍.

٨ ـ المختصر من مرشد الأنام لحج بيت الله الحرام ، ط ٢ ، مطبعة الآداب ، النجف الاشرف ، ١٣٩٨ ه‍.

٩ ـ أدوار علم الفقه وأطواره ، ط ١ ، دار الزهراء ، بيروت ، ١٣٩٩ ه‍.

١٠ ـ باب مدينة علم الفقه ، ط ١ ، دار الزهراء ، بيروت ، ١٤٠٥ ه‍.

١١ ـ مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني ، المجلد الاول ، ط ١ ، مطبعة الآداب ، النجف الأشرف ، ١٤٠٨ ه‍.

٢٧٨

١٢ ـ مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني ، المجلد الثاني ، ط ١ ، مطبعة العاني ، بغداد ، ١٤١٠ ه‍.

ثانيا : المخطوطات : ـ

١ ـ مختصر تراجم المعصومين عليهم‌السلام.

٢ ـ كتاب الأحكام ـ اربعة عشر مجلدا.

٣ ـ شرح الكفاية ـ عشرة مجلدات.

٤ ـ شرح الرسائل ـ تسعة مجلدات.

٥ ـ شرح المكاسب ـ ثلاثة مجلدات.

٦ ـ مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني ـ المجلد الثالث.

٧ ـ نقد الآراء الفلسفية.

٨ ـ شرح منظومة السبزواري ـ مجلدان.

٩ ـ الكلم الطيب ـ ثمانية مجلدات.

١٠ ـ إظهار الحق مختصر من شرح كبير على حاشية الشيخ ملا عبد الله اليزدي.

١١ ـ الأحكام الدرية في المسائل النحوية.

١٢ ـ كواكب الحكماء فيما اخترناه من كتب القدماء.

٢٧٩