المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

المحيطان بالزاوية القائمة متساويين ، كان هذا المثلث متساوي الساقين ، فكانت الزاويتان الباقيتان متساويتين ، فتكون كل واحدة منهما نصف قائمة ، فتكون الزاوية الحادثة في رأس المخروط قائمة تامة. وإن كان الضلع المتحرك على السطح أطول من الآخر ، كانت الزاوية التي بوترها هذا الضلع ، أكبر من نصف قائمة. فتكون الزاوية الحادثة في رأس المخروط ، أزيد من قائمة. وإن كان الضلع المتحرك على السطح أصغر من الآخر ، كانت الزاوية التي بوترها هذا الضلع ، أقل من نصف قائمة. فتكون الزاوية الحادثة في رأس المخروط ، أقل من قائمة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنه كلما كان الضلع المتحرك على السطح من هذا المثلث ، الذي يفعل بحركته المخروط : أطول ، كانت الزاوية التي بوترها هذا الخط ، أعظم انفراجا. وكلما كان كذلك ، كان الخط الذي هو وتر الزاوية القائمة : أبعد من سهم المخروط ، وأقرب إلى الخط الذي يتصل بسهم المخروط ، على الزاوية القائمة. فهذان الخطان أعني وتر القائمة ، والخط القائم على سهم المخروط يتقاربان أبدا ولا يلتقيان. وأما إن كان المخروط حاد الزاوية ، فالضلع الذي هو وتر القائمة ، يزداد قربه من السهم. ومع ذلك فهما لا يلتقيان البتة. فهذان الخطان يتقاربان أبدا ولا يلتقيان.

العاشر : إذا اعتبرنا قوسا أصغر من نصف الدائرة ، وأخرجنا من المركز إلى طرفيها خطين : حصل شكل يسمى بالقطاع. فإذا أخرجنا من ذلك المركز إلى نصف تلك القوس : خطا آخر. كان هذا الخط الثاني ، أقرب إلى أحد الطرفين من الأول. فإذا نصفنا ذلك النصف ، صار هذا الخط أقرب مما قبله. وهكذا إلى غير النهاية. فقد حصل هاهنا خطان يتقاربان أبدا ولا يلتقيان.

الحادي عشر : إن «لأبي علي بن الهيثم» رسالة في بيان أن كل مقدار يفصل منه جزء من أجزائه ، ويفصل من الباقي جزء : نسبة إلى الجزء الأول ، مثل نسبة الجزء الأول إلى الكل. ويفعل ذلك دائما. فإن [جميع (١)] تلك

__________________

(١) من (م).

٨١

الأجزاء المأخوذة على تلك النسبة إلى غير النهاية ، إذا جمعت فليس تبلغ جملتها إلى الجزء ، الذي كان أعظم من الجزء الأول : مثاله : إن العشر ، وعشر العشر ، وعشر عشر العشر. وهكذا إلى أبعد الغايات ، وأبلغ النهايات. فإنه ليس يبلغ مجموعها إلى التسع. وكذلك : التسع ، وتسع التسع ، إلى أبلغ الغايات. لا يبلغ مجموعها إلى الثمن. وهكذا جميع الأجزاء. وأنت تعلم أن قسمة الواحد إلى الكسور ، لا يحتمله إلا الواحد المقداري. والخط القاسم له إلى تلك الأجزاء ، لا يزال يقرب من طرفه ، مع أنه لا يصل البتة إليه.

فثبت بهذه الوجوه الأحد عشر : أن القائلين بقبول المقدار للقسمة إلى غير النهاية ، يلزمهم القول بوجود خطين يتقاربان أبدا ولا يلتقيان. وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ لا تصح المصادرة التي ذكرها «أقليدس» لاحتمال أن يقال : هذان الخطان لا يتقاربان ، على ذلك الوجه الذي لا يلزم من تقاربهما تلاقيهما. وإذا كان هذا ممكنا ، لم يصح كلام «أقليدس».

واعلم : أن للشيخ مختصرا في علم الهندسة ، جمعها الكتاب «النجاة» وذكر في إثبات هذه القضية : «أن أحد الخطين لا بد وأن يميل إلى الآخر ، وإذا مال إليه لقيه لا محالة» وهذا الكلام ضعيف. لأن قوله : «مال إليه» معناه : أنه يقرب منه. ونحن قد بيناه بهذه الدلائل : أنه لا يلزم من تزايد القرب ، حصول الوصول. وأما «الشيخ أبو علي بن الهيثم» فقد حاول في كتاب «شرح المصادرات» إقامة البرهان على صحة هذه القضية ، وطول فيه. وذكر في أثناء ذلك الدليل : مقدمة. وصححها بالكرة (١) المتحركة. وهي مقدمة ضعيفة جدا. فثبت : أن على (٢) القول بكون المقدار ، قابلا للقسمة إلى غير النهاية ، توجب أن لا تصح هذه القضية [أما إذا قلنا : إن قبول القسمة متناه. فحينئذ تصح هذه القضية (٣)] وليكن هاهنا آخر كلامنا ، في تقرير دلائل القائلين بإثبات (٤) الجوهر الفرد. وبالله التوفيق.

__________________

(١) بالهندسة (ط).

(٢) هذا (م).

(٣) من (ط).

(٤) بإثبات دلائل الجوهر (م).

٨٢

المقالة الثانية

في

ذكر دلائل نفاة الجوهر الفرد

٨٣
٨٤

الفصل الأول

في

الدلائل المفرعة على المماسة

وهي خمسة :

البرهان الأول : إن الأجزاء التي لا تتجزأ ، يمتنع أن تكون متلاقية. وإذا كان كذلك ، امتنع حصول الأجسام عنها. إنما قلنا : إنه يمتنع كونها متلاقية. لأنها لو تلاقت ، لكانت إما أن تكون متلاقية بالكلية ، أو لا بالكلية. والقسمان باطلان ، فوجب القول بأنه يمتنع كونها متلاقية.

إنما قلنا : إنه يمتنع كونها متلاقية بالكلية. لوجوه :

الأول : إنا إذا فرضنا جوهرا واحدا ، اتصل به جوهر ثاني فهل صار حجم مجموع الجزءين ، أزيد من حجم الجزء الواحد ، أو ما حصلت هذه الزيادة؟ فإن كان الأول ، فحينئذ يكون كل واحد منها خارجا عن ذات الآخر ، وغير نافذ فيه. وعلى هذا التقدير ، فلم تصر كلية أحدهما ملاقية لكلية الآخر. وإن كان الثاني ، فحينئذ يكون مجموع الجزءين مساويا في الحجم للجزء الواحد فحينئذ لو ضممنا إليه ثالثا ورابعا ، وجب أن لا تحصل الزيادة في الحجم. وحينئذ لا تكون هذه المقادير والأحجام ، متولدة عن تأليف هذه الأجزاء، وقد فرضنا : أن الأمر كذلك. هذا خلف.

الثاني : إن هذه الأجزاء إذا تداخلت ونفذ بعضها في بعض. فنقول : إنه لم يحصل الامتياز بينها في أمر من الأمور البتة. فوجب صيرورتها شيئا

٨٥

واحدا. وذلك محال. إنما قلنا : إنه لم يحصل الامتياز في أمر من الأمور. لأن هذه الأجزاء متساوية في تمام الماهية. فتكون أيضا : متساوية في لوازم الماهية. وأيضا : فكل عارض يفرض عروضه لواحد منها ، فالآخر قابل له. لما بينا : أن تلك الأجزاء متساوية في تمام الماهية والمتساويات في تمام الماهية ، تكون متساوية في قبول العوارض. ووجود ذلك العارض بالنسبة إلى واحد منها ، كهو (١) بالنسبة إلى الآخر. فيصير ذلك العارض أيضا مشتركا فيه.

فثبت : أنه حصل الاشتراك بينها بأسرها في تمام الماهية ، وفي لوازم الماهية ، وفي عوارض الماهية. وحينئذ يرتفع الامتياز. وإذا زال الامتياز ، فقد بطل التعدد. فثبت : أن الأجزاء تماست بالكلية ، لما لم يتميز واحد منها عن الآخر. ويلزم ارتفاع التعدد وحصول التعدد. وكل ذلك محال.

الوجه الثالث في بيان أنه يمتنع حصول الملاقاة بالكلية : هو أن أحد المقدارين ، إذا نفذ في الثاني. فإنه يتصل طرف النافذ بطرف المنفوذ فيه أولا. ثم يأخذ في النفوذ ثانيا ، ثم في المرتبة الثالثة يحصل تمام النفوذ والمداخلة. ولا [شك (٢)] أن القدر الذي به حصلت الملاقاة بين النافذ وبين المنفوذ فيه ، عند اتصال طرف أحدهما بطرف الثاني ، أقل مرتبة من الملاقاة الحاصلة في أثناء النفوذ. والذي يحصل في أثناء النفوذ ، أقل قدرا مما يحصل عند تمام النفوذ. وذلك يوجب الانقسام للأجزاء. فثبت : أن بتقدير أن يصح القول بالمداخلة والنفوذ ، فإن القول بانقسام الأجزاء لازم.

والوجه الرابع في بيان أنه يمتنع حصول الملاقاة بالكلية : إنه لو كان هذا ممكنا ، لوجب أن لا يمتنع نفوذ الجبل العظيم في الخردلة الواحدة ، وأن لا يمتنع نفوذ البحر العظيم في القطرة الواحدة. ولما كان كل ذلك محالا ، كان القول بتداخل الأجزاء محالا.

__________________

(١) كفر (م).

(٢) من ().

٨٦

فهذه الوجوه الأربعة دالة على أن القول بكون الأجزاء متلاقية بالكلية قول باطل.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : لقي جزء جزءا. فإنما لقيه ببعضه ، لا بكله. فمن المعلوم : أن هذا إنما يصح فيما يكون منقسما متبعضا. فالأجزاء التي لا تقبل القسمة والبعضية ، يكون هذا محالا في حقها. فثبت بما ذكرنا : أن هذه الأجزاء ، لو تلاقت. لكانت إما أن تتلاقى بكليتها [أو لا بكليتها (١)] وثبت فساد القسمين ، فثبت : أن القول بكونها متلاقية أمر محالا. فإذا ثبت أنه يمتنع كون تلك الأجزاء متلاقية ، وجب أن لا يحصل الجسم من تألفها وتركبها. لأن الأشياء التي لا تكون متلاقية ولا متماسة ، تكون أجزاء متناثرة ، لا يتصل بعضها بالبعض. فوجب أن لا يحصل من تألفها هذا الأجسام العظيمة. وحيث دل الحس على حصول هذه الأجسام العظيمة ، علمنا : أن القول بإنكار التماس والتلاقي قول باطل. فثبت بما ذكرنا : أنه لو حصلت الأجزاء التي لا تتجزأ ، لامتنع عليها كونها متلاقية. ولو امتنع عليها ذلك ، كما حصلت الأجسام من تألفها. والتالي باطل، فالمقدم مثله.

واعلم : أن هذا الدليل يمكن ذكره على وجوه أخرى ، سوى الوجه الذي ذكرناه :

فالأول : أن يقال : إن كل متحيز ، فإنا نعلم بالضرورة أن يمينه غير يساره ، وأن الوجه الذي منه يلي السماء ، غير الوجه الذي منه يلي الأرض وذلك يوجب كونها منقسمة. وهذا الوجه على اختصاره يفيد المطلوب.

الثاني : إنا إذا فرضنا جوهرا (٢) بين جوهرين. فإن المتوسط يماس ما على يمينه ، بوجه غير الوجه الذي به يماس ما على يساره. وذلك يوجب الانقسام.

الثالث : إن جانب اليمين من ذلك المتوسط ، محكوم عليه بأنه يحاذي ما

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) جواهر (م).

٨٧

على اليمين ، ولا يحاذي ما على اليسار. وجانب اليسار منه محكوم عليه بضد ذلك. فلو كان الجانب الأيمن منه ، غير الجانب الأيسر ، لزم أن يصدق النقيضان على الشيء الواحد. وإنه محال.

فهذا جملة الكلام في تقرير هذا الوجه.

الحجة الثانية : أن نقول : إذا فرضنا خطا مركبا من ثلاثة أجزاء ، وفرضنا جزءين على طرفيه ، بحيث بقي بينهما خلاء ، بمقدار الجزء الواحد. فنقول : كل واحد من هذين الجزءين الموضوعين على الطرفين ، قابل للحركة. والمانع من الحركة : مفقود لأنا فرضنا ذلك المتوسط خاليا عن جميع العوائق. وإذا كان الشيء قابلا للحركة ، وكان المانع من الحركة مفقودا ، وجب أن تكون الحركة ممكنة. فإذا تحرك الجزءان ، الموضوعان على الطرفين معا ، وجب أن يلقى كل واحد منهما نصف الجزء المتوسط من الخط الأسفل. بل نقول : إن كل واحد من هذين الجزءين الفوقانيين ، يقع على متصل جزءين من الخط الأسفل. وحينئذ يلزم انقسام الأجزاء الخمسة جميعا. ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه يمكن حصول حركة الجزءين الموضوعين على الطرفين معا.

أما قوله : «إن كل واحد منهما قابل للحركة. والحيز المتوسط فارغ ، والمانع مفقود ، فوجب صحة الحركة على كل واحد منهما» فنقول : هب أن كل واحد منهما قابل للحركة، وأن المانع مفقود. فلم قلتم : إن هذا القدر ، يقتضي إمكان تلك الحركة؟ وبيانه : أن الشيء كما يعتبر في إمكانه تحقق إمكانه في ذاته ، وانتفاء موانعه. فكذلك يعتبر في تحقق إمكانه حصول شرائطه. ولا شك أن حركة ذينك الجزءين مشروط بانقسام ذلك الجزء المتوسط من الخط الأسفل ، وبتقدير أن لا يكون ذلك الجزء منقسما ، كان شرط إمكان حركة الجزءين الموضوعين على الطرفين فائتا (١). وإذا كان الشرط فائتا ، وإذا كان المشروط ممتنعا. فثبت : أن القطع بإمكان حركة ذينك الجزءين إنما يمكن عند

__________________

(١) فانيا (م).

٨٨

القطع بانقسام ذلك الجزء المتوسط. فلو أثبتنا كون الجزء المتوسط منقسما ، يكون ذينك الجزءين قابلين للحركة. لزم الدور. وهو باطل.

الذي يقوى هذا السؤال. وجهان :

الأول : إن القائلين بإثبات الخلاء خارج العالم ، استدلوا عليه. وقالوا : الواقف على طرف العالم ، هل يمكنه مد اليد إلى الخارج أو لا يمكنه ذلك؟ فإن أمكنه ذلك ، فقد حصلت الأحياز الفارغة خارج العالم. وإن لم يمكنه ذلك ، فقد حصل خارج العالم جسم يمنع من ذلك. وإذا حصل الجسم خارج العالم ، فقد حصلت الأحياز خارج العالم. ثم إن الفلاسفة القائلين بنفي الخلاء خارج العالم ، أجابوا عنه. وقالوا : إنه يمتنع منه مد اليد [إلى خارج العالم. إلا أن ذلك الامتناع ليس لأن جسما حصل خارج العالم ، فمنع مد اليد (١)] إليه. ولكن لأجل أن مد اليد مشروط بحصول الأحياز. فإذا لم توجد الأحياز خارج العالم ، لا جرم امتنع مد اليد إلى خارج العالم. لا لأجل قيام المانع ، بل لأجل فوات الشرط.

إذا عرفت هذا فنقول : إذا عقلنا هذا الكلام. فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إنه يمتنع حركة الجزءين الموضوعين على الطرفين معا ، لا لقيام المانع ، بل لفوات الشرط. وهو أن حركتها معا : مشروط بانقسام المسافة. فما لم يوحد هذا الشرط ، لا جرم فات الإمكان لفوات الشرط.

الوجه الثاني في بيان تقوية هذا السؤال : إن الفلاسفة اعتقدوا أنه لا بد وأن يحصل بين الحركة الصاعدة والهابطة للحجر : سكون. فإذا قيل لهم : لو قدرنا نزول جبل في غاية العظمة من الهواء ، واتفق أنا رمينا المدرة إلى فوق. فحال انتهاء حركتها الصاعدة. لو وصل ذلك الجبل النازل إلى تلك المدرة. فلو وجب سكون تلك المدرة في الهواء لوجب أن يكون سكونها مانعا لذلك الجبل العظيم من النزول. ثم إن الفلاسفة التزموا ذلك ، وقالوا : إن ثقل

__________________

(١) من (ط ، س).

٨٩

ذلك الجبل ، وإن كان يوجب نزوله ، إلا أنه لما وجب بقاء تلك المدرة في الهواء ، وكان بقاؤها في الهواء مانعا من نزول ذلك الجبل العظيم ، لا جرم قلنا : بأنه يجب بقاء ذلك الجبل في الهواء وسكونه فيه.

إذا ثبت هذا ، فنقول : فهذا الكلام يدل على أن مع حصول الموجب القوي ، قد لا يحصل الأثر ، لأجل فوات شرط من الخارج ، أو لقيام مانع من الخارج ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : لم لا يجوز في مسألتنا أن يقال : كل واحد من هذين الجزءين ، وإن كان قابلا للحركة ، وكان العائق عن الحركة زائلا إلا أنه امتنعت تلك الحركة ، لفوات شرط من شرائط إمكانها. فهذا سؤال قوي.

واعلم : أن الفلاسفة ما داروا على هذا السؤال ، ولم يشتغلوا بالجواب الصحيح عنه.

وأنا أذكر لأجلهم وجوها تدل على دفع هذا السؤال :

الوجه الأول : [نقول (١)] إنه قد دل البرهان على أن أي خط مستقيم : فرض. فإنه يمكن أن يعمل عليه مثلث متساوي الأضلاع. إذا ثبت هذا ، فنقول : إذا فرضنا خطا مركبا من جوهرين ، وجب جواز أن يعمل عليه [مثلث (٢)] متساوي الأضلاع. وهذا إنما يحصل إذا وضعنا جوهرا ثالثا على متصل الجوهرين الأولين. وذلك يدل على أن وقوع الجوهر على متصل الجوهرين ، يجب أن يكون ممكنا. وحينئذ يزول قولهم : إنه يمتنع حركة الجزءين ، لأجل امتناع وقوع الجوهر على متصل الجوهرين. واعلم : أنا إذا تأملنا ، علمنا : أنه لا يمكن عمل المثلث المتساوي الأضلاع ، إلا بوقوع (٣) الجوهر على متصل الجوهرين. [وبيانه : أن المثلث الأول إنما يحصل بوضع الجوهر الواحد على متصل الجوهرين (٤)] والمثلث الثاني إنما يحصل إذا

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط ، س).

(٣) وقوع (م ، ط).

(٤) العبارة مكررة في (م).

٩٠

وصلنا خطا مركبا من ثلاثة أجزاء ، بأحد أضلاع المثلث المذكور ، بحيث يقع كل واحد من تلك الأجزاء على متصل جزءين من الأجزاء ، الحاصلة في هذا الخط المركب من الأجزاء الأربعة. وقس عليه سائر المراتب إلى ما لا نهاية له. وحينئذ يظهر أنه لا يمكن وجود مثلث متساوي الأضلاع من الأجزاء ، إلا ويقع كل واحد منها على متصل جزءين آخرين. وذلك يدل على أن هذا المعنى : ممكن. وإذا كان ممكنا ، فحينئذ يندفع هذا السؤال ، عن ذلك الدليل.

الوجه الثاني في بيان أن المعنى الذي ذكرناه ممكن : أن نقول : لا شك أن أعظم الدوائر في الكرة : المنطقة. ثم لا تزال الدوائر تتصاغر مرتبة فمرتبة ، حتى تنتهي إلى القطبين. إذا عرفت هذا ، فنقول : إن بتقدير أن تكون المقادير مؤلفة من الأجزاء التي لا تتجزأ [كانت المنطقة مؤلفة من الأجزاء التي لا تتجزأ. [كانت المنطقة مؤلفة من الأجزاء التي لا تتجزأ. والدائرة الثانية الملتصقة بالمنطقة تكون أيضا مؤلفة من الأجزاء التي لا تتجزأ (١)] وهكذا القول في جميع الدوائر. إذا ثبت هذا ، فنقول : إما أن يقال : [إن (٢)] كل جزء من أجزاء المنطقة ، فإنه يتصل به جزء من أجزاء الدائرة الثانية ، أو يقال : إن الجزء المعين من أجزاء الدائرة الثانية ، لا يتصل بالجزء المعين من المنطقة (٣) ، وإنما يقع على موضع اتصال جزء بجزء آخر من المنطقة. والأول باطل. وإلا لزم أن يكون مدار الدائرة الثانية ، مساويا لمدار الدائرة الأولى العظيمة ، التي هي المنطقة. وحينئذ لا تتولد الكرة من مثل هذا التركيب ، وإنما تتولد الأسطوانة. ولما بطل هذا القسم أعني القسم الثاني. فذلك [يوجب (٤) و] وقوع الجوهر الواحد ، على متصل الجوهرين. وذلك هو المطلوب.

الوجه الثالث في بيان أن الأمر الذي ذكرناه ممكن : هو أنا في الحجة الثالثة التي للفلاسفة : تبين بالبرهان اليقيني : أن وقوع الجوهر على متصل

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) النقطة (م).

(٤) وذلك وقوع (م).

٩١

الجوهرين : واقع. وإذا كان كذلك ، فحينئذ يزول هذا الإشكال.

الحجة الثالثة للفلاسفة من الوجوه المبنية على المماسة والملاقاة : أن نقول : إذا ركبا خطا من أربعة أجزاء ، ووضعنا فوق طرفه الأيمن جزءا ، ووضعنا فوق طرفه الأيمن جزءا ، ووضعنا فوق طرفه الأيسر جزءا آخر. ثم فرضنا : أنه ابتدءا هذان الجزءان بالحركة ، وانتهيا إلى آخر الخط دفعة. فهنا قد مر كل واحد من هذين الجزءين بصاحبه. ويمتنع أن يمر كل واحد منهما بصاحبه ، إلا إذا حصل التحاذي والتقابل بينهما. ومن المحال أن يحصل التحاذي والتقابل ، إلا على متصل الثاني والثالث. ومتى حصلت هذه [الحالة (١)] لزم القطع بوقوع القسمة والتجزئة في تلك الأجزاء. وبهذا الطريق ، ظهر أن وقوع الجوهر على متصل الجوهرين أمر ممكن.

واعلم : أني رأيت جماعة من مثبتي الجوهر الفرد ، التزموا وقوع الطفرة هاهنا. وزعموا : أن التحاذي بينهما ، إنما يجب لو تحرك كل واحد منهما ، على جميع تلك المسافة. أما إذا قلنا بالطفرة ، لم يلزم ذلك. وتقريره : أنه إذا كان لا بد في نفي الجوهر [الفرد (٢)] من التزام الطفرة. قلنا أيضا : أن نلتزمها حتى يندفع عنا هذا السؤال. وأما المنكرون للطفرة ، فقالوا : ثبت بهذا البرهان أنه يمكن وقوع الجوهر على متصل الجوهرين ، وبه يصح البرهان الثاني. كما تقدم. والله أعلم.

الحجة الرابعة : قالوا : إنا إذا فرضنا صفحة مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ ، ثم أشرقت الشمس عليها. فحينئذ يحصل الضوء في الوجه المقابل للشمس من ذلك السطح ، وبقي الوجه الآخر منه غير مشرق. ومعلوم : أن الوجه المشرق المضيء ، مغاير لما هو غير مشرق ولا مضيء ، وذلك يوجب الانقسام. ويمكن ذكر هذه الحجة بطريق آخر : فيقال : إن على القول بكون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، يكون الجسم مؤلفا من سطوح

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

٩٢

موضوعة ، بعضها على بعض. فالسطح الأعلى منها ، يكون بوجهه العالي مباينا عن سائر الأجسام ، وبوجهه الأسفل يكون متصلا بالسطوح الداخلة في ذلك الجسم. والوجه الذي به حصلت المباينة ، غير الوجه الذي [به (١)] حصلت المماسة. وذلك يوجب حصول القسمة.

ويمكن ذكره على طريق ثالث : فيقال : إن بتقدير كون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، يكون الجسم مركبا من سطوح موضوعة بعضها على البعض. فإذا أشرقت الشمس على الجسم ، فقد استنار وجهه. وذلك الوجه عبارة عن أحد وجهي السطح الأعلى منه. وأما الوجه الثاني من ذلك السطح ، فإنه متصل بالسطح الأسفل منه ، وواقع في عمق ذلك الجسم. فيثبت : أن هذا البرهان لا حاجة في تقريره إلى وجود سطح مؤلف من الأجزاء التي لا تتجزأ ، بل هذا البرهان حاصل في جميع هذه الأجسام المحسوسة.

فهذا هو الكلام في تقرير هذه البراهين الأربعة على أقصى الوجوه.

واعلم : أن أحدا من المتكلمين ما أورد على شيء من هذه البراهين : كاملا ، يصلح لأن يلتفت إليه العاقل. إلا أنا نقول : للبحث فيه مجال. وتقريره : أنا نبين أن هذه الحجة : تنتج نتيجة باطلة بالاتفاق [وإذا ثبت هذا ، ظهر لنا : أنها حجة مغالطية ، وليست حجة حقيقية. أما بيان أنها تنتج نتيجة باطلة بالاتفاق (٢)] فهو أنا نقول : إن هذه الحجة لو صحت ، لأنتجت كون الجسم مركبا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل. ومعلوم : أن هذه النتيجة باطلة. أما بيان الأول. فلأن الجسم إذا لقي بأحد طرفيه شيئا ، وبالطرف الثاني منه شيئا آخر ، فهاتان الملاقاتان متغايرتان بالفعل ، فوجب أن يكون محلاهما متغايرين بالفعل. ثم نقول : هذان المحلان إن كانا عرضين عاد التقسيم فيه ، ولا يتسلسل بل ينتهي آخر الأمر إلى وقوع الكثرة في ذات الجسم ، فحينئذ ينتصف ذلك الجسم بالفعل. ثم إن كان واحد من ذينك النصفين يلقى النصف

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

٩٣

الثاني بأحد وجهيه دون الثاني. فوجب أن ينتصف ذلك النصف أيضا بالفعل. فإن كان ذلك الجسم قابلا لانقسامات لا نهاية لها لوجب أن يحصل فيه أجزاء لا نهاية لها بالفعل على الوجه الذي بيناه. إلا أن هذا القول باطل باتفاق الحكماء. فثبت : أن النتيجة التي يجب لزومها من هذه الحجة : قول باطل باتفاق الحكماء. والذي يريد الحكماء إثباته ، فإن هذه الحجة لا تفيده ولا توجبه [فثبت (١)] أن هذه الحجة حجة مغالطية باطلة.

فإن قال قائل : هب أن مقصود الحكيم لا يحصل من هذه الحجة ، إلا أن أقواما آخرين لو تمسكوا بها في إثبات أن الجسم مؤلف من أجزاء غير متناهية بالفعل ، فكيف الجواب؟ فنقول : إن هذه الحجة لا تفيد أيضا هذا المطلوب. وذلك لأن من قال بالكثرة ، فسواء كانت تلك الكثرة متناهية أو غير متناهية فإنه لا بد وأن يعترف بوجود الواحد فيها. لأن الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات ، بدون حصول الوحدة. فالقائلون بكون الجسم مركبا من أجزاء غير متناهية ، لا بد وأن يعترفوا بوجود أشياء ، يكون كل واحد منها في نفسه واحدا. إلا أن الحجة المذكورة تبطل وجود الواحد. لأن أي شيء فرض كونه واحدا ، فإنه لا بد وأن يلقى يمينه غير ما يلقاه يساره. فيكون منقسما فلا يكون (٢) الواحد : واحدا. فثبت أن هذه الحجة توجب حصول الكثرة بالفعل [ولما أوجبت حصول الكثرة بالفعل ، فقد أوجبت حصول الواحد بالفعل. ولكنها تمنع حصول الواحد بالفعل (٣)] بالطريق الذي ذكرناه. وإذا منعت من حصول الواحد بالفعل ، فقد منعت من حصول الكثرة. فثبت : أن هذه الحجة توجب القول بحصول الكثرة ، وتمنع من القول بحصول الكثرة فهي حجة تفيد نتائج متناقضة. فهي حجة مغالطية ، لا حجة يقينية. فهذا القدر يكفي لبيان أن هذه الدلائل بأسرها : وجوه باطلة ، غير حقيقية ، ولا يقينية. وهذا القدر كاف لبيان ضعفها وسقوطها.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) فيكون (م).

(٣) من (ط ، س).

٩٤

ثم نقول : كذب النتيجة يدل على اشتمال القياس على مقدمة كاذبة. فليطلب أن المقدمة الكاذبة ما هي؟ فنقول : فيه احتمالان :

الأول : أن يقال : هذه الحجة مبنية على أن تلك الأجزاء متلاقية متماسة ، وذلك باطل عندنا. فإن الحق عندنا : أن كل جوهر فهو مختص بحيز نفسه ، ولا تعلق له البتة بالجوهر الآخر لا بالمماسة ، ولا بالملاقاة. بل الحق : أن الجوهرين إذا وقعا بحيث لا يمكن أن يتخللهما ثالث ، سميناهما بالمتلاقيين وبالمتماسين وبالمتجاورين وبالمتصلين. وإن وقعا بحيث يمكن أن يتخللهما ثالث ، سميناهما بالمتباعدين وبالمفترقين وبالمتباينين. فأما أن يحصل للملاقاة وللمماسة : مفهوم آخر سوى ما ذكرناه ، فهذا ممنوع ولا يقال : إن صريح العقل يحكم بأن الجوهرين إذا وجدا ، بحيث لا يمكن أن يتخللهما ثالث ، فإنه يكون أحدهما ملاقيا للآخر ، ومماسا له. لأنا نقول : إن عنيتم بالملاقاة والمماسة ، نفس كونهما واقعين ، بحيث لا يبقى بينهما فرجة ، ولا شيء مغاير. فهذا معقول. إلا أن على هذا التقدير لا يبقى لقولكم : إنه يماس بأحد وجهيه ما على يمينه ، وبالوجه الثاني ما على يساره : مفهوم زائد. وإن عنيتم به أمرا آخر وراء ذلك ، فهو ممنوع. ولا ينكر أن الوهم والخيال ، يحكم فيه بحصول أمر زائد. إلا أن مذهبكم : أن حكم الوهم والخيال غير مقبول. ألا ترى أن صريح العقل يحكم بأن الواقف على طرف العالم ، لا بد وأن يميز الجانب الذي يحاذي وجهه من الجانب الذي يحاذي قفاه. ثم إنكم ذكرتم أن ذلك من عمل الوهم والخيال ، وأنه لا عبرة به البتة. فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا أيضا كذلك؟.

وأيضا : فأنتم لما زعمتم : أنه لا بد وأن يحصل بين صعود الحجر بالقسر ، ونزوله بالطبع : سكون. فإذا قبل لكم : لو قدرنا أن جبلا عظيما ، كان ينزل من السماء إلى الأرض في تلك اللحظة. فلو كان ذلك السكون واجبا ، لزم أن يكون سكونه موجبا لسكون ذلك الجبل النازل. ثم إنكم التزمتم ذلك ، وقلتم هذا ، وإن كان الوهم لا يقبله ، والخيال لا يساعد عليه ، إلا أن البرهان اليقيني لما ساقنا إليه ، وجب التزامه. فكذا هاهنا :

٩٥

الدلائل التي ذكرناها في إثبات الجوهر الفرد : دلائل يقينية لا تقبل الشك. ثم إن تلك الدلائل توجب القول بنفي الملاقاة ، ونفي التماس. فهذا وإن كان على خلاف حكم الوهم والخيال. إلا أنه لا بد من المصير إليه ، والاعتراف بحصوله.

السؤال الثاني : لم لا يجوز أن يقال : المماسة والملاقاة من باب النسب والإضافات؟ والأمور النسبية الإضافية ، لا وجود لها البتة في الأعيان ، بل في الأذهان. فوجب أن يكون. واختلافات المماسات ، توجب وقوع القسمة في الأذهان. لا في الأعيان. وعلى هذا التقدير فإنه لا يلزم وقوع القسمة في الأعيان. فنفتقر في تقرير هذا السؤال إلى تقرير مقدمات :

فالمقدمة الأولى : إن المماسة والملاقاة من باب النسب والإضافات. وظاهر أن الأمر كذلك. فإن التماس نسبة مخصوصة حاصلة بين شيئين متغايرين.

والمقدمة الثانية : بيان أن النسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان. والدليل عليه: أن نقول : مسمى النسبة لا وجود له في الأعيان. فالنسبة المخصوصة ، وجب أن لا يحصل لها وجود في الأعيان. أما بيان أن مسمى النسبة لا وجود له في الأعيان : هو أنه لو كان [هذا (١)] المسمى موجودا في الأعيان ، لكان [كل (٢)] ما كان من باب النسب والإضافات ، موجودا في الأعيان .. إلا أن النسبة بتقدير وجودها في الأعيان ، كانت صفة قائمة في الغير. فقيامها بالغير ، وحلولها في المحل ، يكون نسبة لذاتها إلى ذلك المحل ، فتكون نسبة النسبة زائدة عليها. ولزم التسلسل. فثبت : أن مسمى النسبة لا وجود له في الأعيان. وإذا ثبت هذا ، وجب أن لا يحصل لنوع من أنواع النسبة وجود في الأعيان. أي نوع فرض من أنواع النسبة. وإذا كان مسمى النسبة مما لا وجود له في الأعيان ، كانت الكيفية القائمة ، والخصوصية القائمة به غير

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (م).

٩٦

موجودة في الأعيان. وإلا لزم قيام الصفة الموجودة ، بالموصوف المعدوم. وهو محال. فثبت : أن النسبة الخاصة لا وجود لها في الأعيان. وكنا قد بينا أن التماس والتلاقي من باب النسب والإضافات. فيلزم أن يقال : إن التماس والتلاقي من الأمور التي لا وجود لها في الأعيان. وإذا لم يكن لها وجود في الأعيان ، امتنع أن يكون اختلاف المماسات موجبا وقوع الكثرة في الأعيان. وعلى هذا التقدير ، فإنه لا يلزم أن يكون (١) الجزء الموجود في الأعيان منقسما.

السؤال الثالث : لو سلمنا أن التلاقي والتماس ، حاصل في الأعيان. وسلمنا أن ذلك يوجب أن يكون أحد وجهي الجزء ، مغايرا للوجه الثاني منه. لكن لم لا يجوز أن يقال: هذان الوجهان : عرضان قائمان بذلك الجزء. والتعدد إنما وقع في العرضين القائمين بذلك الجزء. فأما أن يقع التعدد في نفس ذلك الجزء في ذاته ، فهذا ممنوع؟ لا يقال : الأعراض يستحيل عليها الملاقاة والمماسة ، وذلك يوجب أن يكون الوجهان الحاصلان في الجزء المتوسط : جزءين منه. لأنا نقول : لا نسلم أن الأعراض يمتنع عليها الملاقاة والمماسة. وبيانه : وهو أن عندكم الأجسام إنما تتلاقى بالسطوح ، والسطوح إنما تتلاقى بالخطوط والخطوط إنما تتلاقى بالنقط. ثم [إن (٢)] مذهبكم : أن السطوح والخطوط والنقط أعراض. فثبت : أن المحكوم عليه بالتلاقي على مذهبكم ليس إلا الأعراض. وإذا ثبت هذا فنقول : دليلكم يقتضي أن يكون أحد جانبي الجوهر مغايرا للجانب الثاني منه. وعندكم : كثرة الجوانب لا معنى لها ، إلا كثرة الأعراض والصفات. فأما وقوع الكثرة في الذات. فكيف يلزم؟

والذي يؤكد ما ذكرناه : هو أن النقطة في المركز تسامت جملة النقط ، التي يمكن فرضها في الدائرة. بل هي مسامته لجميع النقط المفترضة في جسم العالم. والدليل عليه : أن «أقليدس» ذكر في مصادرات المقالة الأولى : «إن لنا أن نصل بين كل نقطتين خطا مستقيما» وهذا يدل على أن كل نقطة تفرض ،

__________________

(١) كون (ط ، س).

(٢) من (م).

٩٧

فإنها تكون مسامتة لجميع النقط التي يمكن فرضها في جميع أجسام العالم.

إذا ثبت هذا فنقول : إن كون النقطة الواحدة ، محاذية لجميع النقط المفترضة في العالم، لا يدل على كون النقط منقسمة. وما ذاك ، إلا لأن المحاذاة والمسامتة أمور إضافية. وكثرة الإضافات لا توجب وقوع الكثرة في الذات .. وإذا ثبت هذا ، فلم لا يجوز أن يكون الحال في اختلاف المماسة واقعا على هذا الوجه؟ والله أعلم.

٩٨

الفصل الثاني

في

الدلائل المذكورة

في نفي الجزء الذي لا يتجزأ

المبنية على بطء الحركات وسرعتها

اعلم : أن القائلين بالجزء الذي لا يتجزأ اتفقوا : على أنه لا معنى لكون الحركة بطيئة. إلا أن الجسم يتحرك في بعض الأحياز ، ويسكن في بعضها ، فتختلط الحركات بالسكنات. فالحس يدرك [أن (١)] ذلك المختلط حركة موصوفة بالبطء. كما أنا إذا سحقنا الإسفيداج، وسحقنا المداد. وخلطنا بعض تلك الأجزاء بالبعض يابسا. فإن القوة الباصرة تدرك ذلك الجسم المخلوط ، بلون متوسط بين السواد والبياض. لا لأجل أنه حصل هناك لون متوسط. لأنا فرضنا كون تلك الأجزاء يابسة. وإذا كانت يابسة فقد بقي الجزء الأسود على سواده ، والجزء الأبيض على بياضه. إلا أن تلك الأجزاء لما كانت في غاية الصغر ، عجز الحس عن الوقوف على كل واحد منها بصفته المخصوصة. وإنما حصل له الشعور بذلك المجموع. فلا جرم أدرك ذلك المجموع على لون متوسط بين السواد والبياض. فكذا هاهنا لما تحرك الجسم في بعض الأحياز ، وسكن في بعضها ، وعجز الحس عن الوقوف على كل واحد منها بعينه ، لا جرم أحس بالأمر المختلط من الحركة والسكون. وذلك هو الحركة البطيئة.

وأما القائلون بنفي الجزء الذي [لا يتجزأ (٢)] فقد اتفقوا على أن

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

٩٩

الحركة البطيئة : حركة في جميع الأحياز. وأن البطء كيفية قائمة بالحركة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : احتج القائلون بنفي الجزء الذي لا يتجزأ. فقالوا : ثبت بالدليل أن الحركة البطيئة ليس بطؤها لأجل تخلل السكنات فيها وإذا ثبت ذلك ، وجب أن يكون القول بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ باطلا.

أما تقرير المقام الأول وهو أن بطء الحركات لا يمكن أن يكون لأجل تخلل السكنات. فيدل عليه وجوه.

الأول : إنا إذا فرضنا فرسا شديد العدو ، بحيث يسير من البكرة إلى الظهر : عشرين فرسخا. فنقول : والفلك الأعظم قد دار في مثل هذه المدة : ربع مداره. فلو كان البطء عبارة عن تخلل السكنات ، لكان مقدار زيادة سكنات هذا الفرس على حركاته ، مساويا لمقدار زيادة حركات الفلك الأعظم على حركات هذا الفرس. لكن من المعلوم : أن زيادة حركة الفلك الأعظم ، على حركة الفرس أكثر من ألف ألف مرة. فيلزم : أن تكون زيادة سكنات هذا الفرس على حركاته كذلك. ولو كان الأمر كذلك ، لما ظهرت هذه الحركات الفلكية ، في أثناء هذه السكنات (١) الكثيرة. فوجب أن لا تظهر تلك الحركات أصلا في الحس. وحيث كان هذا التالي كاذبا بل كان الحق هو ضده ، وهو أنا لا نحس البتة بشيء من السكنات ، وإنما نحس بالحركات المتوالية المتعاقبة. علمنا : أن التفاوت الحاصل بين سرعة حركة الفلك ، وسرعة حركة الفرس ، ليس لأجل تخلل السكنات. وذلك يفيد القطع بأن حصول البطء في الحركات ، لا يمكن أن يكون لأجل تخلل السكنات.

الوجه الثاني في إثبات هذا المطلوب : وهو أنا نعلم أن الجسم كلما كان أشد ثقلا ، كان أسرع نزولا. فإذا فرضنا : أن الجسم قد بلغ في الثقل إلى حيث تكون حركته خالصة عن السكونات ، ثم فرضنا بأنه بعد ذلك ، صار أثقل مما كان ، وجب أن تصير حركته أسرع مما كانت قبل ذلك. فههنا حصل

__________________

(١) الحركات (م).

١٠٠