المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

الفصل الأول

في

دلائل المثبتين للهيولى

احتج القائلون بإثبات الهيولى على صحته من وجوه :

الحجة الأولى : وهي التي عليها يعولون ، وبها يصولون : أن قالوا : ثبت بالدليل أن الجسم البسيط شيء واحد في نفسه ، كما أنه واحد عند الحس. وأن القول بتركيب الجسم من الأجزاء التي لا تتجزأ باطل. سواء كانت تلك الأجزاء متناهية أو غير متناهية. وهذا هو المراد من كون الجسم متصلا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الجسم في نفسه متصل ، ولا شك أنه قابل للانفصال. فنقول : قابل هذا الانفصال. إما أن يكون هو الاتصال ، أو غيره ، والأول باطل. لأن القابل يجب أن يبقى مع القبول. والاتصال لا يبقى [البتة (١)] مع الانفصال. فامتنع أن يكون القابل للانفصال هو الاتصال. فلا بد من الاعتراف بوجود شيء سوى الاتصال ، يكون قابلا لهذا الانفصال الطارئ ، ولذلك الاتصال الزائل ، وحينئذ ثبت : أن الجسم مركب من الاتصال ، ومن شيء آخر يقبل ذلك الاتصال. وهو المطلوب.

الحجة الثانية : ذكر الشيخ في «الشفاء» حجة أخرى. فقال : «الجسم لا شك أنه موجود بالفعل ، ولا شك أنه قابل للصور والأعراض. والشيء

__________________

(١) من (ط).

٢٠١

الواحد لا يمكن أن يكون مؤثرا في الفعل ولا في القوة معا. بناء على أن البسيط لا يصدر عنه أثران ، فوجب كونه مركبا من جزءين. أحدهما : عنه له القوة. والثاني : عنه له الفعل. والذي عنه له القوة هو الهيولى. والذي عنه له الفعل هو الصورة ، فوجب كون الجسم مركبا من الهيولى والصورة» وهاتان الحجتان هما اللتان ذكرهما الشيخ «أبو علي» وعوّل عليهما في إثبات الهيولى. وأنا كنت تكلفت لهم وجوها أخرى. أذكرها هاهنا :

الحجة الثالثة : إن العقلاء ذكروا في حد الجسم كلامين : أحدهما : قول من يقول : إنه الطويل العريض العميق. والثاني : إنه الجوهر الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه ـ أعني: الطول والعرض والعمق ـ وكلا هذين التعريفين لا يصح إلا مع القول بالهيولى.

أما التعريف الأول : فهو أن الطويل العريض العميق : عبارة عن الموصوف بالطول والعرض والعمق. والموصوف غير الصفة ، لا محالة. فالموصوف بالطول والعرض والعمق ، لا بد وأن يكون مغايرا لهذه الأشياء. والمغاير لهذه الأشياء : جوهر مجرد في ذاته عن الحصول في الحيز والمكان والجهة. لأن كل ما كان حاصلا في المكان والحيز ، فلا بد وأن يكون له ذهاب في الجهات ، وامتداد في الأحياز. فلما كان الموصوف بهذه [الأوصاف (١)] والامتدادات ، خاليا عنها. امتنع كونها حاصلا في الأحياز والجهات. وثبت : أن الطول والعرض والعمق : أمور حالة في ذلك المحل. وأنه متى حلت تلك الصفات في ذلك المحل ، فقد حصل الجسم ، فوجب كون الجسم مركبا من الهيولى والصورة.

وأما قول من يقول : الجسم هو الجوهر الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه. فهذا أيضا تصريح بأن الأبعاد الثلاثة موجودة في جوهر ، وحاصلة فيه. فالأبعاد الثلاثة هي الصورة ، وذلك الجوهر هو الهيولى. فقد ثبت : أن الناس

__________________

(١) زيادة.

٢٠٢

أطبقوا على صحة هذا الحد. وثبت : أن هذا الحد يوجب كون الجسم مركبا من الهيولى والصورة. وذلك هو المطلوب.

الحجة الرابعة : إنه لو لم يكن الجسم مركبا من الهيولى والصورة. لكانت الأفلاك قابلة للخرق والالتئام والكمون والفساد ، وهذا باطل. أما بطلان التالي ، فمتفق عليه بين الفلاسفة. وإنما الشأن في إثبات الشرطية. فنقول : الدليل عليه : هو أن الأجسام متساوية في الجسمية. فامتناع جسمية الفلك عن قبول الخرق. إما أن يكون للجسمية ، أو لما يحصل فيها ، أو لما يكون محلا لها ، أو لما لا يكون حالا فيها ولا محلا لها. والأقسام باطلة سوى القسم الثالث. وهو أن يكون ذلك الامتناع ، لأجل ما تكون الجسمية حالة فيه. وإذا ثبت هذا ، وجب كون الجسم مركبا من الهيولى والصورة.

وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون ذلك الامتناع لأجل الجسمية : لأنه لو كان الأمر كذلك ، لوجب حصول هذا الحكم في جميع الأجسام. وهو باطل. وإنما قلنا : إن ذلك الامتناع ليس لأجل شيء حال في الجسمية ، وذلك لأن ذلك الحال. إن لم يكن من لوازم الجسمية ، امتنع كونه سببا لهذا الحكم ، الذي هو من لوازمه. وإن لم يكن من لوازمه ، عاد الطلب في أنه : لم اختص ذلك الجسم بعينه به؟ فإن كان ذلك لصفة أخرى ، لزم التسلسل.

وإنما قلنا : إن ذلك الامتناع حصل لأجل شيء غير الجسمية ، وغير ما دون حالا فيها ، وغير ما يكون محلا لها. وذلك لأن نسبة ذلك المباين إلى جميع الأجسام على السوية. فامتنع أن يكون سببا لاختصاص الجسم المعين بوجوب هذه الصفة. ولما بطلت الثلاثة ، ولم يبق إلا أن يكون ذلك الجسم لأجل ما كان محلا لتلك الجسمية المعينة ، وجب القطع بصحته. وتقريره : إن لذلك الفعل مادة معينة ، وتلك المادة لا تقبل إلا تلك الصورة المعينة ، وإلا ذلك الشكل المعين ، فلأجل هذا السبب [كان (١)] اختصاص تلك الجسمية بذلك الشكل وبذلك الوضع : واجبا. وهو المطلوب.

__________________

(١) زيادة.

٢٠٣

الحجة الخامسة : وهي : إنا قد دللنا على إثبات الخلاء ، ودللنا على أن الخلاء لا يجوز أن يكون عدما محضا ونفيا صرفا. بل هو أبعاد وامتدادات. فنقول : لو كان الجسم عبارة عن مجرد الأبعاد والامتدادات ، فحينئذ يلزم كون الخلاء جسما. فيلزم من حصول الجسم في الخلاء : تداخل الأجسام. وهو محال. فبقي : أن يقال : الجسم هو الأبعاد الحالة في المادة. والخلاء هو البعد المجرد عن المادة. وعلى هذا التقدير ، فإنه يجب أن يكون الجسم مركبا من الهيولى والصورة.

فهذه جملة الوجوه التي ذكرناها في إثبات كون الجسم مركبا من الهيولى والصورة.

٢٠٤

الفصل الثاني

في

الاعتراض على

حجج المثبتين للهيولى

نقول : أما الحجة الأولى : فالاعتراض عليها من وجوه :

السؤال الأول : أن نقول : دليلكم بناء على نفي الجوهر الفرد. وقد سبق الاستقصاء في هذه المسألة نفيا وإثباتا.

السؤال الثاني : سلمنا : أن الجسم في نفسه شيء واحد متصل. إلا أنا نقول : إنا لا نفهم من كونه متصلا ، إلا أنه في نفسه شيء واحد. ولا نفهم من ورود الانفصال عليه إلا أنه صار اثنين. وعلى هذا التقدير. فالزائل هو الواحدة ، والطارئ هو التعدد والاثنينية. لكن الفلاسفة اتفقوا على أن الوحدة والعدد قائمة بالأجسام.

فهذا الدليل الذي ذكرتم يقتضي كون الوحدة والعدد عرضين قائمين بالجسم ، ولا يقتضي وقوع التركيب في ماهية الجسم وفي ذاته وفي مقوماته. والذي يؤكد هذا السؤال : هو أن الجسم عند ورود الانفصال عليه لم يبطل اتصاله. لأن كل واحد من الجزءين ، يبقى متصلا ، كما كان. إنما الزائد هو الوحدة فقط. وذلك يؤكد ما قلناه. واعلم : أن هذا السؤال كلام معقول حق.

ولما أوردنا هذا السؤال على القوم ، لم نجد عندهم جوابا شافيا في هذا الباب. ثم إنا لما وجدنا أن الذي يمكن أن يندفع به هذا السؤال وجوه ثلاثة :

٢٠٥

الأول : وهو الذي لخصناه للقوم. أن نقول : إن عند الانفصال يعدم الجسم الأول ، ويحدث جسمان آخران. وعلى هذا التقدير ، فالجسمية يصح عليها أن تعدم بعد الوجود ، وأن توجد بعد العدم. وكل ما كان كذلك ، فلا بد له من مادة.

[أما (١)] المقدمة الأولى : فالدليل على صحتها : أن الجسم البسيط كان قبل القسمة شيئا واحدا في نفسه ، ثم بعد القسمة حصل جسمان ، فهذان الجسمان الحادثان بعد القسمة. إما أن يقال : إنهما كانا موجودين قبل القسمة ، أو ما كانا موجودين قبل القسمة. والأول باطل. لأن هذين الجسمين ، لو كانا حاصلين قبل القسمة ، لكان ذلك الجسم مركبا عنهما ، فحينئذ لا يكون ذلك الجسم قبل ورود التقسيم عليه واحدا. لكنا فرضناه واحدا. هذا خلف. وأما القسم الثاني : هو أن يقال : هذان الجسمان ، إنما حصلا بعد القسمة ، وما كانا موجودين قبل القسمة. فهذا يقتضي أن يقال : إن ذلك الجسم الواحد ، الذي [كان (٢)] موجودا قبل القسمة ، صار معدوما ، وحدث هذان الجسمان الحاصلان بعد القسمة.

فثبت : أن الجسم قد يوجد بعد العدم ، ويعدم بعد الوجود.

وأما بيان المقدمة الثانية : وهو أن كل [ما (٣)] صح عليه الزوال والحدوث ، فلا بد له من مادة. فالدليل عليه : إن كل محدث ، فهو قبل حدوثه مسبوقة بإمكان الحدوث. وذلك الإمكان لا بد له من محل. وهو الهيولى. وتقرير هذه المقدمة : قد ذكرناه في كتاب «القدم والحدوث» في باب : أن كل محدث فلا بد له من مادة.

وهذا غاية الكلام في تقرير هذا الوجه.

ولقائل أن يقول : قد ذكرنا : أن القول بأن التفريق إعدام للجسم

__________________

(١) زيادة.

(٢) زيادة.

(٣) زيادة.

٢٠٦

الأول ، وإحداث للجسمين الحاصلين بعد القسمة : في غاية البعد عن العقل. فإنه يقتضي أن من غمس إصبعه في البحر ، فقد أعدم البحر الأول ، وأحدث بحرا جديدا. وذلك لا يقوله عاقل. ومن أشار إلى جانب من جوانب الفلك ، فهذه الإشارة توجب حدوث ذلك الامتياز ، فوجب أنه لما أشار إلى الفلك ، فقد أعدم الفلك ، وأحدث هذا الفلك. وذلك لا يقوله عاقل.

الطريق الثاني في الجواب عن السؤال المذكور : ما تكلفه بعض الناس فقال : «قد ثبت أن الجسم البسيط في نفسه شيء واحد ، وشهد أنه قابل لانقسامات غير متناهية. بمعنى : أنه لا ينتهي في الصغر إلى حد ، إلا ويقبل بعده الانقسام. وثبت : أنه لا يمكن خروج تلك الانقسامات التي لا نهاية لها ، إلى الفعل. ومجموع هذه الانقسامات يقتضي : أن الجسمية مستلزمة للاتصال. بمعنى : أنه إلى أي حد وجد في الصغر ، فإن الباقي بعد ذلك متصل. فهذا الاتصال يكون من لوازم الجسمية. ولا شك أن الجسم قابل للانفصال ، والشيء الواحد لا يكون مستلزما للشيء ، وقابلا لنقيضه. فوجب أن يكون الجسم مركبا من شيئين. أحدهما : الجسمية التي هي مستلزمة للاتصال. والآخر : الهيولى التي هي قابلة للانفصال. فثبت : أنه لا بد وأن يكون الجسم مركبا من جزءين. أحدهما : حال في الآخر».

واعلم : أن هذا الوجه أيضا ضعيف : وبيانه من وجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : الجسم من حيث إنه جسم ، يقتضي كونه متصلا ، لو لا القاسر. فأما إذا ورد القاسر ، فإنه يقبل الاتصال. فلا يبعد في الشيء الواحد أن يقبل أمرين متضادين ، بحسب شرطين مختلفين. ألا ترى أن الطبيعة توجب السكون ، بشرط حصول الجسم في المكان الطبيعي ، والحركة ، بشرط كونه حاصلا في الحيز القريب؟ فكذا [هاهنا (١)] هذا الجسم إذا نزل وحده كانت جسميته مقتضية للاتصال ، أما إذا وصل إليه القاسر ، فإنه يقبل ذلك التفريق والانقسام.

__________________

(١) وهكذا هذا الجسم (م).

٢٠٧

الوجه الثاني في الاعتراض : إن مدار كلامهم على أن الشيء الواحد لا يكون مستلزما للشيء ، وقابلا لنقيضه. وهذا أيضا وارد عليهم. لأن الهيولى مستلزمة للصورة ، والصورة مستلزمة للاتصال ، ومستلزم المستلزم : مستلزم. فالهيولى مستلزمة للاتصال. وقابلة للانفصال. [فثبت : أن هذا محال ـ على قانون قولهم ـ لازم.

الثالث : إنهم يقولون : الجسمية مستلزمة للاتصال ، والهيولى قابلة للانفصال (١)] وهذا على قانون قولهم باطل. لأن الانفصال عبارة عن حصول كل واحد من القسمين ، بحيث يتخللهما حيز فارغ. وهذا المعنى إنما يعقل حصوله في الشيء [الذي (٢)] يكون له اختصاص بحيز وجهة. والهيولى عندهم ليس لها حصول في حيز ، ولا اختصاص بجهة. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع كونها قابلة للانفصال. فإن التزموا أن الهيولى لها في حد ذاتها المخصوصة ، حصول في حيز ، واختصاص بجهة. فنقول لهم : بهذا. الهيولى هو الجسم. لأنه لا معنى للجسم إلا ما يكون حاصلا في الحيز ، ومختصا بالجهة.

الرابع : إنكم قلتم : «الانفصال عدم الاتصال ، عما من شأنه أن يتصل» وهذا يقتضي أن يكون الموصوف بالانفصال هو الجسمية. وإذا سلمتم ان القابل للانفصال هو الجسم ، فحينئذ يسقط أصل دليلكم. لأن مدار هذا الدليل ، على أن القابل للانفصال ليس هو الاتصال.

الطريق الثالث في دفع ذلك السؤال المذكور : أن يقال : الجسم موجود بالفعل في كونه جسما ، وهو بالقوة في سائر الصفات والأعراض. والشيء الواحد لا يكون بالقوة وبالفعل بالاعتبار الواحد. فوجب حصول التركيب فيه. واعلم أن هذا هو الحجة الثانية التي نقلناها عن القوم.

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

٢٠٨

والسؤال عليه : إنه بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. وقد سبق بيان ضعفه.

ثم نقول : هذا الإشكال وارد أيضا عليكم في مسائل :

إحداها : أن الهيولى إما أن تكون شيئا موجودا ، وإما أن لا تكون. فإن لم يكن لها في نفسها وجود ، امتنع كونها جزءا من ماهية الجسم الموجود. لأن المعدوم لا يكون جزءا من الموجود. وإن كان لها في نفسها وجود ، فحينئذ يصدق عليها أنها موجودة بالفعل ، ويصدق عليها أنها قابلة للصور والأعراض ، وحينئذ يرجع الكلام الذي ذكرتموه. فيلزم : افتقار الهيولى إلى هيولى آخر ، لا إلى غير النهاية. وهو باطل.

وثانيها : إن النفس الناطقة من الهيولى والصورة وهو باطل.

وثالثها : إن ذات الباري تعالى مؤثرة في وجود الممكنات. وهو تعالى عالم بالكليات. والعلم عندكم عبارة عن حصول الصورة المطابقة للمعلومات في ذات العالم. فيلزم كون ذات الله تعالى مؤثرة وقابلة لتلك الصور معا. فيلزم كونه مركبا من الهيولى والصورة. وهو باطل.

ورابعها : إن القابل للحركة والسكون ، واللون والشكل ، هو الجسم لا الهيولى فقط. فنقول : الصورة الجسمية توجب تقديم الهيولى بالفعل ، وتوجب قبول هذه الأعراض. فلزم أن تكون الصورة في ذاتها مركبة من الهيولى والصورة. وأنه باطل.

فثبت بهذه الوجوه : أن هذا الكلام باطل.

وأما الحجة الثالثة : إن لفظ الطويل. وإن كان يوهم أن الطول صفة قائمة بالمحل ، إلا أن الذين يثبتون الجوهر الفرد ، يقولون : «لا معنى للطويل إلا مجموع جوهرين ، تركبا في سمت واحد» فاللفظ وإن أشعر بكون الطول صفة ، إلا أن بعد [هذا (١)] التفسير ، يزول هذا الاشتباه.

__________________

(١) من (م).

٢٠٩

ثم نقول : إن سلمنا نفي الجوهر الفرد. إلا أن هذا الكلام يدل على أن المقدار عرض زائد على ذات الجسم. وهذا مسلم. إلا أن هذا لا يقتضي وقوع التركب في ذات الجسم وفي ماهيته.

وأما الحجة الرابعة : فهي مبنية على أن الخرق والالتئام على الأفلاك : محال. وفيه الأبحاث الكثيرة المذكورة في موضعها.

وبالجملة : فهذه الحجة التي تكلفناها للقوم في إثبات هذا المطلوب : أحسن من كل ما ذكروه. وكذا القول في الحجة الخامسة.

وهاهنا آخر الكلام في الاعتراض على دلائل المثبتين للهيولى (١).

__________________

(١) للهيولى. واحتج من قال ... إلخ [الأصل].

٢١٠

الفصل الثالث

في

الدلائل الدالة على نفي الهيولى

احتج من قال بنفي الهيولى بوجوه :

الحجة الأولى : إن الجسم لو كان مركبا في ماهيته من جزءين ، لكان لكل واحد منهما حقيقة وماهية. باعتباره يمتاز عن الآخر.

إذا عرفت هذا فنقول : إما أن يكون كل واحد منهما من حيث إنه هو : حجما. وإما أن يكون أحدهما حجما ، والآخر ليس كذلك. وإما أن لا يكون واحد منهما حجما. والأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل القول بتركب الجسم من الهيولى والصورة.

أما أنه يمتنع كل واحد منهما : حجما وممتدا في الحيز. فلأنهما لو كانا كذلك ، لزم كون أحد البعدين داخلا في الثاني. وذلك عندهم محال. وأيضا : فلما كان أحدهما محلا للآخر ، وجب أن يكون ذلك المحل جوهرا قائما بذاته ، فيكون الحجم على هذا التقدير جوهرا قائما بالنفس. وأما القسم الثاني وهو أن يكون أحدهما حجما دون الثاني. فإن قلنا : إن ما هو حجم في ذاته هو المحل ـ وما هو حجم في ذاته مراتب المثلثات ـ علمنا : أن هذا الشكل يبطل القول بإثبات الجوهر الفرد.

الحجة الثانية : ثبت بالبراهين الهندسية : أن القطر مباين للضلع ، ولو كان القطر مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، والضلع أيضا مركب من الأجزاء

٢١١

التي لا تتجزأ ، فحينئذ تكون نسبة القطر إلى الضلع ، كنسبة عدد إلى عدد آخر. وحينئذ يكونان مشتركين لا متباينين. فثبت بهذا : أن تركيب المربع من الجوهر الفرد محال. والله أعلم.

الحجة الثالثة : إن «أقليدس» برهن في المقالة الأولى على أن السطوح المتوازية الأضلاع ، التي تكون على قاعدة واحدة ، في جهة واحدة ، وفيما بين خطوط بأعيانها متوازية. فإنه يجب أن يساوي بعضها بعضا. وإذا ثبت هذا فنقول : إن هذا يبطل القول بالجوهر الفرد. لأنا إذا قدرنا أن أحد السطحين عشرة في عشرة ، حتى كان مجموعه مائة. وكان السطح الآخر مائة ، يلزم أن يكون مجموع الأجزاء الحاصلة في ذلك السطح ، مساوية لمائة جزء. وذلك محال.

فإن قالوا : فهذا المحال أيضا لازم على «أقليدس» لأن أحد السطحين إذا كان ذراعا في ذراع ، والآخر طوله من المشرق إلى المغرب. فكيف يعقل كون أحدهما مساويا للآخر؟ قلنا : السطحان المتوازيان إذا كان أحدهما قائما على قاعدته ، وكان الآخر مائلا ، وكانا جميعا على قاعدة واحدة ، فيما بين خطين متوازيين. فإن بمقدار ما يزداد السطح المائل في الطول ، فإنه ينتقص عن العرض. والمحال إنما كان يلزم ، لو كان عرض السطح المائل بقدر القاعدة المشتركة لكنه ليس الأمر كذلك ، بل بمقدار ما ازداد في الطول ، انتقص عن العرض. فزال الإشكال. والله أعلم.

فهذه جملة الوجوه التي يمكن استنباطها من المثلثات والمربعات في إبطال الجوهر الفرد.

واعلم : أن هذه الوجوه قوية ، ولا حيلة في دفعها. إلا أن نقول : إن «أقليدس» بنى [النظريات (١)] التي قررها في كتابه على أصلين : أحدهما : إثبات الدائرة. والآخر : تطبيق أحد المقدارين على الآخر. وذلك لأن أكثر

__________________

(١) زيادة.

٢١٢

أشكال المقالة الأولى ينتهي تحليها إلى الشكل الرابع. وهذا الشكل برهانه غير مبني على إثبات الدائرة بل على التطبيق. إذا عرفت هذا فنقول : أما القول بالدائرة : فقد بينا أن دلائلهم في إثباته في غاية الضعف. ودلائلنا على نفيه في غاية القوة. فسقط الاعتماد على ذلك الأصل.

بقي الأصل الثاني وهو التطبيق : فنقول : هذا الأصل يعسر الطعن فيه. وإذا ثبتت صحته [ثبت صحة (١)] ما تفرع عليه من هذه الدلائل. والذي يمكن أن يقال فيه مع الاعتراف بأنه في غاية الصعوبة أن يقال : إنا لا نسلم إمكان تطبيق خط على خط ، وسطح على سطح. والدليل عليه : أنا إذا طبقنا خطا على خط آخر ، فإما أن يلقاه ببعضه أو بكله. والأول يقتضي انقسام الخط في الطول ، وهو محال. والثاني يوجب تفرد أحد الخطين في الآخر ، بحيث تكون الإشارة إلى الآخر ، وذلك محال. لأنه إذا حصل هذا النفوذ فههنا إما أن يبقى به الامتياز أو لا يبقى. والأول باطل. لأن الامتياز لا يمكن أن يقع بنفس الماهية. لأن الخطين مشتركان في تمام الماهية. ولا بلوازم الماهية ، لأن لوازم الماهية مشترك بين أفراد الماهية ، وما يكون مشتركا فيه لا يكون موجبا بالامتياز ولا بالعوارض المفارقة. لأن كل عارض يفرض كونه عارضا لأحدهما ، فإنه لا بد وأن يكون عارضا للآخر. لأنهما لما تداخلا ولم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه من الوجوه. فكل عارض يوجد فإنه يكون نسبته إلى أحدهما ، كنسبته إلى الآخر. فيكون ذلك العارض مشتركا فيه. وما يكون مشتركا فيه ، لا يكون سببا للامتياز. فثبت : أنه يمتنع امتياز أحد الخطين عن الآخر في نفس الأمر. وإذا لم يبق الامتياز ، لزم إما اتحاد الاثنين وهو محال. أو أحدهما معا ، وهو أشد امتناعا. فثبت : أن القول بالتطبيق يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فوجب أن يكون القول به باطلا.

فإن قالوا : فهذا الذي ذكرتم أن لا يماس شيء شيئا ، وأن لا يلقى شيء شيئا ، فنقول : قد ذكرنا في الدلائل المبنية على المماسة والملاقاة ، أنه لا معنى

__________________

(١) من (ط).

٢١٣

لكون الشيئين متماسين ، إلا حصولهما في حيزين ، بحيث لا يحصل بينهما حيز فارغ ، ولا شيء آخر. وأما ما سوى هذا المعنى في المماسة والملاقاة. فكل ذلك من الأمور الوهمية ، والقضايا الظنية. وقد ثبت : أنه لما قامت الدلائل القاطعة الموجبة لنفيها ، وجب أن لا يلتفت إلى حكم الظن والخيال. وذكرنا لهذا المعنى أمثلة كثيرة من مباحث الفلاسفة. فكذا هاهنا الدلائل التي ذكرناها في إثبات الجوهر الفرد : دلائل قاطعة غير محتملة البتة. وهذه الدلائل الهندسية المذكورة ، لما كانت مبنية على هذين الأصلين. أعني إثبات الدائرة وإثبات التطبيق ، وكان الطعن فيهما ، وإن كان بعيدا عن الوهم في الجملة : محتمل احتمالا بعيدا ، وجب المصير إليه ، صونا لتلك الدلائل القاطعة عن القدح والطعن.

فهذا منتهى ما وصل إليه بحثنا في هذا. والله أعلم.

* * *

[إلهي] أسألك بحق ما لاح من لمعان إحسانك في مقامات الكرسي ، وأسألك بحق الأنوار التي أودعتها في سر قلب النجم الثاقب ، وأسألك بحق النور الذي أجريته في بحور الغياهب. وأسألك بالألطاف [التي (١)] خصصت بها صاحب السلسبيل والزنجبيل ، وبحق الكرامات التي خصصت بها عبدك الكامل الجليل. وأسألك بحق صاحب السعادة الجسمانية، وصاحب الكمالات الروحانية ، وأسألك بحق عبدك في مفاوز عبوديتك ، السابح في بحار تعظيم ربوبيتك. وأسألك بحق الأرواح الطاهرة المقدسة ، الساكنة في كوة الأثير ، وفي منازل الزمهرير. وأسألك [بحق (٢)] كل ملك وروح ، سلطنته في تلال الجبال ، ومنازل الظلمات ، والإظلال. وفي شق الصخور ، وقعور البحور ، وعند ظهور النور ، وتبدل الشرور بالسرور. وبث الظلام ، وتربية الأجنة في

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

٢١٤

ظلم الأرحام. وأسألك بحق ما علمت وما لم أعلم ، وما وصل إليه خاطري وما لم يصل.

وأسألك بحق ملكوتك التي لا يعلمها إلا أنت ، وجبروتك التي لا يحيط بها إلا أنت. وأسألك بحق ما سألك به عبد فأجبته ، ودعاك مسكين فقضيت حاجته : أن تجيب دعائي، وأن لا تخيب رجائي. وأن تخلصني من ظلمات الأخلاق الذميمة ، والعقائد الذميمة. وتسهل علي خيرات الدنيا والآخرة. مع السهولة واليسر ، وإزالة موجبات العسر. إنك أرحم الراحمين ، وأكرم الأكرمين. وأقول : شهد لك إشراق (١) العرش ، وضوء الكرسي. ومعارج السموات ، وأنوار الثوابت في السيارات على منابرها المتوغلة في العلو الأعلى ، ومعارجها المقدسة عن غبار عالم الكون والفساد. بأن أول الحق الأزلي ، لا يناسبه شيء من علائق العقول ، ومشابه الخواطر ، ومناسبات الأفكار. فالقمر بمحوه ، مقر بالنقصان ، والشمس بتغير أحواله محتاج إلى تدبير الرحمن. والطبائع مقهورة تحت قدرته القاهرة ، ممحورة في عتاب المعارج العالية. فالمتغيرات تشهد بعدم تغيره ، والمتعاقبات بدوام سر مديته. فأزله مبرأ عن الانقضاء ، ودوامه منزه عن المجيء والفناء. وكل ما صدق عليه : أنه مضى وسيجيء ، فهو خالقه ، وأعلى منه. فبجوده حصل الجود والإيجاد ، وبأعلامه الفناء والفساد. وكل ما سواه فهو تائه في جبرته ، ثابر عند طلوع نور كبريائه. وليس عند عقول الخلق ، إلا أنه شيء ، بخلاف كل الخلق. له القدس والجبروت ، والعزة والملكوت. وهو الحي الذي لا يموت.

[تم هذا الكتاب النفيس الشريف العالي ، لمصنفه ـ رحمه‌الله عليه ـ يوم الاثنين الثاني عشر من جمادي الآخرة ، لسنة خمس وستمائة (٢)]

والحمد لله كما هو أهله (٣) والصلاة على خير خلقه من الأنبياء والمرسلين ، وخصوصا محمد ، وآله ، أجمعين.

__________________

(١) سرادق (م).

(٢) من (ط).

(٣) هو له (ط).

٢١٥

[تم الكتاب السادس من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» للإمام فخر الدين الرازي. ويليه الكتاب السابع في الأرواح العالية والسافلة].

٢١٦

فهرس الجزء الساىس

المقدمة في معنى الهيولى........................................................ ٥

المقالة الأولى :

في ذاتيات الجسم.............................................................. ٧

الفصل الأول :

في حد الجسم................................................................. ٩

الفصل الثاني :

في البحث عن الحد المنقول عن الفلاسفة........................................ ١٥

الفصل الثالث :

في شرح مذاهب أهل العالم في الجزء الذي لا يتجزأ............................... ١٩

الفصل الرابع :

في الدلائل الدالة على اثبات الجوهر الفرد المبنية على اعتبار أحوال الحركة والزمان..... ٢٩

الفصل الخامس :

في الأدلة الدالة على إثبات الجوهر الفرد ، المستنبطة من الأصول الهندسية........... ٤٧

الفصل السادس :

في بيان أن الجسم المتناهي المقدار لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لوجب كون ذلك الجسم المتناهي في المقدار ، مؤلفا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل....................................................... ٦١

الفصل السابع :

في إقامة الدلالة على أن الجسم المتناهي في المقدار يمتنع أن يكون مؤلفا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل        ٦٩

٢١٧

الفصل الثامن :

في ذكر بقية الدلائل الدالة في اثبات الجوهر الفرد................................ ٧٥

المقالة الثانية :

في ذكر دلائل نفاة الجوهر الفرد................................................ ٨٣

الفصل الأول :

في الدلائل المفرعة على المماسة................................................. ٨٥

الفصل الثاني :

في الدلائل المذكورة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ المبنية على بطء الحركات وسرعتها..... ٩٩

الفصل الثالث :

في حكاية وجوه احتج بها من قال بالطفرة...................................... ١٠٩

الفصل الرابع :

في أنواع أخرى من الدلائل على نفي الجوهر الفرد المبنية على الحركة............... ١١٥

الفصل الخامس :

في حكاية أنواع من الدلائل لنفاة الجزء متعلقة بذات الجسم وبكونه متحيزا......... ١٢٧

الفصل السادس :

في الدلائل المستنبطة من الهندسة على نفي الجوهر الفرد.......................... ١٣١

الفصل السابع :

في النظر في أن الدلائل المذكورة في اثبات الدائرة والكرة هل هي صحيحة قوية أم ضعيفة واهية     ١٣٩

الفصل الثامن :

في ذكر الدلائل الدالة على نفي الجوهر الفرد المبنية على القول بالمثلثات والمربعات... ١٤٧

٢١٨

الفصل التاسع :

في الدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد المبنية على قسمة الزوايا.................. ١٥٩

الفصل العاشر :

في الدلائل الدالة على نفي الجوهر الفرد المستنبطة من قسمة الخطوط.............. ١٦٥

المقالة الثالثة :

في بقية أحكام الأجسام..................................................... ١٦٧

الفصل الأول :

في إقامة الدلالة على تناهي الأبعاد........................................... ١٦٩

الفصل الثاني :

في بيان أن الأجسام متماثلة في الذات والماهية.................................. ١٨٩

الفصل الثالث :

في الاعتراض على الدليل المذكور في أن العالم واحد............................. ١٩٣

المقالة الرابعة :

في الكلام في الهيولى الأولى وفي تفاريعها........................................ ١٩٧

المقدمة في ماهية الأجسام................................................... ١٩٩

الفصل الأول :

في دلائل المثبتين للهيولي..................................................... ٢٠١

الفصل الثاني :

في الاعتراض على حجج المثبتين للهيولي....................................... ٢٠٥

الفصل الثالث :

في الدلائل الدالة على نفي الهيولى............................................ ٢١١

فهرس مواضيع الكتاب....................................................... ٢١٧

٢١٩