المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

أحدهما : إنا دللنا على أن العدم على سبيل التدريج محال.

وثانيها : إن بتقدير أن يعقل ذلك في الجملة ، إلا أنه هاهنا غير معقول. وإلا لصار الآن منقسما. وقد دللنا على أنه غير منقسم. وإذا بطل هذا القسم ، ثبت أن عدمه يكون دفعة. فيكون آن عدمه : متصلا بآن وجوده [بعد تتالي آنات (١)] ثم الكلام في كيفية عدم الآن الثاني كما في الأول. وذلك يوجب تتالي الآنات. وهو المطلوب.

فإن قيل : لا نسلم وجود الآن. قوله : «الذهن يحكم بتحققه وثبوته في نفسه» قلنا : وكذلك الشيء قد يحكم الذهن والعقل عليه ، بكونه واجبا (٢) أو ممكنا أو ممتنعا. مع أن الوجوب والإمكان والامتناع : مفهومات لا ثبوت لها في الخارج. وإلا لكانت إما واجبة أو ممكنة أو ممتنعة. فكان وجوبها وإمكانها وامتناعها زائدا عليه. ولزم التسلسل.

وأيضا : فالعقل قد يحكم بكون الشيء معدوما في نفسه ، مع أنه لا يلزم منه أن يكون العدم أمرا ثابتا ، لامتناع أن يكون أحد النقيضين عين (٣) الثاني.

السؤال الثاني : سلمنا أن الشيء وجد في الآن. فلم قلتم : «إن صدق هذا ، يقتضي كون الآن موجودا؟» والدليل عليه : وجهان :

الأول : إنه تعالى يصدق عليه أنه موجود الآن ، مع أنه يمتنع وقوع ذاته في الآن والزمان.

والثاني : إن نفس الآن موجود ، مع أنه يمتنع أن يقال : إن الآن وجد في الآن. إلا لزم كون الشيء : موجودا في نفسه ، أو يلزم التسلسل. وكلاهما محال.

__________________

(١) من (م).

(٢) واجبا أو ممتنعا أو ممكنا (م).

(٣) غير (م).

٤١

السؤال الثالث : سلّمنا أن الآن موجود في اعيان. فلم قلتم : «إن عدمه. إما أن يكون دفعة أو على التدريج؟» بل هاهنا قسم ثالث ، وهو أن يكون عدمه حاصلا في جميع الزمان الذي بعده. ولا يقال : ليس كلامنا في عدم الآن ، بل في أول عدم الآن. ومعلوم أن أول عدم الآن ، يمتنع أن يكون حاصلا في جميع الزمان الذي بعده. بل لا بد وأن يكون أول ذلك العدم [واقعا (١)] إما دفعة ، وإما على التدريج. لأنا نقول : هذا التقسيم إنما يصح لو كان لعدمه أول ، يكون هو فيه معدوما ، وهذا ممنوع عندنا. بل عندنا : ظرف زمان عدمه : هو الآن الذي هو غير (٢) آن وجوده. فأما فرض آن آخر ، عقيب وجوده ، حتى يكون ظرفا لزمان عدمه. فهذا إنما يصح (٣) لو ثبت القول بجواز تتالي الآنات. وذلك عين المطلوب.

هذا غاية ما يمكن أن يقال من جانبهم. والله أعلم.

والجواب : قوله : «الآن له وجود في الذهن ، وذلك يكفي في صدق قولنا : وجد الآن ، وفي صدق قولنا : وجد الشيء في الآن» قلنا : ما الذي أردت بقولك : «وجد الآن في الذهن؟» إن عنيت به [أنه (٤)] وجد العلم به في الذهن. فهذا حق. وإن عنيت [به (٥)] أن حضور الشيء في نفسه ، لا حصول له إلا في الذهن. فهذا جهل عظيم. لأنه لو عدمت الأذهان والأفهام ، فإن وجود الأشياء وحضورها في أنفسها : أمر حاصل متحقق. وأما حديث الوجوب والإمكان والامتناع ، فهو تشكيك في البديهيات. قوله : «الباري موجود ، وليس في الآن. وكذلك الآن موجود ، وليس في الآن» قلنا : نحن ندرك التفرقة بين ما هو موجود على سبيل الحقيقة ، وبين الذي كان موجودا ، أو سيصير موجودا. ولا شك أن الباري تعالى موجود على سبيل

__________________

(١) من (م).

(٢) عين وجوده (ط).

(٣) يعقل (م).

(٤) من (م).

(٥) من (م).

٤٢

الحقيقة ، وأن الآن موجود على سبيل الحقيقة. ولا نعني بقولنا : إنه موجود في الآن : كونه مظروفا حاصلا في ظرف آخر. حتى يلزمنا المحالات. قوله : «عدم الآن واقع في جميع الزمان الذي بعده» قلنا : مرادنا : إن أول عدمه. إما أن يقع دفعه ، أو على التدريج. قوله : «لا نسلم أن لعدم ذلك [الآن (١)] أول يكون هو فيه معدوما» قلنا : هذا مكابرة عظيمة. ثم الدليل عليه : إن عدم هذا الآن ، حصل بعد وجوده ، فيكون لعدمه ابتداء. فعند ابتداء ذلك العدم. إن لم يكن معدوما ، فذلك العدم لم يبتدئ بعد. وإن كان معدوما ، فهو المطلوب. وحينئذ يكون الآن الذي يحصل فيه أول عدمه ، متصلا. بوجوده ، فيلزم تتالي الآنات. وهو المطلوب.

الحجة الثانية في إثبات تتالي الآنات : أن نقول : قد دللنا على أن الآن الحاضر ، لا يقبل القسمة المذكورة ـ أعني الانقسام إلى جزءين ، يكون أحدهما سابقا على الآخر ـ وإذا ثبت هذا ، فنقول : إن هذا الآن إذا عدم ، فلا بد وأن يحصل عقيبة شيء آخر ، يكون حاضرا. إذا لو لم يحصل عقيبة ذلك الذي ذكرنا ، لزم أن ينقطع الزمان ، وهو محال. وكذا القول في الثاني والثالث. وذلك يوجب القول بتتالي الآنات. والفرق بين هذا الوجه وبين ما قبله : أنا بينا في الوجه الأول : أنه لا بد وأن يعدم الآن الأول ، في آن آخر ويلاصقه. وأما في هذا الوجه ، فإنا لم نلتفت إلى كيفية عدم الآن الأول ، بل قلنا : إن [عند (٢)] عدم الآن [الأول (٣)] لا بد وأن يحدث آن آخر ، يكون هو أيضا حاضرا ، حال حصوله. وإلّا لزم انقطاع الزمان ، وهو محال. والله أعلم.

الحجة الثالثة في إثبات تتالي الآنات : أن نقول : الزمان. إما أن يكون كما متصلا ، أو كما منفصلا. والأول باطل. لأن الزمان لا معنى له إلا الماضي والمستقبل. وهما معدومان. وأما الآن فليس عندكم جزء من أجزاء ازمان.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

٤٣

وإنما هو ظرف مشترك فيه بين الماضي وبين المستقبل. لأنها نهاية الماضي وبداية المستقبل. وهذا القول يقتضي اتصال معدوم بمعدوم آخر ، بطرف موجود. وإنه محال. فثبت : أنه كم منفصل. فهو مركب من وحدات متعاقبة ، وذلك يوجب تتالي الآنات. وتقرير هذا الوجه : مذكور في باب الآن والزمان على الاستقصاء.

الحجة الرابعة على إثبات تتالي الآنات : أن نقول : إن «الشيخ أبا علي بن سينا» ادعى أن الحجر إذا رمي إلى فوق ، فإنه لا بد وأن يحصل بين حركته الصاعدة ، وحركته الهابطة : سكون في الهواء. واحتج عليه : بأن القوة التي تحرك ذلك الحجر إلى فوق ، إنما تحرك لأجل أن توصله إلى حد معين من حدود المسافة ، وذلك الحد طرف غير منقسم ، فيكون الوصول إليه واقعا في الآن ، ثم إنه يصير مماسا ، عند ما يبتدئ بالنزول. وذلك إنما يقع في آن. ثم قال : «ويجب أن يحصل بين الآنين : زمان ، حتى لا يلزم تتالي الآنات. فوجب أن يكون الحجر ساكنا في ذلك الزمان» ثم إنه أورد على نفسه سؤالا. فقال : «إذا فرضنا دولابا ، وعلقنا عليه كرة ، وكان فوق ذلك الدولاب ، سطح مستو أملس ، بحيث كلما تحرك الدولاب ، فإن تلك الكرة تلاقي ذلك السطح الفوقاني ، بنقطة واحدة. فنقول : إن حصول تلك الملاقاة ، لا بد وأن يقع في الآن ، وحصول اللاملاقاة يقع (١) في آن آخر ، وبين الآنين زمان. فيلزمكم : وجوب أن يقف ذلك الدولاب في تلك الحالة».

فالتزم الرئيس وجوب هذا السكون. فقلنا : إنا نلزمكم هذا الكلام في صورة ، لا يمكنكم التزام السكون فيها ، وذلك لأنا إذا فرضنا حصول مركز تدوير «زحل» في أوج فلك التدوير فههنا قالوا (٢) : إن كرة «زحل» تماس كرة «الثوابت» بنقطة واحدة. فنقول: إن حصول تلك المماسة ، يقع في آن لا ينقسم ، وحصول اللامماسة ، يقع في آن أيضا. فإن حصل بين هذين الآنين

__________________

(١) فالتزم يقع (م).

(٢) في ألوان (م).

٤٤

زمان السكون ، لزمكم انقطاع حركات الأفلاك. وذلك عندكم باطل. وإن لم يحصل هناك سكون متخلل بين الآنين ، فحينئذ يلزم تتالي الآنات. وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنا أردنا إيراد هذا الكلام في صورة البرهان قلنا : لا شك أن حصول الملاقاة. بين كرة «زحل» وبين الكرة المكوكبة ، تقع دفعة في آن. وصيرورة تلك النقطة لا ملاقية ولا مماسة ، تقع أيضا في آن. فإن حصل بين الآن زمان ، يكون «زحل» فيه ساكنا ، لزم انقطاع حركات الكواكب. وهو باطل. وإن لم يحصل هناك هذا الزمان المتخلل ، فحينئذ يلزم تتالي الآنات. وهو المطلوب.

الحجة الخامسة في إثبات تتالي الآنات : أن نقول : لا شك أن مركز كرة التدوير نقطة. فإذا تحرك الفلك الحامل ، فإنه يرتسم من حركة مركز التدوير دائرة ، تسمى في علم الهيئة ب «الدائرة الحاملة لمركز التدوير» وتلك الدائرة بجميع أجزائها ، صارت ممسوسة لتلك النقطة. لكن النقطة لا يماسها إلا نقطة. فلما كانت هذه النقطة التي هي المركز ، قد مست جميع أجزاء تلك الدائرة ، وثبت أن المماسة ما حصلت إلا على النقطة ، وجب القطع بأن تلك الدائرة مرتسمة من النقط المتوالية ، وذلك يقتضي كون الخط مركبا من النقط المتلاقية ، وذلك يوجب القول بالجوهر الفرد. وأيضا : فتلك المماسة المتعاقبة إنما تحصل في آنات متلاصقة. وهذا يوجب القول بتتالي الآنات. وهو الذي أردناه في هذا المقام. والله أعلم.

النوع الثالث من مطالب هذا الفصل : في بيان أنه لما كانت الحركة مركبة من أجزاء متعاقبة ، كل واحد منها لا يقبل القسمة ، وكان الزمان من آنات متتالية ، كل واحد منها لا يقبل القسمة ، وجب أن يكون الجسم مركبا من أجزاء لا يتجزأ كل واحد منها ، ولا يقبل القسمة.

واعلم : أن هذا الفصل كالمتفق عليه بيننا وبين الفلاسفة. فإن الكل اتفقوا على أن الحركة والزمان والمسافة : أمور ثلاثة متطابقة. فإن ثبت كون

٤٥

واحد منها مركبا من أجزاء لا تتجزأ ، كان الحال في الكل كذلك. وإذا كانت هذه المقدمة ، مقدمة اتفاقية. فلا حاجة بنا إلى تقريرها بالبرهان. إلا أنا نبين البرهان القاطع على صحتها ، مبالغة في البيان والتقدير. فنقول : الدليل عليه : هو أن المقدار المعين من المسافة الذي يتحرك المتحرك عليه ، بالجزء الذي لا يتجزأ من الحركة ، في الآن الذي لا ينقسم من الزمان. إما أن يكون منقسما [أو لا يكون منقسما (١)] فإن كان منقسما كانت الحركة إلى نصفه. توجد قبل الحركة من نصفه إلى آخره. فتكون تلك الحركة منقسمة. وقد فرضناها غير منقسمة. وأيضا : الزمان الذي يقع في النصف الأول من الحركة ، متقدما على الزمان الذي فيه النصف الثاني. فيكون ذلك الآن منقسما. وقد فرضناه غير منقسم. هذا خلف. وأما (٢) إن كان ذلك المقدار المعين من المسافة غير منقسم. فهو الجوهر الفرد. ثم بهذا الطريق يقع كل واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ من الحركة ، وكل واحد من الأجزاء التي لا تتجزى من الزمان ، في مقابلة جزء لا يتجزأ من المسافة. وذلك يقتضي كون المسافة مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ. وذلك هو المطلوب. والله ولي التوفيق والإحسان.

__________________

(١) من (م).

(٢) وإما كان المقدار (م).

٤٦

الفصل الخامس

في

الأدلة الدالة على اثبات الجوهر

الفرد المستنبطة من الأصول الهندسية

الحجة الأولى : إن الكرة الحقيقية إذا لقيت سطحا مستويا ، كان موضع الملاقاة ، شيئا غير منقسم. وذلك يوجب القول بإثبات الجوهر الفرد.

أما بيان [أن (١)] موضع الملاقاة غير منقسم. فلوجوه أربعة :

الأول : إن موضع الملاقاة ، لو كان منقسما لكان (٢) ذلك. الموضع منطبقا على السطح المستوي. والمنطبق على السطح المستوي ، سطح مستوي ، فيلزم أن يحصل في الكرة سطح مستوي. وذلك محال. وأيضا : فإذا فرضنا أن تلك الكرة تدحرجت (٣) ، فعند زوال تلك المماسة ، تحصل المماسة بجزء آخر [غير (٤)] منقسم أيضا. فالجزء الثاني الذي حصلت المماسة الثانية به. إما أن يحصل (٥) بالجزء الأول ، الذي حصلت المماسة الأولى على زاوية ، أو لا على زاوية ، صارت الكرة جسما ممتدا على الاستقامة. وذلك محال.

الوجه الثاني في بيان أن موضع الملاقاة غير منقسم : هو أنه لو كان

__________________

(١) من (م).

(٢) لكان منقسما ذلك (م).

(٣) قد خرجت (م).

(٤) من (م).

(٥) يصل (ط).

٤٧

منقسما ، لأمكن أن يخرج من مركز تلك الكرة : خطان ينتهيان إلى طرفي موضع الملاقاة. فيصيران مع الخط المرتسم في موضع الملاقاة ثلاثة خطوط ، محيطة بسطح واحد ، فيحصل هناك مثلث ، قاعدته الخط في موضع الملاقاة. فإذا أخرجنا من مركز الدائرة إلى قاعدة هذا المثلث عمودا ، كانت الزاويتان الحاصلتان عن جانبي هذا العمود ، قائمتين ، ويتنصف هذا المثلث بسبب نزول العمود ، بمثلثين قائمي الزواية ، ويصير الخطان الواقعان على الطرفين [وترين لتينك القائمتين. ويصير ذلك العمود وترا للزاويتين الحادتين الواقعتين على الطرفين. ومعلوم : أن (١)] وتر القائمة أعظم من وتر الحادة. فهذا الخط العمودي أقصر من الخطين الواقعين على الطرفين. فهذه الخطوط الثلاثة ، خرجت من المركز إلى المحيط ، مع أنها غير متساوية. هذا خلف. فثبت : أن موضع الملاقاة من هذه الكرة : شيء غير منقسم وهو المطلوب.

الوجه الثالث : في إثبات هذا المطلوب : إن «أقليدس» أقام البرهان في المقالة الثالثة على أن كل خط مستقيم ، يصل بين نقطتين واقعتين على الدائرة ، فإنه يقع في داخل تلك الدائرة. فلو كان موضع الملاقاة منقسما ، لوجب أن يرتسم خط مستقيم على ظاهر تلك الدائرة [منطبق (٢)] على ذلك السطح. فيلزم : أن يقع ذلك الخط في داخل تلك الدائرة ، وفي خارجها معا. وذلك محال.

الوجه الرابع : إن «أقليدس» أقام البرهان على أن إحدى الدائرتين ، إذا وقعت داخل دائرة أخرى ، أكبر منها ، فإنهما لا يتلاقيان ، إلا على نقطة واحدة ، ولو كان موضع الالتقاء منقسما ، لحصل ذلك الالتقاء على أكثر من نقطة واحدة. وهذا محال. فيثبت بالبراهين الأربعة : أن موضع الملاقاة شيء غير منقسم. وإنما قلنا : إنه متى كان الأمر كذلك ، فإنه يجب الاعتراف بوجود الجوهر الفرد. وذلك لأنا إذا أدرنا الكرة على السطح ، حتى تمت الدائرة. فلا

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (م).

٤٨

شك أنه لما زالت الملاقاة بنقطة ، فقد حصلت الملاقاة لنقطة أخرى. وليس بين هاتين النقطتين شيء يغايرهما. وذلك لأنا إنما نتكلم في النقطة التي حصلت الملاقاة بها في أول زمان حصول اللاملاقاة (١) بالنقطة الأولى وعلى هذا التقدير فإنه يرتسم الخط عن تركب تلك النقط. وإذا حصل الخط عن تركب النقط ، فكذلك يحصل السطح عن تركب الخطوط ، والجسم عن تركب السطوح. وعلى هذا التقدير. فموضع الملاقاة من الكرة شيء غير منقسم، ويحصل من انضمامه إلى أمثاله الجسم. وذلك هو المراد من الجوهر الفرد.

فإن قيل : لا نسلم إمكان كرة ، وسطح ، على الوجه الذي ذكرتموه. وتقرير هذا السؤال. إنا سنقيم البرهان [بعد هذا (٢)] على أن إثبات الكرة والدائرة ، مع إثبات الجواهر الفرد مما لا يجتمعان البتة. سلمنا : ذلك [لكن (٣)] لا نسلم صحة ملاقاتها للبسيط. سلمنا : ذلك ، لكن لا نسلم موضع الملاقاة موجودا. وتقريره : وهو إن موضع الملاقاة هو النقطة [والنقطة (٤)] نهاية الخط ونهاية الخط عبارة عن أن لا يبقى من الخط شيء. وذلك عبارة عن فناء الخط. وعلى هذا التقدير فتكون النقطة عدمية. وإذا كان كذلك ، فقد بطل قولكم : إنه إما أن يكون منقسما أو غير منقسم [لأن العدم المحض لا يوصف بذلك. سلمنا : أنه موجود. فلم قلتم : إنه غير منقسم (٥)] والبراهين الأربعة المذكورة مبنية على إثبات القول بالدائرة. وقد بينا : أن إثبات الدائرة ينافي الجوهر الفرد. سلمنا : أن موضع الملاقاة شيء غير منقسم. فلم قلتم : إنه يمكن تدحرج الكرة على السطح؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنها تنزلق على البسيط المستوي (٦) ، ولا تفعل التدحرج عليه؟ سلمنا : إمكان التدحرج. لكن لا نسلم أن الكرة حال تدحرجها تماس السطح

__________________

(١) الملاقاة (م).

(٢) من (م).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط).

(٦) المستور (م).

٤٩

بالنقطة. ولم لا يجوز أن يقال : إنها تماسة بخط مستدير؟ سلمنا : إنها تماس السطح المستوي بالنقطة. لكن الكرة جسم بسيط. فالنقطة إنما توجد فيها بالفعل ، بسبب المماسة. فإذا زالت المماسة الأولى ، وحدثت المماسة الثانية ، فقد فنيت النقطة الأولى ، وحدثت النقطة الثانية. وعلى هذا التقدير فيكون الحاصل في الكرة أبدا ، ليس إلا نقطة واحدة. فلا يلزم تركب الخط عن النقط المتشافعة. سلمنا : بقاء النقطتين. فلم لا يجوز أن يقال : حصل بين النقطتين خط؟ وبهذا التقدير ، فإنه لا يلزم تشافع النقط.

لا يقال : الكرة إذا صارت مماسة للسطح بنقطة في آن ، ففي الآن الثاني ، إما أن تبقى تلك المماسة ، وإما أن تحصل مماسة أخرى. والأول يقتضي سكون الكرة ، وقد فرضناها متحركة. والثاني يقتضي مماسة نقطة أخرى. والأول يقتضي سكون الكرة ، وقد فرضناها متحركة. والثاني يقتضي مماسة نقطة أخرى. وحينئذ يلزم تشافع النقط. لأنا نقول : قولكم : «إذا حصلت المماسة على نقطة في آن ، ففي الآن الثاني إما أن يكون كذا وكذا»: بناء على إمكان تتالي الآنين. لكن النزاع في جواز تتالي الآنات ، كالنزاع في جواز تتالي النقط. فجعل أحدهما مقدمة في إثبات الثاني : يكون إثباتا للشيء بما يساويه في الحد. وإنه باطل.

والجواب : أما قوله : «لم قلتم إنه يمكن وجود كرة وسطح على الوجه الذي فرضتموه؟ قلنا : أما (١) المنع من وجود هذه الكرة ، فغير مستقيم ، على أصول الفلاسفة. لأن هذا الشكل هو الذي تقتضيه جميع الطبائع البسيطة. ووجود البسيط غير ممتنع. إذ لو امتنع البسيط ، لامتنع المركب. وخلو البسيط عن العوارض المانعة ممكن ، والموقوف على الممكن ممكن. فوجود الكرة شيء ممكن.

وأما وجود السطح المستوي ، فهو أيضا ممكن. لأن سبب الخشونة : الزاوية. وهي لا بد وأن تحصل من سطوح صغار ملس. وإلا ذهبت الزوايا

__________________

(١) إن (م).

٥٠

إلى غير النهاية. وإذا جاز وجود سطح صغير مستوى ، فقد حصل إمكان كل المقدمات التي ذكرناها. وثبت : أن بتقدير وقوعها ، فالجوهر الفرد لازم. فحينئذ يحصل المقصود.

قوله : «لا نسلم أن موضع الملاقاة أمر موجود» قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إن موضع الملاقاة عندكم ، هو النقطة. وهي أمر موجود.

والثاني : إنه لو لم يكن موجودا ، لكان الموصوف بالملاقاة عدما محضا ، وإنه محال. قوله : «القول بإثبات الكرة والدائرة ، يمنع من إثبات الجوهر الفرد» قلنا : لا نسلم. فإننا قد دللنا على أن ذلك يوجب الجوهر الفرد» قوله : «لا نسلم إمكان تدحرج الكرة» قلنا : هب أنه لا يصح تدحرجها ، لكن لا نزاع في إمكان انزلاقها ، على السطح المستوي. وبتقدير انزلاقها ، فإنه يفترض في البسيط خط مركب من نقط التماس ، ويحصل المقصود.

قوله : «الكرة حال تدحرجها تماس السطح المستوي بالخط» قلنا : هذا باطل قطعا ، لأن المماسة لا تحصل إلا بانطباق أحد المماسين على الآخر ، فلو ماست الكرة السطح بالخط ، لحصل في الكرة خط منطبق على الخط المستقيم ، المرتسم في السطح المستوي. والمنطبق على المستقيم مستقيم. فيلزم أن يحصل على محيط الكرة ، خط مستقيم. وذلك باطل.

قوله : «الموجود في الكرة أبدا ، مماسة واحدة ، فالموجود فيها أبدا نقطة واحدة» قلنا : يحتمل أن يحصل في الكرة خط ذو نهاية ، بالفعل ، ثم إن الكرة لقيت ذلك السطح بتلك النقطة ، ثم عند زوال الملاقاة عنها ، تحصل الملاقاة بنقطة أخرى تتلوها. فالنقطة الأولى تكون باقية بسبب كونها نهاية بالفعل لذلك الخط ، والنقطة الثانية تكون موجودة بسبب حصول المماسة عليها. وحينئذ يحصل المطلوب. سلمنا : أنه لا يتشافع نقطتان ، لكن هاتان المماستان لا تحدثان إلا في آنين. فيلزم منه تتالي الآنات ، ومن تتالي الآنات تتشافع النقط. وأيضا : فالخط المرتسم على السطح المستوي ، إنما ارتسم من المماسات الحاصلة

٥١

بالنقطة التي لا تتجزأ ، فيكون ذلك الخط مؤلفا من النقط وهو المطلوب.

قوله : لم قلتم : إنه لم يحصل بين تينك النقطتين خط؟ قلنا : تقريره من وجهين :

الأول : إن هاتين النقطتين ، إما أن يتخللهما نقطة أو خط. فإن كان الأول فقد حصل تشافع النقط. وإن كان الثاني ، فإما أن يقال : الكرة ماست السطح بذلك المستقيم، أو لم تحصل المماسة على ذلك المستقيم. والأول باطل. وإلا لعاد ما ذكرنا من أن موضع المماسة يكون منقسما. والثاني باطل. وإلا لزم أن يقال : الكرة ماست السطح بالنقطة الأولى ، ثم ماسته بالنقطة الثانية ، مع أنه لم تحصل المماسة بما بينهما. وذلك هو القول بالطفرة. وإنه باطل.

الوجه الثاني في تقرير هذا المطلوب : أن نقول : الملاقاة بالنقطة الأولى حصلت دفعة(١). وكذلك حصول اللاملاقاة بها ، يحصل دفعة ، ثم يستمر في كل الزمان الذي بعده. ففي أول حصول اللاملاقاة بالنقطة الأولى لا شك أنه حصلت الملاقاة بنقطة ثانية. وحينئذ يلزم تشافع هاتين النقطتين. وهو المطلوب.

البرهان الثاني في إثبات الجوهر الفرد : أن نقول : إذا فرضنا خطا قائما على خط ، ثم فرضنا الخط القائم ، متحركا على الخط الآخر ، حتى انتهى من أوله إلى آخره. فهذا الخط المتحرك ، قد ماس بطرفه كلية الخط المتحرك عليه. لأن الحركة على الشيء بدون مماسته غير معقول. وهذا يقتضي أن يقال : إن الخط المتحرك عليه ، إنما تولد من أشياء ، ماسها طرف الخط المتحرك. لكن طرف الخط المتحرك نقطة ، والذي تماسه النقطة : نقطة. فالخط المتحرك عليه ، يجب أن يكون مركبا من النقط. وهو المطلوب.

واعلم : أن هذا البرهان أقوى وأكمل من الكلام المتقدم لأن الدليل ،

__________________

(١) ذلك (م).

٥٢

مبني على إثبات الدائرة والكرة. وستعرف : أن إثبات الدائرة والكرة ، يوجب القول بإبطال الجوهر الفرد. وأما هذا البرهان فلا حاجة فيه إلى شيء من تلك المقدمات أصلا ، وإنه قليل المقدمات ، ظاهر الانتاج.

واعلم : أنه يمكن أن نذكر هذا البرهان في صور كثيرة :

الأول : أن نقول : لا شك أن دائرة معدل النهار ، ودائرة فلك البروج ، لا تزال ترتفع نقطة بعد نقطة ، حتى تتم الدورة. وإذا كان كذلك ، فتلك النقطة المعينة من دائرة الأفق ، مست جميع الأجزاء المفترضة في معدل النهار [على التعاقب والتلاحق. والذي تمسه النقطة نقطة. فيلزم أن يقال : إن معدل النهار (١)] مركب من نقط التماس. وذلك يفيد المطلوب.

واعلم : أن «الشنتي (٢) المهندس» عمل رسالة طويلة في الجواب عن هذا الكلام. وتطويله إنما حصل بسبب أنه ذكر دلائل نفاة الجوهر الفرد. وأما ما يكون جوابا عن هذا الحرف ، فلم يذكر إلا كلاما واحدا : وهو أنه قال : «لا شك أن هاتين الدائرتين إنما يتلاقيان على نقطة واحدة ، ثم يتلاقيان على نقطة أخرى. إلا أن بين النقطتين : قوسان من تلك الدائرة ، وبين كل آنين : زمان» قال : «والدليل عليه : أن الدائرة في نفسها : خط واحد. والنقطة : إنما ترتسم في الخط ، بسبب التوهم. فليس فيه شيء من النقط [أصلا(٣)] فإذا توهمنا [نقطة (٤)] بعد نقطة أخرى ، فقد خرجت هاتان النقطتان من القوة إلى الفعل. إلا أنه لا بد وأن يحصل بينهما خط» والجواب عنه : بالوجهين المذكورين في البرهان المتقدم. ولا بأس بإعادتهما. فنقول : أما الوجه الأول : فتقريره : أنه لما تقاطعت هاتان الدائرتان على نقطة. ثم تقاطعتا على النقطة الثانية. فإن فرضنا حصول قوس بينهما. فهل حصلت المماسة على تلك القوس

__________________

(١) من (ط).

(٢) يمكن قراءتها في (ط). الشني. وفي (م) بتشديد النون.

(٣) من (ط).

(٤) توهما بعد نقطة (م).

٥٣

أو لم تحصل؟ فإن كان الأول ، كان موضع التقاطع بين الدائرتين شيئا منقسما. وهذا باطل محال. وإن كان الثاني ، لزم حصول الطفرة. ولما بطل القسمان ، ثبت أنه حصل التقاطع بينهما على نقطة ، ثم على نقطة ثانية. وحينئذ يلزم تشافع النقط. والثاني : إنه لما حصل التقاطع على نقطة ، ففي أول زمان حصول اللاتقاطع على النقطة ، قد حصل التقاطع على نقطة أخرى. وحينئذ يلزم تشافع النقط. وهو المطلوب.

الوجه الثاني في تقرير هذا البرهان : إنا بينا : أنه إذا تحرك الفلك الحامل لمركز التدوير ، فإنه يرتسم من مركز التدوير دائرة [وتلك الدائرة (١)] إنما تولدت من مماسة تلك النقطة ، التي هي مركز التدوير. والذي تماسه النقطة : نقطة. فتلك الدائرة إنما تولدت من النقطة المتشافعة.

الوجه الثالث في تقرير هذا البرهان : إنا بينا : أن الجسم المكعب ، قد حصلت النقطة فيه بالفعل ، فإذا انجر ذلك المكعب على المسافة ، فقد انجرت تلك النقطة على تلك المسافة ، ويحصل من انجرارها : خط. وذلك الخط إنما ارتسم من مماسة تلك النقطة ، جزءا فجزءا. والنقطة لا تماس إلا نقطة. فوجب تشافع النقط.

وهذه الوجوه بأسرها ظاهرة جليه ، وغنية عن إثبات الكرة والدائرة.

ويجب أن يعلم : أن البرهان كلما كانت مقدماته أقل ، وقوتها أظهر عند العقل ، كان ذلك البرهان أقوى ، وبالقبول أولى. وبالله التوفيق.

البرهان الثالث في إثبات الجوهر الفرد : أن نقول : النقطة شيء ، ذو وضع لا ينقسم. ومتى كان الأمر كذلك ، فالقول بإثبات الجوهر الفرد : لازم. أما بيان الأول : فهو أمر متفق عليه بين جمهور الفلاسفة ، إلا أنا سنقيم البرهان على صحته ، ليصير الكلام برهانيا ، ويخرج عن كونه جدليا إلزاميا.

__________________

(١) من (ط).

٥٤

فنقول : قولنا : النقطة شيء ذو وضع ، لا جزء له : كلام مشتمل على قيود ثلاثة :

القيد الأول : إنه شيء. والدليل عليه : أن الخط إنما يلقى الخط بالنقطة. فلو لم تكن النقطة موجودة ، لكان الموصوف بالملاقاة عدما محضا. وإنه باطل في بديهة العقل. وبهذا يظهر فساد قول من يقول : النقطة لا وجود لها إلا في الوهم. لأنا نقول : الملاقاة حاصلة في الأعيان. والملاقاة إنما حصلت على النقطة ، فوجب كون النقطة موجودة في الأعيان.

القيد الثاني : قولنا : إنها ذات وضع. والمراد منه : أنه يمكن الإشارة الحسية إليها. والعلم البديهي حاصل بأن طرف الخط ، يمكن الإشارة الحسية إليه.

والقيد الثالث : إنه لا يقبل القسمة.

والدليل عليه وجوه :

الأول : البراهين الأربعة المذكورة في بيان أن موضع الملاقاة من الكرة غير منقسم.

والثاني : إن النقطة عبارة عن طرف الخط. فنقول : طرف الخط. إن كان فيه طول وعرض ، فهو سطح. فلا يكون طرفا للخط. وإن حصل فيه الطول فقط (١) ، كان خطا ، ولا يكون طرفا للخط. وإن لم يحصل فيه لا طول ولا عرض ، كان غير منقسم البتة. إذ لو كان منقسما ، لكان أحد قسميه مباينا عن الآخر ، بحسب الإشارة الحسية. وحينئذ يكون مقدار ذلك المجموع ، أزيد من مقدار أحد نصفيه. وحينئذ يحصل (٢) الطول والعرض.

والثالث : إن النقطة عبارة عن طرف الخط. فهذا الطرف. إن كان منقسما ، حصل فيه نصفان ، وحينئذ لا يكون كل واحد من هذين النصفين ،

__________________

(١) فقد (م).

(٢) يحدث (ط).

٥٥

طرفا للخط ، بل طرف الخط ، هو النصف الآخر منه. وحينئذ الذي فرضناه بأنه طرف الخط ، ما كان طرفا للخط. وذلك محال. ثم إن ذلك النصف. إن كان منقسما عاد البحث فيه. وإن لم يكن منقسما ، فهو المطلوب.

فثبت بهذه البيانات الظاهرة : أن النقطة شيء موجود ، مشار إليه بحسب الحس ، غير منقسم. وإذا ثبت هذا ، فنقول : هذا الشيء. إما أن يكون جوهرا أو عرضا. وباطل أن يكون عرضا ، فبقي أن يكون جوهرا. ولا معنى للجوهر الفرد إلا ذلك.

وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون عرضا لوجهين :

الأول : إنه [إن (١)] كان عرضا ، فلا بدّ له من محل. فذلك المحل. إما أن يكون منقسما ، أو غير منقسم. والأول باطل. لأن الحال في المنقسم منقسم ، فيلزم كون النقطة منقسمة ، بسبب انقسام محلها. وذلك محال. فبقي أن يقال : إن محل النقطة شيء غير منقسم ، بسبب انقسام محلها. وذلك محال. فبقي أن يقال إن محل النقطة شيء غير منقسم. ثم نعيد التقسيم فيه. وهو أن ذلك الشيء. إن كان عرضا افتقر إلى محل آخر. فإما أن يذهب هذا الحكم إلى غير النهاية ، وهو محال. أو ينتهي إلى محل قائم بالنفس ، غير قابل للقسمة. وذلك هو الجوهر الفرد.

الثاني : وهو إن كل ما كان مشارا إليه. فإنه يكون مختصا بذلك الحيز المعين ويكون حاصلا في تلك الجهة المعينة. فإن فرضنا له محلا وموصوفا وقابلا ، فذلك المحل. إما أن يكون مختصا بذلك الحيز المعين ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول ، فحينئذ يلزم تداخل المقادير. وإن كان الثاني فهو محال. لأن حلول ما لا يكون مختصا بالحيز والجهة في شيء ، يمتنع أن يكون له اختصاص [بالحيز والجهة (٢)] مدفوع في بديهة العقل.

فإن [قيل (٣)] لم لا يجوز أن يقال : النقطة قائمة بالخط؟ ويلتزم هاهنا أن

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

٥٦

الذي لا يقبل القسمة ، يكون حالا في المنقسم. قوله : «الحال في المنقسم ، يجب أن يكون منقسما» قلنا : هذا الحكم على عمومه ممنوع وبيانه : هو أن الحلول على قسمين :

حلول بمعنى السريان في المحل. كحلول اللون في الجسم. وهذا يقتضي انقسام الحال ، بسبب انقسام المحل. وذلك لأن أي جزء فرضناه في ذلك الجسم ، فإنه يحصل فيه بعض ذلك اللون.

والقسم الثاني : حلول لا بمعنى السريان. ويدل عليه وجوه :

الأول : وصفنا العشرة بأنها عشرة واحدة. فإن الوحدة صفة لتلك العشرة. ولا يمكن أن يقال : حصل في كل واحد من آحاد تلك العشرة : جزء من أجزاء تلك الوحدة. فإن الوحدة لا تقبل القسمة.

والوجه الثاني في إثبات هذا المطلوب : إنا نصف الشخص المعين ، بأنه أبو زيد ، وابن عمرو. ولا يمكن أن يقال : إنه قام بكل جزء من أجزاء الأب : جزء من أجزاء هذه الأبوة وهذه النبوة. حتى يقال : إنه قام بنصف بدن الأب نصف الأبوة ، وقام بثلثه ثلثها. فإن فساد هذا المعلوم ببديهة العقل.

والوجه الثالث : إنا نصف هذا الخط بكونه متناهيا. ولا شك أن الخط منقسم. ولا يمكن أن يقال : قام بنصف هذا الخط نصف تلك النهاية المعينة ، وقام بثلثه ثلثها. لأن تلك النهاية لم تحصل إلا في ذلك المقطع المعين. فإن حصل مقطع آخر ، فذلك نهاية أخرى.

الوجه الرابع : الصفات السلبية. كقولنا : ليس له علم ، وليس له مال. فإنه لا يمكن أن يقال : هذه الصفة العدمية ، تنقسم بحسب انقسام ذلك الجسم ، فثبت بهذه الوجوه : أن قيام الصفة بالموصوف ، قد يكون بحيث لا يلزم من انقسام المحل ، انقسام الحال. وإذا ثبت هذا ، فنقول : لم لا يجوز أن يكون الحال في هذه المسألة واقعا على هذا الوجه؟ لا يقال : الدليل على أن الحال ينقسم بانقسام المحل : أنا نقول : إما أن يقال : إنه لم يقم بشيء من

٥٧

أجزاء ذلك المحل. لاتمام ذلك الحال. ولا شيء من أجزاء ذلك الحال. أو يقال : إنه قام تمام ذلك الحال ، بكل واحد من أجزاء [ذلك (١)] المحل. أو يقال : إنه قام بكل واحد من أجزاء ذلك المحل (٢) : جزء من أجزاء ذلك الحال. [والأول باطل. لأنه إذا لم يقم بشيء من أجزاء ذلك المحل. لاتمام ذلك الحال (٣)] ولا شيء من أجزاء ذلك الحال : امتنع وصف ذلك الشيء بتلك الصفة. والعلم به ضروري. والثاني يفيد انقسام الحال ، بسبب انقسام المحل. وهو المطلوب. لأنا نقول : لم قلتم : إنه [لما (٤)] لم يتصف شيء من أجزاء المحل. لاتمام ذلك الحال ، ولا بشيء من أجزائه ، فإنه يمتنع كون ذلك المجموع موصوفا بتلك الصفة؟ وتقريره : إن مجموع الشيء ، مغاير لكل واحد. من أجزائه وأبعاضه. فلم قلتم : إنه يلزم من خلو كل واحد من أجزاء ذلك الموصوف ، عن كل تلك الصفة ، وعن بعض من أبعاضها : خلو مجموع ذلك الموصوف عن تلك الصفة؟ فثبت بما ذكرنا : أن هذه المغالطة إنما وقعت ، لأجل الغفلة عن الفرق بين مجموع الشيء من حيث إنه ذلك المجموع ، وبين كل واحد من أجزاء ذلك المجموع. والجواب : إنه لا معنى لحلول الشيء في الشيء ، إلا كونه حاصلا فيه. فإذا كان ذلك المحل منقسما ، فلا معنى لوجود ذلك الشيء ، إلا تلك الأقسام والأبعاض. فإن كان كل واحد من تلك الأقسام والأبعاض ، خاليا عن تلك الصفة. كان العلم الضروري حاصلا بامتناع كون ذلك المجموع ، موصوفا بتلك الصفة. وأما الوحدة والإضافة والنهاية ، فلا نسلم أنها أمور موجودة إذ لو كانت الوحدة صفة موجودة لكان كل فرد من أفرادها وحدة. ولزم التسلسل. وكذلك يلزم التسلسل في الإضافات. وأما النهاية فمعناها انقطاع ذلك الشيء وفناؤه. وذلك عدم.

البرهان الرابع في إثبات الجوهر الفرد : أن نقول : الموضع الذي يحصل

__________________

(١) من (ط).

(٢) ذلك المحل لاتمام ذلك (م).

(٣) من (ط).

(٤) من (م).

٥٨

فيه مبدأ الحركة ومنتهاها ، غير منقسم. وإذا ثبت هذا ، كان القول بالجوهر الفرد لازما. أما إثبات المقام الأول. فالدليل عليه : أن المتحرك ، إذا ابتدأ بالحركة. فالموضع الذي يحصل فيه ابتداء الحركة. إما أن يكون منقسما ، أو غير منقسم. والأول باطل. لأن كل منقسم ، فإنه يفترض فيه نصفان. ومن المحتمل أن يقع ابتداء الحركة في كلا النصفين ، وإلا لكان طرف المتحرك ونهايته واقعا في كلا النصفين ، فيلزم حصول الشيء الواحد في مكانين دفعة. وإنه محال. وإذا بطل هذا ، ثبت : أن الذي يقع فيه ابتداء الحركة ، لا بد وأن يكون شيئا غير منقسم. فثبت : أن الموضع الذي يقع فيه ابتداء الحركة ، ويقع فيه انتهاؤها ، يجب أن يكون شيئا غير منقسم. وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون القول بالجوهر الفرد لازما ، للوجهين المذكورين في الدليل المتقدم. والله أعلم.

٥٩
٦٠