المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

فهذا ضبط المذاهب الممكنة في هذا الباب.

ولنذكر الآن تفاريع كل واحد من هذه الأقسام :

أما تفريعات القسم الأول : وهو قول المثبتين للجزء الذي لا يتجزأ. فهي أشياء :

الفرع الأول : اختلفوا في أنه هل يعقل وقوع الجزء الواحد على متصل الجزءين؟ فأباه «الجبائي» و «الأشعري» وجوزه «أبو هاشم» و «القاضي عبد الجبار».

والفرع الثاني : إن الجوهر الفرد ، هل له شكل أم لا؟ فأباه «الأشعري» وأما أكثر المعتزلة فقد أثبتوا له شكلا. ثم اختلفوا. فمنهم من قال : [إنه أشبه (١)] بالمثلث. والأكثرون قالوا : إنه أشبه بالمربع. والحق : أنهم شبهوه بالمكعب. لأنهم أثبتوا له جوانب ستة. وزعموا : أنه يمكن أن تحصل (٢) به جواهر ستة ، من جوانب ستة. وعلى هذا التقدير ، فإنه يجب (٣) [أن يكون] شكله : بالمكعب.

والفرع الثالث : إن الجوهر الواحد. هل له حظ من الأطوال (٤) والعروض؟ فالكل أنكروه ، إلا «أبا الحسين الصالحي (٥)» من قدماء المعتزلة. فإنه زعم : أنه لا بد وأن يحصل له قدر من الطول والعرض والعمق.

والفرع الرابع : إن الجوهر الفرد. هل يقبل الحياة ، وسائر الأعراض المشروطة بالحياة، كالعلم والإرادة والقدرة؟ «الأشعري» وجماعة من قدماء المعتزلة قالوا به. والمتأخرون من المعتزلة أنكروه. وهذه هي المسألة المشهورة في

__________________

(١) من (ط).

(٢) يتصل (م).

(٣) يجب شكلي المكعب (م).

(٤) الطول والعرض (م).

(٥) الحس المصالحي (ط).

٢١

علم الكلام بأن البنية هل هي شرط للحياة ، وللأعراض المشروطة بالحياة ، أم لا؟.

الفرع الخامس : إن الخطّ المؤلف من الأجزاء التي لا تتجزأ. هل يمكن أن يجعل (١) دائرة أم لا؟ أما «الأشعري» فقد أنكره في كتاب «النوادر» وذهب «إمام الحرمين» في «الشامل» إلى أنه جائز.

والفرع السادس : إن كل من أثبت الجوهر الفرد ، فإنه زعم : أن حجر الرحى يتفكك عند الاستدارة.

وأما تفريعات القسم الثاني من الأقسام الذكورة وهو كون الجسم المتناهي في المقدار : مركبا من أجزاء غير متناهية بالفعل. فاعلم : أنه لما قيل لهم : لو كان هذا الجسم مركبا من الأجزاء ، التي لا نهاية لها بالفعل ، وجب أن يمتنع حصول (٢) المتحرك من أولها إلى آخرها في زمان متناهي. فعند هذا قالوا : المتحرك لم يتحرك على جميع تلك الأجزاء ، بل تحرك على بعضها ، وطفر على الباقي. وفسروا الطفر : بانتقال الجسم من مكان إلى مكان آخر ، من غير أن يمر بما بينهما. وأكثر العقلاء اتفقوا على [أن (٣)] فساد هذا القول معلوم بالضرورة. وبالجملة : فكما أن القائلين بالقول الأول ، لزمهم التزام تفكك [حجر (٤)] الرحى عند الاستدارة. فالقائلون بهذا القول الثاني ، التزموا حصول الطفرة وكلاهما في غاية البعد.

وأما تفريعات القسم الثالث وهو قول الفلاسفة : فاعلم : أنهم اتفقوا على أن الجسم البسيط شيء واحد في نفسه ، كما أنه في الحس شيء واحد وزعموا : أن التفريق ليس عبارة عن تبعيد المتجاورين ، وتفريق المتماسين. بل هو عبارة عن : إحداث التعدد (٥) وهذا أيضا في غاية البعد. لأنا نقول : إذا

__________________

(١) جعله (م).

(٢) وصول (ط).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) العدد (م).

٢٢

أخذنا ماء واحد. فهذا الماء جسم واحد في نفسه ، عند الفلاسفة. وليس مركبا من الأجزاء والأقسام. [ثم (١)] إذا قسمنا ذلك الماء إلى قسمين : فنقول : هذان القسمان الحاصلان بعد هذه القسمة. هل كانا موجودين قبل هذه القسمة ، أو ما كانا موجودين؟ فإن قلنا : إنهما كانا موجودين قبل (٢) هذه القسمة. فحينئذ تكون القسمة عبارة عن تبعيد المتجاورين ، وحينئذ يلزمنا أن نعترف بأن هذا الجسم حين كان واحدا في الحس ، فقد كان في ذاته مركبا من الأجزاء ، وذلك يبطل قول القائل : إن ذلك الجسم كان في نفسه شيئا واحدا. وأما إن قلنا : إن هذين القسمين الحاصلين بعد التقسيم ، ما كانا موجودين قبل التقسيم [بل إنما حدثا بعد حصول التقسيم (٣)] فهذا يقتضي أن يقال : إن تقسيم الماء إلى هذين القسمين ، اقتضى إعدام الماء الأول ، الذي [كان (٤)] ماء واحدا ، واقتضى حدوث هذين الماءين. فيلزم أن يقال : إن الإنسان الذي غمس طرف إصبعه في جانب من جوانب البحر : إنه أعدم البحر الأول بالكلية ، وأوجد هذا البحر. ومعلوم : أن التزامه أيضا في غاية البعد ، بل هو أبعد بكثير من التزام وقوع التفكك في حجر الرحى ، ومن التزام القول بالطفرة (٥). فيثبت : [أن الاحتمالات الممكنة في هذه المسألة ليست إلا هذه الثلاثة. وثبت (٦)] : أن كل واحد منها فإنه يلزمه محذور عظيم ، وقول بعيد جدا.

إذا عرفت هذا فنقول : الفلاسفة اتفقوا على [أن الجسم البسيط في نفسه شيء واحد ، كما أنه عند الحس شيء واحد. واتفقوا على (٧)] أنه مع ذلك

__________________

(١) من (م).

(٢) فقد قبل (م).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) بالطين (م).

(٦) من (م).

(٧) من (م).

٢٣

قابل للانقسامات. واتفقوا على أن ذلك الانقسام لا يخرج من القوة إلى الفعل إلا لأحد أمور ثلاثة :

الأول : القطع والتفكيك. والثاني : اختلاف عرضين. إما عرضين حقيقيين. كما في الأبلق (١) وإما عرضين إضافيين ، كاختلاف محاذاتين أو مماستين.

والثالث : الوهم والإشارة. وذلك هو أن يشير الإنسان إلى أحد طرفي الجسم ، دون الثاني (٢) فلسبب (٣) حصول الامتياز في هذه الإشارة يتميز أحد طرفي ذلك الجسم عن الثاني [امتيازا (٤)] بالفعل.

ثم هاهنا بحث. وهو أنه يشبه أن يقال : السبب المقتضى لوقوع الكثرة بالفعل. على قول الفلاسفة هو اختصاص كل واحد من قسمي الجسم بعرض ، لا يوجد في القسم الآخر منه. [فأما (٥)] عند التقطيع والتفكيك ، فالسبب في حصول الكثرة ، حصول كل واحد من هذين القسمين ، في حيز غير الحيز ، الذي حصل فيه الآخر. وأما عند اختلاف الأعراض والصفات ، فالأمر فيه ظاهر. وأما عند التقسيم بالوهم ، فالأمر أيضا كذلك. لأن الإشارة إنما اقتضت وقوع الامتياز في المشار إليه ، لأجل أن أحد جانبي الجسم : عرض له وصف كونه مشارا إليه. فهذه الإشارة الخاصة ، والجانب الثاني ، لم تتعلق به هذه الإشارة ، بل إشارة أخرى. وكون الشيء المشار إليه : من الأعراض الإضافية. فثبت بهذا : أن على مذهبهم ، الموجب لحصول الكثرة في الجسم : اختلاف الأعراض.

إذا عرفت هذا فنرجع إلى هذه الأسباب الثلاثة. فنقول : أما

__________________

(١) من (م).

(٢) التسبب (ط).

(٣) فثبت (م).

(٤) من (م).

(٥) من (ط).

٢٤

الانقسامات الحاصلة بحسب الوهم ، وبحسب الفرض ، فالفلاسفة اتفقوا على أنها غير متناهية. وذلك لأن الجسم لا ينتهي في الصغر إلى حد ، إلا ويتميز أحد جانبيه عن [الآخر (١)].

وأما النوع الثاني : وهو الانقسامات الحاصلة بسبب القطع والافتراق. فالفلاسفة قد اختلفوا في أنها متناهية أو غير متناهية. أما «أرسطاطاليس» وأصحابه المتقدمون والمتأخرون ك «أبي نصر الفارابي» و «أبي علي بن سينا» [فقد اتفقوا (٢)] على أن قبول هذا النوع من القسمة حاصل إلى غير النهاية.

قالوا : وتقريره : إن كل واحد من تلك الأجزاء. إما أن يكون مركبا أو بسيطا. فإن كان مركبا ، فهو قابل للانحلال والتفرق. وإن كان بسيطا ، كانت الأجزاء المفترضة فيه بحسب الوهم متشابهة ، فكما صح على الجزءين أن يتباينا ، مباينة رافعة للاتصال الحقيقي (٣)] وإذا كان كذلك ، وجب القطع بأنه لا نهاية لقبول الانقسامات الحاصلة ، بسبب التفكك والتفرق.

وقول قوم عظيم من [قدماء (٤)] الفلاسفة : إن الانقسامات الحاصلة بالوهم والفرض ، وإن كانت غير متناهية ؛ إلا أن الانقسامات الحاصلة بسبب التفرق والتباعد متناهية. فهذه الأجسام المحسوسة مؤلفة ومركبة من أجزاء أصلية قابلة للقسمة [الوهمية ، وغير قابلة للقسمة الانفكاكية. فهذه الأجسام المحسوسة لما كانت قابلة للقسمة (٥)] الانفكاكية ، كان إحداث القسمة فيها عبارة عن تبعيد المتجاورين. وأما كل واحد من تلك الأجزاء ، فإن أحد نصفيه متصل في النصف الآخر منه ، اتصالا حقيقيا. فلا جرم يمتنع ورود القسمة عليه. وهذا قول «ديمقراطيس» وقوم آخرون.

__________________

(١) الثاني (ط).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط).

٢٥

وهؤلاء اختلفوا في أشكال تلك الأجزاء فالأكثرون قالوا : إنها كرات. وذلك لأن كل واحد منها ، يجب أن يكون بسيطا. إذ لو كان مركبا ، لقبل الانحلال. وقد فرضنا أنه غير قابل للانحلال. هذا خلف. وإن كان بسيطا ، وجب أن يكون شكله : الكرة. لما ثبت أن شكل البسيط ، يجب أن يكون هو الكرة. ثم إنهم لما عرفوا أن الكرات (١) المتماسة ، لا بد وأن تبقى فيما بينها فرج خالية ، لا جرم التزموا القول بالخلاء. وقال الباقون : [إنه (٢)] لا يجب فيها أن تكون كرات. لأن القول بالخلاء ممتنع. ثم إنهم اختلفوا. فمنهم من قال : إنه يجب أن تكون أشكالها المكعبات. لأن الشكل الذي يملأ الفرج ، ولا يبقى معه شيء من الخلاء في الأجسام : ليس إلا المكعبات. ومنهم من قال : إنها مثلثات. لأن هذا الشكل أول المضلعات. [ومنهم من قال : إنها مربعات (٣)].

ومنهم من قال : إنها على خمسة أنواع من الأشكال.

فالأول : ما يحيط به أربع مثلثات متساوية الأضلاع. وهذا الشكل هو الشكل الناري. وهذه الأجزاء إذا تألفت واجتمعت حصل منها النار. والسبب فيه : أن خاصية النار التفريق وذلك إنما يحصل إذا كان جوهر النار قويا على النفوذ في بواطن المتصلات. والجسم متى كان موصوفا بالشكل المذكور ، كان قويا على النفوذ في المتصلات ، وعلى الغوص فيه! بسبب زواياه الحادة النافذة.

والنوع الثاني من الأشكال : المكعب وهو الذي يحيط به ست مربعات متساوية الأضلاع. وهذه الأجزاء هي التي إذا تألفت حصل من تألفها الأرض. وإنما قلنا ذلك ، لأن الجسم الموصوف بالشكل المكعب ، يعسر (٤)

__________________

(١) الكرامات التماسة (م).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) نفس (م).

٢٦

غوصه في البواطن ، بسبب السطوح المحيطة به. ولا معنى للكثافة إلا كونه بحيث يمتنع كونه(١) في البواطن.

والنوع الثالث من الأشكال : ما يحيط به ثمان قواعد مثلثات ، متساوية الأضلاع. وهذه الأجزاء إذا تألفت ، حصل منها الهواء. والسبب فيما قلناه : إن هذا الشكل تعين على سرعة الحركة والتدحرج. والهواء كذلك.

والنوع الرابع : ما يحيط به عشرون قواعد مثلثات. وهذا الشكل هو الماسي (٢).

والنوع الخامس : ما يحيط به اثنا عشر قاعدة مخمسات. وهذا هو الشكل الفلكي. وهذه الأشكال الخمسة ، هي الخمسة التي ختم على ذكرها «أقليدس» كتابه.

فهذا هو الكلام في القسمة الحاصلة بسبب التفريق والقطع.

وأما النوع الثالث : وهو القسمة الحاصلة ، بسبب اختلاف الأعراض. فنقول : أما الأعراض الإضافية. فهذا النوع من القسمة ثابت [فيها (٣)] إلى غير النهاية. لأنه إلى أي حد انتهى الجسم (٤) فإنه لا بد أن يماسّ أو يحاذي بأحد جانبيه شيئا ، وبالجانب الثاني شيئا آخر. وأما اختلاف الأعراض الحقيقية. فهل (٥) يمر إلى غير النهاية؟ فمنهم من قال (٦) : الماء ينتهي في الصغر إلى حيث لو وردت القسمة عليه بعد ذلك ، لما بقي (٧) ماء ، بل انقلب إلى طبيعة الجسم المستولى عليه. وهذا قول كثير من «المشائين» ومنهم من قال : بل هذا النوع من القسمة باقي أيضا إلى غير النهاية.

فهذا هو الكلام في تفاصيل المذاهب في هذه المسألة. وبالله التوفيق (٨).

__________________

(١) غوصة (م).

(٢) المائي (ط).

(٣) من (ط).

(٤) الجسم فلا بد أن (م).

(٥) فهل عوالي (م).

(٦) من قال : إنما (م).

(٧) لما بقي قابل انقلب (م).

(٨) والله أعلم (ط).

٢٧
٢٨

الفصل الرابع

في

الدلائل الدالة على اثبات الجوهر

الفرد المبنية على اعتبار

أحوال الحركة والزمان

اعلم : أنا سنقيم الدلالة على أن الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة في أحياز متلاصقة ، بحيث يكون كل واحد منها غير قابل للقسمة البتة. [ونقيم (١)] الدلالة أيضا : على أن الزمان مركب من آنات متتالية متلاصقة ، بحيث يكون كل واحد منها غير قابل للقسمة أصلا. ثم نبين (٢) أنه متى صح هذا القول في الحركة ، أوفي الزمان. فإنه يجب القطع بأن الجسم مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ.

واعلم : أن الزمان والحركة والمسافة ، أمور ثلاثة متطابقة. فإن ثبت في واحد منها ، كونه مركبا من أمور غير قابلة للقسمة ، ثبت في الثلاثة : كونها كذلك.

[وإن ثبت في واحد منها كونه قابلا للقسمة إلى غير النهاية ، ثبت في البواقي كونه كذلك (٣)] أما الفلاسفة فإنهم أثبتوا كون الجسم قابلا لانقسامات غير متناهية. ثم فرعوا عليه كون الحركة قابلة للقسمة إلى غير النهاية. وكون الزمان قابلا للقسمة إلى غير النهاية ، وأنه يمتنع كون الزمان مركبا من الآنات

__________________

(١) من (ط).

(٢) نذكر (م).

(٣) من (ط).

٢٩

المتتالية. وأما نحن فإنا نقيم الدلالة على أنه يجب أن تكون الحركة مركبة من حصولات متعاقبة في أحياز متلاصقة ، وعلى أن الزمان [مركب من آنات (١)] متتالية متعاقبة. ثم نفرع عليه : أن الجسم يجب أن يكون مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ. فلتكن هذه المقدمة معلومة.

ثم [نقول (٢)] مطالب هذا الفصل محصورة في ثلاثة أنواع :

أحدها : تقرير الدلائل على أن الحركة مركبة من حصولات متعاقبة ، بحيث يكون كل واحد منها غير قابل للقسمة أصلا.

وثانيها : تقرير الدلائل على أن الزمان مركب من آنات متتالية متلاصقة ، بحيث لا يكون شيء منها قابلا للقسمة [أصلا (٣)].

وثالثها : تقرير أنه متى كان الحال في الحركة وفي الزمان على ما ذكرناه ، فإنه يجب كون الجسم مؤلفا من أجزاء ، كل واحد منها لا يقبل القسمة أصلا.

أما النوع الأول : وهو ذكر الدليل على أن الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة ، في أحياز متلاصقة ، بحيث يكون كل واحد منها غير قابل للقسمة. فنقول : الذي يدل على صحة ما قلنا وجوه :

الحجة الأولى : أن نقول : الجسم لم يكن متحركا ، ثم صار متحركا. فالحركة أمر موجود في نفسها. إذ لو لم يحدث في الجسم حال كونه متحركا ، أمر من الأمور. لزم أن يقال : إنه في نفسه بعد الحركة ، كما كان قبل الحركة. [لكنه قبل الحركة غير متحرك ، فهو بعد الحركة (٤)] غير متحرك. فالمتحرك غير متحرك. هذا خلف. فثبت : أن الحركة أمر موجود. ثم نقول : لا يخلو

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (م).

(٤) من (م).

٣٠

إما أن يحصل منها شيء في الحال ، أو لم يحصل. فإن لم يحصل منها شيء في الحال ، استحال أن يكون ماضيا أو مستقبلا. لأن الماضي هو الذي كان [موجودا في زمان كان (١)] حاضرا ، والمستقبل هو الذي يتوقع حضوره في زمان سيحضر. فلو امتنع أن يوجد في الحاضر (٢) شيء من أجزاء الحركة ، لامتنع أن يصير ماضيا ، أو يكون مستقبلا. وعلى هذا التقدير ، فإنه لا يوجد شيء من أجزاء الحركة ، ولا من مجموعه. لا في الماضي ولا في المستقبل ولا في الحال. ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن لا توجد الحركة أصلا. وذلك باطل على ما بينا. ولما بطل هذا القسم ، ثبت أنه لا بد وأن يوجد في الحال الحاضر شيء من أجزاء الحركة.

ثم نقول : ذلك الحاضر ، إما أن يمكن فرض جزءين فيه ، بحيث يكون أحدهما قبل الآخر ، أو لا يمكن. والأول باطل. وإلا لكان عند حصول النصف [الأول منه لا يكون النصف (٣)] الثاني منه موجودا ، وعند مجيء النصف الثاني منه يكون النصف الأول منه فائتا منقرضا. وحينئذ لا يكون الحاصل [حاصلا (٤)] بل يكون الحاصل أحد نصفيه فقط. ثم [إنا (٥)] نعيد التقسيم المذكور في ذلك النصف. فإن كان [هو (٦)] أيضا منقسما ، فحينئذ لا يكون هو أيضا موجودا. والحاصل : أن كل ما كان منقسما إلى قسمين ، يكون أحد نصفيه (٧) سابقا على الآخر ، فإنه يمتنع أن يكون بتمامه موجودا. وهذا ينعكس انعكاس النقيض : إن ما يكون بتمامه موجودا ، فإنه لا يكون قابلا للقسمة المذكورة. فثبت: أن الجزء الحاضر من الحركة ، غير قابل للقسمة. ولا شك أن عند انقضاء هذا الجزء الحاضر ، لا بد وأن يحصل شيء آخر ،

__________________

(١) من (ط).

(٢) الحال.

(٣) من (م).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط).

(٦) من (ط).

(٧) قسميه (م).

٣١

يكون هو أيضا عند حضوره حاضرا وحاصلا. فهذا أيضا غير منقسم. وكذا القول في الثالث والرابع إلى آخر الحركة. فهذا برهان قاطع قاهر (١) في أن الحركة عبارة عن حصولات متلاصقة متعاقبة ، بحيث يكون كل واحد منها غير قابل للقسمة أصلا. وذلك هو المطلوب.

واعلم : أنا كنا قد كتبنا رسالة مفردة في مسألة الجوهر الفرد ، وأوردنا على هذا الدليل: أسئلة جارية مجرى سؤالات السوفسطائية ، في التشكيك في البديهيات. فمن أراد تلك الأسئلة فعليه بذلك الكتاب.

إلا أنا نورد هاهنا من تلك السؤالات ، ما يختص بهذا الدليل. فنقول :

[السؤال الأول (٢)] : لا نسلم أنه لا بد وأن يحصل في الحال شيء من أجزاء الحركة. قوله : «لو لم يحصل منها شيء في الحال ، لامتنع أن يصير ماضيا ومستقبلا» قلنا : لا نسلم. فإن الآن يصير ماضيا ومستقبلا ، مع أنه لا يصدق على الآن : أنه حاضر في الآن. وإلا لزم التسلسل.

السؤال الثاني : سلمنا : أنه لا بد وأن يحصل في الآن الحاضر ، شيء من الحركة. إلا أن الحاصل في الآن ، هو طرف الحركة ، لا نفس الحركة. وطرف الحركة عندنا شيء غير منقسم. لا يقال : فعند فناء ذلك الشيء الذي سميتموه بطرف الحركة ، لا بدّ وأن يحدث شيء آخر غير منقسم. وحينئذ يحصل المطلوب. لأنا نقول : لم لا يجوز أن يحصل بينهما شيء منقسم؟ وعلى هذا التقدير فإنه لا يلزم تعاقب الأشياء التي لا تتجزأ.

السؤال الثالث : سلمنا : أنه يحصل في الحال شيء من الحركة. فلم لا يجوز أن يكون ذلك الشيء منقسما؟ قوله : «لو كان منقسما ، لكان النصف الأول منه سابقا على النصف الثاني منه ، وحينئذ لا يكون ذلك المجموع موجودا» قلنا : لا نسلم. ولم لا يجوز أن يحصل جزؤه دفعة [واحدة (٣)].

__________________

(١) ظاهر (ط).

(٢) زيادة.

(٣) من (م).

٣٢

السؤال الرابع : إن دل ما ذكرتم على أن الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة ، في أحياز متلاصقة. فههنا دليل آخر يبطله. وذلك لأن الجوهر إذا انتقل من حيز إلى حيز آخر، فهو ما دام يكون باقيا في الحيز الأول ، فهو بعد لم يتحرك. وإذا أوصل إلى الحيز الثاني، فقد تمت الحركة وانقرضت. فلم يبق إلا أن يقال : إنه إنما يكون متحركا فيما بين الحالتين ، وذلك يدل على أن الحركة ليست عبارة عن الحصول في الحيز ، بل الحركة عبارة عن حالة متقدمة على الحصول في الحيز [والله أعلم (١)].

والجواب عن السؤال الأول : أن نقول : [إن (٢)] التفرقة بين الماضي ، وبين المستقبل وبين الحال : معلوم بالضرورة. فنحن نعني بالحاضر : الموجود الذي لا يكون ماضيا ولا مستقبلا. ولا شك أن الآن الحاضر كذلك ، فيكون الآن (٣) حاضرا ولا نعني بالحاضر أن يكون مظروفا في شيء ، وأن يكون حاصلا في شيء آخر ، حتى يلزمنا التسلسل.

وعن السؤال الثاني : أن نقول : ذلك الجزء الحاضر ، الحاصل من الحركة. إن بقي فقد صار الجسم ساكنا ، وانقطعت الحركة. وإن لم يبق البتة ، إلا في ذلك الآن الحاضر ، فلا بد وأن يحصل عقيبه شيء آخر ، هو عند حصوله يكون أيضا حاضرا حاصلا. وحينئذ يظهر أنه لا متوسط بينهما.

وعن [السؤال (٤)] الثالث : وهو قوله : «لم لا يجوز أن يكون الحاصل في الحال من الحركة [منقسما ، ويحصل] جزؤه دفعة (٥)؟» أن نقول : إنه لا يتعلق غرضنا بنفي (٦) هذا النوع من قبول القسمة. بل نقول : إما أن يمكن أن

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط).

(٣) الآن الحاضر أو لا معنى بالحاضر (م).

(٤) من (م).

(٥) من (ط).

(٦) يبقى هذا النوع (م).

٣٣

يحصل في ذلك الشيء الحاضر جزءان ، بحيث يكون أحدهما سابقا على الآخر بحسب الزمان ، أو لا يمكن. فإن حصل هذا النوع من القسمة ، لم يكن المجموع حاصلا. وكلامنا في الحاصل. هذا خلف. وإن امتنع حصول هذا النوع من القسمة ، كان المقصود حاصلا ، لأن القدر (١) المتحرك عليه من المسافة بذلك القدر من الحركة. إن كان منقسما ، كانت الحركة إلى نصفه سابقة بالزمان على الحركة من نصفه ، إلى آخره [فحينئذ (٢)] يفرض في ذلك القدر من الحركة جزءان ، بحيث يكون أحدهما سابقا على الآخر بالزمان. وقد فرضنا : أنه ليس كذلك. هذا خلف. وإن لم يكن ذلك القدر من المسافة قابلا للقسمة ، فذلك هو الجوهر الفرد. فثبت : أن مقصودنا في هذا الدليل يتم ببيان أن القدر الحاضر من الحركة ، لا يقبل القسمة التي يكون أحد الجزءين سابقا على الآخر.

وعن السؤال الرابع : وهو قوله : «الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز ، وليست عبارة عن الحصول في الحيز» فنقول : إنه حال كونه منتقلا من حيز إلى حيز ، فإما أن يكون حاصلا في حيز معين. وذلك يبطل قولكم : «إن كونه متحركا ، ينافي كونه حاصلا في حيز معين». وإما أن يكون حاصلا في حيز غير (٣) معين. أو يقال : إنه غير حاصل في شيء من الأحياز. والعلم بفساد كل واحد من هذين القسمين : علم ضروري فزال السؤال [والله أعلم (٤)].

الحجة الثانية في بيان [أن (٥)] الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة ، في أحياز متلاصقة : أن نقول : الجسم المكعب يحيط به سطوح ستة متناهية ، وكل واحد من تلك السطوح يحيط به خطوط أربعة متناهية ، وكل واحد من تلك

__________________

(١) للعبد (م).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) من (م).

(٥) من (ط).

٣٤

الخطوط له طرفان ، هما نقطتان. فإذا انجرّ ذلك المكعب على سطح ، فقد انجرت تلك النقطة. فنقول : إن تلك النقطة لما انجرت على ذلك السطح إلى آخره : خط ، لا محالة. إذا ثبت هذا ، فنقول : إن تلك النقطة ، لقيت جميع ذلك الخط. لأنها لو لقيت بعض أجزاء ذلك الخط ، ثم لقيت جزءا آخر ، يباين الجزء الأول من غير أن يمر بما بينهما. فحينئذ يلزم القول بالطفرة. وإنه باطل فثبت : أن تلك النقطة لقيت جميع ذلك الخط. ومعلوم أن النقطة لا تلاقي إلا النقطة. فلما ثبت أن تلك النقطة لقيت كل الخط ، وثبت : أن النقطة لا تلاقي إلا النقطة ، لزم القطع بأن ذلك الخط متألف من النقط المتشافعة المتلاصقة (١). وذلك يوجب تألف الخط من النقط التي لا تتجزأ وذلك يفيد المطلوب. ثم نقول : تلك النقط إن كانت غير متناهية ، فيمتنع قطعها في زمان متناهي. وإن كانت متناهية [العدد (٢)] فذلك هو المطلوب.

واعلم : أنك إذا أوردت هذا الكلام على هذا الوجه ، كان ذلك دليلا على إثبات الجوهر الفرد ، من غير حاجة إلى بيان الحركة ، والزمان. أما إذا قلنا : إن تلك النقطة المنجرة ، إن لقيت نقطة من المسافة. فحصول ذلك اللقاء يكون دفعة ، إذا لو حصل ذلك اللقاء على التدريج لانقسمت النقطة. وهو محال. وكما كان حصول تلك الملاقاة دفعة ، فكذلك زوالها يكون دفعة (٣). وإلا لعاد المحذور المذكور. وعند زوال الملاقاة الأولى ، تحصل الملاقاة أيضا بنقطة أخرى ، لعين (٤) الدليل المذكور ، ويمتنع أن يحصل بين هاتين النقطتين شيء يتوسطهما. لأن ذلك المتوسط ، إن كان نقطة ، فذلك لا يضرنا. لأنا بينا : أن حصول ملاقاة النقطة يكون دفعة [وعدمه أيضا يكون دفعة (٥)] وإن كان شيئا منقسما ، فذلك محال. لأن [النقطة يمتنع أن تلاقي إلا

__________________

(١) المتلاحقة (م).

(٢) من (ط).

(٣) والأربعاء المحدود (م).

(٤) لغير (م).

(٥) من (م).

٣٥

شيئا ، غير منقسم. فهذا البرهان يدل على أن حركة تلك (١)] النقطة لا معنى لها ، إلا حصولات متعاقبة في أحياز متلاصقة ، وأن كل واحد منها لا يقبل القسمة أصلا. وبالله التوفيق.

الحجة الثالثة في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : الحركة أمر ممتد من أول المسافة إلى آخرها. ولا شك أن ذلك الأمر الممتد لا وجود له في الأعيان. إنما الموجود في الأعيان جزء من أجزائها ، وقسم من أقسامها ، وهو الحاصل في الحال. وأما الماضي والمستقبل فهما معدومان. إذا ثبت هذا ، فنقول : ذلك الحاصل الحاضر. إما أن يكون له امتداد ، أو لا يكون. فإن كان الأول ، فحينئذ لا يكون هو أيضا موجودا في الأعيان ، لعين ما ذكرناه في كلية الحركة. وإذا بطل هذا ، ثبت : أن الحاضر الحاصل في الحال ، ليس فيه امتداد ، ولا قبول قسمة البتة. وعند فنائه (٢) يحصل شيء آخر ، حاله كذلك. وعلى هذا التقدير ، فالحركة تكون عبارة عن حصولات متعاقبة ، بحيث يكون كل واحد منها غير قابل للقسمة أصلا. وذلك هو المطلوب.

وقول من يقول : الحركة شيء واحد ، متصل من أول المسافة إلى آخرها ، وهو يقبل القسمة إلى غير النهاية : قول معلوم البطلان بالبديهة ، عند استحضار تصورات هذه القضية. لأن الماضي معدوم ، والمستقبل أيضا معدوم. فالقول بكون الحركة شيئا واحدا متصلا ، يوجب كون أحد العدمين متصلا بعدم آخر ، بطرف موجود. وهو الجزء الحاضر من الحركة. واتصال العدم المحض بالعدم [المحض (٣)] قول لا يقبله العقل البتة.

الحجة الرابعة في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : لو لم تكن الحركة مركبة من حصولات متعاقبة ، بحيث يكون كل واحد منها لا يقبل القسمة ، لامتنع من الفاعل إيجاد الحركة وتكوينها. والتالي باطل ، فالمقدم أيضا باطل.

__________________

(١) من (ط).

(٢) قيامه (م).

(٣) من (ط).

٣٦

بيان الشرطية : هو أن القدر الذي يفعله الفاعل من الحركة. إما أن يكون منقسما ، وإما أن لا يكون منقسما. فإن انقسم إلى نصفين ، بحيث يكون أحدهما حاصلا قبل حصول النصف الثاني ، فحينئذ لا يكون ذلك الفاعل فاعلا لكل واحد من ذينك النصفين دفعة ، بل يكون فاعلا للنصف الأول أولا. ثم يصير فاعلا للنصف الثاني منه. وعند هذا نقول : إذا كان الذي فعله الفاعل (١) منقسما ، وكل منقسم فإنه يمتنع أن يكون الفاعل فاعلا له دفعة. فحينئذ يلزم أن الذي فعله الفاعل ، فإنه ما فعله. وذلك يوجب التناقض. وهو محال.

وأيضا : فإنا (٢) نعيد التقسيم في نصف ذلك المقدار. فإن كان منقسما. فالفاعل ما فعله أيضا ، وإنما فعل نصفه. فالحاصل : أن كل ما كان منقسما. امتنع إيجاده وتكوينه في الحال. فالذي أوجده في الحال ، وجب أن لا يكون منقسما. وكذا القول في جميع الأجزاء المفترضة في الحركة. فثبت : أنه لو كانت الحركة منقسمة أبدا ، لامتنع على القادر إيجادها وتكوينها. وأما أن ذلك غير ممتنع ، فظاهر. وإلا لزم أن يقال : إن هذه الحركات (٣) بأسرها ، حصلت لا لموجد ولا لمؤثر أصلا. ومعلوم أنه باطل. فثبت : أن الحركة غير منقسمة أبدا. بل هي عبارة عن أجزاء متعاقبة متلاصقة ، كل واحد منها لا يقبل القسمة أصلا. ومتى كان الأمر كذلك ، فالقادر يوجد الجزء [بعد الجزء (٤)] والقسم بعد القسم وحينئذ يكون قادرا على تكوين الحركة وعلى إيجادها. [والله أعلم (٥)].

الحجة الخامسة في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : الحس والمشاهدة يدل على إن بعض الأحوال والصفات ، قد يحصل بعد العدم. فنقول : مذهب

__________________

(١) جعله (م).

(٢) يفيد (م).

(٣) الحركة (ط).

(٤) من (ط).

(٥) من (م).

٣٧

الفلاسفة : أن الحصول بعد العدم على قسمين : منه ما يحصل بعد العدم دفعة. ومنه ما يحصل بعد العدم يسيرا يسيرا ، وعلى التدريج. ومثاله : [أن (١)] أثر الضوء يحدث في أول الصبح ، ثم يزداد قليلا قليلا. وأثر الحلاوة يظهر في الحصرم ، ثم يزداد قليلا قليلا. والحق عندنا : إن الشيء الواحد يكون حدوثه دفعة ، ويكون عدمه دفعة. فأما أن يكون الشيء الواحد وحدة حقيقية : يكون حدوثه قليلا قليلا ، أو يكون عدمه قليلا قليلا : فهذا محال قطعا. والدليل القاطع عليه : أن ذلك الشيء إذا حدث شيء منه ، وحصل (٢) بعض من أبعاضه. ففي ذلك الوقت. إن لم يحدث منه شيء ، فهو باقي على عدمه الأصلي. فيكذب أن يقال : إنه حدث شيء منه. وأما إن قلنا : إنه حدث بتمامه. فحينئذ يكذب قولنا : إنه ما حدث بتمامه. وإن قلنا : إنه حدث منه شيء وبقي منه شيء آخر. فالذي حدث منه. إن كان عين ما لم يحدث [منه (٣)]. فحينئذ يصدق على الشيء الواحد النقيضان. وإنه محال. فلم يبق إلا أن يقال : إن الذي حدث ، فقد حدث بتمامه. وإن الذي لم يحدث بعد، فهو معدوم بتمامه. وإنهما أمران متغايران ، وقد وجد أحدهما ولم يوجد الآخر. وهذا هو الحق. وحينئذ يظهر أن القول [بأن الشيء (٤)] الواحد يحدث على التدريج ، أو يعدم على التدريج : قول فاسد [باطل (٥)] لا محصول منه عند العقل السليم البتة. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن الحركة عبارة عن حصول أمور. كل واحد منها يحدث دفعة ، ويعدم دفعة. فإن كانت الحركة في الأين ، كان ذلك عبارة عن حصولات متعاقبة في أحياز متلاصقة ، وإن كانت الحركة في الكيف (٦) كان ذلك عبارة عن صفات متنافية (٧) متضادة متعاقبة. وكل واحد منها لا يوجد إلا آنا واحدا. وكذا القول

__________________

(١) من (م).

(٢) حصل (ط).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط).

(٦) الكون (م).

(٧) متباينة (م).

٣٨

في الحركة في الكم ، وفي الحركة في الوضع.

ولنقرر هذا الكلام في الكيف ، ليظهر وجه الكلام فيه : فنقول : الجسم في أول ما يأخذ في الاسوداد. فهل حصل فيه شيء من السواد ، أو لم يحصل؟ فإن لم يحصل ، فهو [بعد (١)] باقي على العدم الأصلي. وإن حصل فيه شيء ، فهل بقي من ذلك السواد شيء ، أو لم يبق؟ فإن تم ولم يبق منه شيء ، فقد كان ذلك الحدوث والحصول واقعا دفعة. وإن بقي منه شيء ، فالذي وجد ، إن كان عين الذي بقى (٢) فالشيء الواحد يصدق عليه : أنه وجد ، وأنه بعد لم يوجد. وذلك محال. وإن كان غيره ، فحينئذ الذي وجد ، فقد وجد بتمامه ، والذي [بعد (٣)] لم يوجد ، فهو معدوم بتمامه. وذلك يدل على أن الشيء الواحد ، لا يوجد ولا يعدم ، إلا دفعة واحدة.

إذا ثبت هذا ، فحينئذ يلزم أن يقال : إن ذلك التغير (٤) والتبدل والحركة : عبارة عن صفات متعاقبة متوالية ، كل واحد منها لا يوجد إلا آنا واحدا. وذلك يوجب القول بتتالي الآنات. ومتى ثبت هذا ، وجب أن تكون الحركة في الأين : عبارة عن حصولات متعاقبة ، غير منقسمة. وذلك هو المطلوب.

واعلم : أن الشيخ «أبا نصر الفارابي» قد دار حول هذا البحث في كتاب «التعليقات» ثم أجاب عنه. فقال : «إن تلك الآنات موجودة بالقوة لا بالفعل».

وأقول (٥) : هذا الجواب غير لائق (٦) بمثله. وذلك لأنه لما ثبت أنه حصل

__________________

(١) من (م).

(٢) غير (م).

(٣) من (م).

(٤) التبدل والتغير (ط).

(٥) قال الداعي إلى الله ـ رحمه‌الله ـ هذا الجواب لا يليق بمثله (م).

(٦) لا يليق بمثله (م).

٣٩

في زمان الحركة : صفات مختلفة بالماهية على سبيل التعاقب والتلاصق. فكل واحد من تلك الآنات ، مختص بكونه ظرفا ووعاء لصفة أخرى ، مخالفة للصفة الحاصلة في الآن الثاني. وذلك يوجب القطع بتغاير الآنات على سبيل الفعل ، لا على سبيل القوة. وذلك هو المطلوب والله أعلم.

النوع الثاني من مطالب هذا الفصل في بيان أن الزمان يجب أن يكون مركبا من الآنات المتتالية ، والدفعات المتعاقبة :

فنقول : الذي يدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إنا نعلم بالضرورة : أن الآن الحاضر موجود. لأنه لو لم يكن موجودا ، لامتنع أن يصير ماضيا أو مستقبلا. ولأنا نعلم : أن الآن الحاضر نهاية للماضي ، وبداية للمستقبل. ولو لم يكن موجودا. لكان إما ماضيا أو مستقبلا ، والماضي لا يكون نهاية للماضي ، والمستقبل لا يكون نهاية للماضي ، والمستقبل لا يكون بداية للمستقبل. ولأنا نعلم حضور الشيء في الآن ، وذلك يتوقف على حصول الآن. إذا ثبت هذا ، فنقول : هذا الآن الحاضر. إما أن يفترض (١) فيه قسمان ، بحيث يكون أحدهما سابقا على الآخر ، وإما أن يمتنع ذلك.

[والأول باطل (٢)] وإلا لكان عند حصول النصف الأول ، لم يكن النصف الثاني حاصلا ، وعند [حصول النصف (٣)] الثاني يكون النصف الأول فائتا. فيلزم أن لا يكون الحاضر : حاضرا. هذا خلف. فثبت : أنه لا يقبل هذا النوع من القسمة.

ثم إن عدم هذا الآن. إما أن يكون على التدريج أو دفعة. والأول باطل لوجوه :

__________________

(١) إما أن يكون يعترض (م).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

٤٠