المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

على التفصيل. فثبت : أن مجموع الحوادث معدوم محض ، وثبت : أن المعدوم المحض لا يمكن الحكم عليه بالزيادة والنقصان. وهذا بخلاف الأبعاد. فإن مجموع أجزائها موجود ، وبخلاف العلل. فإنه ثبت أن العلة يجب أن تكون حاصلة حال وجود المعلول ، فلا جرم لو فرضنا عللا ومعلولات لا نهاية لها ، لكان الكل موجودا دفعة. فكان (١) يصح الحكم على ذلك المجموع بالزيادة والنقصان. فظهر الفرق.

وأما السؤال الرابع : وهو المعارضة بدوام وجود الله. فجوابه : إن دوام وجود الله من الأزل إلى الأبد ، ليس معناه أعدادا متوالية متعاقبة ، بل هو شيء واحد من جميع (٢) الوجوه. بخلاف الأبعاد. فإن كل جزء منها مغاير للآخر.

ولقائل أن يقول : إنا إذا أردنا تصور الدوام الذي لا أول له ، لم نعقل ذلك ، إلا إذا قلنا : معنى ذلك الدوام ، هو أنا فرضنا ساعات وأوقاتا. لم تنته تلك الساعات والأوقات ، إلى ساعات هي أولها. بل يكون قبل كل ساعة ، ساعة أخرى. لا إلى أول. وإذا كان لا يمكن تعقل الدوام إلا على هذا الوجه ، فحينئذ يعود السؤال المذكور.

وأما السؤال الخامس : وهو تضعيف الألف مرارا لا نهاية لها ، مع تضعيف الألفين مرارا لا نهاية لها. فجوابه : إن هذه الأعداد لا وجود لها في الخارج ، ولا في الذهن. وإنما الحاضر في العقل إضافة معنى اللانهاية إلى معنى التضعيف. وذلك ليس فيه إلا إضافة معنى إلى معنى ، بخلاف الأجسام والعلل ، فإنها موجودة في الخارج.

ولقائل : أن يقول : قد ذكرنا أن مراتب الأعداد وأنواعها : قائمة في أنفسها ، قبل الفرض الذهني ، والاعتبار العقلي.

وأما السؤال السادس : وهو المدة المنقضية من الأزل. فجوابه : ما تقدم

__________________

(١) فكما (م).

(٢) مجموع (م).

١٨١

من أن تلك المدة غير موجودة ، لا في الذهن ولا في الخارج ، بخلاف الأجسام ، فإن مجموعها موجود.

وهذا هو الجواب أيضا عن سؤال الصحة.

وأما السؤال الثامن : وهو المعلومات التي لا نهاية لها. فجوابه : إن العلم صفة واحدة. وإنما التعدد في المتعلقات وفي النسب والإضافات. وقد ثبت أنه لا وجود لها في الأعيان.

وهذا هو الجواب عن سؤال المعلومات والمقدورات :

ولقائل أن يقول : إنا لا نعقل من العلم. إلا الشعور والإدراك. ولا معنى للشعور والإدراك ، إلا هذه النسب الحاصلة بين العالم وبين المعلوم. فإن قلنا : إن هذه النسب غير حاصلة في الأعيان ، فحينئذ يعود السؤال المذكور.

ولمجيب أن يجيب فيقول : هذه النسب والإضافات المسماة بالعلوم ، ليس [لها (١)] ترتيب. لا في الوضع ولا في الطبع. فدخول ما لا نهاية له فيه : ممتنع بخلاف الأجسام. وقد بينا بالدليل : صحة الفرق.

وأما السؤال العاشر : وهو صحة حدوث الحوادث إلى ما لا آخر له.

فجوابه : إن الصحة المستقبلة ، لا وجود لها. لا بحسب الآحاد ، ولا بحسب المجموع بخلاف العلل والأجسام.

وهو بعينه الجواب عن سؤال مراتب الأعداد. وعن سؤال مراتب الإضافات.

فهذا ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الكلام.

وأما الحجة الثانية المبنية على انتقال الخط الموازي من الموازاة إلى المسامتة : فاعلم : أن «أبا البركات البغدادي» أورد عليها سؤالات ، غير واردة :

__________________

(١) من (ط ، س).

١٨٢

فالسؤال الأول : قال : «إن وجود خط غير متناه ، في بعد غير متناه : ممكن. لكن حركته غير ممكنة. لأن غير المتناهي ، لا يمكن أن يتحرك بكليته. ولو تحرك صار المتحرك منه بعضا من أبعاضه. وذلك متناه».

واعلم : أن هذا الرجل ظن أن هذا الدليل ، مبني على حركة الخط الذي هو غير متناه، وليس الأمر كذلك ، بل نحن فرضنا الخط الغير المتناهي واقفا ، وفرضناه خطا آخر متناهيا موازيا له ، ثم فرضنا أن هذا المتناهي الموازي تحرك من الموازاة إلى المسامتة. فوجب أن يحصل في الخط الغير المتناهي ، نقطة هي أول نقطة المسامتة. لكن كونه غير متناه مانع من ذلك. فثبت : أن هذا السؤال إنما صدر عن عدم الوقوف على كيفية هذه الحجة.

السؤال الثاني : قال : «إن حركة هذا الخط متعلقة بأسبابها وشرائطها. وأسباب الحركة ستة : [المحرك و (١)] المتحرك. وما منه. وما إليه. وما فيه. والزمان. فإذا حصلت هذه الأمور الستة ، كانت الحركة ممكنة. فأما تعليق إمكان حركة هذا [الخط (٢)] بأنه حصل في خط آخر ، نقطة هي أول نقطة المسامتة أم لا؟ فإنه غير معقول».

فاعلم : أن هذا السؤال أيضا في غاية الضعف. لأن المستدل قال : القول بوجود خط غير متناه ، يوجب الجمع بين النقيضين ، وذلك محال. فوجود خط غير متناه أيضا [يجب (٣)] أن يكون محالا. وبيان لزوم هذا المحال : أن الخط المتناهي الموازي للخط الذي لا نهاية له ، إذا انتقل من الموازاة إلى المسامتة ، فإنه لا بد وأن يحدث في الخط ، الغير المتناهي: نقطة. هي أول نقطة المسامتة. لأن هذه المسامتة لما حدثت بعد أن لم تكن موجودة. فلها أول [فحدوثها في أول (٤)] آن حدوثها ، لا بد وأن يكون مع نقطة معنية ، فهذا يقتضي حصول نقطة معنية ، في ذلك الخط الغير متناهي ، هي

__________________

(١) زيادة.

(٢) من (ط).

(٣) من (م).

(٤) من (ط).

١٨٣

أول نقط المسامتة. وأيضا : فلما كان ذلك الخط غير متناه ، فلا نقطة تفرض [فيه (١)] إلا وفوقها نقطة أخرى. وتكون المسامتة الحاصلة بين طرفي ذلك الخط المتناهي ، وبين تلك النقطة الفوقانية ، متقدمة على المسامتة الحاصلة مع النقطة التحتانية. فإذا كان لا نهاية لذلك الخط ، امتنع أن يحصل فيه نقطة. هي أول نقط المسامتة. فثبت : أن فرض ذلك الخط الغير المتناهي ، أوجب الجمع بين النقيضين. وذلك محال. فكون ذلك الخط غير متناه، وجب أن يكون محالا.

وإذا عرفت هذا الدليل ، عرفت أن السؤال الذي ذكره «أبو البركات» : ساقط ، ولا تعلق له بهذا الدليل البتة.

السؤال الثالث : قال : «هذه المحالات إنما تلزم. إذا كان الخطان الموصوفان موجودين، لكنهما ليسا موجودين بالفعل ، فالمجال المذكور غير لازم» وجوابه : إن فرض هذين الخطين موجودين ، ليس من المحالات. وكل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال. فلما بينا : أنه لزم المحال من فرض وقوعهما ، علمنا : أن ذلك المحال ، إنما لزم من فرض كون ذلك الخط غير متناه. فوجب أن يكون هذا الفرض باطلا.

فهذه هي السؤالات التي ذكرها «أبو البركات البغدادي» وقد عرفت أنها بأسرها باطلة.

واعلم : أن هذا الدليل إنما يتم إذا بينا : أن المسامتة مع النقطة الفوقانية ، لا بد وأن تحصل قبل المسامتة مع النقطة التحتانية. فنقول : الدليل عليه : أن «أقليدس» ذكر في مصادرة المقالة الأولى : «إن لنا أن نصل بين كل نقطتين بخط مستقيم. وإذا كان كذلك ، فنقول : لا نقطة يمكن فرضها في الخط الذي لا نهاية له ، إلا ويمكننا أن نصل بينها وبين مركز الكرة ، التي منها خرج ذلك الخط المتناهي بخط مستقيم».

__________________

(١) من (ط).

١٨٤

إذا عرفت هذا ، فنقول : إن ذلك الخط المتناهي ، إذا زال عن الموازاة إلى المسامتة. فإذا سامت نقطة ، انطبق ذلك الخط على الخط الواصل بين تلك النقطة ، وبين مركز الكرة(١) ويكون انطباقه على الخط الواصل بين النقطة [الفوقانية وبين مركز الكرة قبل انطباقه على الخط الواصل بين النقطة (٢)] التحتانية ، وبين (٣) مركز الكرة. ومن أراد أن يشاهد ذلك ، فليشكل هذا الشكل ، حتى يجد ما ذكرناه : محسوسا. وذلك يدل على أن المسامتة مع النقطة الفوقانية ، تكون متقدمة على المسامتة مع النقطة التحتانية.

فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة.

[ولقائل أن يقول : هذه الحجة (٤)] بأن تدل على أنه لا نهاية للأبعاد : أولى. وبيانه: إن أعظم الخطوط المستقيمة ، هو محور العالم. فلنفرض الكرة التي ذكرتموها وهي عين (٥) كرة العالم ـ خرج من مركزها خط متناه ، وقام على ذلك الخط المتناهي خط آخر ، موازي لمحور العالم. فإذا فرضنا أن ذلك الخط الموازي للمحور ، مال إلى المحور ، حتى صار مسامتا له. فقد حدثت زاوية. بسبب ميل هذا الخط عن تلك الموازاة ، إلى هذه المسامتة. ولا شك أن تلك الزاوية قابلة للقسمة. فالخط الخارج على زاوية أضيق منها ، يكون طرفه لا محالة مسامتا لنقطة فوق طرف محور العالم. وذلك يدل على حصول أبعاد ، يفترض فيها نقط في خارج العالم. وذلك ضد غرضكم ، ونقيض مطلوبكم.

فإن قلتم في هذه الصورة : إنها على هذا التقدير لا تسامت شيئا. كان ذلك مكابرة في الضروريات. لأن صريح العقل شاهد بأنه إذا خرج هذا الخط على الاستقامة. فإن طرفه يقع خارج العالم لا محالة.

فهذا منتهى الكلام في حكاية دلائل القائلين بوجوب (٦).

__________________

(١) الدائرة (م).

(٢) من (ط).

(٣) وبين المركز (م).

(٤) من (ط).

(٥) عين عين (م).

(٦) بوجوب حصوله في شيء واحد إذا كانت تلك الأبعاد متناهية.

١٨٥

وأما القائلون بأنها غير متناهية : فقد احتجوا بوجوه :

الحجة الأولى : قالوا : إنا لو فرضنا أنفسنا على طرف العالم الجسماني ، فإن صريح عقلنا يحكم بأنا في تلك الحالة نميز بين قدامنا وخلفنا ، ويميننا ويسارنا. ولا يمكننا أن نشكك أنفسنا في هذه القضية. كما أنه لا يمكننا أن نشكك أنفسنا في سائر البديهيات. فلو جاز الطعن في هذا الجزم ، لجاز أيضا في كل ما يجزم به العقل. وحينئذ تلزم السفسطة. ولا يقال : إن هذا الجزم إنما جاء من قبل الوهم والخيال ، لا من قبل العقل. لأنا نقول : علمنا بأن هذا الجزم إنما جاء من قبل الوهم والخيال ، مع علمنا بأن حكم الوهم والخيال كاذب : أما أن يكون علما ضروريا أو نظريا.

فإن كان الأول : امتنع مع حصول ذينك العلمين ، حصول الجزم والقطع في هذه القضية. وقد فرضنا حصوله. وإن كان الثاني فحينئذ تتوقف صحة البديهيات على النظريات. ولا شك أن النظريات موقوفة على البديهيات. فيلزم الدور (١) وهو محال.

ومما يقوي هذا الدليل : إنا إذا عرضنا على عقولنا : أنا عند الوقوف على طرف العالم، لا بد وأن نميز جانب القدام عن جانب الخلف ، وعرضنا أيضا على عقولنا تلك المقدمات ، التي ركبتم دلائلكم في وجوب تناهي الأبعاد عليها. فإنا وجدنا جزم العقل بتلك القضية ، أقوى وأكمل من جزمها بتلك القضايا ، التي ركبتم دلائلكم في وجوب تناهي الأبعاد عليها. والعقل يوجب ترجيح الراجح على المرجوح. فكان الرجوع إلى هذه القضية أولى من الرجوع إلى تلك الوجوه المتكلفة ، والمقدمات المتعسفة.

الحجة الثانية للقائلين بأنه لا نهاية للأجسام : هي أن الموجب لوجود هذه الأجسام موجود. ولا مانع من هذا الإيجاب البتة. فوجب الجزم بالحصول.

أما بيان المقام الأول : فهو أن كل ما لا بد في كونه تعالى مؤثرا في

__________________

(١) الدور والمحال (م).

١٨٦

الممكنات. إما أن يقال : إنه كان حاصلا أزلا وأبدا. أو ما كان حاصلا. فإن كان الأول ، فحينئذ يلزم أن المؤثر كان تاما من جميع الجهات المعتبرة في المؤثرية أزلا وأبدا. وإن كان الثاني، فحينئذ لا بد لحدوث تلك الأحوال من مؤثر. ويعود التقسيم الأول فيه. ويلزم التسلسل وهو محال.

وأما بيان المقام الثاني : فهو أنا لو فرضنا انتهاء الأجسام في طرف الزيادة إلى حد ، يمتنع حصول الأزيد منه. فذلك الامتناع إما أن يكون لنفس الجسمية ، أو لأجل شيء من عوارضها. والأقسام الثلاثة باطلة. فالقول بحصول الامتناع باطل. أما بيان أنه لا يجوز أن يكون ذلك الامتناع لنفس الجسمية ، أو لشيء من لوازمها : فهو أنه لو كان الأمر كذلك ، لامتنع حصول شيء من الأجسام. لأن الماهية ولوازمها مشترك فيها بين جميع أفراد تلك الماهية. وأما بيان [أنه (١)] يمتنع أن يكون ذلك الامتناع لشيء من عوارض المفارقة : فهو أنا نعيد التقسيم الأول في السبب المقتضي لاختصاص ذلك القدر الزائد ، بحصول ذلك المانع. فإن كان ذلك لأجل عارض آخر ، لزم التسلسل في العوارض ، وذلك محال. فثبت : أن الموجب لوجود هذه الأجسام : موجود. وثبت : أنه لا مانع عن هذا الإيجاب البتة. فوجب حصول جميع المراتب الممكنة. لأن نسبة تلك الذات الموجبة ، إلى بعض الأجسام كنسبته إلى البواقي. ولما تشابهت النسب ، وجب أن يتشابه الأثر. فلما حصل البعض ، وجب أن يحصل الباقي. فهذا الاستدلال على قول القائلين بالموجب.

وأما على قول القائلين بالمختار : فهو أن يقال : كل واحد من آحاد الأجسام : ممكن الوجود في نفسه. وحصول بعضها لا يمنع من حصول الباقي. وكل ما كان كل واحد من آحاده ممكنا ، ولم يكن وجود البعض مانعا من وجود الباقي ، وجب أن يكون وجود مجموعه ممكنا. وهذا ينتج : أنه لا يمتنع وجود أجسام لا نهاية لها دفعة واحدة. وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) من (ط).

١٨٧

الحجة الثالثة للقوم : أن قالوا : إن المتناهي ، وإن كان في غاية الكبر ، فإنه بالنسبة إلى غير المتناهي ، يكون في غاية القلة والحقارة. فلو كانت الأجسام متناهية ، لكان ملك الله وملكوته في غاية الحقارة. ولأنه يلزم أن يكون امتناع الله من الجود والرحمة ، أكثر من إيجاده ومن وجوده. وهذا هو بعينه الشبهة التي يتمسك بها القائلون بأزلية العالم. فإنهم قالوا : «لو لم يكن الباري تعالى موجدا للعالم ، لزم تعطيل الله تعالى عن الجود ، مدة غير متناهية» فالذي ذكره القدميون في الزمان ذكره هؤلاء في طرف المكان.

واعلم : أن الجواب عن الكلام الأول : إنا لا نسلم أن بديهة العقل جازمة بأنه لا بد وأن يتميز جانب عن جانب في خارج العالم ، بل العقل متوقف فيه.

وعن (١) الكلام الثاني : إنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن وجود أجسام لا نهاية لها ، ممتنع لذاته. فالجسم الموصوف بهذا القيد ، ممتنع لذاته؟.

وعن الكلام الثالث : إن الجود إنما يمكن فيما يكون ممكنا في ذاته. فإذا بينا : أن وجود أجسام بالصفة المذكورة وهي صفة كونها غير متناهية ممتنع لذاته. لم يكن ترك إيجاده ترك للجود.

فهذا تمام الكلام في هذا الباب. والله أعلم.

__________________

(١) مكررة في (ط).

١٨٨

الفصل الثاني

في

بيان أن الأجسام متماثلة

في الذات والماهية

اعلم : أن هذه المسألة أصل عظيم في تقرير الأصول الإسلامية. وذلك لأن بهذا الطريق يمكن الاستدلال على وجود الإله الفاعل والمختار. وبه أيضا : يمكن إثبات معجزات الأنبياء. وبه أيضا : يمكن إثبات الحشر والنشر والقيامة.

أما بيان الأول : فتقريره : أنه إذا ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، فحينئذ يكون اختصاص كل واحد منها بصفته المعينة ، وشكله المعين ، وحيزه المعين : أمرا جائزا والجائز (١)] لا بد له من مرجح وذلك المرجح إن كان موجبا كانت نسبته إلى الكل على السوية ، فامتنع كونه سببا للصفات المختلفة في الأجسام ، وإن كان قادرا فهو المطلوب.

وأما بيان الثاني : وهو تقرير النبوة. فهو أن الأجسام ، لما كانت متساوية في تمام الماهية ، فحينئذ وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، وحينئذ يكون الإتيان بالمعجزات وبخوارق العادات : أمرا ممكنا.

وأما بيان الثالث : فهو أن الأجسام إذا كانت متساوية في تمام الماهية ، لزم جواز التخرق والتمزق على الأفلاك. وحينئذ يكون كل ما أخبر الأنبياء من أحوال القيامة جائزا ممكنا.

__________________

(١) من (ط).

١٨٩

فثبت : أن هذا الأصل معتبر في تقرير الإلهيات والنبوات والمعاد. فيجب الاهتمام بتقريره : فنقول : الناس ذكروا فيه وجوها :

الأول : إن الأجسام متساوية في كونها شاغلة للأحياز ، وفي كونها قابلة للأعراض. وإذا حصل الاستواء في هذه المعاني ، فقد حصل الاستواء في تمام الماهية. وهذا بعيد. لأن كونها شاغلة للأحياز ، وقابلة للأعراض : لوازم لتلك الذوات وأحكام لها. والاستواء في اللوازم والأحكام لا يدل على الاستواء في تمام الماهية. لما ثبت : أن الأشياء المختلفة ، لا يبعد اشتراكها في اللوازم.

الثاني : قالوا : الجسم يمكن تقسيمه إلى الفلكي والعنصري ، وإلى اللطيف والكثيف ، وإلى الحار والبارد ، والأرضي والناري. ومورد التقسيم مشترك فيه بين جميع الأقسام. فكونه جسما مفهوم واحد مشترك بين الكل. وهو المطلوب.

وهذا أيضا ضعيف. لأنه يمكن أيضا تقسيم الصفة إلى الصفة الروحانية والصفة الجسمانية ، وإلى اللون والطعم والرائحة. وهذا يقتضي كون الصفات متساوية في كونها صفات ، وأن يقع اختلافها بسبب صفات أخرى. ويلزم التسلسل ، وهو محال.

والأقرب في هذا الباب : أن يقال : لا شك أن الأجسام متساوية في كونها متحيزة. وهذا المفهوم قدر مشترك. فالأجسام لما كانت متساوية في هذا المفهوم. لو كانت مختلفة باعتبار آخر ، لكان ما به المشاركة غير ما به المخالفة. فوجب أن يكون اعتبار الحجمية والمتحيزية ، أمرا مغايرا لتلك الاعتبارات الأخرى. وإذا كان كذلك ، فنقول : إما أن يكون كل واحد من ذينك الاعتبارين حالا في الآخر ، ومحلا له. وإما أن لا يكون حالا في الآخر ، ولا محلا له. وإما أن يكون أحدهما حالا والآخر محلا.

والأول باطل لوجهين : أحدهما : إن الحال مفتقر إلى المحل فلو كان كل واحد منهما حالا في الآخر ومحلا له ، لزم الدور. والثاني : إنا نبين أن الحجمية والتحيز ، يمتنع أن يكون حالا في محل.

١٩٠

والثاني باطل : لأن على [هذا (١)] التقدير تكون الأجسام ذوات متماثلة في أنفسها. وأما الاعتبارات التي بها حصل الاختلاف. فهي أمور مغايرة للأجسام ، ومباينة عنها بحسب الذات. وذلك لا يقدح في مطلوبنا.

وأما القسم الثالث : وهو أن يكون ذلك الاعتبار حالا في الأجسام ، وتكون الأجسام محلا لها. فهذا لا يقدح في قولنا. لأن على هذا التقدير : الأجسام متماثلة في تمام الماهية ، ومختلفة بالأعراض الحالة. وذلك لا يقدح في قولنا.

وأما القسم الرابع : وهو أن تكون الحجمية والتحيز حالا في ذلك الاعتبار ، وصفة لها. فذلك محال. لأن الحجمية والتحيز مفهومات مختصة بالحيز والمكان والجهة. فتلك الاعتبارات. إن كانت مختصة بالحيز والجهة ، كانت تلك الاعتبارات أيضا أجساما.

وأما القسم الرابع : وهو أن تكون الحجمية والتحيز حالا في ذلك الاعتبار ، وصفة لها. فذلك محال. لأن الحجمية والتحيز مفهومات مختصة بالحيز والمكان والجهة. فتلك الاعتبارات. إن كانت مختصة بالحيز والجهة. كانت تلك الاعتبارات أيضا أجساما. وذلك يقتضي حلول الجسم في الجسم. وإن لم تكن مختصة بالحيز والجهة ، كانت تلك الاعتبارات أيضا أجساما. وذلك يقتضي حلول الجسم في الجسم. وإن لم تكن مختصة بالحيز والجهة ، امتنع حلول الجسمية فيه لأن حلول ما يجب كونه مختصا بالمكان والجهة [في شيء. يمتنع كونه مختصا بالمكان والجهة (٢)] محال في بديهة العقل.

فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في هذا الباب. والله أعلم.

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

١٩١
١٩٢

الفصل الثالث

في

الاعتراض على الدليل

المذكور في أن العالم واحد

احتج أصحاب «أرسطاطاليس» على صحة هذا القول من وجوه :

الحجة الأولى : قالوا : ثبت أن شكل العالم هو الكرة ، فلو حصل عالمان ، لكانا كرتين ، والكرتان إذا حصلتا ، لزم أن يحصل فيما بينهما خلاء متقدر بمقدار معين. والقول بالخلاء قد ثبت أنه محال. فوجب أن يكون القول بإثبات العالمين محالا.

الحجة الثانية : قالوا : لو فرضنا عالمين ، لحصل في داخل كل واحد منهما أرض وهواء ، وماء ونار. ضرورة أن التركيب والمزاج لا يحصل إلا بهذه العناصر. والجسم الواحد لا يكون له إلا حيز واحد بالطبع. ومتى كان الأمر كذلك ، كان بقاء أحد هذه العناصر في أحد ذينك الحيزين : قسرا دائما. والقسر الدائم محال ، فكان القول بوجود العالمين محالا.

الحجة الثالثة : إنه ثبت أن إله العالم واحد موجب بالذات. وثبت أن الواحد لا يوجد إلا الواحد ، فوجب أن لا يكون الصادر الأول عنه ، إلا عقلا واحدا. وأن يصدر عن ذلك العقل : عقل وفلك. كما شرحنا كيفية ترتيب الوجود على مذهبهم.

فلو فرضنا عالمين متباينين ، لزم أن يحصل هناك عقول غير هذه العقول ،

١٩٣

وأفلاك غير هذه الأفلاك. وحينئذ يلزم أن يصدر عن الواحد أكثر من الواحد. وهو محال.

فهذا جملة دلائل القائلين بأن العالم يجب أن يكون واحدا.

واعلم : أن الحجة الأولى في غاية الضعف. وبيانه من وجوه :

الأول : لم قلتم : إنه يجب أن يكون شكل العالم هو الكرة؟ وذلك لأنا بينا في مسألة الجوهر الفرد : إن دلائلكم في إثبات الكرة والدائرة : ضعيفة. ودلائلكم في إثبات أن الجسم البسيط هو الكرة : ضعيفة باطلة.

السؤال الثاني : إن سلمنا صحة ذلك ، لكن ثبت في «المجسطي» أن فلك تدوير «المريخ» أعظم من كلية فلك الشمس. وإذا كان الأمر كذلك. فلم لا يجوز أن يكون الفلك الأعظم ، مع ما فيه من الأفلاك الثمانية والعناصر : تكون مركوزة في ثخن فلك آخر في غاية العظمة ، ويكون في ثخن ذلك الفلك من أمثال الفلك الأعظم الذي نعرفه ألف ألف؟ بل نقول : ولم لا يجوز أن يكون ذلك الفلك الذي ذكرناه : مركوزا في ثخن فلك آخر؟ وكذا القول في الثالث والرابع. ومن الذي يمكنه أن يذكر في إبطال هذا الاحتمال خيالا إقناعيا ، فضلا عن البرهان اليقيني؟.

السؤال الثالث : سلمنا : أنه يلزم القول بالخلاء. فلم قلتم : إن القول بالخلاء باطل؟ والكلام في الخلاء قد تقدم.

وأما الحجة الثانية : فهي أيضا في غاية الضعف. لأنا نقول : قد ثبت أن الاستواء في الصفات واللوازم ، لا يدل على الاستواء في تمام الماهية. فلم لا يجوز أن يقال : إن نار ذلك العالم ، وإن كانت مساوية لنار هذا العالم ، في الحرارة واليبوسة ، والإشراق والصعود. إلا أنهما يختلفان بحسب الماهية الأصيلة؟ والذي يقرر هذا السؤال : [أن (١)] مذهب الشيخ الرئيس : أن الصورة النارية صفة مغايرة للحرارة واليبوسة والإشراق والإحراق والصعود

__________________

(١) من (ط).

١٩٤

مقتضية للصفات. وتلك الصورة هي الطبيعة النارية. وإذا كان كذلك. فلم لا يجوز أن تكون تلك الصورة مخالفة بالماهية لهذه الصورة ، وإن كانتا مشتركتين في هذه الآثار؟ وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل.

السؤال الثاني : هب أنهما مشتركان في تمام الماهية. لكن لم لا يجوز أن يقال : الجسم محتاج إلى مطلق الحيز. فإما إلى الحيز المعين فلا؟ بدليل : أن هذا الجزء من الأرض هاهنا ، وذاك الجزء هناك. واختلاف أجزاء الأرض والماء ، في الأحياز ، لا يوجب المحال. فكذا هاهنا.

السؤال الثالث : ما الدليل على أن القسر الدائم محال؟ فإن هذه المقدمة ليست بديهية ، بل لا بد في تقريرها من الحجة والبرهان.

وأما الحجة الثالثة : ففي غاية الضعف أيضا. لأن الكلام في إبطال مذهبهم في سلسلة الوجود ، قد سبق الاستقصاء. وهذه الحجة مبنية عليها. فكانت هذه الحجة أولى بالبطلان والضعف.

فقد ظهر بهذه البيانات : أن دلائل الفلاسفة في إثبات هذه المطالب أو هى من بيت العنكبوت. وأن الحق : أن العقول البشرية ضعيفة ، والعلوم الإنسانية حقيرة. وأن الحق الصريح ما جاء في الكتاب الإلهي. حيث قال : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١) والله أعلم.

__________________

(١) الإسراء ٨٥.

١٩٥
١٩٦

المقالة الرابعة

في

الكلام في الهيولى الأولى

وفي تفاريعها

١٩٧
١٩٨

المقدمة

في ماهية الأجسام

اتفق (١) جمهور العقلاء ، على أن هذه الأجسام العظيمة المحسوسة ، لا بد لها من هيولى. إلا أنهم اختلفوا في أن تلك الهيولى ما هي؟ أما القائلون بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ. فقد اتفقوا على أن مادة حصول هذه الأجسام هي تلك الأجزاء التي لا تتجزأ. وأما القائلون بحدوث الجواهر والأجسام ، فقد اتفقوا على أنه تعالى يخلق هذه الجواهر ، ثم يؤلفها ، ثم يركبها. فيتولد من تأليفها وتركيبها هذه الأسجام العظيمة. وأما القائلون بقدم هذه الأجزاء فقد اختلفوا. منهم من قال : إنها كانت متفرقة ، واقعة في الخلاء ، من الأزل إلى الوقت الذي جمعها الله ، وخلق منها هذا العالم. ومنهم من قال : إنها كانت مجتمعة ، ثم إنه تعالى فرقها ، وميز بعضها عن البعض. وجعل بعضها فلكا ، وبعضها نارا وهواء وغيرها. ولفظ القرآن مشعر بهذا في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا : أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ، كانَتا رَتْقاً. فَفَتَقْناهُما) (٢)؟ ولفظ أول التوراة (٣) مشعر بالقول الأول. فهذا القول هو الذي اختاره كل من

__________________

(١) المقالة الرابعة في الكلام في الهيولي الأولى وفي تفاريعها. وفيه فصول. الفصل الأول. اتفق جمهور العقلاء ... إلخ (م ، ط)

(٢) الأنبياء ٣٠.

(٣) نص أول التوراة : «في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة ، وريح الله ، يرف على وجه المياه. وقال الله : ليكن نور ، فكان نور .. الخ» [تك ١ : ١ ـ ٣].

١٩٩

قال : إن السموات والأرض محدثة بسبب التركيب والشكل. قديمة بحسب الهيولى.

وأما «أرسطاطاليس» وجمهور أصحابه المتقدمين والمتأخرين المعتبرين. ك «أبي نصر الفارابي» و «أبي علي بن سينا». فقد اتفقوا على أن الحجمية والتحيز ليس ذاتا قائمة بالنفس ، بل هي صفة حالة في المحل. وذلك المحل هو هيولى. وهذا التحيز هو الصورة الحالة في ذلك المحل ، ويحصل من حلول تلك الصورة في هذه الهيولى الجسم.

والمختار عندي : أن القول بإثبات الهيولى ـ بهذا التفسير ـ باطل. فيجب علينا أن نذكر دلائل المثبتين للهيولى أولا ، ثم نعترض عليها ثانيا ، ثم نقيم. الدلائل اليقينية على القول بامتناعها ثالثا (١).

__________________

(١) ثالثا : احتج القائلون ... إلخ [الأصل].

٢٠٠