المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

وثالثها : قول من يقول : إنها في نفسها شيء واحد ، وليس فيه تأليف من الأجزاء، ولا تركيب من الأبعاض.

إذا عرفت هذا ، فنقول : أما القول بكون الجسم مركبا من أجزاء متناهية. فإنه يلزم عليه القول بتفكك حجر الرحى ، وبتفكك أجزاء الفلك. وهو بعيد جدا. وأما القول بكون الجسم مركبا من أجزاء غير متناهية. فإنه يلزم عليه أن يتحرك المتحرك على أجزاء غير متناهية بالفعل ، في مدة متناهية. وذلك أشد امتناعا من التزام تفكك حجر الرحى.

وأما القول بأن الجسم البسيط شيء واحد في نفسه ، فهذا يلزم عليه أيضا : أنواع من المحالات :

فأحدهما : ما بينا أن على هذا القول : يلزم أن يكون تقسيم الجسم إعداما له ، وأن البعوضة إذا وقعت في البحر ، وغرست إبرتها في البحر فيلزم أن يقال : إن تلك البعوضة أعدمت البحر الأول ، وخلقت هذا البحر الجديد. ومعلوم أن التزام هذا ، أشد امتناعا من التزام تفكك حجر الرحى.

وثانيها : إنا بينا : أن المقاطع التي يمكن حصولها في الخط ، يكون كل واحد منها مختصا بخاصية معينة ، وهي قبول النصفية والثلثية والربعية ، وسائر ما لا نهاية له من المفاصل. ومع اختصاص كل واحد منها بخاصية معينة ، ممتنعة الحصول في غيره فإنه لا يكون الامتياز حاصلا بالفعل وذلك أشد امتناعا من التزام وقوع التفكك في حجر الرحى.

وثالثها : إن القائلين بكون الجسم قابلا لانقسامات غير متناهية التزموا أن يؤخذ من الخردلة صفائح يغشى بها وجه العرش والكرسي والسموات والأرضين ألف ألف مرة. ومعلوم: أن هذا أشد استبعادا ، من التزام تفكك حجر الرحى.

ورابعها : وهو أنكم قلتم : إن كل واحد من تلك الانقسامات التي لا نهاية لها ممكن بالفعل» وسلمتم : أن وجود واحد منها ، لا يمنع من حصول الآخر في الوجود. فيلزمكم أن تسلموا : أن تلك الانقسامات التي لا نهاية

١٢١

لها. ممكنة بحسب الآحاد ، وبحسب الاجتماع. ثم زعمتم : أن خروجها بأسرها إلى الوجود : ممتنع. فيلزمكم : أن تجمعوا بين النقيضين في الصحة. ومعلوم أن ذلك أعظم في الاستبعاد من التزام وقوع التفكك في حجر الرحى.

وخامسها : إنكم قلتم : «الواقف على طرف العالم لا يميز بين الجانب الذي يحاذي وجهه. وبين الجانب الذي يحاذي قفاه» فإذا قيل لكم : إن هذا مما لا يقبله العقل. أجبتم عنه : بأن هذه النفرة والإنكار من عمل الوهم والخيال. ولما ساقنا الدليل الدال على تناهي الأبعاد إلى التزام ذلك ، فنحن نلتزمه ولا نبالي به. فإن مقتضى الدليل العقلي ، أولى بالقبول من مقتضى الوهم والخيال.

وسادسها : إنكم لما أوجبتم حصول السكون من الحركة الصاعدة والهابطة للحجر ، التزمتم أن تكون الخردلة الصاعدة سببا لتوقيف الجبل العظيم النازل في الجو. وقلتم : إن هذا وإن كان مستبعدا ، إلا أنه لما ساقنا الدليل [إليه (١)] وجب التزامه.

وسابعها : إنه لما كان مذهبكم : أن الجسم متصل واحد في نفسه ، وليس مركبا من الأجزاء سواء قيل : إنها متناهية أو غير متناهية. لزمكم أيضا : أن تقولوا : إن الزمان ليس مركبا من الآنات المتتالية. سواء قيل : إنها متناهية ، أو غير متناهية. بل قلتم : الزمان كمّ متصل. وهو متصل واحد ، قابل للقسمة إلى غير النهاية ، فإذا قيل لكم : الزمان عبارة عن الماضي وعن المستقبل. وهما معدومان. وأما الآن فهو طرف الزمان. وهو طرف به يتصل الماضي بالمستقبل. فإن قيل لكم : لما كان الماضي والمستقبل معدومين. فلو جعلنا الآن سببا لاتصال أحدهما بالآخر ، لزمنا أن نقول : إن أحد المعدومين متصل بالمعدوم الآخر ، بطرف موجود. وذلك باطل. لأن المعدوم نفي محض ، وعدم صرف. فكيف يعقل فيه الاتصال والانفصال؟ ومعلوم : أن التزام هذا المحال ، أبعد من تفكك الحجر.

__________________

(١) من (ط).

١٢٢

فثبت بما ذكرنا : أن مذهبكم : أنكم إذا وجدتم برهانا عقليا على صحة شيء. فإذا صار ذلك الدليل معارضا بشيء مستبعد جدا. التزمتم ذلك المستبعد ، ولا تلتفتون إليه. فكذا هاهنا لما دلت الدلائل اليقينية على إثبات الجوهر الفرد ، ثم لزم على إثبات الجوهر الفرد : وقوع التفكك في حجر الرحى ولزم [على (١)] القول بكون الجسم مركبا من أجزاء غير متناهية : محالات أقطع وأشنع من هذا الإلزام. وجب التزامه وترك الالتفات إليه.

فهذا ما عندي من البحث في هذا الدليل.

وهاهنا سؤال آخر : وهو أن بعض مثبتي الجوهر الفرد ، قال : «القول بتفكك حجر الرحى ، لازم أيضا على القائلين بنفي الجوهر الفرد. وذلك لأن حجر الرحى ، قد حصلت الدائرة الكبيرة فيه ، وحصلت الدائرة الصغيرة في داخل تلك الدائرة الكبيرة. ولا شك أن المحيط متصل بالمحاط [به (٢)] فإذا تحرك المحيط حركة سريعة ، وتحرك المحاط به حركة بطيئة ، لزم تفكك إحداهما عن الأخرى. فثبت : أن القول بالتفكك لازم».

ولمجيب أن يجيب عن هذا السؤال : فيقول : لا نسلم أنه يلزم من كون إحدى الدائرتين أسرع من الدائرة الأخرى ، وقوع التفكك بينهما. وذلك لأن إحداهما وإن تحركت قليلا إلا أن تلك الحركة القليلة يبقى سمتها مع الشيء ، الذي تحرك كثيرا. كما كان قبل ذلك. ولما بقي السمت بسبب هذا القدر من الحركة. لم يلزم وقوع التفكك. فهذا هو الكلام على هذا الدليل.

وأما الحجة الثالثة : وهي التمسك بحال انتقال الظل فنقول : هذا الإشكال إنما يلزم، لو قلنا : المؤثر في انتقاص الظل ، هو ارتفاع الشمس. فأما إذا أسندنا ذلك إلى الفاعل المختار. فالإشكال زائل.

وتمام الكلام في المعارضات سبق (٣) في دليل الرحى.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) وما سبق (م).

١٢٣

وهاهنا وجه آخر في السؤال زائد على ما تقدم وهو أنا نقول : إنا قد دللنا على أن حدوث الشيء على سبيل التدريج : غير معقول ، وكذا عدمه بل الحدوث على سبيل التدريج : عبارة عن حدوث أشياء ، على سبيل التعاقب. والعدم على سبيل التدريج : عبارة عن عدم أشياء على سبيل التعاقب. والشيء الواحد وحدة حقيقية لا يحدث إلا دفعة ، ولا يعدم إلا دفعة. ويستحيل أن يكون الذي عدم قبل ، هو عين ذلك الذي عدم بعد. بل ذلك عدم قبل : شيء. والذي عدم بعده : شيء آخر ، مغاير للأول.

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن هذا الظل لا يعدم دفعة في الحس ، وإنما يعدم على التدريج فوجب أن يكون معنى عدمه : هو أنه يعدم منه شيء فشيء. وكل واحد مما عدم في نفسه ، فهو في نفسه شيء واحد ، وإنما عدم دفعة. فإذا كان هذا العدم مستمرا ، وقد دللنا على أن هذا العدم المستمر ، معناه : عدم أشياء على التعاقب والتلاصق. فلو كان هذا الخط الحاصل من الظل منقسما إلى غير النهاية ، وجب أن يحصل عند عدمه ، عدم أمور متتالية متلاصقة إلى غير النهاية ، وكل واحد منها يقع في آن واحد : فيلزم : تتالي آنات غير متناهية بالفعل. لا سيما لما تعاقبت تلك الآنات ، وتوالت. ويمتنع أن يوجد منها اثنان دفعة واحدة. بل الحاصل هو العدم بعد العدم. وكل واحد من تلك العدمات واقع في الآن ، لزم منه القول بحصول آن بعد آن. وإذا كانت تلك العدمات غير متناهية بالفعل ، لزم أن تكون تلك الآنات غير متناهية بالفعل ، فيلزم أن يكون ما لا نهاية له من الأمور الموجودة بالفعل ، قد وجد ، مع كونها محصورة بين حاصرين. وذلك محال. فثبت بما ذكرنا : [أن القول (١)] بأن عدم ذلك الظل ، عدم واحد متصل : قول باطل. وإنه لو كان الحق أن ذلك الظل يقبل انقسامات لا نهاية لها ، توجب أن يحصل هناك عدمات متغايرة بالفعل لا نهاية لها ، وأن يحصل هناك آنات بالفعل لا نهاية لها ولما كان ذلك باطلا فاسدا ، علمنا : أن ذلك الظل لا يقبل إلا انقسامات متناهية. وهو المطلوب.

__________________

(١) من (ط ، س).

١٢٤

وهذا هو بعينه الجواب عن الفرجار الذي يحصل له شعب ثلاثة.

وأما الحجة الرابعة : وهي قولهم : «الجزء إذا انتقل من جزء إلى جزء آخر ، فإنه لا يكون متحركا حال بقائه على الجزء الأول. لأنه ما دام كذلك. فإنه بعد لم توجد الحركة ، ولا يكون متحركا حال [بقائه على الجزء الأول (١)] حصوله على الجزء الثاني. لأنه إذا صار كذلك ، فقد حصلت الحركة وانقطعت وانقرضت. بل إنما يكون متحركا فيما بين الحالتين» فنقول : هذا باطل. وذلك لأنا نعلم : أن الصورة والصفة قد يكون معدوما ، ثم يصير موجودا. فنقول : إنه ما دام يكون معدوما ، فهو بعد لم ينتقل إلى الوجود ، وإذا صار موجودا ، فقد حصل الانتقال وانقرض وانقضى ، فوجب أن يقال : إنما يكون منتقلا من العدم إلى الوجود في الحالة المتوسطة ، بين كونه معدوما وبين كونه موجودا. فيلزم على هذا : إثبات حالة متوسطة بين كونه معدوما وبين كونه موجودا. ومعلوم أن ذلك باطل. ثم إنه لا جواب عن هذا الخيال ، إلا أن يقال : إنه كان في الآن الأول معدوما محضا ، وفي الآن الثاني صار موجودا محضا. ولا واسطة بين كونه معدوما وبين كونه موجودا. وأن هذا الخيال الحاصل من كونه متنقلا من العدم إلى الوجود : عمل الوهم وتصوير الخيال ، وليس له حقيقة أصلا البتة. وإذا ثبت أنه لا بد من المصير إلى هذا الجواب ، في هذا المقام. فهو بعينه جوابنا عما ذكروه من الشبهة. فإنا نقول : الجزء كان مماسا للجزء الأول ، ثم صار مماسا للجزء الثاني. وليس بين هاتين المماستين حالة متوسطة مغايرة لهما في الحقيقة. بل هذه الحالة المتوسطة موجودة في الوهم وفي الخيال. والذي يدل على أن الأمر كذلك : أنه لو حصل بين كون [ذلك (٢)] الجزء مماسا للجزء الأول ، وبين كونه مماسا للجزء الثاني : حالة متوسطة هي الحركة. فنقول : ذلك الجزء عند حصول تلك الحالة المتوسطة. إما أن يكون حاصلا في حيز معين ، أو يكون حاصلا في حيز غير معين ، أولا يكون حاصلا في شيء من الأحياز أصلا. فإن كان الأول ، وهو حال كونه

__________________

(١) سقط (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

١٢٥

متحركا ، كان حاصلا في حيز معين ، بطل ما يقال : إن الحركة : حالة تحصل قبل حصوله في حيز معين. وأما الثاني فهو باطل. لأن الجزء المعين موجود معين. فحصوله في حيز معين(١) في نفس الأمر محال. وأما الثالث وهو أن يقال : إنه حال كونه متحركا ، فهو حجم ومقدار. فحصوله لا في شيء من الأحياز محال. فنثبت بهذا البرهان القاهر : أنه لا معنى للحركة إلا الحصول الأول في الأحياز محال. فنثبت بهذا البرهان القاهر : أنه لا معنى للحركة إلا الحصول الأول في الحيز الثاني ، وأنه إذا توالت هذه الحصولات في الأحياز المتعاقبة ، فذاك هو الحركة. وعند هذا تبطل الشبهة المذكورة بالكلية.

وأما الحجة الخامسة : وهي قولهم : «الجسم قد يكون في وقت من السنة ، ظله مثليه. وإذا كان كذلك ، فمثله من الظل ظل نصفه. فالجسم الذي تكون أجزاؤه فردا ، وجب أن يكون منقسما» فجوابه : أن نقول : إذا كان ظله مثليه [فإنما نقول : إن مثله (٢)] من الظل ظلّ نفسه ، إذا كان له نصف. أما إذا لم يكن له نصف. فإنا نقول : ظله يساويه مرتين ، ولا نقول : إن مثله من الظل : ظل نفسه. فسقطت هذه الشبهة.

__________________

(١) غير معين (ط).

(٢) من (ط ، س).

١٢٦

الفصل الخامس

في

حكاية أنواع من الدلائل لنفاة

الجزء متعلقة بذات الجسم وبكونه متحيزا

الحجة الأولى : قالوا : قد ثبت في علم المنطق : أن الماهية إذا كانت مركبة من مقومات. فإنه يمتنع العلم بتلك الماهية ، إلا بعد العلم بتلك المقومات [وذلك لأنه لا معنى لتلك الماهية إلا مجموع تلك المقومات (١)] [فوجب أن يكون العلم بتلك الماهية ، موقوفا على العلم بتلك المقومات (٢)] إذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان الجسم مؤلفا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، لوجب أن يكون العلم بكون الجسم جسما وحجما ومقدارا : موقوفا على العلم بحصول تلك الأجزاء ، لكن معلوم أنه ليس كذلك. فإن جميع الناس يعلمون كون الأرض والماء جسما. مع أنهم لا يخطر ببالهم كونها مؤلفة من الأجزاء التي لا تتجزأ. فثبت : أن هذه الأجسام يمتنع كونها مؤلفة من الأجزاء التي تتجزأ. فهذا تمام [هذا (٣)] الدليل.

الحجة الثانية : قالوا : «الجوهر الفرد. إما أن يكون له قدر من الطول والعرض ، وإما أن لا يكون كذلك ، فإن كان الأول كان منقسما لا محالة. وإن كان الثاني فعند ضم بعضها إلى البعض ، وجب أن لا يحصل (٤) الطول

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) العبارة مكررة في (م).

(٣) من (ط ، س).

(٤) يتحصل (م).

١٢٧

والمقدار. لأن عند انضمام بعضها إلى البعض [إن (١)] حدث الطول والعرض فيها ، صار عند الانضمام ، كل واحد منها طويلا عريضا ، فيعود الإلزام. وإن لم يحدث الطول والعرض (٢) عند الانضمام ، فحينئذ لم يحدث المقدار ، ولم يحدث الطول والعرض البتة. فوجب أن لا يحصل للمجموع حجم ومقدار. وذلك باطل.

والجواب عنه : إن هذا أيضا وارد عليكم. لأن عندكم : الجسم مركب من الهيولى والصورة. ثم إن الناس يتصورون كون الأرض جسما ، وكون الماء جسما مع الشك في كونها مركبة من الهيولي والصورة. فثبت : أن الذي أوردوه علينا ، وارد عليهم أيضا.

فإن قالوا : العلم بكون الجسم مركبا من الهيولى والصورة : علم بديهي ضروري ، حاصل لجميع العقلاء. والدليل عليه : أن كل من أراد أن يخبر عن ماهية الجسم ، وأن يذكره بصفته الحقيقية. قال : إنه الجوهر الذي يمكن فرض الأبعاد الثلاثة [فيه. ولا شك أن هذا الكلام إشارة إلى معقولين : أحدهما : الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة (٣)] والثاني : نفس تلك الأبعاد الثلاثة. فثبت : أن صريح العقل قضى هاهنا بوجود قابل ، وبوجود مقبول : فالقابل هو الجوهر ، والمقبول هو الأبعاد الثلاثة. ولا معنى للهيولى إلا لقابل ، ولا معنى للصورة إلا الأبعاد الثلاثة المقبولة. فثبت : أن صريح العقل حاكم بأن الجسم مركب من الهيولى والصورة.

قلنا : [هذا مدفوع. لأن تعريف الجسم بأنه الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة : كلام(٤)] ذكره بعض الفلاسفة. وأما الباقون فإنهم قالوا : ماهية الجسم ماهية متصورة بنفسها ، غنية عن التعريف ، وليس لها حقيقة إلا هذا الحجم ، وإلا هذا الامتداد. فثبت : أن على هذا القول فالكلام الذي عولوا عليه ساقط.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٣) من (ط ، س).

(٢) والعرض فيها صار عند (م).

(٤) والعرض فيها صار عند (م).

١٢٨

ثم نقول : الجواب عنه : إن كل واحدة منهما مقوم لماهية الجسم ، من حيث إنه شيء له حجم ومقدار وأما إذا اعتبرناه من حيث إنه شيء مغاير للجزء الآخر ، فهو بهذا الاعتبار ليس مقوما لماهية الجسم ، ولا يمتنع في العقل أن يكون شيء له اعتباران. وهو بأحد الاعتبارين مقوم لماهية الشيء ، وبالاعتبار الثاني لا يكون مقوما لتلك الماهية. وإذا ثبت هذا ، فنقول : إذا اعتقدنا في جسم : كونه جسما. فنحن نعرف أنه جسم من أوله إلى آخره. فأما الأجزاء الحاصلة فيه : مائة ، أو مائتا ألف. فهذا الاعتبار غير داخل في تقويم ماهية الجسم. فلا يجب من العلم بماهية الجسم : العلم بكمية هذا العدد.

والجواب عن الحجة الثانية : إن كل واحد من الأجزاء وإن لم يكن في نفسه طويلا إلا أنه إذا انضم إليه غيره ، صار طويلا. كما أن كل واحد من حبات الحنطة وإن لم يكن في نفسه منا واحدا إلا أن مجموعها يصير منّا. فكذلك هاهنا. والله أعلم.

١٢٩
١٣٠

الفصل السادس

في

الدلائل المستنبطة من

الهندسة على نفي الجوهر الفرد

اعلم : أن المسطحات. إما أن تكون دوائر ، أو مضلعات. وأول المضلعات هو المثلث ، ثم المربع. وهكذا يمر على وفق مراتب الأعداد.

فلنبدأ بذكر الدائرة والكرة : فنقول : ذكروا : أن الدليل دل على إمكان وجود الدائرة والكرة. ومتى صح القول بهما ، وجب القول ببطلان الجوهر الفرد. فنفتقر في تقرير هذا الدليل ، إلى بيان مقامين : الأول : أن القول بصحة الدائرة والكرة حق. والثاني : أنه متى كان القول بالدائرة والكرة حقا ، كان القول بالجوهر الفرد باطلا.

أما المقام الأول وهو إثبات الكرة والدائرة. فللفلاسفة فيه طريقان : تارة يقيمون الدلالة على إثبات القول بالدائرة. وإذا ثبت القول بالدائرة ، لزم منه إثبات القول بالكرة. وتارة يعكسون هذا الطريق ، فيقيمون الدلالة على إمكان وجود الكرة. وإذا ثبت القول بإمكان الكرة ، لزم منه القول بإثبات الدائرة.

أما الطريق الأول : فتقريره : أنا نقيم الدلالة على إثبات الدائرة. ثم إذا بينا بالدليل ثبوتها فحينئذ فرعنا على إثباتها ، القول بإثبات الكرة. فنقول : الذي يدل على إمكان وجود الدائرة : وجهان :

١٣١

الأول : إنا نتخيل بسيطا مستويا ، ونتخيل خطا مستقيما متناهيا في ذلك البسيط ، ونتخيل إحدى نهايتي ذلك الخط ثانية ، ونتخيل جميع ذلك الخط متحركا في ذلك البسيط ، حول تلك النهاية الثابتة ، إلى أن يعود إلى الموضع الذي منه بدأ بالحركة. فحينئذ يحدث من هذه الحركة دائرة. لأن رأس الخط إذا تحرك على الاستدارة ، إلى أن عاد إلى موضعه الأول. فلا شك أن طرفه المتحرك ، قد تحرك على مسافة ما. فتلك المسافة طول ما. والنقطة لا مساحة لها. فتلك المسافة التي تحركت عليها النقطة ليس لها عرض. فهي إذن خط محيط بذلك السطح. والنهاية الثابتة الساكنة من هذا الخط المستقيم ، هي حاصلة في وسط هذا السطح المستدير. وكل الخطوط المستقيمة الخارجة من ذلك الوسط إلى ذلك المحيط : متساوية. لأن كل خط يخرج من ذلك الوسط ، إلى ذلك المحيط. فإنه ينطبق عليه الخط الفاعل للدائرة بحركته. والأشياء المتساوية لشيء واحد : متساوية. فثبت : أن هذا الشكل دائرة.

الوجه الثاني في إثبات الدائرة : ما ذكره الشيخ «أبو علي بن سينا» في «الشفاء» و «النجاة» فقال : «نفرض جسما ثقيلا رأسه أعظم قدرا من أصله. ونفرض كونه قائما على بسيط مسطح قياما مستويا. ولا شك أن هذا الذي فرضناه : أمر ممكن الوجود. لأنه لما كان ثقل الجانب الأعلى ، متساويا من كل الجوانب. فحينئذ لا يكون بأن يميل إلى بعض الجوانب ، أولى بأن يميل إلى الباقي. لأن الثقل الموجب للنزول حاصل في جميع الجوانب على السوية. فإن حصل الميل إلى جانب واحد مع هذا الغرض ، لزم الترجيح من غير مرجح. مع أنه محال. وإذا امتنع هذا القسم ، لم يبق بعده إلا أنه يبقى واقفا في الهواء. ثم لنفرض في هذا الجسم أنه زائل عن الاستقامة ، حتى سقط. فههنا لا يخلو. إما أن يقال : إنه حال نزوله. بقيت النقطة التي في أسفل ذلك الجسم : مماسا للوضع الذي كان مماسا له حال وقوفه ، أو يقال : إنه بقيت في هذه الحالة تلك المماسة. فإن كان الأول لزم أن يقال : إن كل نقطة مفروضة في رأس ذلك الجسم ، فقد فعلت ربع دائرة. وذلك يفيد المطلوب. وإن كان الثاني ، فنقول : تلك النقطة. إما أن يقال : إنها انجرت على ذلك السطح ،

١٣٢

أو يقال : إن حال نزول الطرف الأعلى إلى [الجانب الأسفل ، فإن الطرف الأسفل : تحرك إلى الجانب الأعلى. والقسم الأول باطل (١)] لأن تلك الحركة لو حصلت. لكانت إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو إرادية. والأول باطل. لأن هذا الجسم ثقيل. والجسم الثقيل لا تكون حركته الطبيعية : الانجرار على السطح. والثاني أيضا باطل. لأن هذا القاسر ليس إلا نزول الطرف الأعلى منه إلى الأسفل. وهذا المعنى لا يوجب انجرار الطرف الأسفل على السطح. فإن هذا القسم إنما حصل من حيث أن النصف الأعلى من هذا الجسم متصل بالنصف الأسفل منه ، اتصالا قويا مانعا من الانفصال. وهذا يقتضي أن يقال : إن النصف الأعلى ، إذا أخذ في النزول ، فإنه يأخذ النصف الأسفل في الصعود. وعلى التقدير ، فإن هذا الجسم ينقسم في الوهم إلى قسمين. فالنصف (٢) الأعلى ينزل من الأعلى إلى الأسفل طبعا ، والنصف الأسفل إلى الأعلى قسرا. وبين القسمين حد معين ـ هو مركز للحركتين ـ وكل واحد من النصفين قد فعل بحركته قوسا من الدائرة. وذلك يقتضي أن يكون القول بالدائرة أمر ممكن الوجود. فثبت بهذين الوجهين : أن القول بالدائرة حق صحيح. وإذا ثبت هذا ، فنقول : وجب أن يكون القول بالكرة حقا. وذلك لأنا إذا أخذنا نصف دائرة ، وأثبتنا خط القطر بين نقطتين هما القطبان ـ وأدرنا القوس حتى تعود إلى موضعها الأول ، فحينئذ تحصل منه الكرة. ولما كان جميع ما فرضناه أمرا ممكنا ، وثبت أن اللازم على الممكن ممكن ، ثبت : أن القول بالكرة أمر ممكن. فهذا هو الطريق الأول.

وأما الطريق الثاني : فهو أنا نبين : أن الكرة ممكنة الوجود في نفسها ، ثم نبين : أن الكرة لما كانت ممكنة الوجود ، كانت الدائرة أيضا ممكنة الوجود. وتقريره : أن نقول : الدليل على وجود الكرة : أنه لا شك في وجود الجسم والجسم إما بسيط ، وإما مركب. فإن كان بسيطا ، فلا بد له من [شكل (٣)]

__________________

(١) من (م).

(٢) فإن النصف (ط ، س).

(٣) من (ط ، س).

١٣٣

بسيط تقتضيه طبيعته البسيطة. ومقتضى البسيط شيء واحد ، متشابه الأجزاء ، وما سوى الكرة من الأشكال لا يكون متشابه الأجزاء. فإن المضلعات يكون جانب منها زاوية ، وجانب آخر خطا ، وجانب آخر سطحا. وأما الكرة فإنها شكل متشابه الأجزاء (١) ، فوجب أن يكون شكل البسيط هو الكرة. وأما إن كان الجسم مركبا ، فهذا المركب إنما تركب عن البسائط. فالبسيط موجود. وحينئذ يعود الكلام الأول. فثبت بما ذكرنا : أن الكرة موجودة. وإذا ثبت القول بوجود الكرة ، لزم الاعتراف بوجود الدائرة. لأن الكرة إذا قطعت قطعا مستقيما ، فإنه لا بد وأن تحصل الدائرة من موضع القطع. فهذا تمام الكلام في إثبات الكرة والدائرة.

وأما المقام الثاني فهو في بيان أنه لما كان القول بالدائرة والكرة حقا ، كان القول بالجوهر الفرد باطلا. فتقريره من وجوه :

الأول : إنا إذا فرضنا خطا مستقيما ، مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ. فنقول : إن هذا الخط يمتنع جعله دائرة. وإذا امتنع جعل هذا الخط دائرة ، امتنع تحصيل الدائرة. أما بيان المقام الأول. فالدليل عليه : إنا إذا أدرنا ذلك الخط ، بحيث تصير بواطنها في داخل الدائرة ، متلاقية. فإما أن تكون ظواهرها من الخارج متلاقية ، وكانت ظواهرها أيضا كذلك متلاقية. وجب أن تكون مساحة باطن هذه الدائرة ، مساوية لمساحة ظاهرها. ثم إذا وضعنا على كل واحد من تلك الجواهر. جوهرا آخر من الخارج. حتى حصلت دائرة أخرى محيطة بالأولى. فنقول : بواطن هذه الدائرة المحيطة ، منطبقة على ظواهر تلك الأولى. وقد كانت ظواهر تلك الأجزاء متلاقية ، فوجب أن تكون بواطن هذه الدائرة المحيطة متلاقية. وإذا كانت بواطنها متلاقية ، وجب أن تكون ظواهرها أيضا متلاقية. وعند هذا نقول : إن ظواهر الدائرة المحيطة ، مساوية لبواطنها ، التي هي مساوية لظواهر (٢) الدائرة الداخلة ، التي هي مساوية لباطنها. فيلزم : أن يكون ظاهر الدائرة المحيطة ، مساويا لباطن الدائرة

__________________

(١) الأعلى (م).

(٢) الظاهر (م).

١٣٤

الداخلة. ثم إنا نفرض أن دائرة ثالثة أحاطت بتلك الثانية. وهكذا يحيط بكل دائرة أخرى ، حتى يبلغ ذلك الثخن إلى أن يصير مساويا لثخن العرش والكرسي ، مع أنه لا يزيد عدد أجزائهما على عدد أجزاء [الدائرة (١)] الصغيرة الأولى. ومعلوم أن ذلك باطل. وهذه المحالات إنما تلزم من قولنا : إنا لما جعلنا ذلك الخط المركب من الأجزاء التي لا تتجزأ : دائرة. فإنه كما صارت [بواطنها في داخل الدائرة متلاقية ، فكذلك صارت (٢)] ظواهرها خارج الدائرة متلاقية. ولما كان المحال إنما لزم من هذا الغرض ، علمنا أنه باطل. فبقي القسم الثاني : وهو أن يقال : بواطنها صارت متلاقية ، وأما ظواهرها فما صارت متلاقية ، بل بقيت متباعدة متباينة.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : إن هذا يبطل القول بالجوهر الفرد من وجهين :

الأول : إن تلك الأجزاء لما صارت بواطنها متلاقية متماسة ، وبقيت ظواهرها متباعدة متباينة. فمن المعلوم : أن الأشياء المتلاقية مغايرة للأشياء المتباعدة. فوجب كون تلك الأجزاء منقسمة.

والثاني : إن كل واحد من تلك الفرج. إما أن يتسع لجوهر فرد ، أو لا يتسع له. والأول يوجب القسمة. لأن تلك الأجزاء لما كانت متلاقية من بعض الجوانب ، وكانت متباعدة من جانب آخر ، وكانت تلك الفرجة بحيث يدخل فيها جوهر واحد. فحينئذ يكون هذا الجوهر أصغر من تلك الجواهر التي تلاقت بواطنها وتباعدت ظواهرها. والشيء الذي يوجد ، ما يكون أصغر (٣) منه : يكون منقسما.

وأما القسم الثاني : وهو أن كل واحد من تلك الفرج ، لا يتسع للجوهر الواحد. فحينئذ يكون كل واحد من تلك الفرج ، أصغر من الجوهر الفرد.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) أصغر عما منه كان منقسما [الأصل].

١٣٥

فيكون الجوهر الفرد منقسما. فهذا كله لبيان [أن (١)] الخط المركب من الأجزاء التي لا تتجزأ لا يمكن جعله دائرة. وإذا ثبت هذا ، وجب أن يمتنع (٢) تحصيل الدائرة مطلقا. لأن على القول بالجوهر الفرد ، لا معنى للجسم ، إلا خطوط مضمومة بعضها إلى بعض. فلما كان واحد منها مانعا من تكوين الدائرة ، لزم أن تكون الدائرة ممتنعة عقلا فظهر بما قلنا : إن الدائرة والكرة : ممكنة الوجود. وثبت : أنه يلزم من وجودهما ، بطلان القول بالجوهر الفرد. فيلزم : أن يكون القول بالجوهر الفرد : باطلا.

الوجه الثاني في بيان أنه يلزم من القول بالكرة والدائرة نفي الجوهر الفرد : هو أنا إذا وضعنا جوهرا فردا. فإن ألصقنا بيمينه أو بيساره : جزءا. حصل منه خط ممتد من اليسار إلى اليمين. وإن ألصقنا بأسفله أو بأعلاه جزءا ، حصل منه خط ممتد من الأعلى إلى الأسفل. ولا تحصل الدائرة والكرة البتة. فثبت : أن الدائرة لا تحصل إلا إذا اتصل أحد الجزءين بالآخر ، فيما بين الجانب [الأيمن (٣)] والجانب الأسفل. وكلما كانت الدائرة أوسع ، كان الميل إلى الجانب الأيمن أكثر ، وكلما كانت الدائرة أضيق ، كان إلى الجانب الأسفل أكثر. ولما كان لا نهاية لمراتب الدائرة في الضيق والسعة ، فكذلك لا نهاية لمراتب ذلك الميل. وذلك يوجب انقسام ذلك الجزء إلى أقسام لا نهاية لها.

الوجه الثالث في بيان أنه يلزم من القول بالدائرة والكرة ، حصول القسمة : وهو أنا إذا فرضنا دائرة فوضعنا [فوق (٤)] كل جزء منها جزءا آخر. فحينئذ تحصل دائرة ثانية مساوية للأولى في السعة. ويصير ذلك سببا لحدوث الأسطوانة ، لا لحدوث الكرة. فثبت : أن الكرة لا تحصل إلا إذا وضعنا على متصل كل جوهرين (٥) من الدائرة ، جوهرا من الدائرة الثانية. حتى تكون

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) يتسع (م).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) الجوهرين (م).

١٣٦

الدائرة الثانية أصغر مدارا من الدائرة الأولى ، حتى تصير سببا لحدوث الكرة. ومتى وقع الجزء الواحد على متصل الجزءين ، لزم القول بالقسمة.

الوجه الرابع من الوجوه المبنية على إثبات الكرة والدائرة : أن نقول : كل واحد من هذه الأجزاء (١) : متحيز وحجم. وكل متحيز فهو متناه. وكل متناه فإنه يحيط به حد واحد [أو حدود (٢)] والذي يحيط به حد واحد هو الكرة. والذي يحيط به حدود هو المضلعات. فكل واحد من هذه الأجزاء. إما كرة وإما مضلع. فإن كان كرة لزم القول بكونه منقسما. لأن الكرات إذا ضم بعضها إلى بعض ، حصلت الفرج فيما بينها ، ويكون كل واحد من تلك الفرج ، أصغر من تلك الأجزاء. وكلما وجد شيء أصغر منه ، كان منقسما. فوجب كون تلك الأجزاء منقسمة. وأما إن كانت مضلعة ، كان القول بقبولها للقسمة أقوى. لأن جانب الزاوية يكون لا محالة أضيق وأقل حجما ، من جانب الضلع. وما كان كذلك ، كان منقسما. فثبت أن كل واحد من تلك الأجزاء. إما أن يكون كرة وإما أن يكون مضلعا. وثبت أن على كلا التقديرين : وجب كونه قابلا للقسمة. فيلزم القطع بكون تلك الأجزاء قابلة للقسمة. وهو المطلوب.

الوجه الخامس من الوجوه المبنية على القول بالدائرة والكرة : إنا إذا أخرجنا خطا مستقيما ، وأخرجنا من طرفه قوسا من دائرة. فكلما كانت الدائرة أوسع ، كانت الزاوية الحادثة من ذلك الخط المستقيم ، ومن قوسي تلك الدائرة أوسع. وإذا كان لا نهاية لمراتب اتساع الدائرة ، وجب أن يقال : إنه لا نهاية لمراتب اتساع تلك الزاوية. ثم إنها مع انقسامها إلى الأقسام التي لا نهاية لها ، تكون أقل من القائمة الواحدة. وهذا يقتضي أن يكون قبول الزاوية القائمة لانقسامات لا نهاية لها ، يكون بطريق الأولى (٣). وأيضا : كلما كانت الزاوية الحادثة ، من قطر الدائرة [ومن القوس أوسع ، كانت الزاوية الحادثة من حدة

__________________

(١) الأحياز (م).

(٢) من (ط ، س).

(٣) الأول (م).

١٣٧

الدائرة (١)] ومن العمود القائم على طرف ذلك القطر أضيق. وإذا كان لا نهاية لمراتب اتساع الزاوية الأولى ، فكذلك لا نهاية لمراتب ضيق الدائرة الثانية.

فهذا جملة الوجوه المستنبطة من القول بالكرة والدائرة ، الدالة على أن القول بالجوهر الفرد باطل. والله أعلم.

__________________

(١) من (ط ، س).

١٣٨

الفصل السابع

في

النظر في أن الدلائل المذكورة في

اثبات الدائرة والكرة هل هي صحيحة

قوية أم ضعيفة واهية؟

اعلم : أن الكلام في هذا الفصل يقع على نوعين :

أحدهما : بيان أن دلائلهم في إثبات الدائرة والكرة ضعيفة.

والنوع الثاني : إقامة الدلالة على أن القول بالدائرة والكرة باطل.

أما النوع الأول : فنقول : لا نسلم صحة شيء من الوجوه التي ذكرتموها في إثبات الدائرة والكرة. أما الوجه الأول وهو قولكم : «إنا نسكن طرف الخط المتناهي ، ثم إنا نديره حتى يرجع إلى موضعه الأول ، وحينئذ يرتسم من رأسه دائرة». فنقول : هذا الدليل إنما يتم لو ثبت أنه يمكن بقاء أحد طرفيه ساكنا ثابتا في جميع زمان حركة ذلك الخط وأنتم ما ذكرتم دليلا على أن ذلك ممكن. وإذا لم يثبت بالدليل صحة هذه المقدمة ، بقي دليلكم باطلا.

واعلم : أن جميع مباحث الهندسة مفرعة على أصول أربعة : الدائرة. والكرة. والمخروط. والأسطوانة.

والمهندسون إنما أقاموا الدلالة على صحة هذه الأصول الأربعة بهذا الطريق : أما الدائرة فقد أثبتوها بحركة كلية الخط ، حال بقاء أحد طرفيه ساكنا. وأما الكرة فقد أثبتوها بحركة نصف الدائرة ، حال كون القطر ساكنا. ويقرب من إثبات الكرة : إثبات الشكل البيضي والشكل العدسي. وهم أثبتوا الشكل البيضي بحركة ما يكون أقل من نصف الدائرة على قطره الأطول ، مع

١٣٩

بقاء ذلك القطر ساكنا. وأثبتوا الشكل العدسي بحركة ما يكون أعظم من نصف الدائرة ، مع بقاء ذلك القطر ساكنا. وأثبتوا المخروط بالمثلث الذي يكون قائم الزاوية. ثم فرضنا سكون أحد الأضلاع المحيطة بتلك القائمة ، وحركة سائر الأضلاع ، حتى يعود إلى وضعه الأول. وأثبتوا الأسطوانة. بما إذا ارتفعت الدائرة ، وانخفضت ، حال بقاء مركزها على الخط المستقيم.

فهذه الأشياء التي هي أصول الهندسة ، وعليها تتفرع جميع مباحثهم. إنما أثبتوها بهذا الطريق. ثم إنه لم يثبت بدليل إقناعي ، فضلا عن كلام برهاني : أنه يمكن بقاء تلك النقطة ساكنة ، حال حركة ذلك الخط ، أو حال حركة ذلك المثلث. والعجب العجيب من هؤلاء المهندسين : يسمون هذا الطريق : بالهندسة المتحركة. ولو احتاجوا في إثبات فرع ضعيف خسيس من فروع الهندسة ، إلى ذكر هذه المقدمة ، لحكموا بضعيف ذلك الكلام وبخساسته. ثم إنهم أثبتوا الأصول المعتبرة في هذا العلم ، بهذا الطريق الخسيس الضعيف.

وأيضا : العجب العجيب من «أقليدس» فإنه في المقالة الخامسة اشتغل بإقامة البرهان على أن نسبة المقدارين المتساويين إلى مقدار ثابت ، يجب أن تكون متساوية. مع أن العلم بصحة هذه القضية : علم ضروري لأنه لا معنى للنسبة إلا كمية أحد المقدارين عند المقدار الثاني. فإذا فرضنا المقدارين متساويين كانت كمية أحدهما عند المقدار الثالث ، أعظم من نسبة المقدار الأصغر إلى ذلك الثالث. وذكر في تقريره : برهانا غامضا. مع أن العلم بصحة هذه القضية : علم ضروري. لأنه لما كان أحدهما أعظم من الثاني ، كانت كمية ذلك الأعظم عند ذلك الثالث [أعظم من كمية ذلك الأصغر عند ذلك الثالث (١)»] ثم بين عكس هاتين القضيتين بالبرهان ، في شكلين آخرين (٢) ثم بين أنه إذا كانت نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع ـ

__________________

(١) من (ط).

(٢) أخرى (م).

١٤٠