المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٦

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٩

الفصل السادس

في

بيان أن الجسم المتناهي المقدار

لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ،

لوجب كون ذلك الجسم المتناهي في المقدار ،

مؤلفا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل

[اعلم (١)] أن الدلائل الدالة على هذا المطلوب كثيرة :

الحجة الأولى : لو كان الجسم المتناهي في المقدار ، [قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لأمكن كون هذا الجسم المتناهي في المقدار (٢)] مؤلفا ، من أجزاء لا نهاية لها بالفعل. والثاني باطل ، فالمقدم باطل. بيان الشرطية : إنه لما كان كل واحد من تلك الانقسامات ممكنا في نفسه ، ولم يكن دخول بعضها في الوجود مانعا من دخول الباقي في الوجود ، فحينئذ يصدق أن كل واحد منها ممكن. ووجود بعضها لا ينافي وجود الباقي. وكل أشياء يكون كل واحد منها ممكنا في نفسه ، ولا يكون وجود البعض مانعا من وجود الباقي ، وجب أن يكون حصولها على سبيل الاجتماع : ممكنا. فثبت : أن الجسم المتناهي في المقدار، لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لأمكن كونه مركبا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل. وهذا التالي محال باتفاق الفلاسفة ، فوجب أن يكون المقدم باطلا.

فإن قيل : الحكماء ما أرادوا بقولهم : الجسم قابل لتقسيمات لا نهاية لها : أنه يصح دخول جميع تلك الانقسامات في الوجود. بل أرادوا : أن الجسم

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

٦١

لا ينتهي في الصغر إلى حد ، إلا وهو بعد ذلك يقبل الانقسام. وهذا لا يقتضي أن تكون كل تلك التقسيمات ممكنة الحصول.

كما أن المتكلمين. لما قالوا : إنه تعالى قادر على ما لا نهاية له من المقدورات : لم يريدوا به : أنه تعالى يقدر على خلق ما لا نهاية له من المقدورات ، بل أرادوا به : أنه تعالى لا ينتهي في تخليق الممكنات إلى حد ، إلا ويمكنه الإيجاد والتخليق بعد ذلك. بمعنى : أنه يمكنه الإيجاد بعد الإيجاد ، والتكوين بعد التكوين. مع أن كل ما يخرج منها إلى الفعل ، فهو متناه. فكذا هاهنا.

وأيضا فكل واحد من مراتب الأعداد ، ممكن الحصول. ومجموع المراتب التي لا نهاية لها ، ليست ممكنة الحصول. فلم لا يجوز أن يكون هاهنا كذلك؟

السؤال الثاني : هب أن ما ذكرتم لازم على «أرسطاطاليس» وعلى «أبي علي بن سينا» حيث قالا : «إن القسمة الانفكاكية ، ممكنة الحصول ، إلى غير النهاية» إلا أنه غير لازم على «ديمقراطيس» وشيعته. فإنهم قالوا : «هذه الأجسام المحسوسة ، ينتهي تحليل تركيبها ، إلى أجزاء أصلية ، قابلة للقسمة الوهمية ، إلى غير النهاية وليست قابلة للقسمة الانفكاكية» وبهذا التقدير فإنه يندفع المحذور المذكور.

والجواب : أن نقول : نحن ما بنينا دليلنا على كلامهم. بل نقول : لما كان كل واحد من [تلك (١)] الانقسامات التي لا نهاية لها ممكنا. ولم يكن وجود بعضها مانعا (٢) من الباقي ، وجب أن يكون مجموعها على صفة الاجتماع ممكنا. وحينئذ يلزم المحذور المذكور. فالفلاسفة سواء قالوا به ، أو لم يقولوا به ، فالإلزام وارد عليهم ، ورودا لا محيص لهم عنه. وأما كونه تعالى قادرا على

__________________

(١) من (م).

(٢) ممكنا (ط).

٦٢

خلق ما لا نهاية له ، وخروج المراتب التي لا نهاية لها من الأعداد إلى الوجود. فهذا عند الفلاسفة في الجملة غير ممتنع ، لأجل أن النفوس الناطقة الباقية ، في هذا الوقت أعداد لا نهاية لها. فثبت : أن هذا غير ممتنع في الجملة.

وأما مذهب «ديمقراطيس» فباطل أيضا. لأنا سنقيم الدلالة على أن كل ما كان قابلا للقسمة الوهمية ، وجب أن يكون قابلا للقسمة الانفكاكية. وحينئذ يسقط هذا السؤال.

الحجة الثانية في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : الماء الواحد في الحس ، لو كان في نفسه واحدا وحدة حقيقية. فإذا أوردنا التفريق عليه ، حتى صار ماءين. فإما أن يقال : إن كل واحد من هذين الماءين ، كان حاصلا قبل ذلك التفريق ، أو ما كان حاصلا. فإن كان الأول ، فهذان الماءان ، كانا موجودين قبل هذا التفريق. فذلك الماء كان قبل ذلك التفريق مؤلفا من هذين الجزءين ، فكان التقسيم عبارة عن تفريق المتجاورين ، لا عن إحداث الاثنينية. وهو المطلوب. وإن كان الثاني. وهو [أن (١)] هذين الماءين الحاصلين بعد هذا التفريق ، ما كانا حاصلين قبل هذا التفريق. فنقول : فعلى هذا القول ، وجب القطع بأنه حدث هذان الماءان بعد هذا التقسيم. وبطل ذلك الماء ، الذي كان واحدا قبل هذا التقسيم. وعلى هذا القول ، فيكون التفريق إعداما للجسم الأول ، وإحداثا للجسمين ، اللذين حصلا بعد [هذا (٢)] التقسيم. فعلى هذا القول. إذا طارت البعوضة على البحر المحيط ، وشقت برأس إبرتها جزءا من ماء البحر ، لزم أن يقال : إنها أعدمت البجر الأول ، وأوجدت بحر آخر. لأنه متى تفرق الاتصال في ذلك الموضع ، فقد فني أيضا ما كان متصلا به ، بسبب الافتراق. وهلم جرا إلى آخر البحر.

لا يقال : إن تلك الجسمية وإن عدمت إلا أن الهيولى باقية. لأنا نجيب عنه بوجهين:

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (م).

٦٣

الأول : أن نقول : الهيولى ليست تمام ماهية الجسم ، بل هي أحد أجزاء ماهية الجسم. ولا يكفي في بقاء الشيء ، بقاء جزء من أجزاء ماهيته. فثبت : أن الذي ذكرناه لازم.

والوجه الثاني في الجواب : إن ماء البحر ، حين كان واحدا. إما أن يقال : إن هيولاه كانت واحدة ، أو ما كانت واحدة. فإن كانت واحدة ، فعند انقسام الجسم. إما أن يقال : بقيت تلك الهيولى واحدة كما كانت ، أو انقسمت وتعددت. ومحال أن تبقى واحدة ، وإلا لزم أن يقال : الماء الذي بالمشرق ، والماء الذي بالمغرب : ذات واحدة ، قامت [به (١)] صفتان. ومعلوم أن ذلك باطل. ولأنه يلزم اجتماع الأمثال في المحال. لأن الأعداد من الجسمية أمور متماثلة في تمام الماهية.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : لما صار الماء الواحد ماءين : صارت تلك الهيولى الواحدة أيضا اثنتين. فنقول : فعلى هذا التقدير. كما أن إيراد التقسيم على الماء الواحد ، يوجب إعدام الماء الأول وحدوث ماءين آخرين ، فكذلك هذا التقسيم ، يوجب إعدام الهيولى الأولى وحدوث فردين آخرين من الهيولى. وحينئذ يكون التقسيم إعداما للجسم الأول ، بحسب هيولاه وبحسب صورته. فيكون التفريق إعداما له بالكلية.

هذا إذا قلنا : إن الجسم عند ما كان واحدا ، كانت هيولاه واحدة. أما إذا قلنا : إنه عند ما كان الجسم واحدا ، كانت الهيوليات متعددة ، بحسب عدد الانقسامات الممكنة فيه. فنقول : فعلى هذا التقدير تكون الجسمية القائمة بكل واحدة من تلك الهيوليات ، مغايرة للجسمية القائمة بالهيولى الأخرى ، لامتناع قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة. وعلى هذا التقدير فقد كانت الكثرة موجودة بالفعل ، قبل ورود التقسيم. فوجب كون تلك الأجزاء موجودة بالفعل. فثبت : أن الجسم لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لكانت الأجزاء التي لا نهاية لها ، حاصلة فيه بالفعل. وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) من (ط).

٦٤

الحجة الثالثة : إنا لما نظرنا إلى هذا الجسم. فإنا نعلم بالضرورة : أن أحد جانبيه مغاير للجانب الآخر. فإما أن يقال : إن هذه المغايرة إنما حصلت بسبب هاتين الإشارتين ، أو كانت حاصلة قبل هذه الإشارة. والأول باطل. لأن الامتياز في الإشارة ، مشروط بحصول الامتياز في المشار إليه. فلو جعلنا الامتياز في المشار إليه ، معللا بالامتياز في الإشارة ، وقع الدور. وهو محال.

وأيضا : أجمعنا على أن عند اختلاف الأعراض ، يجب حصول الامتياز. لكن صحة حلول الأعراض المتضادة في الجانبين ، مشروطة بامتياز أحد الجانبين عن الآخر. فلو عللنا ذلك الامتياز بحلول هذين العرضين المختلفين ، لزم الدور. وهو محال. ولما ثبت هذا ، ظهر أن ذلك الامتياز ، كان حاصلا قبل حصول الإشارة ، وقبل حلول الأعراض المختلفة. وذلك يوجب أن الجسم لما كان قابلا للقسمة ، فقد كانت تلك الأجزاء موجودة فيه بالفعل ، متميزا بعضها عن البعض ، بحسب الخصوصية والتعين. وهو المطلوب.

الحجة الرابعة : صريح العقل مساعد على أنه مهما اختص أحد الجانبين ، بخاصية مفقودة في الجانب الآخر. فإن المغايرة حاصلة بالفعل. والقوم أيضا ساعدوا عليه.

إذا ثبت هذا ، فلنفرض خطا معينا ، فنقول : لا شك أن مقطع النصف فيه معين ، ومقطع الثلث فيه معين ، وكذا مقطع الربع والخمس ، وسائر المقاطع التي لا نهاية لها. والمقطع الذي يقبل التنصيف يستحيل أن يقبل سائر الأقسام. أعني : التثليث والتربيع. فإن كل مقطع فرض قابلا لنسبة معينة. فإن زيد على ذلك المقطع : القليل أو الكثير. فإنه لا يبقى البتة قابلا لتلك النسبة. فثبت : أن كل واحد من المقاطع الممكنة ، فإنه مخصوص بقبول نسبة معينة. بمعنى أنه يجب كونها [قابلا لتلك النسبة. ويمتنع كونه قابلا لنسبة أخرى. وإذا ثبت أن كل واحد من المقاطع الممكنة مخصوص (١)] بخاصية

__________________

(١) من (ط).

٦٥

توجب قبول نسبة معينة. فلو كانت المقاطع الممكنة غير متناهية ، لزم كونها حاصلة بالفعل.

فإن قالوا : هذه الأوصاف. أعني : كونه نصفا وثلثا وربعا ، لا تحصل إلا بعد حصول الأجزاء بالفعل ، ونحن لا نساعد على حصول تلك الأجزاء فيها بالفعل.

فنقول في الجواب : لا حاجة بنا إلى إثبات ما ذكرتم. بل نقول [قبول (١)] نسبة النصف بعينها مخصوص بمقطع معين ، ويستحيل حصول تلك النسبة في مقطع غيره. وكذا القول في الثلث والربع. فإن كل واحد من تلك المقاطع مخصوصا بقبول نسبة معينة ، وكان قبول تلك النسبة ممتنع الثبوت لعينه ولذاته في سائر المقاطع. فثبت : أن كل واحد منها [مختص (٢)] بقابلية نسبة بعينها ، وهذه القابليات أحوال حاصلة في نفس الأمر. فيلزم : أن الخط المعين ، لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لكان مركبا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل. ومعلوم : أن هذا محال. والله أعلم.

الحجة الخامسة : إن وحدة الشيء ، عبارة عن ذاته المتعينة [المتشخصة (٣)] لأن الوحدة لو كانت صفة زائدة على تلك الذات المتعينة ، لكانت الوحدات متساوية في ماهية كونها وحدة. فيكون امتياز كل واحد من أجزاء هذه الماهية عن الآخر ، بوحدة أخرى. ولزم التسلسل. وهو محال. فثبت : أن وحدة كل شيء ، عبارة عن ذاته المتعينة المتشخصة. وإذا ثبت هذا ، لزم أن يقال : إن زوال تلك الوحدة يقتضي فناء تلك الذات المتعينة. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان الجسم واحدا في نفسه ، فإذا صار : اثنين ، وجب الحكم بأن تلك الذات التي كانت موجودة قد عدمت وفنيت [وحدثت (٤)] ذاتان [متفاوتان (٥)] متغايرتان للذات الأولى. ولما كان ذلك

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط).

(٣) من (م).

(٤) من (م).

(٥) من (م).

٦٦

باطلا ، علمنا : أن التفريق عبارة عن تبعيد المتجاورين. وذلك يوجب الجزم بأن الجسم لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لوجب كونه مركبا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل.

الحجة السادسة : كل جسم فإنه لا بد وأن يماس أو يحاذي بأحد طرفيه شيئا ، أو يماس أو يحاذي بطرفه الثاني شيئا آخر. وهذا الاختلاف الحاصل بسبب الملاقاة والمحاذاة ، يوجب حصول الانقسام بالفعل. ثم نقول : إن أحد قسميه يلاقي القسم الثاني بأحد وجهيه دون الثاني [فوجب (١)] أن ينقسم كل واحد من هذين القسمين. ثم الكلام في نصف النصف كما في الأول. فإن كان قبول القسمة حاصلا إلى غير النهاية وكان المقتضى لقبول الانقسام بالفعل ، حاصلا إلى غير النهاية. فحينئذ يلزم حصول الانقسامات التي لا نهاية لها بالفعل. فإن قالوا : الجسم إذا لقي بأحد طرفيه شيئا ، وبطرفه الثاني شيئا آخر ، فاختلاف الملاقين يقتضي تغاير الطرفين بالفعل ، فلا جرم قلنا : إن أحد السطحين يغاير السطح الآخر. لكن لم قلتم : إن هذا المعنى يوجب وقوع الانقسام في ذات الجسم؟ ونقول في الجواب : هذان السطحان. إن كانا جزءين من ماهية الجسم ، لزم من تغايرهما ، وقوع القسمة في ذات الجسم. وإن كانا عرضين حالين فيه ، أوجب تغايرهما حصول التغاير بين كليهما. ولا يمكن حلول كل عرض في عرض آخر ، إلى غير النهاية ، بل يجب الانتهاء إلى الذات. وذلك يوجب وقوع القسمة في الذات. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة السابعة : إن الكرة إذا استدارت ، فقد حصلت منطقتها ، موجودة بالفعل. وحصل فيها نقطتان بالفعل. هما القطبان للكرة. ثم إنه يحصل بين المنطقة وبين القطبين ، مدارات كثيرة. وكل ما كان منها أقرب إلى المنطقة ، كان أوسع مدارا ، وأسرع حركة من الذي يكون أبعد منها. ولا شك أن قول تلك الحركة المختصة بذلك القدر المعين من السرعة والبطء ، مختص بذلك المقدار المعين ، وممتنع الحصول في سائر المدارات.

__________________

(١) سقط (ط).

٦٧

إذا ثبت هذا ، فنقول : كل واحد من المدارات التي يمكن حصولها في تلك الكرة يختص بخاصية واجبة الثبوت فيه ، ممتنعة الثبوت في غيره. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن تكون تلك المدارات موجودة بالفعل. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو كانت المدارات الممكنة فيها غير متناهية ، لحصل فيها مدارات لا نهاية لها بالفعل. وذلك يفيد صحة ما ذكرنا ، من أن الجسم لو كان قابلا لتقسيمات لا نهاية لها ، لوجب أن يحصل فيه أجزاء ، لا نهاية لها بالفعل. وذلك هو المطلوب [وبالله التوفيق (١)]

__________________

(١) سقط (ط).

٦٨

الفصل السابع

في

اقامة الدلالة على أن الجسم المتناهي

في المقدار يمتنع أن يكون مؤلفا

من أجزاء لا نهاية لها بالفعل

اعلم : أن الذي يدل على أن الأمر كما ذكرناه ، وجوه :

الحجة الأولى : إنه من المحال أن ينتهي المتحرك من أول المسافة إلى آخرها ، إلا إذا وصل إلى نصفها. ومن المحال أن يصل إلى نصفها ، إلا إذا وصل إلى نصف نصفها. فلو كانت المسافة مركبة من أجزاء غير متناهية ، لوجب أن يمتنع الوصول من أولها إلى آخرها ، إلا في زمان غير متناه. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أن المسافة مركبة من أجزاء متناهية.

واعلم : أن «أبا الهذيل العلاف» لما احتج بهذا الدليل على «النظام» أجاب النظام عنه : بأن المحال إنما يلزم لو كان المتحرك : تحرك على جميع أجزاء المسافة. وليس الأمر كذلك ، بل إنه تحرك على بعضها ، وطفر على الباقي. والمراد من الطفر : انتقال المتحرك إلى الجزء البعيد عنه ، من غير أن يمر بما بينها. قال : «والقول بالطفر ، وإن كان بعيدا جدا ، إلا أن القول بإثبات الجوهر الفرد ، يلزم عليه تفكك حجر الرحى. فإذا جاز لكم التزام ذلك المستبعد ، فلم لا يجوز أيضا التزام مثل هذا المستبعد؟».

السؤال الثاني : لم لا يجوز أن يقال : هذا الجسم المتناهي في المقدار ، مركب من أجزاء لا نهاية لها. والزمان المتناهي في المقدار ، مركب أيضا من آنات متتالية لا نهاية لها. فلا جرم تحرك المتحرك على الأجزاء التي لا نهاية لها ،

٦٩

في تلك الآنات ، التي لا نهاية لها؟ فإن ادعيتم : العلم الضروري بأن الشيء الذي له ، طرفان ، يمتنع أن يحصل فيما بين ذينك الطرفين أجزاء ، لا نهاية لها بالفعل. فنقول : إن صح هذا الكلام فاذكروه في الجسم ، ولا تتعرضوا للزمان ولا للحركة البتة. وإن لم يمتنع ذلك الاحتمال في الجسم ، فكذا لا يمتنع مثله في الزمان وفي الحركة.

والجواب عن السؤال الأول من وجوه :

الأول : إن كون المتحرك منتقلا من مكان إلى مكان بعيد عنه ، من غير أن يمر بما بينهما ، مع كونه باقيا في الأحوال كلها : معلوم الفساد بالبديهة.

الثاني : إن بتقدير أن يكون الطفر ممكنا في الجملة ، لكنه غير واقع. لأنا إذا لطخنا الإصبع بالمداد ، ثم أمررناه على المسافة من أولها إلى آخرها. فإنه يحصل هناك خط مستقيم أسود. وذلك يقتضي أن المتحرك قد مس جميع أجزاء المسافة. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال: إنه حصل السواد في بعض أجزاء المسافة ، بسبب حصول المماسة ، ولم يحصل في الباقي بسبب الطفرة. ثم إن تلك الأجزاء اختلط بعضها بالبعض ، ولا يميز الحس بينها. فلا جرم يرى الكل على لون السواد؟. فنقول : إن بتقدير أن يصح القول بالطفرة ، فإن الأجزاء التي صارت ممسوسة متناهية ، والأجزاء التي وقعت الطفرة [عليها (١)] غير متناهية. فالنوع الأول من الأجزاء قليلة جدا بالنسبة إلى النوع الثاني منها. فإذا كان المتلطخ بالسواد هو النوع الأول فقط ، وجب أن تبقى تلك الأجزاء القليلة (٢) في تلك الأجزاء الكثيرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أن كل الأجزاء صارت ممسوسة عند الحركة. وحينئذ يعود الإلزام.

الوجه الثاني في الجواب عن الطفر : أن نقول : هب أن المتحرك طفر على بعض أجزاء المسافة. لكن لا شك أنه تحرك على بعضها. فذلك البعض

__________________

(١) من (ط).

(٢) فحينئذ (م).

٧٠

يجب أن يكون متناهيا. وذلك البعض جسم. فقد وجد جسم متناهي الأجزاء. وهو المطلوب.

وأما السؤال الثاني فالجواب عنه : أن نقول : إنه لو حصل في الزمان المتناهي آنات غير متناهية بالفعل ، لكان دخول الجزء الأخير منها في الوجود ، موقوفا على أن يبتدئ الشيء ، ويمضي بعده أحوال لا نهاية لها. ومن المعلوم بالضرورة : أن انقضاء غير المتناهي على هذا الوجه : محال. والموقوف على المحال : محال. فوجب أن لا يحصل الوصول إلى الجزء الأخير من المسافة. وحيث حصل ، علمنا : أن تلك الأجزاء متناهية. وهو المطلوب.

الحجة (١) الثانية للمتكلمين : أن قالوا : لو كان الجسم مركبا من الأجزاء التي لا نهاية لها ، لكانت تلك الأجزاء مجتمعة. ولا شك أن تلك الأجزاء ، كما أنها قابلة للاجتماع ، فكذلك قابلة للافتراق. وكل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال. فلنفرض زوال تلك الاجتماعات بأسرها ، وحصول تلك الافتراقات بأسرها. وعلى هذا التقدير فإنه يبقى كل واحد منها [جزءا (٢)] لا يتجزأ. وهو المطلوب.

الحجة الثالثة : قالوا : أجزاء الجبل. إما أن تكون مساوية لأجزاء الخردلة في العدد ، أو لا تكون كذلك. والأول باطل. لأن ازدياد تلك الأجزاء ، إن كان موجبا لازدياد المقدار ، وجب أن يكون عند الاستواء في العدد ، يحصل الاستواء في المقدار. فيلزم كون الجبل مساويا للخردلة في المقدار. وهو محال. وإن لم يكن ازدياد تلك الأجزاء موجبا ازدياد المقدار.

فحينئذ لا يحصل من تألفها : المقدار والعظم. فهذه المقادير والأعظام ، لا تكون مولدة من تألفها. وقد فرضنا : أن الأمر كذلك.

وأما القسم الثاني ، وهو أن يقال : عدد أجزاء الجبل ، أكثر من

__________________

(١) الوجه الثاني (م).

(٢) من (ط).

٧١

[عدد (١)] أجزاء الخردلة. فنقول : كل عدد يكون أقل من غيره ، كان متناهيا. فعدد أجزاء الخردلة متناه ، وعدد أجزاء الجبل ضعف عدد أجزاء الخردلة بمراتب متناهية. وضعف المتناهي مرات متناهية يكون متناهيا. فعدد أجزاء الجبل : متناه. وهو المطلوب.

الحجة الرابعة : كل كثرة (٢) سواء كانت متناهية ، أو غير متناهية ـ فإن الواحد فيها موجود. لأن الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات ، ويمتنع حصول مجموع الوحدات ، إلا عند حصول كل واحدة من تلك الوحدات. وإذا ثبت هذا ، فنقول : الجزء الواحد من تلك الأجزاء ، إذا انضم إلى جزء آخر ، فإن لم يكن مقدار الجزءين ، أزيد من مقدار الجزء الواحد ، لم يكن التأليف سببا لحصول المقدار. فوجب أن لا تكون المقادير والأعظام متألفة من هذه الأجزاء. وإن كان مقدار الجزءين أزيد من مقدار الجزء الواحد ، فحينئذ يكون تألف تلك الأجزاء سببا لازدياد الحجم والقدر. وكلما كانت تلك الأجزاء أكثر ، وجب أن يكون الحجم والمقدار أعظم. وإذا كان كذلك ، وجب أن تكون نسبة أحد المقدارين إلى الثاني ، كنسبة العدد الحاصل في أحد المقدارين إلى العدد الحاصل في المقدار الثاني. ولما كانت نسبة أحد المقدارين إلى الآخر : نسبة متناهي القدر ، إلى متناهي القدر وجب أن تكون نسبة أحد العددين إلى الثاني : نسبة متناهي العدد [إلى متناهي العدد (٣)] وذلك يوجب كون عدد الأجزاء الحاصلة في هذه الأجسام متناهيا. وهو المطلوب.

الحجة الخامسة : لو حصل في الجسم أجزاء غير متناهية ، لكان إذا شرع البطيء في الحركة ، ثم شرع السريع بعده ، أن لا يصل السريع إلى البطيء البتة. لأن السريع إذا ابتدأ بالحركة بعد البطيء ، وإلى أن يصل السريع إلى موضع البطيء : يكون البطيء قد تحرك عن ذلك الموضع ثم إذا وصل السريع ، إلى الموضع الثاني : يكون البطيء قد انتقل عنه إلى موضع ثالث.

__________________

(١) من (ط).

(٢) كثرة فإنها سواء (م).

(٣) من (ط).

٧٢

فلو حصل في الجسم أبعاض غير متناهية ، لزم أن لا يصل السريع إلى البطيء البتة. ولما كان هذا التالي كاذبا ، كان المقدم أيضا باطلا.

الحجة السادسة : إن الجسم المتناهي في الحجم والمقدار ، قد حصل له طرفان ، وأحاط به جانبان. فلو حصل فيما بين هذين الطرفين والجانبين أجزاء غير متناهية ، لصار غير المتناهي محصورا بين حاصرين. وذلك محال بالبديهة.

فهذه جملة الدلائل المذكورة في بيان : أنه يمتنع كون الجسم مؤلفا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل.

واعلم : أن المتكلمين كانوا يقولون : لما بطل هذا المذهب ، فقد ثبت القول بالجوهر الفرد.

وأما الفلاسفة : فقد استبعدوا هذا الكلام ، وحكموا على صاحبه بالجهل ، وقلة الفهم. وقالوا : إنه لا يلزم من إبطال تركب الجسم من أجزاء لا نهاية لها ، كونه مركبا من أجزاء متناهية. بل الحق : أن الجسم في نفسه شيء واحد ، ليس مركبا البتة من الأجزاء (١) وحينئذ لا يبقى في ذكر هذه الدلائل منفعة في إبطال قولنا ومذهبنا.

واعلم : أنا بينا بالوجوه القاطعة اليقينية : أن الجسم لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لوجب كونه مركبا من أجزاء لا نهاية لها. فإذا ذكرنا هذه الدلائل في بيان أنه يمتنع كون الجسم مؤلفا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل. فحينئذ يلزم فساد المقدم ، وهو كونه قابلا لانقسامات لا نهاية لها. وعلى هذا الطريق فإن هذه الدلائل ينتفع بها في إبطال قول الفلاسفة. والله أعلم.

__________________

(١) أجزاء (م).

٧٣
٧٤

الفصل الثامن

في

ذكر بقية الدلائل

الدالة في اثبات الجوهر الفرد

الحجة الأولى : إن الجسم لو كان قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لجاز أن ينفصل من الخردلة الواحدة ، صفائح يغشّى بها أطباق العرش والكرسي والسموات والأرضين ، لا مرة واحدة ، بل ألف مرة. ومعلوم أن ذلك في غاية البعد.

قال الشيخ الرئيس : «هذا أيضا لازم على القائلين بإثبات الجوهر الفرد. لأن مع القول بكون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، لا يبعد أن يحصل في الخردلة صفائح يغشى بها وجه السموات والأرضين. وإذا كان هذا المحذور لازما على الكل ، فقد زال الاستبعاد». والجواب عنه : إن مع القول بإثبات الجوهر الفرد ، نعلم بالضرورة : أن ذلك محال. سلمنا : أنه يبقى احتماله ، إلا أنه احتمال ، لا يعرف ، أنه هل هو ممكن ، أو ممتنع في نفسه؟ وإن كنا لا نعرف امتناعه ـ أما على القول بنفي الجوهر الفرد ، فإنا نقطع بأن هذا الذي ألزمناه ، يكون ممكن الوقوع. لا مرة واحدة ، بل مرارا لا نهاية لها. لأنه لا صفحة توجد من تلك الخردلة ، إلا وهي قابلة لانقسامات غير متناهية. وكل واحد منها ، فإنه يقبل الانقسامات التي لا نهاية لها مرة واحدة. فثبت : أن هذا المحال ، إنما يلزم على قول من يقول: إن الجسم يقبل انقسامات لا نهاية لها.

٧٥

الحجة الثانية : إن القول بقبول القسمة إلى غير النهاية ، يقتضي وجود مقدارين مختلفين في العظم. ثم إن الزائد يتناقض إلى غير النهاية ، والناقص يتزايد إلى غير النهاية. ثم لا يبلغ هذا الناقص مع تزايده أبدا إلى حد ذلك الزائد ، مع تناقصه أبدا. ومعلوم أن ذلك بعيد في العقول.

بيانه : أنه ثبت في الشكل الخامس عشر ، من المقالة (١) الثالثة من كتاب «أقليدس» أنه إذا أخرج من طرف قطر دائرة ، خط على زاوية قائمة. فإن الزاوية التي يحيط بها ذلك الخط ، مع حدبة الدائرة ، أصغر من كل زاوية حادة مستقيمة الخطين. وأن الزاوية الحاصلة من القطر ، ومن نصف الدائرة الواقعة في داخل الدائرة ، أعظم من كل زاوية حادة مستقيمة الخطين. إذا ثبت هذا ، فنقول : إنا إذا علّمنا على قطر دائرة ، دائرة أخرى أصغر منها ، مماسة لها ، على النقطة التي هي طرف العمود ، كانت الزاوية التي تحدث من العمود ، ومن حدبة الدائرة الصغرى ، أوسع من الزاوية الأولى ، وصارت الزاوية الواقعة في داخل الدائرة ، أضيق. إذا ثبت هذا ، فنقول : كلما كانت الدائرة أصغر ، كانت الزاوية الخارجة أوسع ، والداخلة أضيق. فلو كان المقدار قابلا لانقسامات لا نهاية لها ، لأمكن أن يرتسم عند طرف العمود ، دوائر لا نهاية لها ، كل واحدة أصغر من التي قبلها. وحينئذ يلزم منه أن تتزايد الزوايا الخارجة إلى غير النهاية ، وأن تتصاغر الزاوية الداخلة إلى غير النهاية. ثم إن تلك الخارجة (٢) لا تصير مثل هذه الداخلة. لأن تلك الخارجة كيف كانت. فهي أصغر من كل زاوية حادة مستقيمة الخطين. وهذه الداخلة كيف كانت. فهي أكبر من كل زاوية حادة مستقيمة الخطين. فثبت : أن المحال الذي ألزمناه : لازم.

وأيضا إن الزاوية الحاصلة من العمود ، ومن حدبة الدائرة : تقبل التزايد إلى غير النهاية. والزواية الحادة الحاصلة من الخطين المستقيمين تقبل القسمة إلى

__________________

(١) المقالة السادسة (م).

(٢) الخارجة البتة (م).

٧٦

غير النهاية. فهذه الحادة المستقيمة الخطين تقبل التناقص إلى غير النهاية. وتلك الزاوية الحادة الحادثة من العمود ، ومن حدبة الدائرة ، تتزايد إلى غير النهاية. مع أنها مع جميع مراتب الزيادة ، تكون أقل من الزاوية الحادة المستقيمة الخطين ، من جميع مراتب التناقص. وذلك بعيد ، لا يقبله العقل.

ثم نقول : إنا نزيده تأكيدا. فنقول : المقدار الذي يحيط به القطر مع نصف الدائرة ، قابل لقسي مختلفة غير متناهية. والقوم ساعدوا على أن الدوائر (١) المختلفة بالصغر والكبر ، مختلفة بالنوعية والماهية. ومعلوم أن كل مدار يقبل قوسا مخصوصا ، فإنه هذه القسي ، التي لا نهاية لها. وثبت : أن لكل واحد منها موضعا معينا ، يمتنع حصوله في غيره (٢) ، ويجب حصوله فيه. فحينئذ قد ثبت : أن كل واحد من تلك المدارات مختص بخاصية معينة واجبة الثبوت فيه ، وممتنعة الثبوت في غيره. فحينئذ يلزم حصول التغاير بالفعل بين تلك المدارات. فلو كانت تلك المدارات غير متناهية بالقوة ، لوجب كونها حاصلة بالفعل. وهذا محال [فذاك محال (٣)] وعلى هذا التقدير فهذا الكلام يصير برهانا قاطعا.

الحجة الثالثة : إن «أقليدس» ذكر في مصادرة المقالة الأولى : «إن كل خطين مستقيمين ، وقع عليهما خط آخر ، فتصير الزاويتين اللتين من جهة واحدة ، أقل من قائمتين. فإنهما يلتقيان في تلك الجهة» فهذا حكم ذكره «أقليدس» واتفق المهندسون على صحته. ونحن نقول : لو كانت المقادير قابلة للقسمة إلى غير النهاية ، لما كان [هذا (٤)] الحكم حقا. لأن هذين الخطين كلما ازدادا امتدادا : ازدادا قربا. لكن تزايد القرب لا يوجب وصول أحدهما إلى الآخر ، مع القول (٥) بكون المقدار قابلا للقسمة إلى غير النهاية. فإن مع القول

__________________

(١) الدائرة (م).

(٢) يمتنع حصوله في غيره ، ويجب حصوله في غيره ، ويجب حصوله فيه ، فحينئذ (م).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) الذهول (ط).

٧٧

بهذا المذهب ، لا يمتنع وجود مقدارين يتقاربان أبدا ولا يلتقيان.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه. وجوه :

الأول : إن «أبلونيوس» بين في كتاب «المخروطات» وجود خطين يتقاربان أبدا ولا يلتقيان. وذلك يدل على أن التزايد في القرب إلى غير النهاية ، لا يوجب حصول الالتقاء.

الثاني : إن علم الهندسة مبني على نفي الجوهر الفرد. إذا ثبت هذا ، فلنفرض سطحا مربعا. بين أحد الضلعين والآخر بعد معين. فإذا نصفنا ذلك السطح ، صار هذا الخط الذي أوجب التنصيف ، أقرب إلى أحد الطرفين. فإذا نصفنا ذلك النصف ، صار هذا الخط الثاني ، أقرب. ثم لما كان ذلك السطح يقبل التنصيف إلى غير النهاية ، فحينئذ يكون الخط القاسم ، لا يزال يقرب من ذلك الطرف إلى غير النهاية. والبتة لا يصل إليه. إذ لو وصل إليه ، لكان احتمال قبول ذلك السطح للقسمة متناهيا. وقد فرضناه غير متناه. فثبت : وجود خطين يتقاربان أبدا ولا يلتقيان.

الثالث : إنه ثبت في المقالة الأولى : أن المتممين يجب كونهما متساويين. إذا عرفت هذا ، فنقول : هذان المتممان ، إنما يحدثان بسبب حصول خطين : أحدهما يوازي طول السطح ، والثاني يوازي عرضه. ثم كلما كان الخط الموازي للعرض أبعد ، عن الخط العرضي ، صار الخط الموازي للطول ، أقرب إلى الخط الطولي. ولما كان لا نهاية لمراتب بعد الخط الموازي للعرض ، وجب أن يكون (١) لا نهاية لمراتب قرب الخط الموازي للطول. والبتة لا يصل إليه. وإلا لصار ذلك الخط الطولي مساويا لذلك السطح. وهو محال. فثبت : أن الخط الموازي للطول يقرب من الطول أبدا. والبتة لا يصل إليه. ولا يلقاه.

الرابع : إن كل سطح مضلع ، فإنه إذا أخرج ضلعه إلى الخارج ، حدثت زاوية في الخارج. وكلما كانت الأضلاع أكثر ، كانت الزاوية الداخلة

__________________

(١) أن لا يكون (م).

٧٨

أوسع ، فصارت الزاوية الحادثة في الخارج أضيق ، فكان قرب ذلك الضلع من الخط الحادث في الخارج أزيد. ولما كان لا نهاية لمراتب المضلعات ، فكذلك لا نهاية لمراتب ذلك القرب. مع أنه يستحيل أن يصل إليه. إذ لو وصل إليه ، لا تصل أحد الضلعين بالضلع الآخر. على الاستقامة. وحينئذ يصير الخط كله مستقيما ، ويصير المضلع غير مضلع.

الخامس : إن الزوايا الحادثة عند مركز الدائرة ، لا تزيد على أربع قوائم البتة. ثم إنه ثبت أن كل مضلع يوجد ، فإن عدد المثلثات الواقعة فيه ، أقل من عدد أضلاعه باثنين. فالمعشّر يحصل فيه ثمانية مثلثات. فإذا أخرجنا من المركز خطين ، إلى طرف الضلع الواحد من أضلاع المعشّر ، حدث منه مثلث واحد ، رأسه عند المركز ، وقاعدته ضلع ذلك المعشر. إذا ثبت هذا فنقول : كلما كانت الأضلاع أكثر ، كانت المثلثات أكثر. وإذا كانت لا نهاية لإمكان تزايد الأضلاع ، فكذلك لا نهاية لحدوث المثلثات. وكلما كانت تلك المثلثات أكثر ، كانت الزوايا أضيق ، فكان أقرب أحد ذينك الضلعين من الآخر أكثر. فهذان الضلعان يتقاربان أبدا ، ولا يلتقيان.

السادس : إنا إذا أخذنا واحدا واثنين وثلاثة ، وأردنا جعلهم مثلثا واحدا ، فقد تعذر. لأنه يلزم أن يكون مجموع ضلعين ، مساويا للضلع الثالث. وهو محال. وأما إن أخذنا الاثنين والثلاثة والأربعة ، حصل منهم : مثلث منفرج الزاوية. لأن مربع الاثنين والثلاثة : ثلاثة عشر. ومربع الأربعة : ستة عشر. وأما إن أخذنا الثلاثة والأربعة والخمسة ، حصل منهم : مثلث قائم الزاوية. لأن مربع الخمسة يساوي مجموع مربع الثلاثة ، ومربع الأربعة. وأما إن أخذنا الأربعة والخمسة والستة حصل منهم : مثلثا حاد الزوايا. لأن مربع وتر الزاوية العظمى ، أقل من مجموع مربعي الضلعين المحيطين بها. فقد ثبت : أن أول المثلثات حدوثا : هو المثلث المنفرج الزاوية ، ثم القائم الزاوية ، ثم الحاد الزاوية. ثم إن مراتب هذه الزاوية الحادة في التضايق غير متناهية. فالضلعان المحيطان بها ، كأنهما يتقاربان أبدا. ومن المحال التقاؤهما. فقد ثبت وجود خطين يتقاربان أبدا ، ولا يلتقيان.

٧٩

السابع : إنا بينا في الدليل المتقدم : وجود زاويتين. إحداهما أكبر من الأخرى. ثم إن الكبيرة تتناقص إلى غير النهاية ، والصغيرة تتزايد إلى غير النهاية ، مع أن إحداهما لا تصل البتة إلى الأخرى. فهاتان الزاويتان تتقاربان أبدا ، ولا تصل إحداهما إلى الأخرى.

الثامن : الخط إما أن يكون مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، أو لا يكون كذلك. وعلى التقديرين فالأمر الذي ذكرناه ، لازم [أما (١)] على القول بإثبات الجزء الذي لا تتجزأ ، فهو أن أحد الجزءين لو اتصل بيمين الجزء الآخر ، لحصل الخط المستقيم في العرض ، ولا تحصل الدائرة. ولو اتصل بأسفله أو بأعلاه ، لحصل الخط المستقيم في الطول ، ولا تحصل الدائرة. [فثبت : أن الدائرة (٢)] لا تحصل ، إلا إذا اتصل أحد الجزءين بالثاني ، فيما بين اليمين والأسفل ، بحيث يكون متوسطا بين هاتين الحالتين. ثم كلما كانت الدائرة أوسع ، كان تسفل الجزء عن سمت اليمين أقل ، وكلما كانت الدائرة أضيق ، كان هذا المعنى أكثر. ولما كان لا نهاية لمراتب صغر الدائرة ، ولمراتب كبرها ، فكذلك لا نهاية لهذه المراتب. مع القطع بأن شيئا من هذه المراتب [ليس (٣)] إلى اليمين الخالص ، ولا إلى الأسفل الخالص. وإلا لصار الخط مستقيما [وبطلت الدائرة (٤)] فثبت : أن التقارب حاصل إلى الجانب الأيمن ، بسبب اتساع الدائرة. مع أن الوصول إليه محال. وأما على القول بنفي الجوهر الفرد ، فالتقرير الذي ذكرناه أظهر وأوضح.

التاسع : إن المخروط قد يكون قائم الزاوية ، وقد يكون منفرج الزاوية ، وقد يكون حاد الزاوية. وذلك لأن المخروط إنما يحدث إذ أثبتنا ضلعا من أضلاع المثلث القائم الزاوية ، وأردنا الضلعين الباقيين. فإن كان الضلعان

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) مكتوبة ومشطوبة عليها في (م).

٨٠