رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

ولا تطلبي شيئا يكون طلابه

وقد ضل عنه رائدوه عناء

فإنك إن ناديت غب تلهف

شبابا وقد ولى أضعت نداء

قد تضمنت هذه الأبيات من الاعتذار بحلول الشيب والتسلية عنه والتنزيه لمن حل به من تبعته وتمثيله بكل ما لا حيلة في حؤوله عن صبغته وتغيره عن صفته ما لا يكاد يجتمع في مكان واحد.

فأما الطلاوة والحلاوة فمحكم فيها العدو والحاسد فضلا عن المنصف والناقد ، ولا حاجة بها إلى تفسير لمعانيها وإيضاح لفوائدها ، فليس يفسر إلا بما عبارتها عنه أوضح وأصح.

ولك أيها الناقد الخبير في البيت الذي عجزه " أتاك يقينا أو أزال مراء " والبيت الذي يليه مسرح طويل في الاستحسان إن كنت منصفا فبلسانك وإن كنت ظالما غامطا فبقلبك.

ومعنى " أبيت على هذا المشيب إباء " أي كنت آبي عليه إلا بالذي يمنع جانبي منه ويؤمنني ريبه وشره ، ويجري ذلك مجرى قوله تعالى " فإنه يتوب إلى الله متابا " (١) أي عظيما مقبولا.

ومعنى " كمستبدل بعد الرداء رداء " أي إنه لم يغير مني جلدا ولا أوهن قوة ولا أكسبني ضعفا وعجزا ، فجرى مجرى من تبدل رداء بغيره في أن أحواله في نفسه ما تبدلت ولا تغيرت.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

__________________

(١) سورة الفرقان : ٧١.

٢٤١

عجبت لشيب في عذاري طالعا

عليك وما شيب امرئ بعجيب

ورابك سود حلن بيضا وربما

يكون حؤول الأمر غير مريب

وما ضرني والعهد غير مبدل

تبدل شرخي ظالما بمشيبي

وما كنت أخشى أن تكون جناية

المشيب برأسي في حساب ذنوبي

ولا عيب لي إلا المشيب وحبذا

إذا لم يكن شيئا سواه عيوبي

معنى " ولا عيب لي إلا المشيب " ليس بمعنى أن المشيب عيب ، لكن المراد لا عيب لي عند من عابني بالمشيب إلا هو ، ثم صرحت بأنني راض بأن لا يكون لي عيب سواه ، لأنه في نفسه أولا ليس بعيب ، فكأنني قلت إنني راض بأنه لا عيب لي. وأيضا فإذا كان لا عيب لي عند من أعنتني وعابني ما ليس بعيب سوى المشيب ، فقد رضيت بذلك ، وأن يكون غاية ما يعتني به المعنتون إنما هو الشيب من غير ثان له ولا مضموم إليه.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة محيطة بأوصاف المشيب المختلفة وقلما تجتمع هذه الأوصاف في موضع واحد :

هل الشيب إلا غصة في الحيازم

وداء لربات الخدور النواعم

يحدن إذا أبصرنه عن سبيله

صدود النشاوى عن خبيث المطاعم

تعممته بعد الشبيبة ساخطا

فكان بياض الشيب شر عمائمي

وقنعت منه بالمخوف كأنني

تقنعت من طاقاته بالأراقم

وهيبني منه كما هاب عائج

على الغاب هبات الليوث الضراغم

وهددني في كل يوم وليلة

سنا ومضه بالقارعات الحواطم

كفاني عذالي على طربة الصبي

وقام بلوم عفته من لوائمي

٢٤٢

وقلص عني باع كل لذاذة

وقصر دوني خطو كل مخالم

فوالله ما أدري أصكت مفارقي

بفهر مشيب أم بفهر مراجم

ولما سقانيه الزمان شربته

كما أوجر المأسور مر العلاقم

حنتني منه الحانيات كأنني

إذا ظلت يوما قائما غير قائم

وأصبحت تستبطا منوني ويدعى

وما صدقوها في اختلال العزائم

فلا أنا مدعو ليوم تفاكه

ولا أنا مرجو ليوم تخاصم

فلا تطلبا مني لقاء محارب

فما أنا إلا في ثياب مسالم

ولا يدفعني عنكما غشم غاشم

فأني في أيدي المشيب الغواشم

فلو كنت آسو منكما الكلم ما رأت

عيونكما عندي كلوم الكوالم

وإني أميم بالشيب فخليا

ولا تبغيا عندي علاج الأمائم

مشيب كخرق الصبح عال بياضه

مجروء الليالي الحالكات العواتم

وتطلع في ليل الشباب نجومه

طلوع الدراري من خلال الغمائم

كأني منه كلما رمت نهضة

إلى اللهو مقبوض الخطى بالأداهم

تساندني الأيدي وقد كنت برهة

غنيا بنفسي عن دعام الدعائم

وقد كنت إباء على كل جاذب

فلما علاني الشيب لانت شكائمي

واخشع في الخطب الحقير ضراعة

وقد كنت دفاعا صدور العظائم

وكانت تغير الأغبياء نضارتي

فأصبحت ندمان الغيور المعارم

ولما عراني ظلمه فحملته

أنست على عمد بحمل المظالم

فلا ينغضن رأس إلى العز بعد ما

تجلله منه مذل الجماجم

فيا صبغة حملتها غير راغب

ويا صبغة بدلتها غير سائم

ويا زائري من غير أن أستزيره

كما زير حيزوم الفتى باللهاذم

أقم لا ترم عني وإن لم تكن هوى

فكم ذا سخطنا فقد غير ملائ

٢٤٣

فمن مبدلي من صبحه بظلامه

ومن عائضي من بيضه بالسواهم

ومن حامل عني الغداة غرامه

وقد كنت نهاضا بثقل المغارم

فيا بيض بيض الرأس هل لي عودة

إلى السود من أغياركن الفواحم

تنازحن بالبيض الطوالع شردا

كما شرد الأصباح أحلام نائم

ويا فجر رأسي هل إلى ليل لمتي

سبيل وكرات المواضي القدائم

ليالي أفدي بالنفوس وارتدي

من البيض إسعافا ببيض المعاصم

فإن كان فقداني الشبيبة لازما

فحزني عليها الدهر ضربة لازم

وإن لم يكن نوحي بشاف وادمعي

فدمع الحيا كاف ونوح الحمائم

الحيازم جمع حيزوم وهو الصدر ، وإنما خصصت النشاوى لأن النشوان نافر النفس شديد العزوف عن كل شئ ، وإذا كان عن خبيث المطاعم فهو أنفر وأشد صدودا.

وشبهت طاقات الشيب بالأراقم ، لا في اللون لكن في الخوف منها والرهبة ، لها والحذار من بطشها.

والحواطم : الكواسر ، جمع حاطمة ، وأنما سمي حطيم مكة بذلك لانحطام الناس عليه، والمخالم المحبوب المخلص. وخلم الرجل مخلصه ، ومنه قول أبي نواس :

* فإن كنت لا خلما ولا أنت زوجه *

وإنما كان الشيب ثياب مسالم لأنه يؤذن بالضعف والنكول والخور ، ومن كان كذلك طلب الموادعة والمسالمة.

والأميم الشجيج في أم رأسه ، ومثله المأموم ، والأمة الشجة التي تبلغ أم الرأس. والأدهم : القيود.

٢٤٤

ومعنى البيت الذي أوله " وكانت تغير الأغبياء نضارتي " أي إنني كنت لحسن شبابي أغير الغبي الذي لا فطنة عنده ولا تيقظ منه ، فلما شبت وأخلق رونقي وغاضت نضارتي صار ينادمني الغيور ، لأمنه مني وثقته بأنه لا طماح من النساء إلي ولا تعريج منهن علي. ولم أرض بالغيور حتى قلت " المعارم " من العرام ، والعرامة التي هي النزق وسرعة البطش.

والمراد بالبيت الذي أوله " فيا صبغة حملتها غير راغب " أنني حملت صبغة الشيب غير راغب فيها ولا طالب لها وسلبت صبغة الشباب وبدلت منها من غير ملل مني لها. وهذه غاية في التألم والشكوى ، وأي شئ أثقل من إنزال ما لا يطلب ولا فيه مرغب وسلب ما هو موافق غير مملول ولا مكروه.

ومعنى البيت الذي أوله " أقم لا ترم عني وإن لم تكن هوى " وإن كنت غير موافق ولا محبوب مكروه الفراق مرغوب في مطاولتك ومصاحبتك ، وهذا على ظاهر الأمر كأنه عجيب ، والسبب فيه أن الشيب وإن كان مكروه الحلول مشكو النزول فإن فراقه لا يكون إلا بالموت والفناء ، فمطاولته على هذا محبوبة مأمولة وفراقه مكروه مذموم. ولا مناقضة في ذلك ، لأن المكروه غير المحبوب والممدوح غير المذموم ، وأما المكروه والمذموم فهو تجدد الشيب وحدوثه وطرده الشباب وتبعيده وأما المحبوب الممدوح فهو مطاولة الشيب واستمرار مصاحبته ودوام أيامه ، فهو وإن لم يكن نزوله هوى فمقامه ودوامه هوى.

فإن قيل : ما في حدوث الشيب وتجدده من الضرر إلا ما في استمراره ومطاولته ، بل المطاولة أشد ضررا ، لأن المذموم من الشيب أنه يضعف القوة ويوهي المنة ويؤذن بتصرم العمر وهذا يتأكد باستمراره ومطاولته ، وإن النساء ينفرن منه ويصددن عنه وهذا هو في حدوثه وبقائه معا.

قلنا : لا شك في أن ضرر ابتداء الشيب هو قائم في استمراره ودوامه ، إلا أنا

٢٤٥

نؤثر على ما فيه من ضرره مقامه ونهوى دوامه ونكره فراقه لما في فراقه من الضرر الأعظم وقطع كل المنافع. وقد نختار بعض الأمور المضرة المؤلمة دفعا لما هو أضر منها ، كمن يمشي على الشوك دافعا بذلك على شدة ضرره ما هو أعظم منه من المضار وكشاب الدواء المر دافعا بذلك العلل العظيمة عن جسمه ، وكقاطع بعض أعضائه فاديا بذلك السراية إلى نفسه.

* * *

ولي من قصيدة أولها " ما زرت إلا خداعا أيها الساري " :

لا تنكري نزوات الشيب آونة

في فاحم صيغ للأبصار من قار

قد كنت أعذر نفسي قبل زورته

فالآن ضاقت على اللذات أعذاري

من منصفي من بديدات كما ابتدأت

في عرفج الدو نار أيما نار

لوامع لم تكن للغيث جاذبة

أو أنجم لم تنر للمدلج الساري

يغضضن عنهن أبصار الحسان كما

يغضضن عن ناخس فيها وعواري

لا مرحبا ببياض لم يكن وضحا

لغرة الصبح أو لمعا لنوار

أما تشبيه ابتداء الشيب وتبدده في الشعر بابتداء النار في العرفج قبل انتشارها فيه فهي تضئ منه مواضع دون أخرى ، فمن واقع التشبيه وغريبه. وأنما قلنا نار ، استكبارا لها واستعظاما واختصارا شديدا لشكوى تلك الحال وتعديد ما فيها من المضار.

فأما البيت الذي أوله " لوامع لم تكن للغيث جاذبة " فإن تشبيه لمع بياض المشيب في خلال الشباب بلمع البروق في الغمام ، لما اعتمد في البيت ووجب في صنعة الشعر ، وتحقيق معناه : أن ينفي على هذا الشبه بالبروق فيقال إنها لم تكن للغيث جاذبة ، وكذلك لما شبه الشيب في هذا البيت بالنجوم وجب أن ينفي عنه

٢٤٦

منافع النجوم ومرافقها ، فيقال : إنها لم تنر للمدلج الساري.

والبيت الأخير الذي أوله " لا مرحبا ببياض " في معنى هذا البيت الذي تكلمنا عليه، لأنه ذم لبياض الشيب لما لم يكن بياضا لذي منفعة كغرة الصبح ولمع النور. وهذا تصرف في المعاني وتحكم فيها.

* * *

ولي من قصيدة أولها " عتاب لدهر لا يمل عتابي " :

وإذ لم أرغ عند الغواني تغزلا

فمثل مشيبي بينهن شبابي

ولو كنت يوما بالخضاب موكلا

خضبت لمن يخفى عليه خضابي

فإن تعطني أولى الخضاب شبيبة

فأن له أخرى بغير شباب

وأين من الأصباح صبغه

وأين من البازي لون غراب

وأي انتفاع لي بلون شبيبة

ولون أهاب الشيب لون أهابي

وقد قلصت خطوى الليالي وثمرت

بروحاتها من جيئتي وذهابي

وكم ظفر الأقوام في البيض كالدمى

بفوق المنى منهن لا بشباب

فها الشيب مني عاريا غير مكتس

ونصلا على رأسي بغير قراب

معنى البيت الأول إنني إذا كنت لا أطلب الغزل عند الغواني ولا الحظوة منهن فلا فرق بيني وبين مشيبي وشبابي ، لأن الشيب إنما يحزن ويكرب من سلبه مودة الغواني وحطه عن رتبته بينهن وزوى عنه خدودهن.

ومعنى البيت الثاني النهي عن الخضاب من حيث كان غير خاف ، لأنه إذا كان لا ينبغي أن يخضب إلا لمن يخفى عليه خضابه ولم يك خافيا فلا معنى لتكلف الخضاب الذي لا يخفى.

ومعنى البيت الثالث معروف ، وقد قيل :

٢٤٧

وقالوا الخضاب شباب جديد

فقلت النصول مشيب جديد

وقال محمود الوراق :

إن النصول إذا بدا

فكأنه شيب جديد

وفي البيت الرابع تفضيل لون الشيب على لون الخضاب.

فأما البيت الذي أوله " وأي انتفاع لي بلون شبيبة " فمعناه كيف أدلس بياض شعري بتسويده ولون جلدي بتشنجه وتغضنه لا يليق بالشباب وإنما يليق بالشيب ، فإنما دلست ما هو منفضح ولبست ما هو منكشف. وكان عندي إني منفرد بهذا المعنى حتى وجدت لابن الرومي :

رأيت خضاب المرء عند مشيبه

حدادا على شرخ الشبيبة يلبس

وإلا فما يغزو امرؤ بخضابه

أيطمع أن يخفى شباب مدلس

وكيف بأن يخفى المشيب لخاضب

وكل ثلاث صبحه يتنفس

وهبه يواري شيبه أين ماؤه

وأين أديم للشبيبة أملس

ووجدت ابن الرومي يتصرف في هذا المعنى ويعكسه حتى جعل من لا غضارة لجلده من ذوي السواد يظن به الكبر وإن سواده خضاب لا شباب ، فقال :

إذا دام للمرء السواد ولم تدم

غضارته ظن السواد خضابا

فكيف يظن الشيخ إن خضابه

يظن سوادا أو يخال شبابا

وفلسفة هذا الرجل في شعره وتطلبه لطيف المعاني مع أعراض عن فصيح العبارة وغريبها وإن كانت مذمومة مستبردة في الأغلب الأكثر ، ربما أثارت دفينا أو أخرجت علقا ثمينا.

ونظير قول ابن الرومي " رأيت خضاب المرء عند مشيبه حدادا " قول الأفوه الكوفي :

٢٤٨

فإن تسأليني ما الخضاب فإنني

لبست على فقد الشباب حدادا

ومثله لأبي سهل النوبختي :

لم أخضب الشيب للغواني

أبغي به عندها ودادا

لكن خضابي على شبابي

لبست من بعده حدادا

ولابن الرومي في ذم الخضاب :

يا أيها الرجل المسود شيبه

كيما يعد به من الشبان

اقصر فلو سودت كل حمامة

بيضاء ما عدت من الغربان

وله في هذا المعنى :

فزعت إلى الخضاب فلم تجدد

به خلقا ولا أحييت ميتا

خضبت الشيب حين بدا فهلا

حلقت العارضين إذ التحيتا

لترجع مردة كانت فبانت

كما تسويد شيبتك ارتجيتا

وله مثله :

خضبت الشيب حين بدا لتدعي

فتى حدثا ضلالا ما ارتجيتا

ألا حاولت أن تدعى غلاما

بحلق العارضين إذ التحيتا

أبت آثار دهرك أن تعفى

بكفك شئت ذلك أم أبيتا

فدع عنك الخضاب ولا ترده

فأجدي منه قولك أم أبيتا

وهذه الأبيات ـ وإن كان لمعناها بعض الصحة ـ فألفاظها مباينة لأسلوب الشعر العربي ، وحظ اللفظ في الشعر أقوى من حظ المعنى.

وله أيضا مثله :

٢٤٩

كما لو أردنا أن نحيل شبابنا

مشيبا ولم يأن المشيب تعذرا

كذلك تعيينا إحالة شيبنا

شبابا إذا ثوب الشباب تحسرا

أبى الله تدبير ابن آدم نفاء

وألا يكون العبد إلا مدبرا

ولا صبغ إلا صبغ من صبغ الدجى

دجوجية والصبح أنور أزهرا

فأما قولي في البيت الأخير من الأبيات الثانية " فها الشيب مني عاريا غير مكتس " فإنما أردت بعد ذم الخضاب وبيان أنه لا طائل في تكلفه أن شيبي عار من الخضاب وإنه على هيئته وخلقته وجعلت الخضاب تارة له كسوة وأخرى قرابا لما جعلت الشيب نصلا ، فهو يشبه النصل لونا وصقالا.

* * *

ولي من قصيدة أولها " ماذا جنته ليلة التعريف " :

وتعجبت للشيب وهو جناية

لدلال غائية وصد صدوف

وأحاطت الحسناء بي تبعاته

فكأنما تفويفه تفويفي

هو منزل بدلته من غيره

وهو الفتى في المنزل المألوف

لا تنكريه فهو أبعد لبسة

عن قذف قاذفة وقرف قروف

* * *

ولي من قطعة :

وتطلب مني الحب والشيب لبستي

وابن الهوى ممن له الشعر أبيضا

فقلت لها قد كنت بالحب مولعا

ولكنه لما انقضت شرتي انقضى

* * *

ولي وهو ابتداء قصيدة :

٢٥٠

سجالك أن الليل لي عذاري

مضى عائضا منه بضوء نهار

فمن لي عن الفجر المغلس بالدجى

وعن يقق لم أرض عنه بقار

وكنت حذرت الشيب حتى لبسته

وقل على المحتوم نفع حذار

لهيب مشيب في الفؤاد مثاله

جوى وأوار من جوى وأوار

عشية أمحى من عداد أولي الهوى

ولا تألف الحسناء عقوة داري

وشق مزاري بعد إن كنت برهة

إذا زير ربعي لا يشق مزاري

تحب وتهوي كل يوم فكاهتي

ويبتاع بالدر النفيس جواري

وليس هوى إلا علي معاجه

وفي قبضتي البيض الدمى وأساري

فها أنا ملقى كالقذاة تناط بي

جرائر لم يجعلن تحت خياري

أقيل عثارا كل يوم وليلة

الهوى من لا يقبل عثاري

أما قولي " لهيب مشيب في الفؤاد مثاله " فمعناه أن الشيب المنتشر في الشعر المشبه لضوئه بلهب النار في القلب مثال له لنلهب الحزن والغم ، واشتعالهما في القلب من أجل نزول الشيب وحلوله.

والجوى هاهنا هو الحزن الباطن ، والأوار لهيب النار ، فكأن هذا الذي في القلب من الجوى والأوار متولد من أوار الشيب وتلهبه في الشعر.

فإن قيل : أليس أهل اللغة يقولون إن الجوى هو الهوى الباطن ، فكيف جعلتموه حزنا وهما؟

قلنا : لا يسمون الهوى الباطن جوى إلا إذا صحبه لدع وجوى وهم ، وذلك معروف.

فإن قيل : فهبوا إن الأمر على ما قلتموه في ما يكون في القلب كيف جعلتم الشيب جوى وجمعتم بينه وبين الأوار ، وهو يشبه أوار النار بلونه ، ولا نسبة بينه

٢٥١

بين الجوى.

قلنا : إذا كان سبب جوى القلب الذي هو الحزن به والغم على حلوله جاز أن يسمى باسمه ، فقد سموا السبب باسم مسببه والمسبب باسم سببه ، وتخطوا ذلك إلى ما هو أبعد منه كثيرا ، والاستعارات واسعة فسيحة.

وفي قولي " الفجر المغلس " معنى لطيف ، لأنني أشرت إلى أن الشيب عجل عن وقته المعهود له ، فلهذا شبهته بالفجر الطالع في الغلس قبل أوان طلوعه المألوف.

* * *

ولي من قصيدة أولها " لمن ضرم أعلى البقاع تعلقا " :

وعيرنني شيبا سيكسين مثله

ومن ضل عن أيدي الردى شاب مفرقا

وهل تارك للمرء يوما شبابه

صباح وإمساء ومنأى وملتقى

* * *

ولي من قصيدة أولها " ما قربوا إلا لبين نوقا " :

ذهب الشباب وكم مضى من فائت

لا يستطيع له الغداة لحوقا

ما كان إلا العيش قضى فانقضى

بالرغم أو ماء الحياة أريقا

فلو إنني خيرت يوما خلة

ما كنت إلا للشباب صديقا

ولقد ذكرت على تقادم عهده

عيشا لنا بالأنعمين أنيقا

أزمان كان بها ردائي ساحبا

أشرا وغصني بالشباب وريقا

وإذا تراءى في عيون ظبائهم

كنت الفتى المرموق والموموقا

* * *

٢٥٢

ولي من قصيدة أولها " مثلا عني المنازل لم بلينا " :

فيا شعرات رأس كن سودا

وحلن بما جناه الدهر جونا

مشيبك بالسنين ومن هموم

وليتك قد تركت مع السنينا

كرهت الأربعين وقد تدانت

فمن ذا لي برد الأربعينا

ولاح بمفرقي قبس منير

يدل على مقاتلي المنونا

الجون من الألفاظ المشتركة بين الأبيض والأسود ، واردت بالجون ههنا البيض في مقابلة السود.

ومعنى " وليتك قد تركت مع السنينا " أي ليت الهموم والأحزان والأسباب المشيبة للشعر لم تطرقك وتركت مع مر السنين وتأثيرها فيك ، فكأنني تمنيت الأربعين السنين على شيب رأسي معين ، وإنما يكره الأربعين من لم يبلغها لأنها أقرب إلى الموت وأدنى إلى الهرم من السن الذي تقدمها فإذا جاوزها وأربى عليها تمناها لأنها أقرب من الشباب وأبعد من الهرم والموت من السن التي هو فيها.

وقد ذكرت فيما مضى نظير البيت الذي أوله " ولاح بمفرقي قبس منير ".

* * *

ولي من قصيدة أولها " إن على رمل العقيق خيما " :

عجبت يا ظمياء من شيب غدا

منتشرا في مفرق مبتسما

لو كان لي حكم يطاع أمره

حميت منه لمتي واللمما

تهوين عن بيض برأسي سوده

وعن صباح في العذار الظلما

وقلت ظلما كالثغام لونه

ولون ما تبغين يحكي الفحما

صبغ الدجى أبعد عن فاحشة

ولم يزل صبغ الدجى متهما

٢٥٣

من عاش لم تجن عليه نوب

شابت نواحي رأسه أو هرما

إن قيل : كيف تكون ظالمة بتشبيه الشيب بالثغام وهو أشبه شئ به؟

قلنا : لم تظلم لأجل التشبيه الذي هو صحيح واقع ، ولكن لأنها ذمت بذلك الشيب وهجنته وأزرت عليه ، ولهذا عورضت بأن لون ما تهواه من الشباب يشبه الفحم الذي الثغام على كل حال أفضل منه.

فأما الذي أوله " صبغ الدجى أبعد عن فاحشة " فعزيز المعنى ، لأن النهار نفسه وما يشبه بالنهار من الشيب أبعد من الفواحش والقبائح ، أما النهار فإنه يظهرها ولا يسترها والشيب يعظ ويزجر عن ركوبها ، وصاحبه في الأكثر عند الناس منزه عنها. وصبغ الدجى الذي هو الليل نفسه وما يشبه به من الشباب أدنى القبائح ، لأن الليل يستر القبيح ويخفيه والشباب يدعو إلى اقتراف القبيح ويعلق على صاحبه منه ما لا يعلق على ذي الشبيبة.

ونظير " صبغ الدجى أبعد عن فاحشة " قولي :

لا تنكريه فهو أبعد لبسة

عن قذت قاذفة وقرف قروف

ونظير قولي " ولم يزل صبغ الدجى متهما " قولي :

ومعيري شيب العذار وما درى

أن الشباب مطية للفاسق

* * *

ولي من قصيدة أولها " ليس للقليب في السلو نصيب " :

ولقد قلت للمليحة والرأس

بصبغ المشيب ظلما خضيب

لا تريه مجانبا للتصابي

ليس بدعا صبابة ومشيب

* * *

٢٥٤

ولي من قصيدة أولها " بلغنا ليلة السهب " :

ولما رأت الحسناء

في رأسي كالشهب

وبيضا كالظبي البيض

وما يصلحن للضرب

وحادت عن مقر

كان فيه بقر السرب

تجنبت بلا جرم

وعوقبت بلا ذنب

وعاتبت ولكن

قلما ينفعني عتبي

إنما قلت : " وما يصلحن للضرب " لئلا يفهم من تشبيهي للطاقات البيض الشيب بالظبى البيض التماثل من كل جهة ، فاستثنيت أنهن لا يصلحن للضرب كما تصلح السيوف لذلك ، وإذا كان المقصد ذم الشيب ثم شبه من بعض الوجوه بماله فضل في نفسه ، فمن الواجب أن يستثنى ما لا يشبه فيه من الفضيلة ليخلص القول للذم. وهذا إذا تؤمل كان له موقع لطيف من البلاغة. ولعمري أن الشعر موضوع على الاختصار والحذف والإشارة.

ولو قلت " وبيضا كالظبي البيض " لما فهم إلا التشبيه في اللون دون غيره سنة إذا أمكن التحقيق واستيفاء الأغراض من غير أن يلحق الكلام هجنة فهو أولى.

* * *

ولي من قطعة :

ليس المشيب بذنب

فلا تعديه ذنبا

غصبت شرخ شبابي

بالليل والصبح غصبا

وشب شيب عذاري

كما اشتهى الدهر شبا

إن كنت بدلت لونا

فما تبدلت حبا

أو كنت بوعدت جسما

فما تباعدت قلبا

٢٥٥

وكلما شاب رأسي

نما غرامي وشبا

* * *

ولي من قصيدة أولها " كنت من أسماء ما كان علن " :

راعك يا أسماء مني بارق

أضاء ما بين العذار والذقن

لا تنفري منه ولا تستنكري

فهو صباح طالما كان دجن

ثاو نأى إذ رحل الدهر به

وأي ثاو في الليالي ما ظعن

إن كان أحيا الحلم فينا والحجى

فإنه غال المراح والأرن

كم كع مملوء الإهاب من صبي

عن العلى واحتلها الهم اليفن

لست أرى تهجين هذه الأبيات بوصف ربما قصر عن مدى حقها ، فكم مرسوم بالعدول عن حقه وممدوح بالاعراض عن مدحه.

فأما كع فمعناه عجز ، يقولون : كع عن كذا إذا نكل عنه وعجز. والأهاب : الجلد. واليفن : الشيخ الهرم الضعيف.

* * *

ولي من قطعة مفردة :

صدت أسيماء عن شيبي فقلت لها

لا تنفري فبياض الشيب معهود

عمر الشباب قصير لا بقاء له

والعمر في الشيب يا أسماء ممدود

قالت طردت عن اللذات قاطبة

فقلت إني عن الفحشاء مطرود

ما صدني شيب رأسي عن تقى وعلى

لكنني عن قذى الأخلاق مصدود

لولا بياض الضحى ما نيل مفتقد

ما لم ينل مطلب يبغي ومقصود

ما عادل الصبح ليل لا ضياء به

ولا استوت في الليالي البيض والسود

٢٥٦

المعهود : المألوف لا ينفر منه. والشيب معتاد في من كبر وأسن وإنما ينفر مما خالف العادة :

والبيت الثاني نظير قول الشاعر :

والشيب أن يظهر فإن وراءه

عمرا يكون خلاله متنفس

لأن العمر في البياض أطول منه في السواد.

وعلى البيت الثالث سؤال : كيف يكون الشيب طاردا عن الفحشاء خاصة ومن شأنه أن يصد عن كل لذة ومتعة حسنة كانت أو قبيحة.

والجواب : إنني أردت أنه يصدني عن الفحشاء بوعظه وزجره لا بإعجازه ومنعه وإني قادر متمكن من مباح اللذات ، والبيت الرابع يقوي هذا المعنى.

والبيت الخامس والسادس من حسن ما فضل به البياض الذي هو لون المشيب على السواد.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

نبت عينا أمامة عن مشيبي

وعدت شيب رأسي من ذنوبي

وقالت لو سترت الشيب عني

فكم أخفي التستر من عيوبي

فقلت لها أجل صريح ودي

وإخلاصي عن الشعر الخضيب

ومالك يا إمام مع الليالي

إذا طاولن بد من مشيب

وما تدليس شيب الرأس إلا

كتدليس الوداد على الحبيب

فلا تلحى عليه فذاك داء

عياء ضل عن حيل الطبيب

وإن بعيد شيبك وهو آت

نظير بياض مفرقي القريب

٢٥٧

وإن تأبى فقومي ميزي لي

نصيبك فيه يوما من نصيبي

معنى البيت الثاني إنني خالص المودة صريح المحبة ، فلا أدنس ذلك بتزوير الشعر بالخضاب وتشبيهه بالشباب. وقد أفصحت عن هذا البيت الذي أوله " وما تدليس شب الرأس ".

وابن الرومي جعل من حضب للغواني معاقبا بغشهن في وده ، فقال :

قل للمسود حين شيب هكذا

غش الغواني في الهوى إياكا

كذب الغواني في سواد عذاره

وكذبنه في ودهن كذاكا

ومعنى البيت الذي أوله " وإن بعيد شيبك وهو آت " أننا سواء في الشيب وإنما هو واقع بي ومتوقع فيك ، وكل آت قريب.

والبيت الثالث معناه : إنك إن أثبت أننا في إشكال وأمثال فعرفيني الفرق بيني وبينك فيه ، وأي أمان لك مما نزل بي وحل عندي. وهذا من لطيف التسلية عن الشيب والاحتيال في دفع أحزانه وهمومه والاحتجاج على من عابه من النساء وذمه وقبحه.

* * *

ولي من قطعة مفردة :

أمن شعر في الرأس بدل لونه

تبدلت ودا يا أسيماء عن ودي

فإن يك هذا الهجر منك أو القلى

فليس بياض الرأس يا اسم من عندي

تصدين عمدا والهوى أنت كله

وما كان شيبي لو تأملت من عمدي

وليس لمن جازته ستون حجة

من الشيب إن لم يرده الموت من بد

ولا لوم يوما من تغير صبغة

إذا لم يكن ذاك التغير في عهدي

٢٥٨

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

يقولون لي لم أنت للشيب كاره

فقلت طريق الموت عند مشيبي

قربت الردى لما تجلل مفرقي

وكنت بعيدا منه غير قريب

وكنت رطيب الغصن قبل حلوله

وغصني مذ شيبت غير رطيب

ولم يك إلا عن مشيب ذوائبي

جفاء خليلي وازورار حبيبي

وما كنت ذا عيب فقد صرت بعده

تخط بأيدي الغانيات عيوبي

فليس بكائي للشباب وإنما

بكائي على عمري مضى ونحيبي

البيت الذي أوله " وما كنت ذا عيب " يحتمل أن يكون المراد به إنني بعد المشيب بلا عيب على الحقيقة كما كنت غير أن الغانيات يتجر من علي بعد الشيب فيضفن إلي عيوبا ليست في. ويحتمل أن يراد أيضا أن عيوبي كانت مستورة مغفورة في ظل الشباب ، فلما قلص عني وانحسر أظهرت وأعلنت ، لأن الشافع في زال والعاذر لي حال. ويمضي هذا المعنى كثيرا.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة قلتها في ذم الشيب :

بياضك يا لون المشيب سواد

وسقمك سقم لا يكاد يعاد

وقد صرت مكروها على الشيب بعد ما

عمرت وما عند المشيب أراد

فلي من قلوب الغانيات ملالة

ولي من صلاح الغانيات فساد

وما لي نصيب بينهن وليس لي

إذا هن زودن الأحبة زاد

وما الشيب إلا توأم الموت للفتى

وعيش امرئ بعد المشيب جهاد

* * *

٢٥٩

ولي في الاعتذار عن الشيب والتسلية عنه ، وهي قطعة مفردة :

تقول لي إنما الستون مقطعة

بين الرجال ووصل الخرد الغيد

وما استوى يفن ولت نضارته

في الغانيات بغصن ناضر العود

فقلت ما الشيب إلا لبسة لبست

ما أثرت لي في بخل ولا جود

ولا وفاء ولا غدر ولا كلف

ولا ملال ولا إنجاز موعود

إن الحفاظ وبيضي فيه لامعة

خير من الغدر لو جربت في سودي

وإذا كنا قد استوفينا غرضنا الذي قصدناه فالواجب قطع الكتاب ههنا فقد طال وربما أمل الطويل.

ولعل معنتا يطعن فيما أوردناه في أثناء كلامنا من نظائر الشعر بأنا ما استوفيناه ولا استقصيناه ويذكر نظائر لم نذكرها أو يعيب بعدولنا عما عدلنا حمله عن ذكر نظائره.

والجواب عن ذلك : إن كتابنا هذا ما وضعناه لذكر النظائر ، وإنما كان الغرض فيه ما تضمنته خطبة الكتاب وقد استوفى ، وما مضى من ذكر نظائر فإنه اتفق عرضا ، ولو قصدنا هذا الفن لاستوفيناه بحسب ما يحضرنا وينتهي إليه علمنا ، فإن نظائر الشعر لا تحصى كثرة، ومن تعاطى ذكرها واعتمده فما عليه إلا الاجتهاد وإيراد ما يناله حفظه أو يده وتصفحه.

والله تعالى المأمول المرجو للسداد والرشاد ، هاديا إلى سننهما ودالا على محجتهما ، وهو حسبنا الله ونعم الوكيل. وصلواته على محمد وآله الطاهرين ، والحمد لله وحده.

٢٦٠