رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

ثم غاب بعضه يجوز أن يكون ذلك لغيم أو حائل.

(٣٤)

حتى تبلج نورها في وقتها

للعصر ثم هوت هوى الكوكب

التبليج : مأخوذ من قولهم : بلج الصبح يبلج بلوجا إذا أضاء والبلجة : آخر الليل ، وجمعها بلج. والبلجة بالفتح : الحاجبان غير مقرونين ، يقال منه : رجل أبلج وامرأة بلجاء.

وأما (هوي الكوكب) فأراد به سقوط الكوكب وغيبوبته ، يقولون أهويت أهوي هويا إذا سقطت إلى أسفل ، وكذلك الهوي في السير وهو المضي فيه. ويقال : هوى من السقوط فهو هاو ، وهوى من العشق فهو هو ، وهوت الظبية تهوي : إذا فتحت فاها. ويقال : مضى هوي من الليل : أي ساعة.

(٣٥)

وعليه قد حبست ببابل مرة

أخرى وما حبست لخلق معرب

هذا البيت يتضمن الإخبار عن رد الشمس ببابل على أمير المؤمنين عليه السلام ، والرواية بذلك مشهورة ، وأنه (ع) لما فاته وقت صلاة العصر ردت الشمس له حتى صلاها في وقتها.

وخرق العادة هيهنا لا يمكن أن يقال إن نسبته إلى غيره ، كما أمكن في أيام النبي صلى الله عليه وآله. والصحيح في فوت الصلاة هيهنا أحد الوجهين اللذين

٨١

تقدم ذكرهما في رد الشمس على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ، وهو أن فضيلة أول الوقت فاتته بضرب من الشغل ، فردت الشمس ليدرك الفضيلة بالصلاة في أول الوقت ، وقد بينا هذا الوجه في البيت الذي أوله (ردت عليه الشمس) ، وأبطلنا قول من يدعي أن ذلك يجب أن يقيم الخلق في الآفاق معرفته حتى يدونوه ويؤرخوه.

وأما من ادعى أن الصلاة فاتته ـ بأن انقضى جميع وقتها ، إما لتشاغله بتعبيته عسكره ، أو لأن بابل أرض خسف لا تجوز الصلاة عليها ـ فقد أبطل ، لأن الشغل بتعبية العسكر لا يكون عذرا في فوت صلاة فريضة. وأما أرض الخسف فإنها تكره الصلاة فيها مع الاختيار. فأما إذا لم يتمكن المصلي من الصلاة في غيرها وخاف فوت الوقت وجب أن يصلي فيها وتزول الكراهة.

وأما قوله (وعليه قد حبست ببابل) فالمراد بحبست : ردت ، وإنما كره أن يعيد لفظة الرد لأنها قد تقدمت.

فإن قيل : حبست بمعنى وقفت ، ومعناه يخالف معنى ردت.

قلنا : المعنيان ههنا واحد ، لأن الشمس إذا ردت إلى الموضع الذي تجاوزته فقد حبست عن المسير المعهود وقطع الأماكن المألوفة.

وأما المعرب : فهو الناطق المفصح بحجته ، يقال : أعرب فلان عن كذا : إذا أبان عنه.

(٣٦)

إلا لأحمد أوله ولردها

ولحبسها تأويل أمر معجب

الذي أعرفه وهو المشهور في رواية (إلا ليوشع أوله) ، فقد روي أن يوشع

٨٢

عليه السلام ردت عليه الشمس.

وعلى الروايتين معا سؤال ، وهو أن يقال : سواء قال (لأحمد) أم قال (ليوشع أوله) فإن الرد عليهما جميعا ، وإذا ردت الشمس لكل واحد منهما لم يجز إدخال لفظة (أو) ، والواو أحق بالدخول ههنا ، لأنه يوجب الاشتراك والاجتماع ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول قائل (جاءني زيد أو عمرو) وقد جاءا جميعا ، فإنما يقال ذلك إذا جاء أحدهما.

والجواب عن السؤال : إن الرواية إذا كانت (إلا لأحمد أوله) فإن دخول لفظة (أو) ههنا صحيح ، لأن رد الشمس في أيام النبي صلى الله عليه وآله يضيفه قوم إليه دون أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد رأينا قوما من المعتزلة الذين يذهبون إلى أن العادات لا تنخرق إلا للأنبياء (ع) دون غيرهم ، ينصرون ويصححون رد الشمس في أيام النبي صلى الله عليه وآله ويضيفونه إلى النبوة ، فكأنه قال : إن الشمس قد حبست عليه ببابل ، وما حبست إلا لأحمد (صلى الله عليه وآله) ، على ما قاله قوم ، أو له على ما قاله آخرون ، لأن رد الشمس في أيام النبي صلى الله عليه وآله مختلف في جهة اضافته ، فأدخل لفظة (أو) للشك لهذا السبب.

وأما الرواية إذا كانت بذكر يوشع فمعنى (أو) ههنا معنى الواو ، فكأنه قال : ليوشع وله ، كما قال الله تعالى : (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) (١) على أحد التأويلات في الآية، وكما قال الشاعر :

وقد زعمت ليلى بأني فاجر

لنفسي تقاها أو علي فجورها

__________________

(١) سورة البقرة : ٧٤.

٨٣

(٣٧)

ولقد سرى في ما يسير بليلة

بعد العشاء بكربلا في موكب

أما السري : فهو سير الليل كله ، وهي مؤنثة ، لأنها جمع سرية وسروة ، يقولون : سريت الثوب عن الرجل وسروته : إذا كشفته ، أسريه سريا ، وأسرو سروا. والسرو : ما ارتفع من عن موضع السيل وانحدر عن غلظ الجبل ، ومنه قيل سرو حمير.

ويقال : سرأت المرأة : كثر ولدها ، وسرأت الجرادة والضبة تسرا سرءا : إذا باضت ، وأسرأت : إذا حان ذلك منها. وأول ما تكون الجرادة فهي سروة ، وإذا تحرك فهو دبي قبل أن تنبت أجنحته ، ثم يكون غوغاء وبه سمي غوغاء الناس.

وكربلا : الموضع المعروف بنواحي الطفوف ، وهو الذي قتل فيه سيدنا أبو عبد الله الحسين بن علي عليه السلام.

ويشبه أن يكون اشتقاق هذا الاسم من الكراب الذي هو الحرث ، والكراب الحراث. ومن أمثال العرب (الكراب على البقر) ، ويقولون ما بها كراب : أي أحد.

(٣٨)

حتى أتى متبتلا في قائم

ألقى قواعده بقاع مجدب

أراد بالمتبتل الراهب ، من البتل وهو القطع ، ومثله البت والبلت. وإنما

٨٤

سمي الراهب متبتلا لقطعه نفسه عن الناس وعن اللذات ، ومنه امرأة متبتلة : كل جزء منها يقوم بنفسه في الحسن ، والعذراء البتول : التي انقطعت عن الأزواج ، وصدقة بتلة على هذا المعنى. وإذا انفردت الفيلة واستغنت عن أمهاتها فهي البتول وأمها مبتل. وتبرت الشئ مثل بتلته وبتكته أيضا : قطعته.

وأما (القائم) فهو صومعة الراهب.

والقاع : الأرض الحرة الطين التي لا حزونة فيها ولا انهباط ، والجمع : القيعان ، وقاعة الدار : ساحتها.

والقواعد : جمع قاعدة ، وهي أساس الجدار وكل ما يبنى.

ويجدب : مأخوذ من الجدب الذي هو ضد الخصب. والجدب : العيب ، يقال جدبه يجدبه فهو جادب إذا عابه ، قال ذو الرمة :

فيا لك من خد أسيل ومنطق * رخيم ومن خلق تعلل جادبه

وهذه قصة مشهورة قد جاءت الرواية بها ، فإن أبا عبد الله البرقي روى عن شيوخه عمن خبرهم قال : خرجنا مع أمير المؤمنين نريد صفين ، فمررنا بكربلا فقال عليه السلام : أتدرون أين نحن؟ ههنا مصرع الحسين وأصحابه. ثم سرنا يسيرا فانتهينا إلى راهب في صومعة ، وقد انقطع الناس من العطش ، فشكوا ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وذلك لأنه أخذ بنا على طريق البر وترك الفرات عيانا. فدنا من الراهب فهتف به فأشرف من صومعته ، فقال : يا راهب هل قرب صومعتك من ماء؟ قال : لا فسار قليلا حتى نزل بموضع فيه رمل ، فأمر الناس فنزلوا ، فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك الرمل ، فأصابوا تحت ذلك الرمل صخرة بيضاء ، فاقتلعها أمير المؤمنين عليه السلام بيده ونحاها فإذا تحتها ماء أرق من الزلال وأعذب من كل ماء ، فشرب الناس وارتووا وحملوا منه ، ورد الصخرة والرمل كما كان.

٨٥

قال : فسرنا قليلا وقد علم كل واحد من الناس مكان العين ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : بحقي عليكم ألا رجعتم إلى موضع العين فنظرتم هل تقفون عليها؟ فرجع الناس يقفون الأثر إلى موضع الرمل ، فبحثوا ذلك الرمل فلم يصيبوا العين فقالوا : يا أمير المؤمنين لا والله ما أصبناها ، ولا ندري أين هي.

قال : فأقبل الراهب فقال : أشهد يا أمير المؤمنين إن أبي أخبرني عن جدي ـ وكان من حواريي عيسى عليه السلام ـ أنه قال : إن تحت هذا الرمل عينا من ماء أبرد من الثلج وأعذب من كل ماء عذب ، وإنه لا يقع عليها إلا نبي أو وصي نبي ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنك وصي رسول الله وخليفته والمؤدي عنه ، وقد رأيت أن أصحبك في سفرك فيصيبني ما أصابك من خير وشر فقال له خيرا ودعا له بالخير ، وقال عليه السلام : يا راهب الزمني وكن قريبا مني ففعل.

فلما كانت ليلة الهرير والتقى الجمعان واضطرب الناس فيما بينهم قتل الراهب فلما أصبح أمير المؤمنين عليه السلام قال لأصحابه : انهضوا بنا فادفنوا قتلاكم. وأقبل أمير المؤمنين يطلب الراهب حتى وجده فصلى عليه ودفنه بيده في لحده ، ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام : والله لكأني أنظر إليه وإلى زوجته وإلى منزلته ودرجته التي أكرمه الله بها (١).

وليس لأحد أن ينكر هذا الخبر من حيث كان خارقا للعادة ولاحقا بالمعجزات ولأنا قد بينا في مواضع من كتبنا وفي كتاب (الشافي في الإمامة) خاصة ، أن المعجزات يجب ظهورها على أيدي الأئمة عليهم السلام ، وتكلمنا على شبه من امتنع من ذلك ، وليس هذا موضع الكلام فيه.

__________________

(١) أنظر هذه القصة مع تغيير يسير في بعض الخصوصيات بحار الأنوار ٤١ / ٢٦٠.

٨٦

(٣٩)

يأتيه ليس بحيث يلقى عامرا

غير الوحوش وغير أصلع أشيب.

معنى يأتيه (١) : أي يأتي إلى الراهب ، وهو في الكلام الذي ذكر صفته.

ومعنى عامر : إنه لا يقيم فيه سوى الوحوش ، فإن من أقام بمكان فكأنه قد عمره. ويمكن أن يكون أيضا مأخوذا من العمرة التي هي الزيارة.

والأصلع الأشيب : هو الراهب.

(٤٠)

في مدمج زلق أشم كأنه

حلقوم أبيض ضيق مستصعب

المدمج : هو الشئ المستور ، يقال أدمج الرجل ودمج بتشديد الميم : إذا دخل في الشئ فاستتر ، ومثله أدمقت الباب إدماقا : إذا دخلته ، واندمق هو : إذا دخل.

وصومعة الراهب تستر من دخل فيها لا محالة.

والزلق : معروف ، وهو الذي لا يثبت على قدم.

والأشم : الطويل المشرف. الأبيض ههنا هو الطائر الكبير من طيور الماء ، والعرب تسمي الكبير من طيور الماء أبيض. وتشبيه الصومعة الطويلة بحلقوم طائر الماء من واقع التشبيه ، وإنما جر لفظتي (ضيق) و (مستصعب) لأنه جعلها من وصف المدمج الزلق والأشم.

__________________

(١) في بعض النسخ " بانيه ليس بحيث يلقى عامرا ".

٨٧

(٤١)

فدنا فصاح به فأشرف ماثلا

كالنسر فوق شظية من مرقب

الماثل : المنتصب ومثل أيضا : لطا بالأرض ، وهو من الأضدد. ومثل : غاب عنك، ومثل الرجل من مرضه مثالة : إذا حسنت حاله ، ومثل به يمثل مثولا من المثلة. والمثال : الفراش ، وجمعه مثل.

والنسر : الجارح المشهور وإنما شبه الراهب بالنسر لعلو سنه وطول عمره ومما يدل على أنه أراد به ما ذكرناه قول الشاعر :

يا نسر لقمان كم تعيش وكم

تسحب ذيل الحياة يا لبد

والشظية : قطعة من الجبل منفردة.

والمرقب والمرقبة : المكان العالي.

(٤٢)

هل قرب قائمك الذي بوئته

ماء يصاب فقال ما من مشرب

معنى (بوئته) أسكنته ، يقال بوأته المنزل تبويئا وإباءة وإباوة : اجتمعت وإياه ، والمباءة : المنزل. وباء الرجل بصاحبه بواء : إذا قتل به ، وباء بذنبه يبوء بواءا : إذا اعترف به.

ونفيه أن يكون هنا ماء يشرب نفي للماء ، لأنه إذا لم يكن مشرب فلا ماء يشرب.

٨٨

(٤٣)

إلا بغاية فرسخين ومن لنا

بالماء بين نقا وقى سبسب

وقوله (إلا بغاية فرسخين) من فصيح الكلام ووجيزه.

وقد مضى تفسير النقا.

والقي : الصحراء الواسعة.

والسبسب : الأرض القفر ، والبسبس والجمع سباسب وبسابس ، والسباسب : كل عيد للعرب سمي بهذا الاسم ، ومنه قول النابغة الذبياني :

يحيون بالريحان يوم السباسب

(٤٤)

فثنى الأعنة نحو وعث فاجتلى

ملساء تبرق كاللجين المذهب

الوعث : المكان اللين الذي لا يسلك ، لأن الأخفاف تغيب فيه. الوعث من الرمل: كل لين سهل. وامرأة وعثة الأرداف : لينتها. ويقولون : نعوذ بالله من وعثاء السفر، يعنون ألمه وتعبه.

ومعنى ((اجتلى ملساء) أي نظر إلى صخرة ملساء وانجلت لعينه.

ومعنى تبرق : تلمع ، ولم يرض بأن جعل لمعانها مثل لمعان اللجين ، الذي هو الفضة حتى جعله لجينا مذهبا ، فهو أقوى لبريقه ولمعانه.

٨٩

(٤٥)

قال أقلبوها إنكم أن تقلبوا

ترووا ولا تروون إن لم تقلب

(ش ١) يقال : إنه عليه السلام أمرهم بقلبها وأخبرهم أن الماء تحتها ، فاجتمعوا وحاولوا قلبها فلم يقدروا عليه ، فدنا منها فاقتلعها وحده ، فلما ارتووا أعادها.

(ش ٢) الهاء في (أقلبوها) راجعة إلى الصخرة الملساء التي تقدم ذكرها.

ومعنى (أن تقلبوا ترووا) إنكم تجدون من الماء ما يرويكم إذا شربتم منه ، فحذف هذا كله واختصره بلاغة وفصاحة.

(٤٦)

فاعصوصبوا في قلبها فتمنعت

منهم تمنع صعبه لم تركب

معنى (اعصوصبوا) اجتمعوا على قلعها وصاروا عصبة واحدة ، ويقولون : أعصوصبت الإبل وعصبت : إذا اجتمعت.

والصعبة : أراد بها ما لم يذلله الركوب والرياضة من فرس أو بكر ، فأقام الصفة مقام الموصوف.

وأحسن كل الاحسان في تشبيه تمنع الصخرة على تحركها وقلبها بتمنع الصعبة على راكبها.

٩٠

(٤٧)

حتى إذا أعيتهم أهدى لها

كفا متى ترم المغالب تغلب

معنى أعيتهم : أي عجزوا عن قلعها ، وهو الكلال. ويجوز أن يكون من قولهم (عي بالأمر) إذا ضاق به ولم يجد عنه مخرجا.

ومعنى (أهوى لها كفا) مدلها كفا ، من قولهم : أهويت إليه بالسيف وغيره أهواء ، وأهويت بالشئ إذا أوميت به ، وأهويت به : إذا ألقيته في أهوية ، وأهويته : ألقيته من الهواء.

وأراد بالمغالب : الرجل الغالب.

(٤٨)

فكأنها كرة بكف حزور

عبل الذراع دحا بها في ملعب

الهاء في قوله (كأنها) ترجع إلى الصخرة.

والكرة معروفة.

والحزور : الغلام المترعرع ، وجمعه حزاور وحزاورة.

والعبل : (الغليظ) الممتلئ.

(ودحا) هاهنا بمعنى رمى ، يقولون : دحا الفرس يدحو دحوا : إذا رمى بيده رميا ، لا يرفع سنبكه عن الأرض ودحا أيضا : بسط ، ومنه قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) (١) أي بسطها.

__________________

(١) سورة النازعات : ٣٠.

٩١

ولقد أحسن في هذه المبالغة والارتقاء منها إلى غاية بعد أخرى ، لأنه إنما أراد خفة حمل الصخرة عليه ، وتسهيل تصريفها ، وتيسير تقليبها ، قال : فكأنها كرة وهذا كاف في سرعة تحريكها وتصريفها ، ولم يرض بذلك حتى قال : بكف حزور ، ولم يقنع حتى قال أيضا : عبل الذراع ، ولم يرضه كل ذلك حتى قال : دحا بها في ملعب.

(٤٩)

فسقاهم من تحتها متسلسلا

عذبا يزيد على الزلال الأعذب

إنما أراد ماء متسلسلا ، فأقام الصفة مقام الماء. ويقال : ماء سلسل وسلاسل أي سلس في الحلق ، وهو البارد. وكذلك السلسل والسلسبيل.

والزلال : الصافي ، ويقال هو البارد.

(٥٠)

حتى إذا شربوا جميعا ردها

ومضى فخلت مكانها لم يقرب

ومعنى قوله (فخلت مكانها لم يقرب) أنه أعادها على حالها الأولى ومكانها بعينه ، من غير تأثير يدل على أنها قلعت ثم أعيدت.

(٥١)

أعني ابن فاطمة الوصي ومن يقل

في فضله وفعاله لم يكذب

إنما عني ابن فاطمة أمير المؤمنين عليه السلام ، لأن أمه فاطمة بنت أسد بن

٩٢

هاشم بن عبد مناف ، وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي ، وروي أنها ولدته عليه السلام في الكعبة ، ولا نظير له في هذه الفضيلة (١).

ولفاطمة بنت أسد فضائل وخصائص معروفة يطول ذكرها وشرحها.

وأمير المؤمنين (ع) وصي رسول الله ، وقد أجمع الناس على إطلاق هذا الاسم له ، ووصفه بهذا الوصف حتى صار علما مشهورا ووصفا مميزا ، وإن اختلف في معناه : فذهب قوم إلى أنه وصيه في أهله خاصة وهم مخالفوا الشيعة. وذهبت الشيعة إلى أنه وصيه بالإطلاق في أهله وأمنه. والأمر في تسميته بالوصي أشهر من أن يحتج فيه بخبر منقول ، وإن كانت الأخبار في ذلك متظاهرة متواترة (٢) وروى الثقفي ، عن مجول بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن الأسود اليشكري ، عن محمد ابن أبي بكر ، عن عبادة بن عبد الله ، عن سلمان الفارسي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله : من وصيك من أمتك؟ فإنه لم يبعث نبي إلا وكان له وصي من أمته؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لم يتبين لي بعد. فمكثت ما شاء الله لي أن أمكث ودخلت المسجد ، فناداني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال : يا سلمان سألتني عن وصيي من أمتي؟ فهل تدري من كان وصي موسى من أمته؟ فقلت : كان وصيه يوشع بن نون فتاه. فقال (صلى الله عليه وآله) : فهل تدري لم كان أوصى إليه؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : أوصى إليه لأنه كان أعلم أمته بعده ، ووصيي هو أعلم أمتي بعدي علي بن أبي طالب.

وخبر يوم الدار مشهور ، فإن النبي جمع بني عبد المطلب فخطبهم وقال : أيكم يؤازرني على هذا الأمر يكن أخي ووصيي وخليفتي في أهلي ومنجز وعدي وقاضي ديني؟ فأحجم القوم جميعا إلا عليا عليه السلام ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : أنت

__________________

(١) أنظر حديث مولد علي عليه السلام بالكعبة فضائل الخمسة ١ / ٢١٤.

(٢) أنظر في ذلك فضائل الخمسة ٢ / ١١٣ فما بعد.

٩٣

أخي ووزيري وخليفتي في أهلي؟ تنجز عدتي وتقضي ديني. وما روي في هذا المعنى أكثر من أن يحصى (١).

وأما قوله (في فضله وفعاله لم يكذب) ، فإنما أراد المبالغة في وصف فضله بالكثرة والوفور ، فالقائل فيه والمعدد له صادق على كل حال ، لأنه بين تقصير وإطالة هو في كليهما صادق من زيادة الفضل على كل حد ينتهي إليه.

(٥٢)

ليست ببالغة عشير عشير ما

قد كان أعطيه مقالة مطنب

روى الثقفي ، عن مجول بن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن الأسود اليشكري عن محمد بن أبي بكر ، عن عبادة بن عبد الله ، عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وآله : من وصيك من أمتك ، فإنه لم يبعث نبي إلا وكان له وصي من أمته؟ فقال : لم يتبين لي بعد. فمكثت ما شاء الله أن أمكث ودخلت المسجد ، فناداني رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا سلمان ، سألتني عن وصيي من أمتي ، فهل تدري لما [ذا] أوصي إليه؟ فقلت : الله ورسوله أعلم. فقال : أوصى إليه لأنه كان أعلم أمته ، وأعلم أمتي من بعدي علي وهو وصيي. فأي فضلة أعظم من هذه؟

وخبر يوم الدار مشهور : إن النبي صلى الله عليه وآله جمع بني عبد المطلب ثم خطبهم وقال : أيكم يؤازرني على هذا الأمر ، ويكون أخي ووصيي وخليفتي في أهلي ، ينجز وعدي، ويقضي ديني ، فأحجم القوم إلا عليا عليه السلام

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ٣١٩ فما بعد.

٩٤

فقال له النبي صلى الله عليه وآله : أنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي تنجز وعدي وتقضي ديني.

وقد روي في هذا المعنى من هذه الروايات ما هو أكثر من أن يحصى ، وذلك معنى قوله (ومن يقل في فضله وفعاله لم يكذب). أي فضله كثير يستغني به من يريد الإطالة في عد مناقبه وفضائله عن كذب فيها ، واستعارة لما ليس بصحيح ليكثر به القول ، فإنه ـ وإن أطال ـ عاجز أن يأتي على جميع فضائله ومناقبه عليه السلام.

فأما (المطنب) فهو المكثر من القول ، والاطناب : الاكثار من القول. والأطنابة : السير الذي على رأس الوتر. والأطنابة : أيضا المظلة.

(٥٣ ـ ٥٤)

صهر الرسول وجاره في مسجد

طهر يطهره الرسول مطيب

سيان فيه عليه غير مذمم

ممشاه أن جنبا وإن لم يجنب

أما مصاهرة أمير المؤمنين عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله فإنها من المناقب العظام والفضائل الجسام ، لأن الروايات وردت متظاهرة أن أبا بكر خطب فاطمة عليها السلام إلى أبيها فرده عنها وقال له : لم أؤمر بذلك ، ثم خطبها عمر فكان له من الجواب مثل ذلك ، فلما خطبها أمير المؤمنين قال (صلى الله عليه وآله) : هي لك.

وروي في أخبار كثيرة مختلفة الألفاظ والطرق أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأمير المؤمنين : ما زوجتكها ، إنما زوجكها الله من السماء.

وفي خبر آخر : إن فاطمة قالت : يا رسول الله زوجتني خفيف الشئ لا مال له. فقال (صلى الله عليه وآله) : أما ترضين يا بنيتي أن يكون زوجك أول المسلمين سلما ، وأفضلهم

٩٥

حلما وأكثرهم علما؟ فقالت عليها السلام : بلى رضيت بما رضي الله لي ورسوله.

وفي هذه المصاهرة أكبر دليل على طهارة باطن أمير المؤمنين عليه السلام ، وإن ظاهره في الخير والفضل كباطنه ، فإن من اختاره الله صهرا لنبيه صلى الله عليه وآله وتخطى إليه الخلق أجمعين ، لا يجوز أن يكون إليه على الصفة التي ذكرناها ، لأن من يعلم الغيوب لا يختار لأن على الباطن دون الظاهر لعلمه بالباطن. وإنما كان اختيارنا مقصورا على الظاهر لأنا لا نعلم الباطن ولا طريق لنا إلى علمه ، ولو علمنا البواطن ما اخترنا لأنا عليها. وفي هذا الذي ذكرنا دليل واضح على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام وطهارة باطنه ، وموافقة باطنه لظاهره.

وأما ذكر المسجد فإنما عني به مسجد النبي صلى الله عليه وآله ، فإن الله أحل لأمير المؤمنين عليه السلام ما خصه به وصرفه عمن سواه ، فروت أم سلمة قالت : خرج النبي إلى المسجد فنادى بأعلى صوته ثلاثا : ألا أن هذا المسجد لا يحل لجنب ولا لحائض أن لرسول الله صلى الله عليه وآله وأزواجه وعلي وفاطمة بنت محمد.

وبرواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأعلى صوته : إنه لا يحل لأحد من هذه الأمة أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. وهذا معنى الاختصاص ، فإن النبي صلى الله عليه وآله أمر بسد جميع أبواب أهله ، ومجانبة النافذة إلى المسجد سوى باب أمير المؤمنين عليه السلام ، فشق هذا التمييز والتخصيص على من كان بابه مفتوحا إلى المسجد. الأخبار بذلك متظاهرة (١).

وقد روي عن علي بن الحسين عن أبيه عليه السلام قال : سألت عليا عليه السلام فقلت : كيف يا أبتاه كان أمرك حيث سد رسول الله صلى الله عليه وآله أبواب المسلمين وترك بابك

__________________

(١) أنظر مسند الإمام أحمد ١ / ٣٣١.

٩٦

مفتوحا تمر في المسجد وأنت جنب؟ قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن موسى سأل ربه أن يطهر مسجده لهارون وذريته من بعده ففعل ، وإني سألت ربي ذلك ففعل.

أما الطيبة فقد تقدم أنها أحد أسماء المدينة ، وذكرنا ما روي من أسمائها.

فأما قوله (مطيب) فيحتمل أن يريد به الطهارة دون الذي يتطيب به ، ولهذا يقولون تراب طيب ، إذا كان طاهرا يصلح للوضوء. ويحتمل أيضا أنه يريد بمطيب أي مضمخ بالطيب عبق بأرجه ، فأما الكعبة وموضع الصلاة من المسجد فيختص بالتطيب.

وأراد بالبيت الذي أوله (وسيان فيه) إنه أباح له أن يمشي في هذا المسجد مع الجنابة وفقدها. ومعنى سيان : أي مثلان.

والجنب : من الجنابة ، يقال : أجنب فلان : أي أصابته جنابة. وجنب فلان في بني فلان : أي نزل فيهم غريبا. وجمع جنب أجناب. والجنيبة : هي الناقة يعطيها الرجل لقوم يمتارون عليها له ، والجمع جنائب. والجناب : هو الرحل أو الفناء ، والجمع أجنبة. وجنب بنو فلان فهم مجنبون : إذا لم يكن في إبلهم لبن. وجنبت الإبل بالتخفيف : إذا عطشت.

(٥٥ ـ ٥٨)

وسرى بمكة حين بات مبيته

ومضى بروعة خائف مترقب

خير البرية هاربا من شرها

بالليل مكتتما ولم يستصحب

[الا فلأن سوى رجلا مخافة إنه

خشي الإذاعة منه عند المهرب]

٩٧

باتوا وبات على الفراش ملفعا

فيرون أن محمدا لم يذهب

إنما أراد بما أشار إليه مبيت أمير المؤمنين عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وآله ، حين أراد الهجرة إلى المدينة ، وإن المشركين هموا به وتواعدوا على قصد مبيته والايقاع به ، فكره صلى الله عليه وآله أن يخلي فراشه على مراعاة القوم له ، فيعلمون بخروجه فيتبعون أثره. فثبت علي عليه السلام في فراشه ، فلما راعاه المشركون رأوا فيه شخصا ثانيا ، فلم يفطنوا بمسيره عليه السلام.

وصفته ليست بأقل من استسلام إسماعيل عليه السلام لأبيه حين رأى أن يذبحه. وهو أعظم ، لأن إسماعيل استسلم إلى أب حدب مشفق مأمون ، وما جرت العادة بإتلاف الآباء للأبناء. وأمير المؤمنين استسلم بمبيته على فراش النبي إلى أعداء حنقين مبغضين غير مأمونين ، لا سيما وقد فوتهم بمبيته في الفراش غرضهم وحرمهم مقصودهم ، وهم على من فعل ذلك أحنق ، كل ذلك في طاعة الله ورسوله.

والروعة : الخوف

والترقب : الانتظار. ويقول : ومضى خير البرية هاربا من شرها بروعة خائف مترقب.

والتلفع : التلفف. واللفاع : ما تغطيت به من ثوب واستترت به.

(٥٩)

حتى إذا طلع الشميط كأنه

في الليل صفحة خد أدهم مغرب

الشميط : الصبح. وسمي بذلك لاختلاط الضوء بالظلمة ، وكذلك الذئب

٩٨

الشميط الذي فيه سواد وبياض. ورجل أشمط : بين الشمط ، وامرأة شمطاء. وشماطيط الخيل : جماعات في تفرقة.

وصفحة الخد : جانبه. وإنما أراد صفحة من خد فرس أدهم ، فاقتصر على ذكر الصفة عن الموصوف.

والفرس المغرب. وهو الذي ابيضت أشفار عينيه.

(٦٠)

ثاروا لأخذ أخي الفراش فصادفت

غير الذي طلبت أكف الخيب

قوله (ثاروا لأخذ أخي الفراش) لأنهم أرادوا أخذ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهم يظنونه نائما في الفراش ، فصادفوا عليا عليه السلام ، فهموا بقتله ، فثار إليهم فضاربهم بالسيف ونجا منهم ولم يقدروا عليه.

وقوله (أخو الفراش) كناية عن صاحب الفراش. وهذه قصة مشهورة وقد ذكرتها الرواة.

(٦١ ـ ٦٢)

[وتراجعوا لما رأوه وعاينوا

أسد الإله مجالدا في منهب]

فوقاه بادرة الحتوف بنفسه

حذرا عليه من العدو المجلب

البادرة : ما بدر من الشئ وبرز وجاء في أوله وظهر. والبادرة : اللحمة

٩٩

التي تكون بين الكتف والعنق ، وجمعها بوادر (١) ، ويقال لها : البأدلة ، وجمعها بآدل ويقال بأدل بغير هاء. قال الشاعر :

* ولا رهل لباته وبآدله *

والمجلب ، من قولهم أجلب الرجل : إذا سمعت له صياحا وجلبة واستعانة ، يستصرخ بقوم ويستعين بهم على حرب. قال الله تعالى : (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) (٢).

(٦٣)

حتى تغيب عنهم في مدخل

صلى الإله عليه من متغيب

قوله (حتى تغيب) يعني النبي صلى الله عليه وآله.

وقوله في مدخل : حين دخل الغار واستتر به.

والقصة مشهورة.

__________________

(١) وفي الهامش : بادره مبادرة وبدارا وابتدره وبادر غيره إليه : عاجله.

وبدره الأمر وإليه : عجل إليه.

واستبق واستبقنا البدري ، كجمزى : أي مبادرين.

والبادرة : ما يبدر من حدتك في الغضب من قول أو فعل. والبديهة. قاموس.

(٢) سورة الإسراء : ٦٤.

١٠٠