رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

وعللت سيفك بالدماء ولم تكن

لترده ظمآن حتى ينهلا

وقالت هند بنت عتبة ترثي أباها :

أيا عين جودي بدمع سرب

على خير خندف لم ينقلب

تداعى له غدوة رهطه

بنو هاشم وبنو المطلب

يذيقونه حد أسيافهم

ويعلونه بعد ما قد شجب

وكان قتل هؤلاء النفر قبل أن يلتقي الجمعان ، ولما برز هؤلاء الثلاثة عليهم السلام إلى الثلاثة المذكورين رفع النبي صلى الله عليه وآله يده إلى الله تعالى يتضرع إليه ويسأله ما وعده من النصر ويقول : اللهم إن يظهروا على هذه العصابة يظهر الشرك ولا يتم لك دين. فلما قتلوا الثلاثة (١) نذرت هند لتأكل كبد حمزة عليه السلام.

شارك حمزة أيضا في قتل عتبة بن ربيعة ، فلذلك ذكره السيد الحميري.

والصقعب : الطويل ، وصفه بذلك وليس هو هاهنا اسم رجل.

(ش ٢) يعني بابن فاطمة أمير المؤمنين عليه السلام ، لأن أمه فاطمة بنت أسد (رض) ، وقد تقدم ذلك.

والأغر : ذو الغرة البيضاء ، ويوصف بذلك الكريم النجيب.

والأغلب : الأول من الغلبة ، وهو أشبه هاهنا من أن يريد به القصير العنق ، لأن الغلباء من الأعناق القصيرة الغليظة.

__________________

(١) في الهامش : الثلاثة الذين قتلوا هم : عتبة ، وولده الوليد ، وأخوه شيبة. وأما حمزة فهو قتل في يوم أحد ، ولعل الشارح أراد أنه حصل من هند ما ذكر في يوم أحد. والله أعلم.

١٢١

وأراد بابن عبد الله : عمرو بن عبد ود ، وهو عمرو بن عبد أبي قيس بن عبد ود ابن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر ، ويقال له ذو الندى ، وهو فارس يليل ، وكان فارس قريش ، وكان يعد بألف فارس ، حتى إذا كانوا بيليل عرضت لهم بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة في عدد ، فقال لأصحابه : امضوا فمضوا ، وقام في وجوه أصحابه حتى منعهم من أن يصلوا إليهم فعرف بذلك. ويليل واد قريب من بدر ، يدفع إلى بدر.

فلما حضر الأحزاب الخندق ، أمر النبي بحفر الخندق ، وكان أشار بذلك سلمان الفارسي. فلما رأته العرب قالت : مكيدة فارسية ، وامتنعت العرب من أن تعبره ، فكان ممن طفره عمرو بن عبد ود ، وضرار بن الخطاب الفهري ، وعكرمة ابن أبي جهل ، ونوفل بن عبد الله بن المغيرة. وفي ذلك يقول الشعراء :

عمرو بن ود كان أول فارس

جزع المذاد وكان فارس يليل

ولما عبر عمرو الخندق ، دعا إلى البراز وقال :

ولقد بححت من النداء

بجمعهم هل من مبارز؟

ووقفت إذ جبن الشجاع

بموقف البطل المناجز

إني كذلك لم أزل

متسرعا نحو الهزاهز

إن السماحة والشجاعة

في الفتى خير الغرائز

فأحجم المسلمون عنه فلم يخرج إليه أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وآله : أين علي؟ فجاء إليه ، فأمره بالخروج إليه ، ودفع إليه ذا الفقار سيفه ، ويقال إنه هبط به جبريل عليه السلام ، ويقال إن جبريل هبط بجريدة من الجنة فهزها النبي صلى الله عليه وآله فتحولت سيفا ، فسلمه إلى علي عليه السلام وأمره بالبروز إلى عمرو بن ود ، فلما توجه إليه قال النبي (صلى الله عليه وآله) : خرج الإسلام سائره إلى الكفر سائره ، فدعاه علي إلى

١٢٢

أن ينازله وقال : يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لقريش أن لا يدعوك رجل إلى خلتين إلا أخذت بإحداهما. قال عمرو : أجل. قال عليه السلام : إني أدعوك إلى الله ورسوله والاسلام. فقال : لا حاجة لي بذلك. قال : فإني أدعوك إلى المبارزة ، وكان عمرو نديما لأبي طالب ، فقال : يا بن أخي ما أحب أن أقتلك ، فقال له علي عليه السلام : ولكني والله أحب أن أقتلك.

فحمي عمرو فاقتحم عن فرسه وعرقبه ، ثم أقبل إلى علي ، فتبارزا وتجاولا ، وثارت عليهما غبرة سترتهما عن العيون ، فجزع النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون لذلك ، فلم يرع المسلمين إلا تكبيرة علي ، فعرف المسلمون أن عليا قتله ، وانجلت الغبرة فإذا علي على صدره يذبحه ، فكبر المسلمون وهزم الله المشركين ، وقال جبرائيل للنبي (صلى الله عليه وآله): يا محمد هذا المؤاساة ، وعرج إلى السماء وهو يقول بصوت يسمع لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.

وروى عمرو بن عبيد عن الحسن بن أبي الحسن أن أمير المؤمنين عليه السلام لما قتل عمرا وحمل رأسه وألقاه بين يدي النبي صلى الله عليه وآله ، قام أبو بكر وعمر فقبلا رأس أمير المؤمنين عليه السلام.

وروى أبو بكر بن عياش أنه قال : لقد ضرب علي عليه السلام ضربة ما كان في الإسلام أعز منها ، يعني ضربة عمرو بن عبد ود. ولقد ضرب علي ضربة ما كان في الإسلام ضربة أشد منها على الإسلام ، يعني ضربة ابن ملجم لعنه الله.

وقال الشاعر في ذكر هذه القتلة :

جبريل نادى في الوغى

والنقع ليس بمنجلي

والمسلمون بأسرهم

حول النبي المرسل

والخيل تعثر بالجما

جم والوشيج الذبل

١٢٣

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلا علي

وقالت كلثوم بنت عمرو بن عبد ود ترثي أباها :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكن قاتله من لا يعاب به

وكان يدعى قديما بيضة البلد

وأما الوليد الذي ذكره في البيت ، فهو الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ، وكان من قصته أنه خرج في يوم بدر عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وشيبة بن ربيعة أخوه ، والوليد بن عتبة بن ربيعة يطلبون البراز ، فخرج إليهم عدتهم من الأنصار فناسبوهم ، فلما عرفوهم قالوا : لا حاجة بنا إليكم ، إنما نريد أكفاءنا من قريش. فأمر النبي صلى الله عليه وآله حمزة بن عبد المطلب فخرج إلى عتبة بن ربيعة ، وعبيدة بن الحارث ابن عبد مناف فخرج إلى شيبة ، وعليا إلى الوليد ، فناسبوهم فانتسبوا فقالوا : أكفاء كرام ، وكان هؤلاء من سادات قريش ومن رؤساء المشركين. فأما حمزة وعلي فما لبثا عتبة والوليد حتى قتلاهما. وأما عبيدة وشيبة فاختلفا ضربتين ، فضرب عبيدة شيبة ، وضرب شيبة عبيدة فقطع رجله ، وأدرك علي شيبة فأجهز عليه وحملا عبيدة إلى النبي صلى الله عليه وآله فمات بعد انصرافهم من بدر. وتوفي عبيدة بن الحارث ودفن بالصفراء.

وقال أسيد بن أبي أياس بن زنيم بن صحبة بن عدي الدئلي يحرض المشركين من قريش على قتل علي عليه السلام ويغريهم به :

في كل مجمع غاية أخزاكم

جذع أبر على المذاكي القرح

لله دركم ولما تنكروا

قد ينكر الحر الكريم فيستحي

هذا ابن فاطمة الذي أوداكم

قتلا وقتلة قعصة لم يذبح

اعطوه خرجا وأذنوا بضريبة

فعل الذليل وبيعة لم تربح

١٢٤

أين الكهول وأين كل دعامة

في المعضلات وأين زين الأبطح

أفناكم ضربا وطعنا يفتري

بالسيف يعمل حده لم يصفح

وكان لواء المشركين في يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة ، فقتله علي بن أبي طالب (ع) ، فقال الحجاج بن علاط السلمي في ذلك :

لله أي مذبب عن حرمة

أعني ابن فاطمة المعم المخولا

جادت يداك له بعاجل طعنة

تركت طليحة للجبين مجدلا

وشددت شدة باسل فكشفتهم

بالحرب إذ يهوون أخول أخولا

وعللت سيفك بالدماء ولم يكن

لترده ظمآن حتى ينهلا

وقالت هند بنت عتبة ترثي أباها :

أيا عين جودي بدمع سرب

على خير خندف لم ينقلب

تداعى له رهطه غدوة

بنو هاشم وبنو المطلب

يذيقونه حد أسيافهم

تعل به بعد ما قد شجب

وكان هؤلاء النفر قبل التقاء الجمعين لما برزوا ثلاثتهم وبرز إليهم حمزة وعلي وعبيدة ، رفع النبي صلى الله عليه وآله يده إلى الله تعالى يتضرع إليه ويسأله ما وعده من النصر ويقول: اللهم إن تظهر علي هذه العصابة ظهر الشرك ولم يقم لك دين.

ولما قتلوا نذرت هند لتأكل كبد حمزة إن قدرت عليه.

فإن قيل : فلم ذكر السيد عتبة بن ربيعة أبا الوليد وإنما قتله حمزة؟

قلنا : (الفخر) لمن قتله حمزة لأمير المؤمنين (ع) ، لأن الجر والسنخ واحدة (كذا) والرافدة ومساعدة كل واحد منهما لصاحبه تسوغ هذه الإضافة.

فأما الصقعب : فهو الطويل من الرجال.

١٢٥

(٩٢ ـ ٩٣)

وبني قريظة يوم فرق جمعهم

من هاربين وما لهم من مهرب

وموائلين إلى أزل ممنع

رأسي القواعد مشمخر حوشب

الموائلون : اللاحقون ، يقال : وألت إليه إذا لجأت إليه ، واسم الموضع : الموئل ، ووأل يئل.

والأزل : هاهنا الذي تزل عنه الأقدام لطوله وكونه أملس وعرا.

والممنع : المتصعب.

والراسي : الثابت القواعد.

والمشمخر : العالي.

والحوشب : العظيم الجنبين ، وهو أيضا العظيم البطن. والحوشب أيضا : عظم الرسغ من الفرس ، [و] الحوشب : حشو الحافر ، والجمع من الكل : حواشب.

وإنما عني أن بني قريظة لما حاربهم ، هزمهم وهربوا منه ولجأوا إلى حصن كان لهم ، وصفه هذه الصفات.

(٩٤)

رد الخيول عليهم فتحصنوا

من بعد أرعن جحفل متحزب

يقول : إن الله تعالى لما أخزاهم به وفل حدهم ، تحصنوا من بعد أن كانوا

١٢٦

مصحرين في كنيف.

والأرعن : الجيش الكثيف ، شبهه برعن الجبل ، وهو أنف يتقدم الجبل ، والجمع رعان ورعون.

والجحفل : الجيش الكبير العظيم.

والمتحزب : المتجمع ، والحزب : الجماعة ، والجمع أحزاب.

(٩٥)

إن الضباع متى تحس بنبأة

من صوت أشوس تقشعر وتهرب

شبههم بالضباع.

والنبأة : الصوت ، والنبأ الخبر.

والأشوس : الرافع رأسه تكبرا ، والجمع شوس.

وإنما أراد به الأسد ، وقد استعاره.

(٩٦)

فدعوا ليمضي حكم أحمد فيهم

حكم العزيز على الذليل المذنب

لما حضرهم علي عليه السلام ، حين تحصنوا منه ، قال لهم : لا أمان لكم إلا أن تنزلوا على حكم محمد صلى الله عليه وآله فقالوا : ما ننزل على حكمه.

١٢٧

(٩٧)

فرضوا بآخر كان أقرب منهم

دارا فمتوا بالجوار الأقرب

(ش ١) قوله (فرضوا بآخر) لأنهم قالوا لما اشتد بهم الأمر وتطاول حصارهم نحن نرضى بحكم سعد بن معاذ ، لأنه كان جارا لهم ، وظنوا أنه يحكم بما يوافقهم فحكموه ، فحكم فيهم أن يقتل مقاتليهم ، وأن يسبي ذراريهم ، وأن يقسم أموالهم فقال له رسول الله : لقد حكمت بحكم الله ورسوله فيهم. والقصة مشهورة وشرحها يطول.

(ش ٢) المت في النسب : أن تصل نفسك بغيرك ، تقول : متت إليه أمت متا. والمت والمطل واحد ، إلا أن المت يختص بالنسب. والمد : في الحبل وشبهه. والمط : في الخط. والمطل : في المواعيد.

(٩٨ ـ ١٠١)

قالوا الجوار من الكريم بمنزل

يجري لديه كنسبة المتنسب

فقضى بما رضي الإله لهم به

بالحرب والقتل الملح المخرب

قتل الكهول وكل أمرد منهم

وسبى عقايل بدنا كالربرب

وقضى عقارهم لكل مهاجر

دون الأولى نصروا ولم يتهيب

الملح : من الالحاح ، بمعنى المداومة للشئ والاستمرار عليه. والالحاح

١٢٨

والالحاف : واحد. والمعنى أنه لما استمر عليهم القتل وعمهم جميعهم ، أخلى ديارهم وأجلاهم منها ، فبقيت بعدهم عاطلة دارسة.

والعقايل : جمع عقيلة ، وهي الكريمة من النساء. وعقائل المال : كرائمه.

والبدن : جمع بادنة ، وهي الوافر لحم الجسم. ويقال أيضا : بدنت المرأة وبدن الرجل تبدينا : أسن وهرم ، ورجل بدن : أي كبير السن.

والبدن : العظم ، وجمعه أبدان.

والبدن أيضا : الدرع القصيرة ، وجمعها أبدان أيضا.

والربرب : جماعة البقر ما كان دون العشرة. والصوار ما جاز.

وآخر في قوله (ورضوا بآخر كان أقرب) سعد بن معاذ الأنصاري ، لأن بني قريظة لما حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله في حصنهم المدة المذكورة في الكتب وضاق ذرعهم وعرض عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله أن ينزلوا على حكمه فيهم فأبوا ذلك ورضوا على حكم سعد بن معاذ لأنه كان جارا لهم لأنهم ظنوا أنه يحكم بما يوافقهم فحكموه ، فحكم عليهم أن يقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم وأن يقسم أموالهم. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة. والقصة مشهورة يطول ذكرها.

(١٠٢ ـ ١٠٥)

وبخم إذ قال الإله بعزمة

قم يا محمد بالولاية فاخطب

وانصب أبا حسن لقومك إنه

هاد وما بلغت إن لم تنصب

١٢٩

فدعاه ثم دعاهم فأقامه

لهم فبين مصدق ومكذب

جعل الولاية بعده لمهذب

ما كان يجعلها لغير مهذب

أما ((خم) فهو الموضع الذي يضاف إليه الغدير في قولهم غدير خم ، وهو الذي عناه الكميت مرة بقوله :

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان له الولاية لو أطيعا

ويجب أن يكون مشتقا من الخم وهو الكنس ، يقولون خممت أخمه خما إذا كنسته. والخمامة الكناسة ، والمخمة : المكنسة ، ورجل مخموم النفس والقلب : نقيه من الدنس. وكان هذا الوضع لاشية فيه ولا أذى ولا قذى.

يروى أن النبي صلى الله عليه وآله لما عاد من حجة الوداع نزل بغدير خم ، وأن قوله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) (١) نزل في هذا الموضع.

ويروى أن في هذا الموضع نزل قوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (٢). وأن النبي صلى الله عليه وآله نزل ، واليوم شديد متوهج القيظ ، فأمر صلى الله عليه وآله بما تحت الشجر من الشوك فضم ، ثم قام وقال للناس مقبلا عليهم :

(ألست أولى بكم من أنفسكم)؟

فلما أجابوه بالاعتراف والاقرار ، أخذ بضبعي أمير المؤمنين عليه السلام

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٧.

(٢) سورة المائدة : ٣.

١٣٠

فرفعهما حتى نظر الناس إلى بياض إبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم قال :

(فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله) (١).

واستأذن حسان رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقول في ذكر الحال شعرا ، فأذن له، فقال حسان : يا معشر مشيخة قريش اسمعوا قولي بشهادة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ثم قال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم وأسمع بالرسول مناديا

يقول فمن مولاكم ووليكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا

إلهك مولانا وأنت ولينا

ولا تجدن منا لأمرك عاصيا

فقال له قم يا علي فإنني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

وروي أن عمر بن الخطاب قال لأمير المؤمنين عليه السلام في الحال : بخ بخ لك يا علي ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.

وقد بينا في الكتاب (الشافي) خاصة وفي غيره من كتبنا عامة أن هذا الكلام نص عليه بالإمامة وإيجاب لفرض طاعته ، لأن النبي صلى الله عليه وآله قرر أمته بفرض طاعته بما أوجبه له قوله عز وجل (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (٢) ، ولا خلاف بين أهل اللغة بأن الأولى هو الأخص الأحق بالشئ الذي قيل وهو أولى به ، فإذا قال صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) ، فقد أتى من لفظة مولى بما يحتمل معنى أولى ، وإن كان محتملا لغيره من الناصر والحليف والمعتق

__________________

(١) أو في مصدر يراجع للاطلاع على أسانيد حديث الغدير ومداليل ألفاظه كتاب الغدير في الجزء الأول منه.

(٢) سورة الأحزاب : ٦.

١٣١

وابن العم وغير ذلك مما قد سطر وذكر ، فلا بد أن يكون إنما أراد من اللفظة المحتملة ـ وهي لفظة مولى ـ معنى الأولى الذي تقدم التصريح به ، لأن من شأن أهل اللسان إذا عطفوا محتملا على صريح لم يجز أن يريدوا بالمحتمل إلا معنى الصريح. ألا ترى أن من له عبيد كثيرون إذا أقبل على جماعة قال : ألستم عارفين بعبدي زيد؟ ثم قال عاطفا على الكلام : فاشهدوا أن عبدي حر لوجه الله تعالى ، لم يجز أن يريد بلفظة عبدي الثانية ، وهي مشتركة بين جماعة عبيده إلا العبد الأول الذي تقدم التصريح باسمه ، من أراد غيره كان سفيها ملغزا معميا.

وبينا بحيث أشرنا إليه ما يرد على هذا الكلام من الأسئلة المختلفة ، واستقصينا الجواب عنها وأزلنا كل شبهة معترضة فيها ، وليس هذا موضع استيفاء ذلك ، ومن أراد تناوله فمن مواضعه.

وأما قول السيد (إذ قال الإله بعزمة) والعزم لا يجوز على الله تعالى ، لأنه اسم لإرادة متقدمة على الفعل ، فإرادة التقديم لفعله لا تتقدمه ، لأن تقدمها عيب ، فالوجه فيه أن السيد إنما أراد ههنا القطع بالأمر والثبات له والايجاب ، لأنهم يقولون : عزمت عليك أن تفعل كذا وكذا أي ألزمتك وأوجبت عليك. والإرادة إذا تناولت فعل الغير لا تسمى عزمة ، وتسمى الواجبات عزائم ، ولا يسمون المندوبات بذلك ولهذا قالوا : عزائم السجود في القرآن، وهي السور التي فيها سجود واجب ، فما أخطأ السيد في ذكر العزمة ولا وضعها في غير موضعها.

فإن قيل : فإن السيد ذكر في شعره الولاية ، وهي الولاء والمحبة والنصرة ، ولم يذكر الإمامة ، وقد كان قادرا على أن يقول : قم يا محمد بالإمامة واخطب. فكيف عدل عن لفظ الإمامة إلى لفظ الولاية؟

قلنا : لا فرق هنا بين اللفظتين ، وإنما أراد بالولاية ، الخلافة وتولي الأمر

١٣٢

الموجب لفرض الطاعة. ألا ترون أن الخليفة إذا أمر أميرا وفوض إليه تدبير أمره قيل : إنه قد ولاه ولاية ، من حيث جعل له طاعة على أهل ولايته ، وكل رتبة تقتضي طاعة فهي تسمى ولاية.

وإنما اشتق السيد الاسم الذي ذكره من لفظ النبي صلى الله عليه وآله وهو (المولى) ولم يعتمد الاشتقاق من المعنى ، والمعنى في كلا اللفظتين ثابت. وقد صرح بمعنى الإمامة دون الموالاة التي هي النصرة في قوله : وانصب أبا حسن لقومك إلى آخره ، وهذا اللفظ لا يليق إلا بالإمامة والخلافة دون المحبة والنصرة.

وقوله (جعل الولاية لمهذب) صريح في الإمامة ، لأن الإمامة هي التي جعلت له بعده ، والمحبة والنصرة حاصلتان في الحال وغير مختصتين بعد الوفاة.

فإن قيل : فأي معنى لقوله (فبين مصدق ومكذب)؟

قلنا : إنما أراد أن النبي لما تأهب للكلام ودعا أمير المؤمنين وأخذ بيده ، تصرفت الظنون واختلفت الأفكار فيما يريد أن يظهره ، فبين تصديق وتكذيب وتصعيد وتصويب. وإنما أراد أنهم كانوا كذلك قبل استماع الكلام ووقوع التصريح المزيل لكل شبهة الدافع لكل ريبة ، ولله دره وإجادته في هذا.

(١٠٦ ـ ١١٠)

[والله أهبط جبرائيل قائلا (كذا)

لرسوله فانظر لذلك وأعجب] (١)

ما أن يبغلها سواك أو امرئ

هو منك أصلا وهو غير مجنب

__________________

(١) هذا البيت ورد في بعض النسخ.

١٣٣

هذى مناقب لا ترام متى يرد

ساع تناول بعضها يتذبذب

إني أدين بحب آل محمد

دينا ومن يحببهم يستوجب

لهم المودة والولاء ومن يرد

بدلا بآل محمد لا يحبب

فقد مضى تفسير المناقب.

فأما التذبذب : فهو الاضطراب والتردد والتحيز ، وذبذب الرجل لسانه وذكره. وإنما أراد أن من رام تناول بعض هذه المناقب قصر عنها ولم ينلها.

فأما قوله (أنا ندين بحب آل محمد) فمعناه : أنا نطيع الله بحبهم ، ونتقرب إليه بذلك.

والدين : العادة ، والديدن : العادة ، والدين : الحساب ، والدين : الذل ، والدين : الطاعة ، والدين : الجزاء ، ويقولون : دين الرجل إذا ملك وقلد.

وإنما أراد من تولى آل محمد صلى الله عليه وآله يستحق منا الولاء والمودة ، ومن يتدين بغيرهم لا نحبه.

(١١١ ـ ١١٢)

ومتى يمت يرد الجحيم ولا يرد

حوض الرسول وإن يرده يضرب

ضرب المحاذر إن تعر ركابه

بالسوط سالفة البعير الأجرب

الجحيم : اسم من أسماء النار ، وجحمت النار : أوقدتها ، وجحمت النار عظمت.

١٣٤

الجحام : داء يصيب الكلب يكون منه بين عينيه ، والجحمتان عند أهل اليمن : العينان.

العر : الجرب ، وقد عرت الإبل تعر فهي عارة.

السالفة : صفحة العنق إلى الخد ، والسالف : الذي يتقدم القوم فيستقي الماء وجمعه سلاف ، والسالف : الماضي.

وإنما أراد السيد رحمه الله أن عدو آل محمد صلى الله عليه وآله ومن لم يتولهم ويتحقق بهم يرد الجحيم لأنها منزله ودار مقامه ، وإذا ورد حوض رسول الله صلى الله عليه وآله الذي يشرب منه يوم القيامة ، إمارة السلامة والكرامة ودخول الجنة ، صد عنه وضرب كما يضرب المشفق ، من أن تجرب مطيته وركابه ، سالفة البعير الأجرب ، منعا له عن الاختلاط بها والورود معها فيجربها ويعديها.

(١١٣ ـ ١١٥)

وكأن قلبي حين يذكر أحمدا

ووصي أحمد نيط من ذي مخلب

بذرى القوادم من جناح مصعد

في الجو أو بذرى جناح مصوب

حتى يكاد من النزاع إليهما

يفرى الحجاب عن الضلوع الصلب

(ش ١) قوله نيط أي علق ، ونياط القلب : معلقه ، وكذلك نياط القوس.

والذرى : جمع ذروة ، وذروة كل شئ : أعلاه ، وذرى الرجل : ناحيته.

والقوادم : جمع قادمة. وقوادم الجناح أربع ريشات مقدمة ، ويليهن المناكب وهن أربع ريشات ، ويليهن الأباهر وهن أربع ريشات ، ثم الخوافي وهن أربع

١٣٥

فإذا جمعت كن عشرين ريشة نسقا من أول الجناح إلى آخره.

والمصعد : الذي يعلو إلى جهة السماء.

والمصوب : الذي يهوى سفلا إلى جهة الأرض.

والحجاب : حجاب القلب.

الصلب : الحجارة ، والصلب : الموضع الغليظ ، ويقال للظهر صلب وصلب.

(ش ٢) وإنما أراد بوصي أحمد صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين ((ع) ، لأنه وصيه على أمته وعلى أهله. وقد دللنا على ذلك من قبل.

ومعنى نيط : أي علق ، ونياط القلب : معلقه ، وكذلك نياط القوس ، والنياط حبل مستبطن الصلب ، ونياط الأرض : اتصال بعضها ببعض.

وأراد بذي مخلب : جارحا ذا مخلب.

والذرى : جمع ذروة ، وذروته : أعلاه. وذرى الرجل. ناحيته.

والقوادم : جمع قادمة ، وقوادم الجناح : أربع ريشات في مقدمته ، وتليهن المناكب وهي أربع ، وتليهن الأباهر وهي أربع أيضا ، ثم الخوافي وهي أربع ثم الكلاء وهي أربع ، فإذا جمعن كن عشرين ريشة من أول الجناح إلى آخره.

والمصعد : هو الذي يصعد علوا إلى جهة السماء.

والمصوب : هو الذي يهوي إلى جهة الأرض سفلا.

ومعنى هذا الكلام أن قلبي عند ذكرهما ، مسرة بهما واشتياقا إليهما ، ينزو ويعلم ، ويجئ ويذهب ، ارتياحا ونزاعا.

والفري : هو القطع.

والحجاب : يعني به حجاب القلب.

والصلب والصلبة : حجارة المسن ، الواحدة صلبة. والصلب : الظهر.

١٣٦

والصلب : الحسب ، والصلب : الموضع الغليظ المنقاد ، ويقال للظهر : صلب.

والصلب مثل النحل والنحل والهدب والهدب.

(١١٦ ـ ١١٧)

هبة وما يهب الإله لعبده

يزدد ومهما لا يهب لا يوهب

يمحوا ويثبت ما يشاء وعنده

علم الكتاب وعلم ما لم يكتب

الهبة : معروفة ، وهي العطية على سبيل التفضل ، والقبض شرط في وقوع التمليك فيها. ومعنى (ما يهب الإله لعبده يزدد) أنه يتضاعف وينمو لبركته وطهارته.

فإن قيل : فأي معنى لقوله (ومهما لا يهب) ، ومعلوم أن غيره تعالى قد يهب ويسمى ما يهب موهوبا؟

قلنا : معنى هذا الكلام أن هبة غيره لا تتم ولا يحصل الانتفاع بها إلا بعد تقدير هبة الله تعالى ، لأن الواهب منا لا يتم كونه واهبا إلا بما وهبه الله تعالى له من الأحياء والأقدار والتمكن ، والموهوب له لا ينتفع بالهبة إلا بما وهبه الله تعالى من الحياة والشهرة والقدرة ، والموهوب نفسه لا يتم الانتفاع به إلا بما خلقه الله فيه من أجناس المدركات كالطعوم والأراييج وغيرهما ، فهبته تعالى أصل لكل هبة كما أن نعمة الله أصل لكل نعمة.

ووجه آخر : إن الهبة إنما يقع التملك بها إما عقلا أو شرعا بحسب ما حكم الله تعالى به ودل عليه ، وما خرج عن تلك الشروط والأحكام لا يكون هبة ولا يوصف بأنه واهب ، وما لم يتفضل علينا بإعلامنا إنه هبة لا يسمى بذلك ، ولا يكون له تأثير ولا حكم.

١٣٧

ومعنى (يمحو ويثبت ما يشاء) أنه يغير أحكام الشريعة بحسب ما يعلمه من المصالح لعباده ، فيبيحه ما لم يكن مفسدة ، ويحظره إذا تغيرت حاله وصار مفسدة ويوجبه إذا كان مصلحة ، ويسقط وجوبه إذا خرج عن كونه مصلحة. وسمي بذلك محوا وإثباتا من حيث التبديل والتغيير والتطبب والتشبيه بمن كتب شيئا ثم محاه وأزال رسمه.

ويجوز أيضا أن يراد بالمحو والاثبات الحقيقة لا التسمية ، لما وردت به الرواية من إثبات ما يكون في اللوح المحفوظ ، فإذا تعبد تعالى بشرع كتبه وإذا نسخه محاه.

وأما قوله (وعنده علم الكتاب وعلم ما لم يكتب) ، فيحتمل أمرين : أحدهما أن يريد بالكتاب ما كتبه في اللوح المحفوظ ، والوجه الآخر أن يريد بالكتاب القرآن. ولا شبهة في أنه تعالى يعلم ما زاد على ذلك كله وما لا يتناهى من المعلومات.

* * *

وجدت في نسخة السيد رضي الله عنه ملحقا ملخصه :

وإذا كنا قد قضينا من تفسير هذه القصيدة الوطر ، وبلغنا الغرض ، فالواجب القطع ههنا ، وإنما لم نفرع التفسير ونتتبعه ، ونفصل وجوه الكلام كلها ونقسمها ، لأن هذا الخبر غير متناه ، ويحوجنا إن قصدناه واستوفيناه إلى ذكر وجميع أحكام العربية ، وجميع اللغة المروية في الكلام وفروعه ، وخاصة في الإمامة وما يرجع إليها ويتعلق بها ، وهذا غرض لا تتسع له الطوامير ، ولا تنحصر فيه الأساطير.

وفي الجمل التي ذكرناها كفاية في معرفة مراد الشاعر ، وما لا بد من معرفته من معاني كلامه ، وما تعدى ذلك فهي إطالة تمل وتضجر. غير أنا آثرنا أن نختم هذه القصيدة بشئ من أخبار السيد رحمه الله تعالى ، ومحاسنه وفضائله ، لتكمل

١٣٨

الفائدة وتوفر ، ونحن لذلك فاعلون :

اسم السيد إسماعيل ، وكنيته أبو هاشم بن محمد بن يزيد بن وداع الحميري وأمه من حمير ، تزوج بها أبوه لأنه كان نازلا فيهم ، وأم هذه المرأة أو جدته بنت يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري الشاعر المعروف ، وليس لابن مفرغ هذا عقب من ولد ذكر ، وقد غلط الأصمعي في نسبة السيد إلى يزيد بن مفرغ من جهة أبيه بنسبه.

قال الصولي : والسيد لقب به لذكاء كان فيه ، فقيل سيكون سيدا ، فعلق هذا اللقب به. بذلك أخبرنا على سبيل الإجازة أبو عبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني عن أشياخه ، وأخبرنا المرزباني قال : أخبرنا محمد بن يزيد النحوي قال : حدثني من سأل العباسة بنت السيد بن محمد عن مولد أبيها ، قالت : في سنة خمس ومائة ، ومات في سنة ثلاث وسبعين ومائة.

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال : حدثني أبو عبد الله الحكمي قال : حدثني يموت بن المزرع قال : حدثني محمد بن حميد الشكري قال : سئل أبو عمرو : من اشعر المولدين؟ قال : السيد وبشار.

وأخبرنا المرزباني قال : أخبرني محمد بن يحيى قال : أخبرنا المغيرة بن بحر قال : أخبرنا الحسين بن الضحاك قال : ذاكرني مروان بن أبي حفصة أمر السيد بعد موت السيد وأن أحفظ لشعر بشار والسيد ، فأنشدته قصيدته المذهبة التي منها :

أين التطرب بالولاء وبالهوى

أإلى الكواذب من بروق الخلب

أإلى أمية أم إلى شيع التي

جاءت على الجمل الخدب الشوقب

حتى أتيت على آخرها ، فقال مروان :

ما سمعت قط شعرا أفصح وأغزر معاني وأبعد ما يرجع في الظن وفي اللفظ (كذا) ولا أحسن من هذا الشعر.

١٣٩
١٤٠