رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

(الشهاب)

(في الشيب والشباب)

١٤١
١٤٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله على جزيل عطائه وجميل آلائه ، وله الشكر على ما منح من هداية ونفح من كفاية ، وصلى الله على سيد البشر محمد وآله الغرر وكرم وسلم.

سألت وفقك الله أن أجمع لك من مختار الشعر في الشيب ما تناله القدرة ، وتنتهي إليه الخبرة ، إذ كان الناس قد جمعوا في ذلك الكثير من غث وسمين وكريم وهجين ، فأنا أجيب مسألتك وأنجح طلبتك.

واعلم أن الإغراق في وصف الشيب والإكثار في معانيه واستيفاء القول فيه لا يكاد يوجد في الشعر القديم ، وربما ورد لهم فيه الفقرة فكانت مما لا نظير له ، وانما أطنب في أوصافه واستخراج دفائنه والولوج الى شعابه الشعراء المحدثون ، وان كان الإحسان المطبق للمفصل قليلا والجيد من كل شيء قدرا معدودا ، وللفحلين المبرزين الطائيين أبي تمام وأبى عبادة البحتري في هذا المعنى ما يغبر في الوجوه سبقا ، لا سيما البحتري فإنه مولع بالقول في الشيب لهج به معيد مبدئ لأوصافه ، ولا تكاد أكثر قصائده تخلو من إلمام به وتعرض له، فقد زاد فيه على كل متقدم لزمانه اكثارا وتجويدا وتحقيقا وتدقيقا ، فأنى أخرجت له في الشيب مائة وأربعين

١٤٣

بيتا لكنها مملوءة إحسانا وتجويدا.

ووجدت في شعر أخي رضي الله عنه وأرضاه وكرم مثواه في الشيب شيئا كثيرا في غاية الجودة والبراعة ، ورأيت أيضا بعد ذكر ما للطائيين ما ذكره كله لكثرة الإحسان فيه والغوص الى لطيف المعاني ، وقد أخرجت من ديوانه مائتين ونيفا وسبعين بيتا ، من تأملها وجد الحسن فيه غزيرا والتجويد كثيرا.

وأنا أضم الى ذلك وأختمه به ما أخرجه من ديوان شعري في هذا المعنى ، فإنه ينيف على الثلاثمائة بيت الى وقتنا هذا ، وهو ذو الحجة من سنة تسع عشرة وأربعمائة ، وربما امتد العمر ووقع نشاط مستقبل لنظم الشعر ، فأنفق فيه من ذكر الشيب ما يزيد في عدد هذا المذكور المسطور.

فأما الإحسان والتجويد مع هذا الإكثار الذي قد زاد على المكثرين في أوصاف الشيب فمما يخرجه الاختبار ويبرزه الاعتبار ، ويشهد بتقدم فيه أو تأخر ضم قول الى نظيره ومعنى الى عديله ، واطراح التقليد والعصبية وتفضيل ما فضله السبك والنقد من غير احتشام لحق يصدع به وباطل يكشف عنه ، ولا محاباة لمتقدم بالزمان على متأخر ، فما المتقدم الا من قدمه إحسانه لا زمانه وفضله لا أصله ، وقد قلت في بعض ما نظمته :

* والسبق للإحسان لا الأزمان *

وبانضمام ما أخرجته من هذه الدواوين الأربعة يجتمع لك محاسن القول في الشيب والتصرف في فنون أوصافه وضروب معانيه ، حتى لا يشذ عنها في هذا الباب شيء يعبأ به.

هذا حكم المعاني ، فأما بلاغة العبارة عنها وجلاؤها في المعاريض الواصلة إلى القلوب بلا حجاب والانتقال في المعنى الواحد من عبارة إلى غيرها مما يزيد عليها براعة وبلاغة أو يساويها أو يقاربها حتى يصير المعنى باختلاف العبارة عنه وتغير

١٤٤

الهيئات عليه وان كان واحدا كأنه مختلف في نفسه ، فهو وقف على هذه الدواوين مسلم لها مفوض إليها مع الانصاف الذي هو العمدة والعقدة في كل دين ودنيا وأخرى وأولى.

وان شئت أن تختصر لنفسك وتقتصر على أحد هذه الدواوين استغناء به في هذا المعنى عما سواه ولاحوائه على ما في غيره ، فأنت عند سبرك لها وأنسك بكل واحد منها وعملك بالاشتراك بينها والانفراد والاجتماع والافتراق تعرف على أيها تقتصر وبائها تستغني عما سواه.

واعلم أن الشيب قد يمدح ويذم على الجملة ، ثم يتنوع مدحه الى فنون ، فيمدح بأن فيه الجلالة والوقار والتجارب والحنكة ، وانه يصرف عن الفواحش ويصد عن القبائح ويعظ من نزل به فيقلل إلى الهوي طماحه وفي الغي جماحه ، وان العمر فيه أطول والمهل معه أفسح، وان لونه أنصع الألوان وأشرقها ، وما جرى مجرى ما ذكرناه ، فالتركب منه كثير.

ومن يذمه بأنه رائد الموت ونذيره ، وأنه يوهن القوة ويضعف المنة ويطمع في صاحبه ، وأن النساء يصددن عنه ويعبن به وينفرن عن جهته.

وربما شكي منه لنزوله في غير زمانه ووفوده قبل ابانه ، وانه بذلك ظالم جائر. وما أشبه ذلك.

ومما يدخل في هذا الشباب وإطراء السواد وذكر منافعهما وفوائدهما ومرافقهما ويتعلق بأوصاف الشيب ذكر الخضاب اما بمدح أو بذم ، وفنون مدحه أو ذمة كثيرة ، وذكر ما يقوم مقام الخضاب في إزالة شخص الشيب عن المنظرة من مقراض أو غيره.

وسيجيء من هذه المعاني في ما نورده من الدواوين الأربعة ما ستقف عليه في مواضعه وتعلم حسن مواقعه.

١٤٥

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

قال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي وهو ابتداء قصيدة

نسج المشيب له لفاعا مغدفا

يققا فقنع مذرويه ونصفا

نظر الزمان إليه قطع دونه

نظر الشفيق تحسرا وتلهفا

ما أسود حتى أبيض كالكرم الذي

لم يأن حتى جئ كيما يقطفا

لما تفوقت الخطوب سوادها

ببياضها عبثت به فتفوفا

ما كاد يخطر قبل ذا في فكره

في البدر قبل تمامه أن يكسفا

ووجدت أبا القاسم الآمدي يذكر في كتابه المعروف (بالموازنة بين الطائيين) في البيت الأول من هذه الأبيات شيئا أنا أذكره وأبين ما فيه ، قال : معنى قوله (نصفا) أي قنع جانبي رأسه حتى يبلغ النصف منه. قال : وقد قيل : إنما أراد بقوله (نصف النصيف) وهو قناع لطيف يكون مثل نصف القناع الكبير ، وقد ذكره النابغة ، فقال :

* سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *

ثم قال : وذلك لا وجه له بعد ذكر القناع ، وإنما أراد أبو تمام ما أراده الآخر بقوله :

أصبح الشيب في المفارق شاعا

واكتسى الرأس من مشيب قناعا

قال : فالمعنى مكتف بقوله (قنع مذرويه) وقوله (نصفا) أي بلغ نصف رأسه.

وهذا الذي ذكره الآمدي غير صحيح ، لأنه لا يجوز أن يريد بقوله (نصفا) أي بلغ نصف رأسه ، لأنه قد سماه لفاعا ، واللفاع ما اشتمل به المتلفع فغطى جميعه

١٤٦

لأنه جعله أيضا مغدفا ، والمغدف المسبل السابغ التام ، فهو يصفه بالسبوغ على ما ترى ، فكيف يصفه مع ذلك بأنه بلغ نصف رأسه. والكلام بغير ما ذكره الامدي أشبه.

ويحتمل وجهين :

أحدهما ـ أن يريد بقوله «نصفا» النصف الذي هو الخمار ، والخمار ما ستر الوجه، فكأنه لما ذكر أنه قنع مذرويه ـ وهما جانبا رأسه ـ أراد أن يصفه بالتعدي إلى شعر وجهه فقال «نصفا» من النصيف الذي هو الخمار المختص بهذا الموضع ، وليس النصيف على ما ظنه الامدي القناع اللطيف ، بل هو الخمار وقد نص أهل اللغة على ذلك في كتبهم. وبيت النابغة الذي أنشد بعضه شاهد عليه ، لأنه قال :

سقط النصيف ولم ترد إسقاطه

(فتناولته) واتقتنا باليد

وإنما اتقت بيدها بأن سترت وجهها عن النظر إليه ، فأقامت الخمار بهذا الموضع.

والوجه الآخر ـ أن يكون معنى نصفا أنه بلغ الخمسين وما قاربها ، فقد يقال في من أسن ولم يبلغ الهرم أنه نصف.

فإن قيل : النصف إنما يستعمل في النساء دون الرجال.

قلنا : لا مانع يمنع من استعماله فيهما ولو على سبيل الاستعارة في الرجال ، فقد يستعير الشعراء ما هو أبعد من ذلك. وعلى هذا الوجه يكون قوله (نصفا) راجعا إلى ذي الشيب وإلى من كنى عنه بالهاء في قوله (له) ، ولا يكون راجعا إلى الشيب نفسه.

١٤٧

ورأيت الآمدي يسرف في استرذال قوله :

* لم يأن حتى جئ كيما يقطفا *

ولعمري إنه لفظ غير مطبوع وفيه أدنى ثقل ، ومثل ذلك يغفر لما لا يزال يتوالى من إحسانه ويترادف من تجويده.

ووجدته أيضا يذمه غاية الذم على البيت الأخير الذي أوله :

* ما كان يخطر قبل ذا في فكره *

ويصفه بغاية الاضطراب والاختلال. وليس الأمر على ما ظنه ، إذ البيت جيد ، وإنما ليس رونق الطبع فيه ظاهرا ، وليس ذلك بعيب.

* * *

وله وهو ابتداء قصيدة :

يضحكن من أسف الشباب المدبر

يبكين من ضحكات شيب مقمر

ووجدت أبا القاسم الآمدي يغلو في ذم هذا البيت ، وقال : هذا بيت ردئ ما سمعت يضحك من الأسف إلا في هذا البيت. قال : وكأنه أراد قول الآخر :

* وشر الشدائد ما يضحك *

فلم يهتد لمثل هذا الصواب. قال : وقوله :

* من ضحكات شيب مقمر *

ليس بالجيد أيضا ، ولو كان ذكر الليل على الاستعارة لحسن أن يقول (مقمر) لأنه كان يجعل سواد الشعر ليلا وبياضه بالمشيب أقماره ، لأن قائلا لو قال (قد أقمر ليل رأسي) كان من أصح الكلام وأحسنه وإن لم يذكر الليل أيضا حتى يقول

١٤٨

«قد اقمر عارضاك» أو «فوداك» لكان حسنا مستقيما ، وهو دون الأول في الحسن وذاك أنه قد علم أنهما كانا مظلمين فاستنارا.

والذي نقوله : ان قول أبي تمام :

* يضحكن من أسف الشباب المدبر *

يحتمل أن يكون المراد به النساء اللواتي يرين بكاء عشاقهن وأسفهن على الشباب المدبر يهزأن بهم ويضحكن منهم ، ومثل ذلك يرد في الشعر كثيرا.

فأما قوله :

* يبكين من ضحكات شيب مقمر *

فالأولى أن يحمل على أن المراد به أنهن يبكين من طلوع الشيب في مفارقهن وضحكه في رءوسهن ، لأنا لو حملناه على شيب عشاقهن لكان الذي يبكين منه هو الذي يهزأن به، وهذا يتنافى. فكأنه وصفهن بأنهن يضحكن ويهزأن من شيء في غيرهن ويبكين منه بعينه إذا خصهن.

فأما حمل الضحك هاهنا على معنى البكاء وغاية الحزن ، فهو مستبعد وان كان جائزا. ويكون على هذا التأويل يضحكن ويبكين بمعنى واحد.

فأما عيبه لقوله «شيب مقمر» ففي غير موضعه ، وليس يحتاج الى أن يذكر الليل على ما ظنه. وكما يقال «أقمر ليل رأسك وأقمر عارضاك» على ما استشهد به كذلك يقال «أقمر شيبك» ولا يحتاج الى ذكر الليل ، وانما المعنى أنه أضاء بعد الظلام وانتشر فيه البياض بعد السواد.

وليس هذا تتبع من يعرف الشعر حق معرفته ، ولعمري ان هذا البيت خال من طبع وحلاوة ، لكن ليس الى الحد الذي ذكره الامدي.

* * *

١٤٩

وله من جملة قصيدة :

غدا الهم مختطا بفودي خطة

طريق الردى منها إلى الموت مهيع

هو الزور سجفا والمعاشر يجتوى

وذو الألف يقلى والجديد يرقع

له منظر في العين أبيض ناصع

ولكنه في القلب أسود أسفع

وكنا نرجيه على الكره والرضا

وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع

والاحسان في هذه الأبيات غير مجحود ولا مدفوع.

ومعنى أن الشيب في القلب أسود وإن كان في العين ناصعا ما يورثه من الهم والحزن الذي تظلم به القلوب وتكسف أنوارها.

* * *

وله من ج ملة قصيدة :

شعلة في المفارق استودعتني

في صميم الفؤاد ثكلا حميما

تستثير الهموم ما اكتن منها

صعدا وهي تستثير الهموما

عرة مرة ألا إنما كنت

أعزي أيام كنت بهيما

دقة في الحياة تدعى جلالا

مثل ما سمي اللديغ سليما

حلمتتي زعمتم وأراني

قبل هذا التحليم كنت حليما

قال الآمدي : وأخذ البحتري قوله (ألا إنما كنت أعزي أيام كنت بهيما) فقال :

عجبت لتفويف القذال وإنما

تفوفه لو كان غير مفوف

وقد كنا قلنا في مواضع تكلمنا فيها على معاني الشعر والتشبيه بين نظائره أنه ليس ينبغي لأحد أن يقدم على أن يقول : أخذ فلان الشاعر هذا المعنى من فلان

١٥٠

وإن كان أحدهما متقدما والآخر متأخرا ، لأنهما ربما تواردا من غير قصد ولا وقوف من أحدهما على ما تقدمه الآخر إليه ، وإنما الأنصاف أن يقال : هذا المعنى نظير هذا المعنى ويشبهه ويوافقه ، فأما أخذه وسرقه فمما لا سبيل إلى العلم به ، لأنهما قد يتواردان على ما ذكرناه ولم يسمع أحدهما بكلام الآخر ، وربما سمعه فنسيه وذهب عنه ثم اتفق له مثله من غير قصد ، ولا يقال أيضا : أخذه وسرقه إذا لم يقصد إلى ذلك.

وكم بين بيت أبي تمام وبيت البحتري مأخوذا منه أو غير مأخوذ في الطبع وصحة النسج وطلاوة اللفظ ، فلبيت أبي تمام الفضل الظاهر الباهر ، ويشبه قوله (وأراني قبل هذا التحليم كنت حليما) من شعري في الشيب قولي :

وقالوا أتاه الشيب بالحلم والحجى

فقلت بما يبري ويعرق من لحمي

وما سرني حلم يفئ إلى الردى

كفاني ما قبل المشيب من الحلم

وستجئ هذه الأبيات في موضعها بمشيئة الله.

* * *

وله من جملة قصيدة :

ألم تر ارآم الظباء كأنما

رأت بي سيد الرمل والصبح أدرع

لئن جزع الوحشي منها لرؤيتي

لا نسيها من شيب رأسي أجزع

ووجدت أبا القاسم الآمدي يفسر ذلك ويقول : أراد بسيد الرمل الذئب ، وقوله (والصبح أدرع) أي أوله مختلط بسواد الليل ، يريد وقت طلوع الفجر ، وكل ما أسود أوله وأبيض آخره فهو أدرع ، وشاة درعاء للتي أسود رأسها وعنقها وسائرها أبيض ، وإنما قال ذلك لأن الظباء تخاف الذئب في ذلك الوقت ، لأن لونه يخفى فيه لغبشته فلا تكاد تراه حتى يخالطها ، وهو الوقت الذي تنتشر فيه الظباء وتخرج

١٥١

من كنسها لطلب المرعى.

ونقول : إن الذي ذكره الآمدي مما يحتمله البيت ، وأجود منه أن يكون قوله (والصبح أدرع) عبارة عن شيبه وخبرا عن بياض بعض شعره وسواد بعض ، وأراد أن النساء اللواتي يشبهن الظباء ينفرن مني إذا رأين شيب رأسي كما ينفرن من ذئب الرمل. ثم قال : ولئن كان الوحشي يجزع من رؤيتي فالإنسي منها من شيب رأسي أجزع.

وإن لم يكن المعنى على ما ذكرناه فلا معنى لقوله : إن الظباء التي هي البهائم تنفر منه كما تنفر من الذئب ، لأنه لا وجه لذلك ولا فائدة فيه ولا سبب ، فالكلام بالمعنى الذي ذكرناه أليق.

فإن قال من ينصر تأويل الآمدي : أي معنى لقوله (كأنما رأت بي سيد الرمل) لولا أنه أراد بالظباء البهائم دون النساء المشهبات بهن ، وكيف تنفر النساء من الذئب وإنما تنفر منه الظباء على الحقيقة.

قلنا : النساء تنفر من الذئب لا محالة كما تنفر منه الظباء اللواتي هن الغزلان ، وما يهابه الرجال وينفرون منه أجدر أن ينفر منه النساء الغرائر.

فإن قيل : كيف قال في البيت الثاني :

لئن جزع الوحشي منها لرؤيتي

لإنسيها من شيب رأسي أجزع

لولا أن الوحشية قد نفرت منه ووقع ذلك وخبر عنه في البيت الأول؟

قلنا : ليس يقتضي هذا الكلام الثاني أن يكون المراد بذكر الظباء في البيت الأول والظباء على الحقيقة ، لأن من المعلوم أن الظباء الوحشية وكل وحش ينفر من الإنس ، وهذا أمر ممهد معلوم لا يحتاج إلى وقوعه حتى يعلم ، فلما قال : إن النساء اللواتي يشبهن الظباء ينفرن من شيبي جاز أن يقول بعد ذلك ولئن كانت الظباء

١٥٢

الوحشية تنفر مني فالظباء الأنسية لأجل إنكارهن شيبي منهن أنفر.

وبعد ، فلم نفسد تأويل الآمدي وننكره ، بل أجزناه وقلنا : إن البيت يحتمل سواه.

* * *

وله من جملة قصيدة :

لعب الشيب بالمفارق بل

جد فأبكي تماضرا ولغوبا

خضبت خدها إلى لؤلؤ العقد

دما إذ رأت شواتي خضيبا

كل داء يرجى الدواء له

إلا القطيعين ميتة ومشيبا

يا نسيب الثغام ذنبك أبقى

حسناتي عند الحسان ذنوبا

ولئن عبن ما رأين لقد

أنكرن مستنكرا وعبن معيبا

أو تصدعن عن قلى لكفي

بالشيب بيني وبينهن حسيبا

لو رأى الله إن في الشيب فضلا

جاورته الأبرار في الخلد شيبا

قال الآمدي : ومن يتعصب على أبي تمام يقول : إنه ناقض في هذه الأبيات لقوله (فأبكي تماضرا ولغوبا) وقوله (خضبت خدها إلى لؤلؤ العقد دما) ثم قوله :

يا نسيب الثغام ذنبك أبقى

حسناتي عند الحسان ذنوبا

وقوله (ولئن عبن ما رأين) ، وقالوا : كيف يبكين دما على مشيبه ثم يعيبه.

قال الآمدي : وليس ههنا تناقض ، لأن الشيب إنما أبكى أسفا على شبابه غير الحسان اللواتي عبنه ، وإذا تميز من أشفق عليه ممن عابه فلا تناقض.

وأقول : لا حاجة بنا إلى تمحله ، والمناقضة زائلة عن أبي تمام على كل حال ،

١٥٣

لأنه لا تناقض بين البكى على شبابه ممن بكاه من النساء وتلهف عليه وبين العيب منهن للشيب والانكار له ، بل هذه مطابقة وموافقة ، ولا يبكي على شبابه من النساء إلا من رأين الشيب عيبا وذنبا. وقد ذكرنا هذا في كتاب الغرر.

وهذا الذي ذكره ـ وإن كان لا يحتاج إلى ما تكلفه ـ قد كان ينبغي أن يفطن لمثله ونظيره في التغاير والتميز لما عابه بقوله (يضحكن من أسف الشباب المدبر) فجعل الضحك من شئ والبكى من غيره على ما بيناه ، ولا يحمله بعد الفطنة على أن يجعل الضحك بكاء وفي معناه.

* * *

وله من جملة قصيدة :

راحت غواني الحي عنك غوانيا

يلبسن نأيا تارة وصدودا

من كل سابغة الشباب إذا بدت

تركت عميد القربتين عميدا

أربين بالبرد المطارف بدنا

غيدا ألفتهم لدانا غيدا

أحلى الرجال من النساء مواقعا

من كان أشبههم بهن خدودا

ووجدت أبا القاسم الآمدي يختار في قوله (أربين) الباء دون الياء ، من أرب المكان إذا لزمه وأقام فيه. وأربين بالياء معناه الزيادة ، فكأنه يقول على الرواية بالياء أنهن أزددن علينا بالمرد واخترنهم علينا كما يقبل الرجل الزيادة في الشئ الذي يعطاه فاضلا عن حقه.

ولعمري أن الرواية بالباء أقرب منها بالياء إلى الحق ، وإن كان فيها بعض الهجنة على ما أشار إليه الآمدي.

وقال الآمدي : إنه أخذ قوله (أحلى الرجال من النساء مواقعا) من قول الأعشى :

١٥٤

وأرى الغواني لا يواصلن امرءا

فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

ولعمري أن بين البيتين تشابها ، إلا أن أبا تمام زاد على الأعشى بقوله : (من كان أشبههم بهن خدودا) فعلل ميل النساء إلى المرد والأعشى أطلق من غير تعليل.

* * *

وله وهو ابتداء قصيدة :

أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب

وآل ما كان من عجب إلى عجب

ست وعشرون تدعوني فأتبعها

إلى المشيب ولم تظلم ولم تحب

فلا يروقك إيماض القتير به

فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب

أما قوله (من عجب إلى عجب) فمن البلاغة الحسنة والاختصار السديد البارع ، وقوله (فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب) يريد به أن الرأي والأدب والحلم إنما يجتمع ويتكامل في أوان الكبر والشيب دون زمان الشباب. وقد تصف الشعراء أبدا الشيب بأنه تبسم في الشعر لبياضه وضيائه ، إلا أن هذه من أبي تمام تسلية عن الشيب وتنبيه على منفعته.

* * *

وله من جملة قصيدة :

شاب رأسي وما رأيت مشيب

الرأس إلا من فضل شيب الفؤاد

وكذاك القلوب في كل بؤس

ونعيم طلائع الأجساد

طال إنكاري البياض فإن

عمرت شيئا أنكرت لون السواد

زارني شخصه بطلعة ضيم

عمرت مجلسي من العواد

نال رأسي من ثغرة الهم لما

لم ينله من ثغرة الميلاد

١٥٥

ورأيت الامدي يقول : ان قوما عابوا أبا تمام بقوله «شيب الفؤاد» ، قال : وليس عندي بمعيب ، لأنه لما كان الجالب للشيب القلب المهموم نسب الشيب اليه على الاستعارة.

قال الامدي : وقد أحسن عندي ولم يسئ.

فيقال له : قد أحسن الرجل بلا شك ولم يسئ وما المعيب الا من عابه ، وأما أنت أيها الامدي فقد نفيت عنه الخطأ واعتذرت له باعتذار غير صحيح ، لأن القلب إذا كان جالبا للشيب كيف يصح أن يقال : قد شاب هو نفسه؟ وانما يقال : انه أشاب ولا يقال شاب.

والعذر الصحيح لأبي تمام : أن الفؤاد لما كان عليه مدار الجسد في قوة وضعف وزيادة ونقص ثم شاب رأسه ، لم يخل ذلك الشيب من أن يكون من أجل تقادم السن وطول العمر أو من زيادة الهموم والشدائد ، وفي كلا الحالين لا بد من تغير حال الفؤاد وتبدد صفاته ، فسمى تغير أحواله شيبا استعارة ومجازا كما كان تغير لون الشعر شيبا.

والبيت الثاني يشهد بما قلناه ، لأنه جعل القلوب طلائع الأجساد في كل بؤس ونعيم.

وقال الامدي : قوله «عمرت مجلسي من العواد» لا حقيقة له ، لأنا ما رأينا ولا سمعنا أحدا جاءه عواد يعودونه من الشيب ، ولا أن أحدا أمرضه الشيب ولا عزاه المعزون عن الشباب ، وقد قال ابن حازم الباهلي أو غيره :

أليس عجيبا بأن الفتى

يصاب ببعض الذي في يديه

فمن بين باك له موجع

وبين معز مغذ إليه

ويسلبه الشيب شرخ الشباب

فليس يعزيه خلق عليه

١٥٦

قال : فأحب أبو تمام ان يخرج عن عادات بني آدم ويكون أمة وحده.

فيقال له : لم لم تفطن لمعنى أبي تمام فذممته ، وقد تكلمنا على هذه الوهلة منك في كتابنا المعروف بغرر الفرائد وقلنا : انه لم يرد العيادة الحقيقية التي يغشى فيها العواد مجالس المرضى ، وانما تلطف في الاستعارة والتشبيه وأشار الى الغرض اشارة مليحة. والمعنى : ان الشيب لما طرقني كثر عندي المتوجعون لي منه والمتأسفون على شبابي ، اما بقول يظهر منهم أو بما هو معلوم من قصدهم واعتقادهم ، فسماهم عوادا تشبيها بعائد المريض الذي من شأنه أن يتوجع له من مرضه. ولما كثر المتفجعون له من الشيب حسن أن يقول «عمرت مجلسي من العواد» ، لأن هذه العبارة تدل على الكثرة والزيادة.

وهذا الذي ذكرناه في كتاب الغرر وهو كاف شاف ، ويمكن فيه وجه آخر ، وهو : أن يريد بقوله «عمرت مجلسي من العواد» الاخبار عن وجوب عيادته واستحقاقه لذلك بما نزل به ، فجعل ما يجب أن يكون كائنا واقعا.

وهذا له نظائر كثيرة في القرآن وفي كلام العرب وأشعارهم ، قال الله عزوجل (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً)(١) وانما المعنى أنه يجب أن يأمن ، فجعل قوة الوجوب واللزوم كأنه حصول ووقوع.

وما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله «العارية مردودة والأمانة مؤداة والزعيم غارم» من هذا الباب أيضا ، لأنه جعل الوجوب في هذه المواضع كأنه وقوع ووجوب.

وقد يقول القائل : فعل فلان كذا من الجميل فكثر مادحوه ، وان لم يمدحه أحد ، وفعل كذا من القبيح فكثر ذاموه ، وان لم يذمه بشر. وانما المعنى ما أشرنا إليه.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

١٥٧

فأما ثغرة الهم فإنما أراد به ناحية الهم ، وكذلك ثغرة الميلاد ، والثغرة في كلامهم هي الفرجة والثلمة ، وهي الثغر ، وهو البلد المجاور لبلد الأعداء البادئ لهم ، فكأن أبا تمام أراد أن الهموم هي الجالبة لشيبه والتي دخل من قبلها على رأسه الشيب دون جهة الميلاد ، لأنه لم يبلغ من السن ما يقتضي نزول الشيب.

وقال الآمدي : كان وجه الكلام أن يقول : من ثغرة الكبر أو من ثغرة السن لا من ثغرة الميلاد.

وهذا منه ليس بصحيح ، لأن العبارات الثلاث بمعنى واحد ويقوم بعضها مقام بعض، لأن الميلاد عبارة عن السن ، فمن تقادمت سنه تقادم ميلاده ومن قربت سنه وقصرت قصر وقرب زمن ميلاده.

وأنكر أيضا الآمدي قوله (نال رأسي) ، قال : وكان يجب أن يقول : حل برأسي أو نزل برأسي.

والأمر بخلاف ما ظنه ، لأن الجميع واحد وما نال رأسه فقد حل به ونزل. ونظير قوله (نال رأسي من ثغرة الهم) قولي من أبيات في الشيب سيجئ ذكرها بإذن الله تعالى :

ولو أنصفتني الأربعون لنهنهت

من الشيب زورا جاء من جانب الهم

ونظير قوله (طال إنكاري البياض) قول البحتري :

وكان جديدها فيها غريبا

فصار قديمها حق الغريب

وله ـ وقيل إنه منحول ـ في ذكر الخضاب :

فإن يكن المشيب طرا علينا

وأودى بالبشاشة والشباب

فإني لست أدفعه بشئ

يكون عليه أثقل من خضاب

١٥٨

أردت بأن ذاك وفا عذاب

فينتقم العذاب من العذاب

 (مضى ما لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي في الشيب)

وقال أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري في الشيب

من جملة قصيدة :

وكنت أرجي في الشباب شفاعة

وكيف لباغي حاجة بشفيعه

مشيب كبث السرعي بحمله

محدثه أو ضاق صدر مذيعه

تلاحق حتى كاد يأتي بطيئه

لحث الليالي قبل آتي سريعه

وهذا والله أبلغ كلام وأحسنه وأحلاه وأسلمه وأجمعه لحسن اللفظ وجودة المعنى ، وما أحسن ما شبه تكاثر الشيب وتلاحقه ببث السر عن ضيق صدر صاحبه وإعيائه بحمله وعجزه عن طيه ، ويشبه بعض الشبه قوله (تلاحق حتى كاد يأتي بطيئه) قولي من أبيات يجئ ذكرها بمشيئة الله تعالى :

سبق احتراسي من أذاه بطيئه

حتى تجللني فكيف عجوله

وفي البيت لمحة بعيدة من بيت البحتري وليس بنظير له على التحقيق.

ومعنى البيت الذي يخصني أدخل في الصحة والتحقيق ، لأنني خبرت بأن بطئ الشيب سبق وغلب احتراسي وحذري منه فكيف عجوله ، ومن سبقه البطئ كيف لا يسبقه السريع. والبحتري قال : إن البطئ كاد أن يسبق السريع ، وهذا على ظاهره لا يصح ، لأنه يجعل البطئ هو السريع بل أسرع منه ، لكن المعنى أنه متدارك متواتر فيكاد البطئ له يسبق السريع. وهذا في غاية الملاحة.

* * *

١٥٩

وله أيضا من جملة قصيدة :

ردي على الصبي إن كنت فاعله

إن الصبي ليس من شاني ولا أربي

جاوزت حد الشباب النضر ملتفتا

إلى بنات الصبي يركضن في طلبي

والشيب يهرب من جاري منيته

ولا نجاء له في ذلك الهرب

والمرء لو كانت الشعرى له وطنا

صبت عليه صروف الدهر من صبب

وهذا كلام مصقول مقبول عليه طلاوة غير مدفوعة ولا مجهولة. والشيب يهرب من جاري منيته له نظائر سيجئ التنبيه عليها بمشيئة الله وعونه.

* * *

وله من ابتداء قصيدة :

 لابس من شبيبة أم ناض

ومليح من شيبة أم راض

وإذا ما امتعضت من ولع الشيب

برأسي لم يغن ذاك امتعاضي

ليس يرضي عن الزمان مرو

فيه إلا عن غفلة أو تغاضى

والتوقي من الليالي وإن خالفن

شيئا شبيهات المواضي

ناكرت لمتي وناكرت منها

سوء هذي الأبدال والأعواض

شعرات أقصهن ويرجعن

رجوع السهام في الأغراض

وأبت تركي الغديات والآصال

حتى خضبت بالمقراض

غير نفع إلا التعلل من شخص

عدو لم يعده أبغاضي

ورواء المشيب كالنحض في عيني

فقل فيه في العيون المراض

طبت نفسا عن الشباب وما سود

من صبغ برده الفضفاض

فهل الحادثات يا ابن عويف

تاركاتي ولبس هذا البياض

فهل الحادثات يا ابن عويف

تاركاتي ولبس هذا البياض

قوله (خضبت بالمقراض) في غاية الملاحة والرشاقة.

١٦٠