رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

ومعنى قوله (رجوع السهام في الأغراض) إنه لا يملك ردا لطلوع الشيب في شعره ولا تلافيا لحلوله ، فيجري في ذلك مجرى رجوع السهام إلى الغرض في أنه لا يملك مرسل السهم صده عنه ولا رده عن أصابته.

ويمكن في ذلك وجه آخر وإن كان الأول أشف ، وهو أن يريد بالأغراض المقاتل والمواضع الشريفة من الأعضاء ، فكأنه يشبه رجوع الشيب بعد قصه له وطلوعه في شدة إيلامه وإيجاعه بإصابة السهام للمقاتل والفرائص.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن السهام تنزع من الأغراض ثم ترجع بالرمي إليها أبدا. فأشبهت في ذلك الشيب في قصه ثم طلوعه ورجوعه إلى مواضعه.

ونظير قوله (فهل الحادثات يا ابن عويف) البيت قوله من قصيدة أخرى :

يعيب الغانيات علي شيبي

ومن لي أن أمتع بالمعيب

* * *

وله من قصيدة :

وما أنس لا أنس عهد الشباب

وعلوة إذ عيرتني الكبر

كواكب شيب علقن الصبي

فقللن من حسنه ما كثر

وإني وجدت فلا تكذبن

سواد الهوى في بياض الشعر

ولا بد من ترك إحدى اثنتين

إما الشباب وأما العمر

ووجدنا لأبي القاسم الآمدي زلة في البيت الأخير من هذه الأبيات قد نبهنا عليها في كتاب الغرر ، ونحن نذكرها هاهنا فإن الموضع يليق بذكرها ، قال الآمدي : على البحتري في قوله (ولا بد من ترك إحدى اثنتين) معارضة ، وهو أن يقال : إن من مات شابا وقد فارق الشباب وقد فاته العمر أيضا فهو تارك لهما ، ومن شاب

١٦١

فقد فارق الشباب وهو مفارق للعمر لا محالة ، فهو أيضا تارك لهما جميعا. وقوله (إما وأما) لا يوجب إلا أحدهما.

ثم قال : والعذر للبحتري أن من مات شابا فقد فارق الشباب وحده لأنه لم يعمر فيكون مفارقا للعمر. ألا ترى أنهم يقولون (عمر فلان) إذا أسن ، وفلان لم يعمر إذا مات شابا ، ومن شاب وعمر لم يكن مفارقا للشباب في حال موته ، لأنه قد قطع أيام الشباب وتقدمت مفارقته له ، وإنما يكون في حال موته مفارقا للعمر وحده. فإلى هذا ذهب البحتري ، وهو صحيح ، ولم يرد بالعمر المدة القصيرة التي يعمرها الإنسان ، وإنما أراد بالعمر هاهنا الكبر كما قال زهير :

رأيت المنايا خبط عشواء من نصب

تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

ولم يرد البحتري ما توهمه الآمدي ، وإنما أراد أن الإنسان بين حالين : أما أن يفارق الشباب بالشيب والعمر بالموت ، فمن مات شابا فإنما فارق العمر وفارق بفراقه سائر أحوال الحياة من شباب وشيب وغيرهما ، فلم يفارق الشباب وحده بلا واسطة ، وإنما فارق العمر الذي فارق بمفارقته الشباب وغيره. وقسمة البحتري تناولت أحد أمرين : إما مفارقة الشباب وحده بلا واسطة ولن يكون إلا بالشيب أو مفارقة العمر بالموت.

وتقدير كلامه : لا بد للحي منا من مشيب أو موت ، لأن الشيب والموت يتعاقبان عليه. وإنما أقام البحتري قوله (العمر) مقام قوله (الحياة والبقاء) ، وعدل إلى لفظة العمر لأجل القافية ، ولو قال : لا بد من ترك الشباب أو ترك الحياة لقام مقام قوله العمر.

فأما اعتراضه بمن مات شيخا وإنه قد فارق العمر والشباب جميعا. فليس بشئ ، لأن هذا ما فارق إلا العمر دون الشباب ، لأن الشباب قد تقدمت مفارقته له

١٦٢

وقد خرج بالشيب عن حال الشباب فلم يفارق إلا العمر وحده. والبحتري إنما وجهت قسمته إلى من كانت له الحالتان جميعا من شباب وحياة ، فقال : لا بد أن يفارق الشباب بالشيب أو العمر بالموت. فأي اعتراض بمن هو على إحدى الحالتين دون الأخرى؟

فأما اعتذار الآمدي للبحتري بأن من مات شابا ما فارق العمر وإنما فارق الشباب وحده من حيث لم يطل عمره ولم يقل فيه معمر. فغلط فاحش ، لأن اسم العمر يتناول أيام الشباب كما يتناول ما زاد عليها ، ولهذا يقولون في الشاب والصبي لم يطل عمره أو كان عمره قصيرا ، فاسم العمر يتناول الطويل والقصير من الزمان حياة أحدنا. وإنما لا يقال في من عاش طرفة عين أن له عمرا ، لأن المتعارف من استعمال هذه اللفظة فيما تستمر الحياة له ضربا من الاستمرار قصر أو طال.

وليس يجري قولهم عمر ومعمر مجرى قولهم له عمر ، لأن لفظة عمر وما أشبهها تفيد التطاول ولا تكاد تستعمل إلا في السن ، لأنها تفيد من حيث التشديد التأكيد والزيادة في العمر ، ولفظة عمر بخلاف ذلك لأنها تستعمل في الطويل والقصير. ونظائر هذا البيت في معناه يجئ ذكرها عند الانتهاء إلى ما خرجته من شعري في الشيب.

* * *

وله من قصيدة :

يعيب الغانيات علي شيبي

ومن لي أن أمتع بالمعيب

ووجدي بالشباب وإن تقضي

حميدا دون وجدي بالمشيب

إنما جعل وجده بالشباب أقل من وجده بالمشيب ، لأنه يفارق الشباب بالشيب وصاحب الشيب في قيد الحياة على كل ولا يفارق الشيب إلا بالموت ، فالإيثار لمقامه أقوى.

١٦٣

* * *

وله من قصيدة :

أعداوة كانت ومن عجب الهوى

إن يصطفي فيه العدو حبيبا

أم وصلة صرفت فعادت هجرة

إن عاد ريعان الشباب مشيبا

أرأيته من بعد حفل فاحم

جون المفارق بالنهار خضيبا

فعجبت من حالين خالف منهما

ريب الزمان وما رأيت عجيبا

إن الزمان إذا تتابع خطوه

سبق الطلوب وأدرك المطلوبا

أراد بقوله (جون المفارق) أي هو أبيض المفارق ، ولهذا قال : بالنهار خضيبا.

* * *

وله من قصيدة :

رأت فلنأت الشيب فابتسمت لها

وقالت نجوم لو طلعن بأسعد

أعاتك ما كان الشباب مقربي

إليك فألحي الشيب إذ كان مسعدي

تزيدين هجرا كلما ازددت لوعة

طلابا لأن أردى فها أنا ذا رد

متى أدرك العيش الذي فات آنفا

إذا كان يومي فيك أحسن من غدي

ووجدت الآمدي يقول هاهنا بعد استحسانه هذه الأبيات : وهي لعمري في غاية الحلاوة والطلاوة ، وإن معنى تبسمت أنها استهزأت. قال : وبهذا جرت عادة النساء أن يضحكن من الشيب ويستهزئن لا أن يبكين كما قال أبو تمام ولم يقنع إلا ببكاء الدم.

وهذه عصبية شديدة من الآمدي على أبي تمام وغمط لمحاسنه ، والنساء قد يستهزئن تارة بالشيب ويبكين أخرى لحوله على حسب أحوالهن مع ذي الشيب ،

١٦٤

فإن كن عنه معرضات وله غير محبات استهزأن بشيبه ، وإن كن له وامقات وعليه مشفقات يبكين لحلول شيبه ، لفوت تمتعهن بشبابه وتلهفا على ما مضى من زمانه.

فأما قوله (لو طلعن بأسعد) فإنما تمنى ذلك وتلهف عليه ، كما قال في موضع آخر:

وتعجبت من لوعتي فتبسمت

عن واضحات لو لثمن عذاب

ولم يجعل ذلك شرطا في أنهن عذاب واضحات كما لم يجعل تشبيه الشيب بالنجوم مشروطا بطلوع السعود ، وإنما تمنى ذلك وتلهف عليه ، أو لأنه حكى عن محبوبته أنها شبهت الشيب بالنجوم على سبيل التهجين له والازراء عليه إرادة أن تسلب الشيب فضيلة النجوم وإنه أشبهها منظرا فما أشبهها فضلا ومنفعة فقالت لو طلعن بأسعد أي طلوع الشيب بضد السعادة ، وإن كان طلوع النجوم قد يكون بالسعد وهذا تدقيق مليح وتصرف قوي.

* * *

وله من قصيدة :

عنت كبدي قسوة منك ما أن

تزال تجدد فيها ندوبا

وحملت عندك ذنب المشيب

حتى كأني ابتدعت المشيبا

ومن يطلع شرف الأربعين

يلاق من الشيب زورا غريبا

* * *

وله من قصيدة :

وقد دعا ناهيا فأسمعني

وخط على الرأس مخلص شعره

شيب أرتني الأسى أوائله

فليت شعري ماذا ترى آخره

١٦٥

صغر قدري في الغانيات وما

صغر صبا تصغيره كبره

* * *

وله من قصيدة :

أيثني الشباب أما تولى

منه في الدهر دولة ما تعود

لا أرى العيش والمفارق بيض

أسوة العيش والمفارق سود

وأعد الشقي حدا ولو أعطيت

غنما حتى يقال سعيد

من عدته العيون فانصرفت

عنه الفتاتا إلى سواه الخدود

* * *

وله أيضا :

راعني ما يروع من وافد

الشيب طروقا ورابني ما يريب

شعرات سود إذا حلن بيضا

حال عن وصله المحب الحبيب

مر بعد الشباب ما كان يحلو

مجتناه من عيشنا ويطيب

وله أيضا :

أجدك ما وصل الغواني بمطمع

ولا القلب من رق الغواني بمعتق

وددت بياض السيف يوم لقيتني

مكان بياض الشيب كان بمفرق

* * *

وله أيضا :

عمر الغواني لقد بين من كثب

هضيمة في محب غير محبوب

١٦٦

إذا مددن إلى أعراضه سببا

وقين من كرهه الشبان بالشيب

* * *

وله أيضا :

خلياه وجدة اللهو ما دام رداء

الشباب غضا جديدا

إن أيامه من البيض بيض

ما رأين المفارق السود سودا

* * *

وله أيضا :

فدك مني فما جوى السقم إلا

في ضلوع على جوى الحب تحنى

لو رأت حادث الخضاب لانت

وأرنت من احمرار اليرنا

كلف البيض بالمعمر قدرا

حين يكلفن والمصغر سنا

يتشاغفن بالغرير المسمى

عن تصاب دون الخليل المكنى

* * *

وله أيضا :

ترك السواد للابسيه وبيضا

ونضا من السنين عنه ما نضا

وشآه اغيد في تصرف لحظه

مرض أعل به القلوب وأمرضا

وكأنه وجد الصبي وجديده

دينا دنا ميقاته أن يقتضى

أسيان أثرى من جوى وصبابة

واساف من وصل الحسان وانقضا

الأسيان والأسوان الحزين ، ومعنى أساف ذهب ماله ، وكذلك انفض. وجعلهما البحتري هاهنا في من ذهب من يده وصل الحسان وميلهن إليه.

١٦٧

* * *

وله أيضا :

أخي إن الصبي استمر به

سير الليالي فانهجت برده

تصد عني الحسان مبعدة

إذ أنا لا تربه ولا صدده

شيب على المفرقين بأرضه

يكثرني أن أبينه عدده

تطلب عندي الشباب ظالمة

بعيد خمسين حين لا تجده

لا عجب أن نقلت خلتنا

فافتقد الوصل منك مفتقده

من يتطاول على مطاولة

العيش تقعقع من ملة عمده

وقد نبهنا في كتاب الغرر على هفوة الآمدي في قول البحتري (تقعقع من ملة عمده) ، لأنه ظن أن معناه أن عظام الكبير المسن يجئ لها صوت إذا قام وقعد وتسمع لها قعقعة. وما سمعنا بهذا الذي ظنه في وصف ذوي الأسنان والكبر.

والمعنى أظهر من أن يخفى على أحد ، لأنه أراد من عمر وأسن وطاول العيش تعجل رحيله وانتقاله عن الدنيا. وكنى عن ذلك بتقعقع العمد ، لأن ذوي الاطناب والخيام إذا انتقلوا من محل إلى غيره وقوضوا عمد خيامهم وسارت بها الإبل سمعت لها قعقعة.

ومن أمثال العرب المعروفة (من يتجمع تتقعقع عمده) ، يريدون أن التجمع يعقب التفرق والرحيل الذي تتقعقع معه العمد.

ومعنى قوله (من ملة) يريد من السأم والملال ، دون ما ظنه الآمدي من أنه تملي العيش.

* * *

وله أيضا :

١٦٨

أقول للمتى إذ أسرعت بي

إلى الشيب أخسري فيه وخيبي

مخالفة بضرب بعد ضرب

وما أنا واختلافات الضروب

وكان جديدها فيها غريبا

فصار قديمها حق الغريب

* * *

وله أيضا :

هل أنت صارف شبة إن غلست

في الوقت أو عجلت عن الميعاد

جاءت مقدمة إمام طوالع

هذى تراوحني وتلك تغادي

وأخو الغبينة تاجر في لمة

يشري جديد بياضها بسواد

لا تكذبن فما الصبي بمخلف

لهوا ولا زمن الصبي بمعاد

وأرى الشباب على غضارة حسنه

وجماله عددا من الأعداد

ووجدت الآمدي قد نزل في معنى قوله (يشري جديد بياضها بسواد) ، لأنه قال معنى يشري يبيع ، وأراد أن الغبين من باع جديد بياضه بالسواد ، وأراد بالسواد الخضاب ، فكأنه ذم الخضاب.

والأمر بخلاف ما ذكره ، وما جرى للخضاب ذكر ولا هاهنا موضع للكناية عنه. ومعنى يشري هاهنا يبتاع ، لأن قولهم (شريت) يستعمل في البائع والمبتاع جميعا. وهذا من الأضداد ، نص أهل اللغة على هذا في كتبهم. فكأنه شهد بالغين لمن يبتاع الشيب بالشباب ويتعوض عنه به.

وإنما ذهب على الآمدي أن لفظة (يشري) تقع على الأمرين المضادين ، فتمحل ذكر الخضاب الذي لا معنى له ههنا.

وقال الآمدي في قوله (عددا من الأعداد) أنه أراد عددا قليلا. وقد أصاب في ذلك ، إلا أنه ما ذكر شاهده ووجهه ، والعرب تقول في الشئ القليل أنه معدود

١٦٩

إذا أرادوا الإخبار عن قلته ، قال الله تعالى (وشروه بثمن بخمس دراهم معدودة) (١) وقال جل اسمه في موضع آخر (واذكروا الله في أيام معدودات) (٢). وأظنهم ذهبوا في وصف القليل بأنه معدود من حيث كان العد والحصر لا يقع إلا على القليل والكثير لكثرته لا ينضبط ولا ينحصر.

* * *

وله أيضا :

ما كان شوقي ببدع يوم ذاك ولا

دمعي بأول دمع في الهوى سفحا

ولمة كنت مشغوفا بجدتها

فما عفا الشيب لي عنها ولا صفحا

هذا والله هو الكلام الحلو المذاق السليم من كل كلفة البرئ من كل غفلة وخلسة

* * *

وله أيضا :

قالت الشيب أتى قلت أجل

سبق الوقت ضرارا وعجل

ومع الشيب على علاته

مهلة للهو حينا والغزل

خيلت أن التصابي خرق

بعد خمسين ومن يسمع يخل

* * *

وله أيضا :

تزيدني الأيام مغبوط عيشة

فينقصني نقص الليالي مرورها

وألحقني بالشيب في عقر داره

منافل في عرض الشباب أسيرها

__________________

(١) سورة يوسف : ٢٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٣.

١٧٠

مضت في سواد الشعر أولى بطالتي

فدعني يصاحب وخط شيبي أخيرها

المناقل المراحل ، ووجدت الآمدي يفسر البيت الأول من هذه القطعة فيقول : أراد أن الأيام زادتني شيئا من غبطة العيش اجتمعت مع الليالي على انتقاصه وارتجاعه.

وغير هذا التأويل الذي ذكره أولى منه ، وهو أن يكون المراد أن الأيام إذا زادتني غبطة في العيش نقصني ذلك مرورها ، ويريد بقوله (نقص الليالي) كما تنقص الأيام من الليالي ، لأن الأيام تأخذ الليالي وتنقصها. وهذا التأويل أشبه بالصواب من تأويله.

فإن قيل : كما تأخذ الأيام من الليالي كذلك الليالي تأخذ من الأيام وتنقصها.

قلنا : هذا صحيح ، ولو قال قائل في غير هذا الموضع في من نقص وثلم إنه منقوص النقص في هذا نقص الليالي من الأيام لجاز ، وإنما أضاف النقص في هذا الموضع إلى مرور الأيام ، لأنه أضاف الزيادة إليها وشبه نقصها له بنقصها لليالي.

* * *

وله أيضا :

كلف يكفكف عبرة مهراقة

أسفا على عهد الشباب وما انقضى

عدد تكامل للذهاب مجيئه

وإذا مجئ الشيب حان فقد مضى

خفض عليك من الهموم فإنما

يحظى براحة دهره من خفضا

قال الآمدي في قوله (وما انقضى) إنه أراد وانقضائه ، لأن ما والفعل بمنزلة المصدر، مثل قولك (سرني ما عمل زيد) أي سرني عمله.

ثم قال : ويجوز أن يكون أراد بقوله (وما انقضى) أي لم ينقض بعد.

١٧١

قال : وهذا أجود ، لأنه قال (وإذا مضى الشئ حان فقد مضى) فدل على أنه في بقية من الشباب.

والوجه الأول الذي ذكره بعيد من الصواب لا يجوز أن يكون الشاعر عناه ولا أراده ، وإنما خبر أنه متلهف متأسف على عهد الشباب قبل مفارقته وخوفا من فوته ، فالكلام كله دال على ذلك.

* * *

وله أيضا :

خلق العيش في المشيب وإن

كان نضيرا في الشباب جديده

ليت أن الأيام قام عليها

من إذا ما انقضى زمان يعيده

ولو أن البقاء يختار فينا

كان ما تهدم الليالي تشيده

شيبتني الخطوب إلا بقايا

من شباب لم يبق إلا شريده

لا تنقب عن الصبي فخليق

إن طلبناه أن يعز وجوده

* * *

وله أيضا :

أواخر العيش أخبار مكدرة

وأقرب العيش من لهو أوائله

يحرى الشباب إذا ما تم تكملة

والشئ ينفده نقصا تكامله

ويعقب المرء برءا من صبابته

تجرم العام يمضي ثم قابله

إن فر (من) عنت الأيام حازمها

فالحزم فرك ممن لا تقاتله

وإن أراب صديق في الوداد فلم

أمسيت أحذر ما أصبحت آمله

وهذه الأبيات تصلح أن تكون لأبي تمام ، لقربها من طريقته وظهور الصنعة

١٧٢

فيها والتكلف ، وإن كانت في حيز الجودة والرصافة والوثاقة.

وقوله (يحرى الشباب) معناه ينقص ، يقال حري الشئ يحرى حريا إذا نقص وأحراه الزمان ، ويقال للأفعى حارية ، وهي التي كبرت ونقص جسمها ، وذلك أخبث لها.

* * *

وقال أيضا :

أما الشباب فقد سبقت بقضه

وحططت رحلك مسرعا عن نقضه

وأفاق مشتاق وأقصر عاذل

أرضاه فيك الشيب إذ لم ترضه

شعر صحبت الدهر حتى جازني

مسوده الأقصى إلى مبيضه

فعلى الصبي الآن السلام ولوعة

تثني عليه الدمع في مرفضه

وليفن تفاح الخدود فلست من

تقبيله غزلا ولا من عضه

* * *

وله أيضا :

وصال سقاني الخبل صرفا ولم يكن

ليبلغ ما أدت عقابيله الهجر

وباقي شباب في مشيب مغلب

عليه اختناء اليوم يكثره الشهر

وليس طليقا من تروح أو غدا

يسوم التصابي والمشيب له أسر

تطاوحني العصران في رجويهما

يسيبني عصر ويعلقني عصر

متاع من الدنيا استبد بجدتي

وأعظم جرم الدهر أن يمنع الدهر

أما قوله (اختناء اليوم) فالاختناء عندهم هو الاستحياء والانخزال ، واليوم ينخزل من مكاثرة الشهر لقصوره عنه.

١٧٣

وهذه الأبيات أيضا فيها أدنى تكلف ، وإن كانت جيدة المعاني وثيقة المباني.

* * *

وله أيضا :

تقضي الصبي أن لا ملام لراحل

وأغنى المشيب عن كلام العواذل

وتأبى صروف الدهر سودا شخوصها

على البيض أن يحظين منه بطائل

تحاولن عندي صبوة وأخالني

على شغل مما يحاولن شاغل

رمي رزايا صائبات كأنني

لما اشتكى منها رمي جنادل

وهذه الأبيات لها ما شاءت من جزالة وفصاحة وملاحة.

* * *

وله أيضا :

في الشيب زجر له لو كان ينزجر

وبالغ منه لولا أنه حجر

أبيض ما أسود من فوديه وارتجعت

جلية الصبح ما قد أغفل السحر

وللفتى مهلة في العيش واسعة

ما لم يمت في نواحي رأسه الشعر

قال الآمدي : قوله (ارتجعت جلية الصبح ما قد أغفل السحر) قريب من قوله :

تزيدني الأيام مغبوط عيشة

فنيقصني نقص الليالي مرورها

ونقول : إن الأمر بخلاف ما ظنه ، ولا نسبة بين الموضعين ، لأن أحد البيتين تضمن أن الذي يزيده هو الذي ينقصه ، والبيت الآخر تضمن أن الصبح ارتجع بوضوحه وجليته ما أغفله السحر وتركه من السواد الرقيق اليسير ، فالمرتجع غير المعطى هاهنا.

١٧٤

* * *

وله أيضا :

رب عيش لنا برامة رطب

وليال فيها طوال قصار

قبل أن يقبل المشيب وتبدو

هفوات الشباب في الادبار

كل عذر من كل ذنب ولكن

أعوز العذر من بياض العذار

كان حلوا هذا الهوى فأراه

صار مرا والسكر قبل الخمار

معنى قوله (طوال قصار) إنهن طوال في أنفسهن وإن كن قصارا ببلوغ الأماني فيهن والظفر بالمحبوبات ونيل المطلوبات.

وقوله (كل عذر من كل ذنب) يريد به أن العذر معتاد في الذنوب كلها إلا من الشيب.

فإن قيل : فقد سمي الشيب ذنبا وجعله من جملة الذنوب ، وليس بذنب على التحقيق.

قلنا : إنما سماه ذنبا تجوزا واستعارة ، لأن النساء يستذنبن به ويؤاخذن بحلوله ونزوله وإن لم يكن على الحقيقة ذنبا ، ومن حيث لم يك ذنبا لم يكن عنه اعتذار ولا تنصل.

* * *

وله أيضا :

عيرتني المشيب وهي برته

في عذاري بالصد والاجتناب

لا تريه عارا فما هو بالشيب

ولكنه جلاء الشباب

وبياض البازي أصدق حسنا

لو تأملت من سواد الغراب

١٧٥

* * *

وله أيضا :

ها هو الشيب لائما فأفيقي

واتركيه إن كان غير مفيق

فلقد كف من عناء المعنى

وتلافي من اشتياق المشوق

عذلتنا في عشقها أم عمرو

هل سمعتم بالعاذل المعشوق

ورأت لمة ألم بها الشيب

فريعت من ظلمة في شروق

ولعمري لولا الأقاحي لأبصرت

أنيق الرياض غير أنيق

وسواد العيون لو لم يكمل

ببياض ما كان بالموموق

ومزاج الصهباء بالماء أملا

بصبوح مستحسن وغبوق

أي ليل يبهى بغير نجوم

أو سماء تندى بغير بروق

قال الآمدي : أخذ قوله (أي ليل يبهى بغير نجوم) من قول الشاعر :

أشيب ولم أقض الشباب حقوقه

ولم يمض من عهد الشباب قديم

تفاريق شيب في السواد لوامع

وما خير ليل ليس فيه نجوم

وقد قلنا : إنه لا ينبغي أن يقال أخذ فلان كذا من فلان ، وإنما يقال في البيتين إنهما يتشابهان ويتشاكلان وإن هذا نظير ذاك ويزاد على ذلك. ويشبه قول البحتري :

ولعمري لولا الأفاحي لأبصرت أنيق الرياض غير أنيق

قول الشاعر :

لا يرعك المشيب يا ابنة

عبد الله فالشيب حلية ووقار

إنما تحسن الرياض إذا ما

ضحكت في خلالها الأنوار

١٧٦

وقد شبهت الشعراء الشيب بالنجوم وبالنور ، وهو طريق مسلوك معهود ، فمن محسن في العبارة ومسئ ومستوف ومقصر ، وسأنبه على ذلك وعلى ما يحضرني فيه عند الانتهاء إلى ما أذكره من شعري بمشيئة الله وعونه.

* * *

وله أيضا :

فإن ست وستون استقلت

فقد كرت بطلعتها الخطوب

لقد سر الأعادي في أني

برأس العين محزون كئيب

وإني اليوم عن وطني شريد

بلا جرم ومن مالي حريب

تعاظمت الحوادث حول حظي

وشبت دون بغيتي الحروب

على حين استتم الوهن عظمي

وأعطى في ما احتكم المشيب

* * *

وله أيضا :

قنعت على كره وطأطأت ناظري

إلى رنق مطروق من العيش حشرج

وجلجلت في قولي وكنت متى أقل

بمسمعة في مجمع لا الجلج

يظن العدى أني فنيت وإنما

هي السن في برد من العيش منهج

نضوت الصبي نضو الرداء وساءني

مضي أخي أمس متى يمض لا يجي

* * *

وله أيضا :

ومعيري بالدهر يعلم في غد

إن الحصاد وراء كل نبات

أبني إني قد نضوت بطالتي

فتحسرت وصحوت من سكراتي

١٧٧

نظرت إلى الأربعون فأضرجت

شيبي وهزت للحنو قناتي

وأرى لدات تتابع كثرهم

فمضوا وكر الدهر نحو لداتي

ومن الأقارب من يسر بميتتي

سفها وعز حياتهم بحياتي

وأحسن كل الاحسان في هذا الكلام العذب الرطب مع متانة وجزالة ، ولقوله (فأضرجت شيب وهزت للحنو قناتي) الحظ الجزيل من فصاحة وملاحة.

(مضى ما للبحتري)

وهذا ما أخرجته لأخي الرضي رضي الله عنه في الشيب

قال رضي الله عنه وهو ابتداء قصيدة :

دوام الهوى في ضمان الشباب

وما الحب إلا زمان التصابي

أحين فشا الشيب في شعره

وكتم أوضاحه بالخضاب

تروعين أوقاته بالصدود

وترمين أيامه بالسباب

تخطى المشيب إلى رأسه

وقد كان أعلى قباب الشباب

كذاك الرياح إذا استلامت

تقصف أعلى الغصون الرطاب

مشيب كما استل صدر الحسام

لم يرو من لبثه في القراب

نضى فاستباح حمى الملهيات

وراع الغواني بظفر وناب

وألوى بجدة أيامه

فأصبح مقذى لعين الكعاب

تستر منه مجال السوار إذا

ما بدا ومناط النقاب

قوله (لم يرو من لبثه في القراب) استعارة مليحة ، وإنما أشار إلى أن الشيب عجل على سواده في غير حينه وأبانه ، لأنه لما شبه طلوع الشيب بسله السيف أراد أن يبين مع هذا التشبيه سرعة وفوده في غير وقته ، فقال (لم يرو من لبثه في

١٧٨

لقراب) تحقيقا للمعنى الذي ذكرناه :

* * *

وله هو ابتداء قصيدة :

مسيري في ليل الشباب ضلال

وشيبي ضياء في الورى وجمال

سواد ولكن البياض سيادة

وليل ولكن النهار جلال

وما المرء قبل الشيب إلا مهند

صدي وشيب العارضين صقال

وليس خضاب الرأس إلا تعلة

لمن شاب منه عارض وقذال

* * *

وله من جملة قصيدة :

ضاع الشباب فقل لي أين أطلبه

وأزور عن نظري البيض الرعاديد

وجرد الشيب في فودي أبيضه

يا ليته في سواد الشعر مغمود

بيض وسود برأسي لا يسلطها

على الذوائب إلا البيض والسود

* * *

وله وهو ابتداء قصيدة :

لون الشبيبة أنصل الألوان

والشيب جل عمائم الفتيان

نبت بأعلى الرأس يرعاه الردى

رعي المطي منابت الغيطان

الشيب أحسن غير أن غضارة

للمرء في ورق الشباب الأني

وكذا بياض الناظرين وإنما

بسوادها تتأمل العينان

* * *

١٧٩

وله من قصيدة :

تنفس في رأسي بياض كأنه

صقال ترامى في النصول الذوالق

وما جزعي إن حال لون وإنما

أرى الشيب عضبا قاطعا حبل عاتقي

فما لي أذم الغادرين وإنما

شبابي أوفى غادر بي وماذق

تعيرني شيبي كأني ابتدعته

ومن لي إن يبقى بياض المفارق

وإن وراء الشيب ما لا أجوزه

بعائقة تنسى جميع العوائق

وليس نهار الشيب عندي بمزمع

رجوعا إلى ليل الشباب الغرانق

نظير قوله (ومن لي أن يبقى بياض المقارق) قول البحتري (ومن لي أن أمتع بالمعيب) وأحسن مسلم بن الوليد في قوله :

الشيب كره وكره أن يفارقني

أعجب بشئ على الغضاء مردود

يمضي الشباب ويأتي بعده خلف

والشيب يذهب مفقودا بمفقود

ومعنى قوله " مفقودا بمفقود " أي إنه يمضي صاحبه معه ويفقد بفقده ، وليس كذلك الشباب. ومعنى قوله " وما جزعي إن حال لون " أي ليس في التغير ما أجزع له لكنني أرى الشيب كالسيف الذي يقطع حبل عاتقي. وهذا مع إنه تشبيه للون الشيب بلون السيف ، يفيد أن حلول الشيب به في قطع آماله وحسم لذاته وتغيير أحواله يجري مجرى قطع السيف لحبل عاتقه ، وقد أحسن كل الاحسان في هذه الأبيات ، فما أجود سبكها وأسلم لفظها وأصح معانيها.

* * *

وله من جملة قصيدة :

ولى الشباب وهذا الشيب طارده

يفدي الطريدة ذاك الطارد العجل

١٨٠