رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

الزيادة في كتاب الشيب والشباب

* * *

قد كنا أشرنا إلى أنه متى اتفق في جملة ما ننظمه بعد عمل هذا الكتاب شئ يتضمن وصف الشيب ضممناه إليه وألحقناه به ، ونحن لذلك فاعلون :

* * *

ولي قصيدة أولها " توق ديار الحي فهي المقاتل " :

وأين الهوى مني وقد شحط (الصبي)

وفارق فودي الشباب المزايل

وقد قلصت عني ذيول شبيبتي

وفي الرأس شيب كالثغامة شامل

ولي من دموعي غدوة وعشية

لبين الشباب الغض طل ووابل

وكيف يزل الشيب أو يرجع الصبي

وجيب قلوب أو دموع هوامل

* * *

ولي وهي قطعة مفردة وفيها ذم الشيب :

قد كان لي لا فجر يمزجه

فالآن فجري بلا شئ من الغلس

٢٦١

قالوا تسلى فشيبات الصبي قبس

فقلت ذاك ولكن شر ما قبس

وزارني لم أرد منه زيارته

شيب ولم يغن أعواني ولا حرسي

يضئ بعد سواد في مطالعه

لفاغر من ردى الأيام مفترس

طوى قناتي واغتالت أظافره

تحضى ورد إلى تقويمه شوسي

وصد عني قلوب البيض نافرة

وساقني اليوم من نطق إلى خرس

إن كان شيبي بقاء قبله دنس

فقد رضيت بذاك الملبس الدنس

وغالطوني وقالوا الشيب مطهرة

وما السواد به شئ من النجس

والعمر في الشيب ممتد كما زعموا

لكنه لم يدع شيئا سوى النفس

معنى البيت الأول إنه كان مشبه بالغلس وهو الشباب لا يمزجه شئ من المشبه بالفجر وهو الشيب ، فانعكس ذلك وصار بياضي بغير سواد.

ومعنى البيت الثاني : أنهم إذا أسلوا عن المشيب وعزوا عن مضرته بأنه يشبه بالقبس الذي المنفعة به ظاهرة ، فمن أحسن جواب عن هذه التسلية أن يصدقوا في شبهه به هيئة وصبغة ومخالفته له في الفائدة والعائدة ، وقرب شئ يوافقه ظاهرا ويخالفه باطنا. والقبس أيضا الذي شبه الشيب به قد يستضر به في حال كما ينتفع به في أخرى. وقولي " ولكن شرما قبس " كاف في الجواب.

وإنما قلت " ذاك " ولم أقل ذاكم والخطاب لجماعة استقلالا للفظة الجمع في هذا الموضع واستخفاف خطاب الواحد.

وقد يجوز أن يقل المخاطب بالجواب على بعض من خاطبه دون بعض ، أما لتقدمه ووجاهته أو لفضل علمه وفرط فطنته. وفي الكلام الفصيح لهذا نظائر كثيرة يطول ذكرها ، فإن استحسن أو استخف راو أن يقول ذا كم مكان ذاك فليروه كذلك ، فلا فرق بين الأمرين.

٢٦٢

وأما البيت الثالث فمعناه أن الأعوان والحراس من شأنهم أن يدفعوا زيارة من تكره زيارته وتجتوى مقاربته ، والشيب من بين الزائرين الوافدين لا يغني في دفعه ومنعه أعوان ولا حراس.

ومعنى البيت الرابع نظير قولي وقدم تقدم :

ولاح بمفرقي قبس منير

يدل على مقاتلي المنونا

وقول أخي رضي الله عنه وقد تقدم أيضا :

تعشو إلى ضوء المشيب فتهتدي

وتضل في ليل الشباب الغابر

وقول ابن الرومي :

* فلما أضاء الشيب شخصي رمانيا *

ومعنى قولي في البيت الخامس " طوى قناتي " إنه حنى قامتي ، فإن الكبر يفعل ذلك.

والبحض : اللحم ، ولا شبهة في أن الكبر يعترق اللحم من الجسد.

فأما الشوش فهو رفع الرأس تكبرا وتجبرا ، يقال رجل أشوش ورجال شوش ، فأردت أن الشيب يمنع من التكبر ويقعد عن التجبر ويورث الخشوع والاستكانة والخضوع.

وقولي في البيت السادس " وساقني اليوم من نطق إلى خرس " يجوز أن يكون المراد به إنني أكل عن الحجة وأعجز عن استيفاء الخطاب لضعف الكبر وعجز الهرم ، فكأنني خرست بعد نطق.

ويجوز أن يراد به أيضا إنني أمسك عن الكلام وأسكت عن الجواب مع قدرة عليهما باسترذال كلامي واستضعاف خطابي ، فإن الكبر لا يؤتمر له ولا يصغى إليه.

٢٦٣

والبيت السابع مكشوف المعنى ، وكذلك الثامن.

فأما البيت الأخير فإن غاية ما يمدح به الشيب ويفضل له أن يقال : إن العمر فيه ممتد يزيد على العمر في الشباب ، فكأنني سلمت هذا الذي تدعى به الفضيلة والمزية وقلت: إذا كان المشيب لم يدع شيئا سوى النفس الدال على وجود الحياة مجردة من كل انتفاع والتذاذ وبلوغ أرب ووطر ، فأي فائدة في طول عمر بلا منفعة ولا لذة ولا متعة ، وإنما يراد تطاول العمر لزيادة الانتفاع وطول الاستمتاع.

* * *

ولي في مثل ذلك وهي قطعة مفردة :

لا تنظري اليوم يا سلمى إلي فما

أبق المشيب بوجهي نضرة البشر

جنى علي فقولي كيف أصنع في

جان إذا كان يجني غير معتذر

عرا فأعرى من الأقطار قاطبة

قهرا وألبسني ما ليس من وطري

وقد حذرت ولكن رب مقترب

لم أنج منه وإن حاذرت بالحذر

فإن شكوت إلى قوم مساكنهم

ظل السلامة ردوني إلى القدر

كوني كما شئت في طول وفي قصر

فليس أيام شيب الرأس من عمري

فقل لمن ظل يسلي عن مصيبته

لا سلوة لي عن سمعي وعن بصري

شر العقوبة يا سلمى على رجل

عقوبة من صروف الدهر في الشعر

إن كان طال له عمر فشيبه

فكل طول عداه الفضل كالقصر

يلين منه ويرخى من معاجمه

كرها ولو كان منحوتا من الحجر

فإن تكن وخطات الشيب في شعري

بيضا فكم من بياض ليس للغرر

ما كل إشراقة للصبح في غلس

وليس كل ضياء من سنا القمر

معنى قولي " وكل طول عداه الفضل كالقصر " أن طول الزمان إنما يحمد

٢٦٤

يطلب إذا جلب نفعا وأثمر فائدة ، وإذا كان بالضد من ذلك فهو كالقصير من الزمان في عدم الانتفاع بطوله.

ومعنى " فكم من بياض ليس للغر " أي لا تعزوني عن المشيب ببياض لونه وإشراقه فليس كل بياض محمودا وإن كان بياض الغرر ممدوحا.

ومعنى البيت الثاني هو هذا بعينه ومؤكدا للأول وموضحا عنه.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

قالت مشيبك فجر والشباب إذا

زرناك ظلمة ليل فيه مستتر

فقلت من كان هجري الدهر عادته

ما آن له بضياء الشيب معتذر

لا تسخطيه بهذا الشيب مصدوق

على عيوب بضد الشيب تستتر

ترين مني وضوء الشيب يفضحني

ما زاغ عنه ورأسي أسود نضر

معنى البيت الأول كأنه غريب. والجواب عن اعتذار المتمحل للهجر صحيح ، لأن من كان لا يلم بزيارة ولا يهم بلقاء سواء عليه ضياء أظهره أو سواد ستره.

والبيتان الأخيران بليغان في المعنى المقصود بهما.

وتقريب الشيب من قلوب من يطلب العيوب ويؤثر الظهور على الغيوب بأنه يظهر مكتومها ويبرز مستورها ، من ألطف المكايد وأغمضها.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

نضوت ثياب اللهو عني فقلصت

وشيبني قبل المشيب هموم

وقد كنت في ظل الشباب بنعمة

وأي نعيم للرجال يدوم

٢٦٥

وقد علم الأقوام إن لم يغالطوا

بأن صحيحا في المشيب سقيم

وإن غنيا في الهوى ونزيله

المشيب فقير الراحتين عديم

معنى قولي " وشيبني قبل المشيب هموم " قبل أوان المشيب وأبانه والوقت الذي جرت العادة بنزوله فيه ، ولا يجوز حمل الكلام إلا على ذلك في حكم الضرورة ، لأن ما شيب من الهموم فالمشيب لا محالة معه ، فكيف يكون قبله لولا الحذف الذي أشرنا إليه.

* * *

ولي قطعة وهي مفردة :

صد عني وأعرضا

إذ رأى الرأس أبيضا

ونضا عني الغضاضة

واللهو ما نضا

واسترد الزمان مني

ما كان أقرضا

ورماني بشيب رأسي

ظلما واغرضا

واستحال الطبيب لي

من سقامي فأمرضا

ومحب عهدته

صار بالشيب مبغضا

كان يرضى ولم يدع

شيب رأسي له رضى

قال لي مفصحا

وما كان إلا معرضا

أين شرخ الشباب

قلت خباء تقوضا

أو منام وافى الصباح

إلينا وقد مضى

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

٢٦٦

صد عني كارها قربي وقد كان حبيبا

ورأي في الفاحم الجعد من الرأس مشيبا

كشهاب غابت الشهب ويأبى أن يغيبا

أو كنار تخمد النار ويزداد لهيبا

كنت عريانا بلا عيب فأهدى لي العيوبا

قلت ما أذنبت بالشيب إليكم فأتوبا

هو داء حل جسمي

لم أجد منه طبيبا

لم تجد ذنبا

ولكنك لفقت ذنوبا

يحتمل البيت الخامس الذي أوله " كنت عريانا بلا عيب " وجوها من التأويل : أولها ـ إن يراد : أنني كنت بلا عيب فصار لي من الشيب نفسه عيب ، لأن النساء يعبن به وينفرن منه.

وثانيها ـ أن يكون المراد : إن الشباب كان ساترا لعيوب كانت في مغفورة لي لأجله ، فلما نزل الشيب أذيعت في وبقيت علي.

وثالثها ـ أنه لم يكن في عيب فلما نزل الشيب تمحلت لي عيوب وعلقت علي ونسبت إلي ، فإن ذا الشيب أبدا معيب بين النساء متجرم عليه.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

لا تطلبي مني الشباب فما

عندي شباب والشيب قد وفدا

أين شبابي وقد أنفت على

الستين سنا وجزتها عددا

فمن بغى عندي البشاشة

واللهو وبعض النشاط ما وجدا

٢٦٧

وقد مضى من يدي وفارقني

ما لا أراه براجع أبدا

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

صدت وما كان الذي صدها

إلا طلوع الشعر الأشهب

زار وكم من زائر للفتى

حل بواديه ولم يطلب

ركبته كرها ومن ذا الذي

اركبه الدهر فلم يركب

كأنه نار لباغي القرى

أضرمها القوم على مرقب

أو كوكب لاح على أفقه

أو بارق يلمع في غيهب

لحمي وقد أصبحت جارا له

زادي ودمعي وحده مشربي

وإنني فيه ومن أجله

معاقب القلب ولم أذنب

وليس لي حظ وإن كنت من

أهل الهوى في قنص الربرب

وما رأينا قبله زائرا

جاء إلينا ثم لم يذهب

معنى البيت الذي أوله " لحمي وقد أصبحت جارا له " إن صاحب الشيب إذا كان على الأكثر ينقص لحمه ويهزل جسمه ويعترق الشيب أعضاءه ، فكان ذا الشيب يتزود لحمه فهو يفنى على الأيام.

ويحتمل وجها آخر ، وهو : إن لذي الشيب حسرة على شبابه وحزنا على حلول مشيبه ، فيعض كفه وأنامله كما يفعل المغيظ المهموم ، وجعل ذلك الغيظ تزودا واقتياتا على سبيل المجاز.

والبيت الأخير معناه : أن من شأن كل زائر لغيره أن يجوز انصرافه عنه ومفارقته له وذلك المزور حي باق ، إلا الشيب فإنه إذا زار لم يذهب إلا بذهاب الحياة وفقدها.

٢٦٨

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

لا تسألني عن المشيب فمذ

جلل رأسي كرها جفاني الغرام

ليس للهو والصبابة واللذات

في أربع المشيب مقام

ما جنى الشيب في المفارق إلا

عنت الغانيات والأيام

هو نقص عند الحسان كما

أن شبابا مكان شيب تمام

وسقام وما استوت لك

في نيل أمانيك صحة وسقام

ومتى رمت عرجة عنه قالت

لي التجاريب رمت ما لا يرام

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

تقول لي ومآقيها مطفحة

من ذا أبان على صبغ الدجى قبسا

من ذا الذي غل من فوديك لونهما

وسل حسنك في ما سل أو خلسا

مالي أراك ونور البدر منكسف

في وجنتيك وخط فيهما طمسا

كأنما أنت ربع طل ساكنه

ومنزل عطل من أهله درسا

ما ضر شيئا وقد وافى بمنظرة

تقذى النواظر لو أبطا أو احتبسا

أما علمت بأنا معشر جزع

نقلي الصباح ونهوى دونه الغلسا

فقلت ما كنت من شئ يصيب به

ربي وإن ساء مني القلب محترسا

وما الشبيبة إلا لبسة نزعت

بدلت منها فلا تستنكري اللبسا

وفي كل الذي تهوين من جلد

فما أبالي أقام الشيب أم جلسا

لا تطلبي اللهو مني والمشيب على

رأسي فإن قعود اللهو قد شمسا

ولا ترومي الذي عودت من ملق

وكل ما لأن قبلي الغداة قسا

٢٦٩

ولي من قطعة مفردة :

* * *

قلت لمسود له شعره

هل لك في المبيض من شعري

خذه وان لم ترضه صاحبا

مع الذي بقي من عمرى

فقال لي يا بعد ما بيننا

ونازح أمرك من أمري

عمرت ستين ونيفها

ونيفت سني على عشر

ليس لداء بك من حيلة

فاجرع ملاء اكؤس الصبر

ان قيل : كيف تسمح نفس صاحب الشيب بأن يسأل في نقله عنه مع سلب ما بقي من عمره وانما يكره الشيب لأنه نذير الموت وبشير بمفارقة الحياة؟

فالجواب : ان أحد ما يكره له الشيب ما ذكرني السؤال والأكثر الأظهر في سبب كراهية المشيب نفور الغواني منه وصدودهن عنه وتعييرهن به ، وان صاحبه فاقد اللذات ضعيف الشهوات متكدر الحياة ، ومن كان بهذه الصفة تمنى أن يفارقه الشيب بمفارقة الحياة ليستريح من أدوائه التي لا علاج منها ولا دواء لها.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

لوت وجهها عن شيب رأسي وانما

لوت عن بياض زاهر لونه غضا

ولو أنصفت ما أعرضت عن شبيهها

ولا أبدلته من محبته بغضا

نفور الإنسان لا يكون عما يماثله ويجانسه بل عما يضاده ويخالفه ، والبيض من النساء يوافق لونهن لون المشيب ، فكيف نفرن عنه وبعدن منه مع المشاكلة لو لا انعكاس العادة في الشيب.

* * *

٢٧٠

ولي من جملة قطعة مفردة :

ورابك منى قبل أن تتبينى

بأن ليس لي أمر عليه مشيب

وعاقبتني ظلما وكم من معاقب

وليس له عند الحسان ذنوب

وليس عجيبا شيب رأسي وانما

صدودك عن ذاك المشيب عجيب

هبيه نهارا بعد ليل وروضة

تضاحك فيها النور وهي قطوب

ولا تطلبي شرخ الشباب وقد مضى

فذلك شيء ما أراه يؤوب

أما وصف ما لم يظهر زهره ونوره من الروض بالقطوب فمن واقع التشبيه وغريبه ، لأنه إذا شبه ما أزهر منه ونور بالضاحك جاز أن يسمى ما استمر على اخضراره واسوداده بأنه قاطب ، لفقد النور المشبه بالضحك منه.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

تلوم وقد لاحت طوالع شيبتي

وما كنت منها قبل ذاك مفندا

فحسبك من لومي والا فبعضه

فما أبيض إلا بعض ما كان اسودا

ولا تلزمينى اليوم عيبا بصبغة

ستكسينها اما بقيت لها غدا

ولو خلدت لي حالة مع تولع

الليالي بأحوالى لكنت المخلدا

ولو لم أشب أو تنتقصني مدة

لكنت على الأيام نسرا وفرقدا

وان المشيب فدية من حفيرة

أبيت بها صفرا من الناس مفردا

أوسد بالصفاح لا من كرامة

واني غنى وسطها ان اوسدا

فلا تنفري يا نفس يوما من

فما أنت إلا في طريق إلى الردى

البيت الثاني لطيف المعنى ، لأن من لام وفند وعنف على شيب لا صنع للشائب

٢٧١

في نزوله ولا حيلة له في دفع حلوله يجب أن يستوقف عن لومة ان أنصف ، فان أبى الا الظلم فلا أقل من أن يقتصر على بعض اللوام ولا ينتهي إلى غايته ، لأن الشعر الذي عنف ببياضه انما أبيض بعضه ولم يسر ذلك الى كله ، فسبب اللوم إذا لم ينته إلى الغاية فاللوم لا يجب أن ينتهي إليها.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

تضاحكت لما رأيت المشيب

ولم أر في ذاك ما يضحك

وما زال دفع مشيب العذار

لا يستطاع ولا يملك

وقال لي الدهر لما بقيت

اما المشيب أو المهلك

فقولي وأنت تعيبينني

لأي طريقهما اسلك

اللطف ما هون به نزول الشيب ، وأقواه شبهة انه فداء المنية وبدل من الهلكة وقد تقدم في شعري نظائر لذلك كثيرة من استقرأها وجدها.

* * *

ولي من جملة قطعة مفردة :

يا اسم ان صبابتي

بك لو أويت لها طويله

وأخذتني بذنوب شيب لم

تكن لي فيه حيله

نزلت شواتى خطة

منه احاذرها نزيله

وقضى الشباب وليته

لما قضى لم يقض غيله

كان الشباب وسيلتي

فالان ما لي من وسيله

* * *

٢٧٢

ولي وهي قطعة مفردة :

تقاسم الليل والإصباح بينهما

عمرى فمن حاصد طورا ومزدرعى

اعطى نهاري وليلى شبه صبغهما

فنسج أيدي الدجى ثم الضحى خلعى

لليل سودى وللصبح المنير إذا

أجلاه شيبى فلومي فيه أو قدعى

فنوبة الليل قد ولت كما نزلت

فأصبح من هذا المشيب معى

هذه الأبيات متضمنة لمعنى غريب ، لأن هذا القسم والتوزيع على الليل والنهار من الشيب والشباب شبههما ونظيرهما ما وجدته الى الان على هذا الترتيب في شيء من الشعر المأثور.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

إن عاقب الشيب السواد بمفرقى

فالليل يتلوه الصباح الواضح

من اخطأته وقد رمت قوس الردى

يبيض منه مفارق ومسانح

لو كان لليل البهيم فضيلة

لم تدن منه مقابس ومصابح

البيض للعينين وجه ضاحك

والسود للعينين وجه كالح

وأشد من جدع الجياد إذا جرت

جريا واصبرهن نهد فارح

والبزل تغتال الطريق سليمة

 وعلى الطريق من البكار طلائح

قد جمعت هذه الأبيات من الاعتذار للشيب والتسلية عنه من غريب بديع غير مبتذل وبين معروف معهود ، كأنه لحسن موقعه وعذوبة لفظه غير معروف ولا معهود والتأمل لذلك حكم عدل فيه. فمعنى البيت الثالث هو الذي ليس بمطروق.

وأدل دليل على أن السواد البهيم ليس بفضيلة للاستضاءة فيه بالمقابس والمصابيح وهذا تعلل وتمحل وان كان من مليح ما تمحل ، لأن الليل لا تتم الأغراض فيه الا

٢٧٣

بالمصابيح ليهتدى بها في سواده والا فالأوطار فيه غير مبلوغة ، وليس هذا في سواد الشباب وبياض الشيب ، ومن ذم بياض الشعر لم يذممه لأنه فضل البياض على السواد على كل حال، فينتقض عليه ذلك بمصابيح الليل. وانما ذمه لأن الأوطار التي تنال بالشباب المحمودة كلها تفقد معه ، فكان المذموم هو فقد سواد تدرك به الأغراض وتنال معه الأوطار دون ما ليس هذه صفته. وهذا التحقيق مطرح في الشعر ، ويكفى الشاعر إذا عيب ببياض شعره وفضل سواده على بياضه أن يعتذر في ذلك بما ذكرناه في البيت.

فأما البيت الرابع فمعناه أيضا كالبديع الغريب ، ويشبهه ما مضى من قولي تضاحك فيها النور وهي قطوب فان القطوب كالكلوح.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

تصدين عني للمشيب كأننى

صرفت شبابي أو دعوت مشيبي

وكيف سلوي عن حبيب إذا مضى

صرفت شبابي أو دعوت مشيبي

كأني ربع بعده غير آهل

وواد جفاه القطر غير خصيب

فلا تندبى عندي الشباب فإنما

بكائي عليه وحده ونحيبي

ولي وهي قطعة مفردة :

* * *

أمن بعد ستين جاوزتها

تعجب أسماء من شيبتي

وأعجب من ذاك لو ما كبرت

ولم ينزل الشيب في لمتى

فان كنت تأبين شيب العذار

فكم خيب المرء من منبت

٢٧٤

وان أنت يوما تخيرت لي

فشيبى أصلح من ميتتي

فلا تغضبى من صنيع الزمان

فما لك شيء سوى الغضبة

معنى قولي فما لك شيء سوى الغضبة ان الغضب لا يفيد شيئا ولا تحصلين فيه الا على مجرد الغضب من غير فائدة.

فأما قولي فشيبى أصلح من ميتتي فقد تقدمت نظائره.

* * *

ولي وهي قطعة مفردة :

جزعت امامة من مشيب

الرأس إذ سفهت امامه

وتنكرت بعد الصدود

وقد ألم بنا لمامه

واستعبرت لما رأت

في لمتى منه ابتسامه

ورأت على ظلم المفارق

من توضحه علامة

مثل الثغامة لونها

لكنها غير الثغامه

وتظلمت منه على

ان ليس تنفعها الظلامة

ولقد أقول لها وكم

من قائل أمن الملامة

لا تنكري بدد المشيب

فإنه ثمر السلامة

من بليغ القول ومختصره وصف الشباب بأنه ثمر السلامة.

* * *

وهذا انتهاء ما خرج وصف المشيب من نظمي الى سلخ ذي الحجة من سنة احدى وعشرين وأربعمائة ، وان تراخى الأجل وترامى المهل واتفق فما يخرج من الشعر شيء من وصف الشيب ضممناه الى ما تقدم. والله ولي التوفيق في كل قول وعمل وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

٢٧٥
٢٧٦

(مسألة في معجزات الأنبياء عليهم‌السلام)

٢٧٧
٢٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[بعض عقائد أسلاف المجبرة والمشبهة]

مسألة :

من كلام قاضي القضاة عبد الجبارين أحمد في أن المجبرة والمشبهة أن يمكنهم الاستدلال على النبوة.

قد اخترت في وقتنا هذا على التزام أشياء كان سلفهم يمتنعون من التزامها ، وأطلقوا ألفاظا كانوا يأبون إطلاقها. بل صار ما كان مشايخنا يرومون إلزامهم إياه أول ما يفتون به ، واستغنوا عن الكلام في البدل وعن كثير من العبارات التي كانوا يحايلون بها (١) وان كان لا محصول لها.

ومروا على جواز تكليف العاجز ما عجز عنه ، ومطالبة الأعمى بالتمييز بين الألوان، والزمن بصعود الأجبال (٢) ، وتعذيب الأسود [على سواده](٣). والزمن

__________________

(١) أى يحولون بتلكم الكلم عن معرفة الحقيقة.

(٢) الزمن : من اصابته الزمانة ، وهي العاهة ، أو عدم بعض الأعضاء ، أو تعطيل القوي.

(٣) زيادة منا لإكمال الجملة.

٢٧٩

على زمانته ، تكلف الممنوع صعود السماء ، والمشي على الماء ، ورد الفائت واحياء الميت ، والجمع بين المتضادين (١) ، وجعل المحدث والقديم محدثا وتعذيبه إذ هو لم يفعل ذلك.

وأجازوا في العقل أن يرسل الله تعالى الى عباده رسلا يدعون الى عبادة غير الله والكفر، وأن يحسن ذلك منه ومن الفاعل له عند أمره (٢) ، وأن يرد القيامة اثنان فيعذب أحدهما لأنه وحد الله ويعذب الأخر لأنه ألحد.

وأنكروا ألا يكون للحسن والقبيح في العقل حقيقة أصلا.

وبلغني أن فيهم من التزم أنه ليس في أفعال الله تعالى ما هو حسن ، لأنهم لما عقلوا قبح القبيح بنهي الله عنه ـ والله تعالى ليس بمنهي لم يصح منه شيء ـ لزوال علة القبيح من أفعاله.

قيل لهم : فكذلك فقولوا انه ليس في أفعاله حسن ، إذ علة الحسن فينا ، وهي الأمر زائلة (٣) عن أفعاله.

واتصل بنا أنهم مروا على ذلك فخالفوا نص القرآن والإجماع ، وخرجوا عن سائر الأديان ، ولم يحجموا عن شيء ، وان ظهر أمره الا لخوف عاجل ضرره ، وألا يقبل العامة منهم ، وألا يعاديهم (٤) السلطان عليه من جواز ظهور العجز على تكذيب (٥) المدعي للنبوة. فأما من يدعي الإلهية لنفسه فقد أجازوا ذلك.

وسئلت أن أصرف طرفا من العناية إلى شرح هذا الفصل ، وأن أذكر من

__________________

(١) في الأصل «بين المتضادان».

(٢) في الأصل «عند أمرد».

(٣) كذا في النسخة.

(٤) في الأصل «تعادهم».

(٥) في الأصل «على الكذب».

٢٨٠