رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

ذلك طرفا مما أرتئيه (١) على أقصى ما في مللهم إن شاء الله ، وبه القوة.

[وجه عدم إظهار المعجزات على أيدي غير الأنبياء]

يقال لهم : إذا أجزتم أن يصد الله تعالى العباد عن الدين ويستفسد المكلفين ويخلق الضلال في قلوبهم والجحد في ألسنتهم ، فلم لا يجوز أن تظهر المعجزات على المقتولين ليغتر بذلك المكلفون فيصدقوهم فيما هم فيه كاذبون؟

فان قالوا : لا يجوز ، لأن المعجز لنفسه أو لكونه معجزا دال على صدق الصادق ونبوة النبي ، فليس يجوز أن ينقلب عما هو عليه ، والا يخرج (٢) من أن يكون دليلا على أن فاعله قادر.

قيل لهم : ولم زعمتم ذلك ، وما وجه دلالة المعجز على صدق من ظهر عليه ومن أي وجه أشبه ما ذكرتموه؟

فان قالوا : بينوا أنتم وجه دلالة ما ذكرناه على ما زعمتم أنه دليل عليه.

بينا وجه ذلك وأوضحناه ونهجنا طريقه ، ثم عدنا إلى المطالبة بوجه دلالة ما سألناهم عنه على المسامحة دون المضايقة.

فإن قالوا : لأنا رأينا دعاء كل منكذب في ذلك يسمع والعلم عند مسألته لا يقع فعلمنا أن من ظهر على يديه لا بد من أن يكون مباينا لغيره من المتخرصين ، إذ لو كان كهم لوجب أن تقع عند كل داع ومسألة كل سائل.

يقال لهم : ما أنكرتم أن يكون الغرض في وقوعه دعوى بعضهم دون بعض هو الاستفساد والتلبيس ولظنوا ما قلتم انكم عملتموهم ، فصح أن يكون غواية

__________________

(١) في الأصل «طرقا ماى ارتاه».

(٢) في الأصل «والا ان يخرج».

٢٨١

وتلبيسا. ولو ظهر على يدي كل كاذب وصح لكل مدع لجرت العادة به ، ولا يتم الغرض.

[لا يجوز كذب الرسول في اخباره]

استدلال آخر :

ان قالوا : لو جاز أن يظهر المعجز على يدي الكذابين لم يجز أن يظهر على [يدي](١) أحد من الصادقين ، ولوجب أن يكون من ظهر عليه كاذبا في جميع ما يخبر به. كما أنه لما دل عندنا وعندكم على صدق الأنبياء لم يجز أن يقع منهم كذب ، وفي علمنا يصد من ظهر على يديه في كثير مما يخبر به ، دليل على أن المعجز دليل الصدق لا الكذب.

يقال لهم : ان لم تمسكتم أن يكون دلالة على كذب الكاذب وانما سميناكم تلبيسا (٢) واضلالا ، وما كان كذلك فليس يجب أن يجري على طريقة واحدة. وإذا كان هذا الزامنا سقط ما تعلقتم به.

وأيضا : فإن العلم ليس هو تصديق لمن ظهر عليه في كل ما يخبر به ، وانما هو تصديق له فيما أخبر به من النبوة لنفسه وبحمله الرسالة عن ربه ، وإذا كان كذلك ثبت أنه لم يظهر قط الا تصد لمن كذب في هذا المعنى ، فأما صدقه في غير ذلك فلا تعلق له بالمعجز.

وانما قلنا نحن أن الرسول عليه‌السلام لا يجوز أن يكذب في شيء من أخباره لأن في كونه في غير ما أداه عن الله تعالى [يكون](٣) اتهاما له وتنفرا عنه ، وليس

__________________

(١) زيادة منا لإتمام الكلام.

(٢) كذا في النسخة.

(٣) الزيادة منا والعبارة غير مستقيمة.

٢٨٢

يجوز أن يرسل الله تعالى من يكون كذلك ، كما لا يجوز أن يفعل شيء من ضروب الاستفساد. وهذه طريقته المستمرة على أصولكم ، فالمطابقة بحالها.

فان قالوا : ليس يخلو المعجز من أن يكون دليلا على الصدق والكذب ، فان كان دليلا على الصدق فهو ما قلنا ، وان كان دليلا على الكذب لزم فيه ما ألزمنا.

قيل لهم : ما أنكرتم ألا يكون دليلا على أحدهما وأن يكون الغرض فيه هو التبيين على ما بينا فهل من فضل. وما أنكرتم من أن يكون تصديقا لكاذب مخصوص وهو المدعي للنبوة فلا يوجد الا كذلك ، فهل من شيء تدفعون به ما طولبتم (١) به ، ولن تجدوا ذلك أبدا.

[استحالة القبيح على القديم تعالى]

دليل آخر لهم :

ان قالوا : ان المعجز تصديق لم نظهر عليه ، فكما لا يجوز أن يصدق الله تعالى أحدا ـ بأن يخبر بأنه صادق وهو كاذب ـ فكذلك لا يجوز أن يصدق لما يجري مجرى القول من الفعل.

يقال للنجارية منهم : المسألة عليكم في البابين واحدة ، فلم لا يجوز ذلك.

ويقال للكلابية : نحن قلوبكم ذلك ، فبم تتفضلون.

فان قالوا : قد ثبت أن الله تعالى صادق لنفسه أو أن الصدق من صفات ذاته ، فليس يجوز عليه الكذب في شيء من أخباره ، كما انه إذا كان عالما لنفسه لم يجز أن يجهل شيئا من معلوماته.

قيل لهم : هاهنا سلمنا لكم هذا الذي لا سبيل لكم اليه ، وسنبين لكم بطلان

__________________

(١) في الأصل «ما طولتم».

٢٨٣

دعواكم له فيما بعد ، ولكن كيف بناء ما سلمناكم عنه على ما سلمناه لكم ، وذلك أن الكذب ثم يمتنع وقوعه من القديم تعالى لقبحه ، فلا يجوز أن يقع منه ما ضاهاه في القبح. وانما استحال عليه لأنه موصوف بضده لنفسه.

وليس هذا المعنى موجودا فيما سألناكم عنه ، لأن المعجز فعل من أفعال الله تعالى ، فما الجامع بينهما. فلا يجدون شيئا.

[عدم جواز إضلال الله تعالى عن الدين]

دليل آخر لهم :

ان قالوا : لو جاز أن يظهر الله المعجز على [أيدي](١) الكذابين لكان لا سبيل لنا على الفصل بين الصادق [والكاذب] والنبي والمتنبي من جهة الدليل ، ولكان القديم تعالى غير موصوف بالقدرة ، على أن يدلنا على الفصل بينهما. وهذا تعجيز له ، وقد دليل الدليل على أن القدرة من صفات ذاته ، فما أدى (٣) الى خلاف ما دل الدليل عليه فهو باطل.

قل لهم : فقولكم أداكم اليه ، وذلك أن كذب الكاذب إذا كان لا يخرج القديم من أن يكون قادرا على ما كان قادرا عليه ولم يكن قبح الفعل يؤمننا من وقوعه منه تعالى على قولكم ، فما أنكرتم من أنه لا سبيل لنا ولا للقديم تعالى الى الفصل بين الصادق من جهة الدليل لا ترون أن من خالفكم في إجازة الضلال عن الدين على الله تعالى لقبح ذلك. كيف يمكنه أن يستدل بظهور المعجز على صدق من ظهر عليه وأنكم مختصون بتعذر ذلك عليكم على أصولكم. فهذا القول بمقتضى أصولكم

__________________

(١) الزيادة منا لتكميل الكلام.

(٢) في الأصل «فما أدرى».

٢٨٤

وقوع على مذاهبكم ، فان كان قولكم صحيحا فهو صحيح فلا تأبوه (١) ، وان كان باطلا فقولكم الذي أدى اليه باطل.

أرأيتم ان لو جعلنا ابتداء السؤال عن هذه فقلنا لكم : لو جاز أن يضل الله عنالدين يفعل غير ذلك من ضروب القبيح فما الدليل على أنه موصوف بالقدرة على الفصل (٢) بين الصادق والكاذب من جهة الدليل. فما كان يكون جوابكم عن هذا؟

فان قالوا : إذا ثبت أن القدرة من صفات ذاته ، وكان هذا وجها يمكن الفصل فيه وطريقا يمكن سلوكه ويطرق منه الى الفرق بين النبي والمتنبي ، وجب أن يكون القديم موصوفا بالقدرة. على أن يفرق لنا بينهما ولما كان ذلك تعجيزا.

قيل لهم : ولم زعمتم أن هذا وجه يمكن الفصل منه على تلك الأصول. وما الفرق (٣) بينكم وبين من قال : انه لو كانت العقول لا تدل على أن القبيح لا يجوز على الله تعالى وان الإضلال عن الدين مانع منه (٤) جائز في حكمه. لكان العقل مقتضيا أنه لا سبيل الى الفصل بين الصادق والكاذب من جهة الدليل ، وكان ذلك في قسم المحال الذي لا تصح القدر عليه ولا العجز عنه.

[تقسيم خاطئ في المعلومات]

ثم يقال لهم : ليس في المعلومات ما لا يصح أن يعلم من وجه ويصح أن يعلم من غيره.

ولا يجب أن يقال : ان القديم لو لم يكن موصوفا بالقدرة ـ على أن تعلمناه

__________________

(١) في الأصل «فلا يأتوه».

(٢) في الأصل «على الفعل».

(٣) في الأصل «وأما الفرق».

(٤) كذا في النسخة.

٢٨٥

من ذلك الوجه ـ لاقتضى ذلك تعجيزه وإخراجه عن منعه هو عليها لنفسه. وهذا كالعلم بما كان ويكون وسائر ما يجري به مجرى العلم بالغيب ، فإنه لا يصح أن فعله بالأدلة العقلية.

ولا يوصف تعالى بالقدرة على أن ينعت لنا دليلا على وجوده عقليا وكونه أو يجعل الأجسام دلالة عليه كما يكون دلالة على الله تعالى. وان جاز أن يعلمنا ذلك عند الإدراك والخبر المتواتر ويضطرنا الى وجود ذلك ابتداء.

وكذلك ما تنكرون أن يكون تعذر وقوع العلم لنا من جهة الدليل بالفصل بين الصادق والكاذب لا يوجب تعجيزه تعالى لإيصال (١) القدرة عنه عما يجوز القدرة عليه.

ويقال لهم : أليس ما جرت العادة به من نحو طلوع الشمس وغروبها ونحو ذلك ، لا يصح أن يكون دليلا على نبوة أحد من الأنبياء ، ولا يوصف القديم بالقدرة على أن يجعل دليلا على صدق أحد منهم وهو على ما هو عليه الان.

فإذا قالوا : بلى.

قيل لهم : فما أنكرتم ألا يكون في العقل دليل على الفصل بين الصادق والكاذب ، وان كان ذلك ممكنا من غير جهة الدليل العقلي.

فإن قالوا : ان ما جرت به العادة قد كان ممكنا أن يجعله دليلا بأن لا تجري العادة به، فيكون حدوثه على ما يحدث عليه الان نقضا لعادة أخرى ، فيستدل به على صدق من ظهر عليه.

قيل لهم : أفحين جرت له العادة وذلك هذا المعنى عنه (٢) ، أوجب ذلك خروج القديم عن صفة قد كان عليها لنفسه أو حدث وصفه بالقدرة على أن يجعله دليلا ،

__________________

(١) كذا في النسخة.

(٢) كذا ، والعبارة غير مفهومة عندي.

٢٨٦

والعجز انما يصح القدرة عليه.

قيل لهم : فكذلك ما كان في الأصل مستحيلا أن يعلم بالأدلة العقلية لم يجز أن يقال: انه يقدر عليه أو يعجز عنه ، ويعاد عليهم ما ذكرناه من العلم بالكائنات الغائبات.

[نفي الإضلال ليس من التعجيز في الفعل]

ثم يقال لهم : بالفصل بينكم وبين من قال انه لو لم يجز أن يظهر الله المعجزات على النبيين لم يكن القديم تعالى موصوفا بالقدرة على أن يضل الناس عن الدين هذا الضرب من الضلال وأن يلبس عليهم هذا النوع من التلبيس ، وقد ثبت أن القدرة من صفات ذاته والتلبيس من صفات فعله. وهذا وجه يمكن أن يضل منه عن الدين ، فلو لم يصح أن يفعله لكان ذلك تعجيزا له.

فان قالوا : لا يكون ذلك تعجيزا ، لأنه قادر على أن يضلهم بغير هذا الضرب من الإضلال.

قلنا لهم : فقولوا أيضا بما ألزمناكموه ولا يكون يعجز الله تعالى ، لأنه قادر أن يعلمهم الصادق من الكاذب من جهة الدليل ، بأن يضطرهم الى ذلك. وهذا هدم لهذا المذهب وقبض لألسنتهم عن الشغب.

فان قالوا : هو قادر على ذلك لكن لا يفعله لئلا يخرج بفعله إياه عن صفة (١) هو عليها لنفسه.

قيل لهم : ان خروج الشيء عن صفة هو عليها لنفسه لا يكون مقدورا ، وان كان مثل هذا يجوز أن يكون مقدورا فما أنكرتم أن يكون قد فعله ، فخرج عن

__________________

(١) في الأصل «عن صبغة».

٢٨٧

تلك الصفة. وهذا ما أردنا الزامكموه من أقبح الوجوه.

فان قيل : ألستم تجيزون وقوع ما علم الله تعالى أنه لا يكون وان كان مما لو كان لكان حسنا لم يمنع أن يعلموا أنه لا يقع ، وان وقوع مثله جائزا مما هو حسن ، فما أنكرتم أن يكون وقوع هذا الضرب من الإضلال غير جائز. وأن يصح أن يعلم أنه لا يقع وان جاز وقوع غيره من الإضلال ، وأن يكون المانع من هذين أن أحدهما مؤد إلى تجهيل الله والأخر إلى تعجيزه. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قيل لهم : انا لم نمتنع من اجازة كون ما علم الله أنه لا يكون ، إذا أردنا بالجواز معنى الشك من حيث ذكرتم ، لكن متى علمنا أن الله تعالى عالم بأن شيئا لا يكون فنحن عالمون بأنه لا يكون ، لأنه لا يجوز أن نعلم أن عالما من العالمين قد علم كون شيء أو أنه مما لا يكون ونحن شاكون أو جاهلون بكونه أو أنه مما لا يكون ، لأن العالم بأن العالم عالم لا بد من أن يكون عالما بأن معلومة على ما علمه عليه. ولهذا نظائر من مدلول الدليل ومخبر الحال [..](١).

ونحو ذلك مما سألتم عنه انما أمنا من وقوعه علمنا بأنه لا يقع ، وسؤالكم مبني على ذلك والا بطل واضمحل.

وما ألزمنا يكون فإنما ادعيتم أنه مؤد لكم الى القول بما لا تلزمونه من تعجيز الله تعالى، فأريناكم أنه ان كانت أقوالكم (٢) صحيحة فإنه لا يؤدي الى ذلك بل يؤدي الى حال القدرة على ما لا يصح أن يكون مقدورا ، وذكرنا له نظائر من خاص قولكم ومما نتفق فيه معكم مما يستحيل وصف القديم تعالى بالقدرة عليه ، ولم يوجب ذلك تعجيزا له ولا إخراجه عن صفات ذاتية. وإذا كان هكذا فليس بين

__________________

(١) بياض في النسخة.

(٢) في الأصل «أموالكم».

٢٨٨

ما ألزمناكموه وبين ما سألتم عنه سبب.

[معنى الضلال والهدى والحسن والقبح]

ثم يقال لهم : انا نسألكم عن ضلال فرضنا في نفس المسألة أنه مما علم أنه لا نفع ، كما سألتم عن هدى فرضتم في نفس المسألة أنه لا يقع. وانما سألناكم عن ضلال موقوف على الدليل وفي جواز وقوعه.

والشك في كونه يتكلم معكم : فليس يخلو من أن يكون مما يصح وصف القديم تعالى بالقدرة على إيجاده على الوجه الذي سألناكم عنه أولا يصح ذلك بل يستحيل ، فان كان مما يستحيل وصفه بالقدرة عليه فليس يلزمكم إذا لم تصفوه بالقدرة عليه تعجيز الله تعالى ، فلا تلزموا أنفسكم ذلك كما يلزمكم ، ولا يلزمنا أيضا تعجيز الله تعالى متى لم نصفه بالقدرة على ما يستحيل أن يكون مقدورا من الجمع بين المتضادات وسائر المحالات.

وان كان مما يصح وصف القديم بالقدرة عليه فما الذي آمن من وقوعه ، فان الحال عندنا يختلف في مقدورات القديم ويتفق عندكم ، وذلك أن سنخ القبيح يؤمننا من وقوعه منه تعالى لأدلتنا المشهورة في ذلك ، وما ليس بقبيح فلا سبيل لنا الى الامتناع من تجويزه. ولا يؤمنا من وقوعه الا الخبر الصدق إذا ورد بنفي وقوعه.

وجميع مقدورات القديم عندكم بمنزلة الحسن من مقدوراته عندنا ، لأن قبح القبيح لا يعجز عن فعله ، بل لا يصح منه شيء. وعلى قولكم فلا أمان لكم من وقوع شيء من ذلك الا من جهة الخبر.

فإذا كنا انما نكلمكم في الطريق التي منها يعلم صحة الخبر ، فقد انسدت عليكم

٢٨٩

الطريق التي تؤمن من وقوع ما سألناكم عنه. وهذا كما ترى يوجب عليكم الانسلاخ من جميع الأديان والشرائع والشك في سائر الرسل صلوات الله عليهم. ولم يجدوا عن ذلك مذهبا الا بترك قولهم.

[وصف القديم تعالى بما لا يوصف]

ثم يقال لهم : أيوصف القديم تعالى بالقدرة على ان يظهر المعجزات على [أيدي](١) الكذابين.

فان قالوا : لا يوصف بالقدرة على ذلك.

قيل لهم : فهل يقتضي ذلك تعجيزه تعالى وخروجه عن صفة من صفات ذاته.

فان قالوا : لا.

قيل لهم : فلم تنفروا من شيء أحلتم وصفه بالقدرة على وجه دون وجه ، وذلك أن كذب هذا الكافر هو الذي أحال وصف القديم تعالى بالقدرة على إظهار المعجز على يده ولو صدق لم يستحل ذلك. فإذا جاز أن يوصف على شيء وعلى بعض الوجوه دون بعض ، فلم لا يجوز أن يوصف بالقدرة على الفصل بين الصادق والكاذب من وجه دون وجه. وهذا الاضطرار دون الاكتساب.

وان قالوا : ان القديم تعالى موصوف على إظهار المعجز على [أيدي](٢) الكذابين.

قيل لهم : فما الذي يؤمن من فعله.

فان قالوا : لو فعله يخرج من أن يوصف بالقدرة على الفصل بين الصادق

__________________

(١) زيادة منا.

(٢) زيادة منا.

٢٩٠

والكاذب من جهة الدليل.

قيل لهم : فكأنه يقدر أن يخرج نفسه من أن يكون قادرا على ما يصح وصفه بالقدرة عليه.

فان قالوا : نعم.

قيل لهم : فما يؤمنكم أن يفعل ذلك ، فان خرج من أن يكون قادرا ، لأن خروجه عن كونه قادرا لو كان أمرا مستحيلا لما صح أن يكون مقدورا لقادر ، كما أنه لو جعل محدثا والمحدث قديما لما كان مستحيلا ، لم يصح أن يتعلق بقدرة قادرا (١).

فان قالوا : لا نقول بأنه لو فعل لخرج من أن يكون قادرا على ما يصح وصفه بالقدرة عليه ، لكن لو فعله لاستحال وصفه بالقدرة على الفصل بين الصادق والكاذب من طريق الدليل.

قيل لهم : لا ضير ، فما تنكرون أن يفعله وان استحال ذلك بعد فعله ، فإن منزلة هذا يكون بمنزلة نفس الشيء أنه متى أوجده فصار موجودا باقيا استحال وصفه (٢) بالقدرة على إيجاده. وإذا كان هذا هكذا فما الذي يؤمنكم من وقوعه ، فلا يجدون سعيا فضلا عن جهة.

[نقل كلام للشيخ المفيد]

وقد ألزمهم الشيخ أبو عبد الله في أصل هذا الكلام ، فقال : ما الفصل بينكم وبين من قال : ولو جاز أن يضل الله عن الدين لكنا لا نأمن أن يكون جميع ما فعله

__________________

(١) أي في حال كونه قادرا.

(٢) في الأصل «وصف».

٢٩١

ضلالا ولو لم يصل الى الفرق بين الضلال والهدى ، ولكان القديم تعالى لا يوصف بالقدرة على الفصل بين الضلال والهدى.

فإن قال منهم قائل : ان ما يفعله القديم تعالى ولم يتعلق لنا به أمر ولا نهي فليس بضلال ولا هدى وما أمر به ونهي عنه ، فليس الأمر والنهي دليلين على كونه هدى وضلالا بل هما علة كونه كذلك. وليس المعجز كذلك ، لأنه انما يدل على صدق الصادق وليس هو ما به (١) يكون الصادق صادقا ، وإذا كان هكذا لم يكن هذا الإلزام نظيرا لما قلناه.

فان نقلتم الكلام الى أن الهدى والضلال والهدى لم يكن ضلالا وهدي إلا بالأمر والنهي. أخرجتم هذه المسألة إلى شيء آخر.

يقال لهم : أليس ما أمر الله تعالى من الاعتقادات والاخبار عن المحرمات وما فعله من ذلك فينا ، لا يدل فعله له وأمره به على أن معتقد الاعتقاد ومخبر الخبر على ما هما به لا يمتنع أن يكون الاعتقاد جهلا والخبر كذبا ، ولا يكون فعله وأمره دليلين على أن مخبر الخبر الذي أمر بفعله ومعتقد الاعتقاد الذي تولى فعله أو أمر به على ما هو عليه ، ولا يوصف بالقدرة على أن يدل على حق ذلك من باطله.

فإذا قالوا : بلى.

قيل لهم : ولم يخرج بهذا عندكم عن صفة هو عليها في ذاته ولا أوجب صفة نقص له، فما أنكرتم أنه لا يمكن أن يجعل المعجز دليلا على صدق من ظهر عليه ، ولا يوجب ذلك تعجيزا له ولا خروجه عن صفة من صفات ذاته. فقد بان صحة ما ألزمهم إياه بطريق الكلام فيه.

فان قالوا : أنهم أيضا يقولون : انه لا سبيل الى ابتداء الاستدلال على أن الله

__________________

(١) في الأصل «ماله».

٢٩٢

حكيم لا يفعل القبيح بأمره أو بفعله إياه قبل الأدلة العقلية التي هي تدل على أن القبيح لا يجوز عليه ، فكيف أنكرتم مثل هذا علينا؟

قيل له : بمثل ما قلنا طلبناك ، وذلك أنه لما كان ابتداء الاستدلال بذلك غير ممكن أحلناه وقلنا : ان القديم تعالى لا يجوز أن يوجب الاستدلال به ، ولا أن يجعله دليلا على ما لا يمكن أن يستدل به علينا.

فان كنا قد بينا أن الاستدلال بالمعجز على سياق يحب أن يكون كذلك ، فلا نقول: انه لو لم يكن الفصل به بين الصادق والكاذب لأدى ذلك الى تعجيز الله تعالى ، إذ المحال لا يصح القدرة عليه ولا العجز عنه ، كما قلنا نحن فيما ذكرته عنا. فقد بان أنه لا متعلق لهم بشيء من الرسل على وجه لا سبب. نعوذ بالله من الحيرة في الدين.

[معجزية القرآن الكريم]

فأما القرآن فإنه يعلم أنه كلام الله تعالى أو حكاية لكلامه أو إفهام لكلامه ـ على ما يطلقه بعضهم ـ بخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وذلك أنه لا يمتنع أن يخلق الله تعالى القدرة على نظمه والعلم بكيفية تأليفه ووصفه على الوجه الذي لكونه عليه يكون بليغا فصيحا قدرا من الفصاحة والبلاغة لم تجر العادة بمثله في بعض البشر ، أما من جاء به أو في ملك من الملائكة أو لجني من الجن ونحو ذلك.

وإذا كان هذا سابقا في قدرة الله تعالى ولم يكن قبح ذلك وكونه استفسادا مانعا من وقوعه من الله تعالى وكنا قد بينا أن العلم بصدق الرسول متعذر على أصولهم. فلا طريق لهم الى العلم بأنه كلام الله تعالى عينا أو حكاية أو إفهاما.

فان قالوا : قد علمنا أنه لم يكن من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلمنا

٢٩٣

بمقدار كلامه عليه‌السلام في الفصاحة والبلاغة ، لما تأدى إلينا من خطبه ومحاوراته في المواضع التي كان يقصد فيها إلى إيراد فصيح الكلام ويتعمل لذلك ويجتهد فيه ، فوجدنا ذلك اجمع ناقصا عن رتبة القرآن في الفصاحة والبلاغة مقدارا لم تجر العادة بوقوع مثله بين كلام البشر ، فأمننا ذلك من أن يكون من كلامه.

قيل لهم : ما أنكرتم من أن يكون القديم تعالى هو الذي يقدره ويخلق فيه العلم بالفصاحة متى عزم وان يحتر من (١) عليه ويدعي الرسالة منه ، وينزع ذلك منه عند مخاطباته وخطبه تلبيسا واضلالا وغرابة واستفسادا. وإذا كان هكذا فلم لا يكون من كلامه.

ثم لم لا يجوز أن يكون من كلام غير البشر كالجن والملائكة ، فإنكم لا تقفون على قدر فصاحة أولئك وبلاغتهم وبأي منظوم الكلام ومنثوره لهم.

ويقال للنجارية منهم : لم تدفعون أن يكون في اخبار القرآن وان كان كلام الله تعالى ما هو كذب وكان فيها ما هو صدق ، لأن الكلام فعل من أفعاله. فكما لا يمتنع أن يكون في أفعاله الجور والعدل والحسن والقبيح لم يجز أن يكون فيها الكذب والصدق والباطل والحق. فلا تجدون شيئا سوى ما تقدم وقد نقضناه.

[مناقشة الكلابية في كلام الله تعالى]

وقد يتوهم الكلابية أنها تعتصم من هذا الإلزام بقولها : انه تعالى صادق والصدوق من صفات ذاته ، فليس يجوز أن يوصف بهذا للصدق. ويستدلون بأنه صادق بأن يقولوا : ان القرآن قد تضمن ما لا يشك في أنه كالخبر عن الليل والنهار والسماء والأرض ونحو ذلك ، فإذا حصل صادقا في شيء لم يجز أن يكون كاذبا

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٩٤

في غيره ، لأن الصدق من صفات ذاته.

فيقال لهم : أليس قد ثبت أنه صادق في بعض ما يصح أن يكون صادقا عنه دون بعض ، ولا يجوز أن يكون عالما ببعض ما يصح ان يكون عالما به ولا قادرا على بعض ما يصح أن يكون قادرا عليه دون بعض.

فان قالوا : بلى.

قيل لهم : فما أنكرتم أن كان يكون كاذبا في بعض ما يصح أن يكون صادقا عنه وان لم يجب أن يكون جاهلا ببعض ما يصح أن يكون عالما به ولا قادرا على بعض ما يصح أن يكون قادرا عليه.

فإذا قالوا : هو صادق في جميع ما يصح أن يكون صادقا عنه الا انه لم يحك ذلك لنا أو لم يفهمناه.

يقال لهم : خبرونا عن هذه الحكاية والأفهام أليسا من صفات فعله ولا من صفات ذاته.

فإذا قالوا : بلى.

قيل لهم : أهي في نفسها كلام واخبار.

فإن قالوا : لا.

قيل : فكيف تعلمون أن الله تعالى قد صدق في شيء ، وما يعني ذلك وما سمعتم كلامه وانما تعلمون عقلا أنه لم يزل متكلما انتفى الخرس والسكوت عنه على ما يدعون ذلك الخرس والسكوت قد ينتفيان بالكذب كما ينتفيان بالصدق وبغير ذلك من ضروب الكلام. فلم قلتم انه صادق ولم تسمعوا كلاما صدقا ولا كذبا ، وما يدريكم لعله كاذب لنفسه أو الكذب من صفات ذاته.

فان قالوا : هذه الحكاية نفسها كلام.

٢٩٥

قيل لهم : ومن المتكلم بها.

فان قالوا : القديم تعالى.

قيل لهم : يجوز أن يوصف بأنه متكلم من وجهين : من صفات ذاته ، ومن صفات فعله.

فان قالوا : نعم.

قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون صادقا من صفات ذاته كاذبا من صفات فعله.

فان قالوا : لو لزمنا هذا للزمكم ان يكون عالما لنفسه جاهلا بجهل محدث.

قيل لهم : لو قلنا ان أحدنا ان يكون عالما بعلم يفعله مع كونه عالما لنفسه للزمنا ما ألزمناكم ، لكنا نجيز ذلك (١) وأنتم قد أجزتموه في الكلام ، فما الفصل؟

فان قالوا : ان المتكلم بهذه الحكاية غير الله.

قيل لهم : فما أنكرتم ان ذلك الغير هو الكاذب دون الله ، فلم قلتم أن يكون القديم صادقا لذاته يوجب أن يكون ذلك الغير صادقا في كلامه.

فإذا قالوا : لأنه حكاية لكلامه (٢) بخبر الحاكي أو بأن سمعتم كلام الله ، فان كنتم سمعتم كلام الله تعالى وليس هو هذا ، فأسمعونا إياه وعرفونا اين هو وممن سمعتموه ، وان كنتم انما سمعتم كلام الحاكي وإضافته إياه الى الله فلم زعمتم أن ذلك الحاكي قد صدق على قوله ان هذا المسموع منه حكاية كلام الله. فلا يجدون في ذلك شغبا.

ثم يقال لهم : ان الحكاية للكلام انما يكون بإيراد مثله أو بذكر معانيه ،

__________________

(١) في الأصل «نخير ذلك».

(٢) هنا سقط والكلام غير مستقيم.

٢٩٦

والمحدث لا يكون مثل القديم ، فإذا هو المسموع (١) انما هو خبر عن كلام الله ، فما أنكرتم أن يكون كذبا ممن وقع من قديم أو محدث ، وأن يكون كون القديم تعالى صادقا لنفسه لا يمنع من أن يكون هذه كذبا.

فان قالوا : ليست بكلام أصلا.

قيل لهم : فقد زال الشغل عنها بها ، لم زعمتم أن الله صادق أو قد صدق في شيء من كلامه. وهذا مما لا حيلة لهم فيه تعالى.

ثم يقال لهم : كيف تعلمون أن الخبر عن السماء والأرض وعما زعمتم أنه صدق لا شك فيه من اخبار القرآن خبرا عما تناوله اللفظ حتى قضيتم أنه صدق ، والصدق لا يكون صدقا حتى يكون خبرا حتى يعرف قصد المخبر به الى المخبر عنه ، والألغاز والتعمية قد تعور(٢) في الكلام ، وهما باب من التلبيس والإضلال.

فلم لا يجوز أن تكون ألفاظ القرآن كلها خارجة عن تلك الوجوه ، فلا يكون فيها شيء قصد به الخبر عما تتأوله اللفظ. وهذا أيضا لا حيلة لهم فيه.

ثم يقال لهم : خبرونا عن الرسول نفسه كيف يعلم أن القرآن كلام الله أو حكاية لكلامه ، وليس يأبى (٣) أن يكون الملك قد ادعى إرساله به ، إذ لا يأبى أن يكون قادرا على أمثاله. وليس يمكنه حجة من عقل ، فمنع بها من اجازة التلبيس على الله تعالى والتمكين من ذلك.

وعصمة الملائكة إنما يعلم سمعا ، وتجويز خلقهم على ما ورد السمع يعلم عقلا فكيف يعلم أنه رسول الله؟

__________________

(١) لعل العبارة «فإذا هذا المسموع».

(٢) كذا في الأصل.

(٣) في الأصل «وليس باين».

٢٩٧

بل كيف لا يجوز أن يكون الله هو الذي أمر بالتكذيب عليه ، ومما ذا تعلمون أن مطيع الله مؤد لرسالته دون أن يكون متمردا عليه ، وقد قلتم ان التلبيس يجوز على الله. وهذا أيضا مما لا حيلة لهم فيه.

فان قالوا : الرسول يعلم صحة ما أخبر به الملك اضطرارا ، وكذلك نحن نعلم أن الرسول إلينا صادق اضطرارا.

قيل لهم : أفيصح أن يعلم ذلك استدلالا.

فان قالوا : نعم. طولبوا بالحجة وليس الى ذلك طريق. فان قالوا : لا. قيل لهم : قد صرتم الى ما كنتم تمتنعون منه من أنه لا يوصف القديم بالقدرة على أن يدل على صدق الصادق.

والفرق بين النبي والمتنبي من أصح الوجوه ، وإذا صح (١) هذا فما أنكرتم أن يكون المنتظر في هذا هو وقوع العلم الضروري بصدق الرسول ، فأما العلم بوجوده وعدمه فيستبان.

فان قالوا : هو كذلك.

قيل لهم : فظهوره الان على الكاذبين أجور ما يكون إذا كان لا معتبر به وان يوجب الله علينا تصديق من لا علم له.

فان مروا على ذلك قيل لهم : فليس لهم للرسل بمعجزة حجة ، وانما يدعى على ضمائر الناس أنهم يعلمون صدقه ويقولون : انا لا نعلم سياق ذلك ، ولا يمتنع أن يكون من المتنبي الذي يعارضه معجز يحتج به ، وهو خال من ذلك لا يدلي بحجة.

__________________

(١) في الأصل «وانا صح».

٢٩٨

وهذا خروج من جميع الأديان والملل ، ولا مذهب لكم عنه الا بترك مذهبكم.

وليس لذكر الإجماع في هذا مدخل ، ولا يتعلق به من يفهم شيئا ، لأن الإجماع إنما يعلم سمعا لقول الرسول ، لو لا ذلك لم يكن إجماع المسلمين أولى بالصحة مما اجمع عليه غيرهم من طريق الرأي ودخول الشبهة.

٢٩٩
٣٠٠