رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

رسائل الشريف المرتضى - ج ٤

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

* * *

وله وهي قطعة مفردة :

قال لي عند ملتقى الركب عمرو

قوم العود بعدنا فانصاتا

أين ذاك الصبي وذاك التصابي

سبقا الطالب المجد وفاتا

من قضى عقبة الثلاثين يغدو

راجعا يطلب الصبي هيهاتا

لم تزل والمشيب غير قريب

ناعيا للشباب حتى ماتا

كنت تبكي الأحياء فاستكثر

اليوم من الدمع واندب الأمواتا

كنت تبكي الأحياء فاستكثر

اليوم من الدمع واندب الأمواتا

* * *

وله وهي قطعة مفردة :

تشاهقن لما أن رأين بمفرقي

بياضا كأن الشيب عندي من البدع

وقلن عهدنا فوق عاتق ذا الفتى

رداء من الحوك الرقيق فما صنع

ولم أر عضبا عيب منه صقاله

وكان حبيبا للقلوب على الطبع

وقالوا غلام زين الشيب رأسه

فبعدا لرأس زانه الشيب والترع

تسلى الغواني عنه من بعد صبوة

وما أبعد النبت الهشيم من النجع

وكن يخرقن السجوف إذا بدا

فصرن يرقعن الخروق إذا طلع

* * *

وله وهو ابتداء قصيدة :

ألهاك عنا ربة البرقع

مر الثلاثين إلى الأربع

أنت أعنت الشيب في مفرقي

مع الليالي فصلي أو دعي

٢٠١

* * *

وله وهي قطعة مفردة :

أأميم إن أخاك غض جماحه

بيض طردن عن الذوائب سودا

عقب الجديد إذا مررن على الفتى

مر القوادح لم يدعن جديدا

قد كان قبلك للحسان طريدة

فاليوم راح عن الحسان طريدا

حولن عنه نواظرا مزورة

نظر القلى ولوين عنه خدودا

نشد التصابي بعد ما ضاع الصبي

عرضا لعمرك يا أميم بعيدا

* * *

وله وهي قطعة مفردة :

تمل من التصابي قبل تمسي

ولا أمم صباك ولا قريب

سواد الرأس سلم للتصابي

وبين البيض والبيض الحروب

وولاك الشباب على الغواني

فبادر قبل يعذلك المشيب

هذا المصراع من البيت الأخير مليح اللفظ.

* * *

وله من جملة قصيدة :

راحت تعجب من شيب ألم به

وعاذرا شيبه التهمام والأسف

ولا تزال هموم النفس واردة

رسل البياض إلى الفودين تختلف

إن الثلاثين والسبع التوين به

عن الصبي فهو مزور ومنعطف

قوله " وعاذرا شيبه التهمام والأسف " من أخصر عبارة وأبلغها من هذا المعنى.

٢٠٢

* * *

وله من أثناء قصيدة :

فيا حادي السنين قف المطايا

فهن على طريق الأربعينا

وأب الرأس بعدك صوحته

بوارح شيبة فغدا حنينا

وكان سواده عند الغواني

يعدن إلى مطالعه العيونا

أتاجرها فأربح في التصابي

وبعض القوم يحسبني غبينا

أهان الشيب ما أعززن منه

وعز على العقائل أن يهونا

جنون شبيبة ووقار شيب

خذا عني الصبي ودعا الجنونا

* * *

وله من قصيدة :

وطارق للشيب حييته

سلام لا الراضي ولا الجاذل

أجرى على عودي ثقاف النهى

جري الثقافين على الذابل

وأعرني عقر مراحي له

لأدر در الشيب من نازل

فاليوم لا زور ولا طربة

نام رقيبي وصحا عاذلي

* * *

وله من قصيدة :

ورأت وخط مشيب طارق

وخط التهمام قلبي فوخط

ما لها تنكر مع هذا الشجى

وقعات الشيب بالجعد القطط

* * *

٢٠٣

وله وهو ابتداء قصيدة :

من شافعي وذنوبي عندها الكبر

إن البياض لذنب ليس يغتفر

رأت بياضك مسودا مطالعه

ما فيه للحب لا عين ولا أثر

وأي ذنب للون راق منظره

إذا أراك خلاف الصبغة النظر

وما عليك ونفسي فيك واحدة

إذا تلون في ألوانه الشعر

أنساك طول نهار الشيب آخره

وكل ليل شباب عيبه القصر

إن السواد على لذاته لعمى

كما البياض على علاته بصر

البيض أوفى وأبقى لي مصاحبة

والسود مستوفزات للنوى غدر

كنت البهيم وأعلاق والهوى جدد

فأخلقتك حجول الشيب والغرر

وليس كل ظلام رام غيهبه

يسر خابطه أن يطلع القمر

وليس كل ظلام رام غيهبه

يسر خابطه أن يطلع القمر

تسلية الغواني النافرات من الشيب الحائدات عن صاحبه بأن حلوله ما أحال عهدا ولا غير ودا طريق مسلوكة وجدد مألوفة ، وسيأتي في شعري من هذا المعنى ما يوقف عليه في موضعه ، ومن جملة قولي :

وما ضرني والعهد غير مبدل

تبدل شرخي ظالما بمشيبي

وقولي :

إن كنت بدلت لونا

فما تبدلت حبا

وقولي :

ولا لوم يوما من تغير صبغتي

إذا لم يكن ذاك التغير في عهدي

وأما قوله رحمه الله " أنساك طول نهار الشيب آخره " فمعناه أن الشيب لامتداد أيامه ينسى ذكر عواقبه ومصائره التي هي الموت والفناء.

٢٠٤

ومن مليح اللفظ قوله : " وكل ليل شباب عيبه القصر ".

وأما قوله " البيض أوفى وأبقى لي مصاحبة " فنظيره قول الشاعر :

والشيب أن يظهر فإن وراءه

عمرا يكون خلاله متنفس

ومن شعري قولي.

عمر الشباب قصير لا بقاء له

والعمر في الشيب يا أسماء ممدود

* * *

وله من قصيدة :

شيع بالقطر الروا

ذاك الشباب الراحل

ما سرني من بعده

الأعواض والبدائل

ماضر ذي الأيام لو

أن البياض الناصل

كل حبيب أبدا

أيامه قلائل

ظل وكم يبقى على

فوديك ظل زائل

لقد رأى بعارضيك

ما أحب العاذل

واسترجعت منك اللحاظ

الخرد العقائل

وأغمدت عنك نصول

الأعين القواتل

فلا الدماليج يقعقعن

ولا الخلاخل

فإن وعدن فاعلمن

إن الغريم ماطل

ووعد ذي الشيبة

بالوصل غرور باطل

* * *

وله من قصيدة :

٢٠٥

ما لقائي من عدوي

كلقائي من مشيبي

موقد نارا أضاءت

فوق فودي عيوبي

وبياض وهو عند البيض

من شر ذنوبي

يمكن أن يكون معنى قوله رضي الله عنه " أضاءت فوق فودي عيوبي " إنها كانت مستورة بالشباب معرض عن ذكرها والتقريع بها لوسيلة الشباب وفضيلته ، فلما مضى ظهر منها ما كان مستورا حاله.

ويمكن غير هذا الوجه ، وهو : أنه لم يرد إن عيبا له كان كامنا مستورا فظهر بل يريد أنه بالمشيب تمحلت له عيوب وتكذبت عليه وأشيعت عنه ، وإن ضوء المشيب هو الذي كان السبب فيها.

ويمكن وجه ثالث ، وهو : أن يريد بالعيوب نفس الشيب لا شيئا سواه ، وإنه لما أضاء برأسه وعيب به كان مظهره وناشره في رأسه كأنه مظهر لعيوبه ومعلن لها.

* * *

وله من ابتداء قصيدة :

ما للبياض والشعر

ما كل بيض بغرر

صفقة غبن في الهوى

بيع بهيم بأغر

صغره في أعين

البيض بياض وكبر

لولا الشباب ما نهي

على المها ولا أمر

ما كان أغنى ذلك

المفرق عن ضوء القر

قد كان صبح ليله

أمر صبح ينتظر

٢٠٦

واها وهل يغني الفتى

بكاء عين لا أثر

يا حبذا ضيفك من

مفارق وإن غدر

يا أين غزال داجن

رأى البياض فنفر

هيهات رثم الرمل لا

يدنو إلى ذنب الخمر

من بارع القول ومليحه قوله رحمه الله " ما كل بيض بغرر " ومثل ذلك قولهم ما كل بيضة شحمة ، لأن بياض اللون قد يشترك فيه الممدوح والمذموم والمراد والمكروه.

والبيت الثاني معناه أن من باع الشباب وهو البهيم بالمشيب ـ وهو الأغر ـ فقد غبن. وموضع العجب أن الأغر أفضل وأنفس من البهيم ، فكيف انعكس ذلك في الشيب والشباب.

ونظير هذا المعنى من شعري قولي :

إن البهيم من الشباب ألذ لي

فلتغذني أوضاحه وحجوله

فأما قوله رحمه الله " صغره في أعين البيض بياض وكبر " فمن العجب أن يصغر الكبر، ونظير هذا البيت قول البحتري :

صغر قدري في الغانيات وما

صغر صبا تصغيره كبره

وأما قوله " ما كان أغنى ذلك المفرق " فالليل لا يستغني عن القمر بل يفتقر إليه أشد فقر ، إلا أن المشبه بالليل من الشباب مستغن عن المشبه بالقمر من ضوء المشيب. وهذا المعنى يمضي كثيرا في الشعر ، وسيجئ منه في شعري ما أذكره في مواضعه بمشيئة الله.

وقوله رحمه الله " بكاء عين لا أثر " من مطبوع القول ومقبوله.

٢٠٧

ولقائل أن يقول في البيت الذي هو :

يا حبذا ضيفك من

مفارق وإن غدر

أي غدر يليق بالشباب وهو لم يفارق مختارا بل مضطرا؟

فالجواب عنه : أن الغدر بالفراق إنما يكون متى كان عن غير سبب أوجب المفارقة ومع الايثار للمواصلة والمقام ، فكأن الشباب لما تعجل قبل حينه وأوان فراقه من غير سبب من ذي الشباب أوجب ذلك نسب إليه الغدر توسعا واستعارة وتشبيها.

* * *

وله من قصيدة :

يا قاتل الله ريعان الشباب وما

خلى علي من الأشجان والغلل

وروضة من سواد الرأس حالبة

كان المشيب إليها رائد الأجل

قالوا الخضاب لود البيض مطمعة

قد ضل طالب ود البيض بالحيل

فلقوله رحمه الله " كان المشيب إليها رائد الأجل " من الاحسان والعذوبة ما شاء.

* * *

وله من قصيدة :

إليك فقد قلصت شرتي

بعيد البياض قلوص الظلال

وبدلت مما يروق الحسان

من منظر ما يروع الغوالي

سواد تعذر زور البياض

علوق الضرام برأس الذبال

٢٠٨

ومر على الرأس مر الغمام

قليل المقام سريع الزيال

* * *

وله من قصيدة :

قل لزور المشيب أهلا إنه

أخذ الغي وأعطاني الرشد

طارق قوم عودي بالنهي

بعد ما استغمز من طول الأود

وقر اليوم جموحا رأسه

جار ما جار طويلا وقصد

ظل لماع حلاه عارض

بعد ما أبرق حيا ورعد

* * *

وله في ذم الشيب وهي قطعة مفردة :

ليس على الشيب للغواني

وإن تحملن من قرار

كأنما البيض من لداتي

ضرائر البيض من عذاري

إن خيمت هذه بأرضي

تحملت تلك عن دياري

أرين في رأسي الليالي

شر ضياء لشر نار

تبدى الخفيات من عيوبي

وتظهر السر من عواري

أعدو بها اليوم للغواني

أعدى من الذئب للضواري

وكن طربي إلى طروقي

إذ ليل رأسي بلا دراري

فمذ أضاء المشيب فودي

تورع الزور عن مزاري

مثل الخيالات زرن ليلا

وزلن مع طالع النهار

أما تشبيه النساء اللواتي يزرن مع سواد الشباب ويهجرن مع بياض المشيب بالخيال الذي يزور ليلا ويهجر نهارا فمن مليح التشبيه وغريبه.

٢٠٩

* * *

وله من قصيدة :

ولم يلبثن غربان الليالي

نعيقا إن أطرن غراب رأسي

وما زال الزمان يحيف حتى

نزعت له على مضض لباسي

نضا عني السواد بلا مرادي

وأعطاني البياض بلا التماسي

أروع به الظباء وقد أراني

رميلا للغزال إلى الكناس

وبغضني المشيب إلى لداتي

وهونني البقاء على أناسي

خذوا بأزمتي فلقد أراني

قليلا ما يلين لكم شماسي

أليس إلى الثلاثين انتسابي

ولم أبلغ إلى القلل الرواسي

فمن دل المشيب على عذاري

وما جر الذيول إلى غراسي

* * *

وله من جملة قصيدة :

وتلفعت ريطة من بياض

أنا راض منها بما لا يرضى

أبرمت لي من صبغة الدهر

لا يسرع فيها إلا المنايا نقضا

مخبر فاحم ولون مضئ

من رأى اليوم فاحما مبيضا

قوله رحمه الله " لا يسرع فيها إلا المنايا نقضا " يريد به أن بياض المشيب لا يحول ولا يزول إلا بالموت ، وليس كسواد الشباب الذي يزول ببياض المشيب.

* * *

وله من قصيدة :

يا قاتل الله الغواني لقد

سقينني الطرق بعيد الحمام

٢١٠

أعرضن عني حين ولى الصبي

واختلج الهم بقايا العرام

وشاعت البيضاء في مفرقل

شعشعة الصبح وراء الظلام

سيان عندي أبدت شيبة

في الفود أو طبق عضب حسام

ألقى بذل الشيب من بعدها

من كنت ألقاه بدل الغلام

ترى جميم الشعر لما ذوي

يراجع العظم بعد الثغام

كم جدن بالأجياد لي والطلى

فاليوم يبخلن برد السلام

عدل رحمه الله في البيت الذي أوله " ألقى بذل الشيب " عن أن يقابل الذل بالعز إلى مقابلته بالدل ، لأن الدل بصورة الذل في الخط والوزن ، وفيه أيضا معنى العز ، فهو أليق بالمقابلة وأجمع لشروطها. فأما العظلم فهو نبت أسود العصارة ، وقيل إنه الوسمة ، والعرب تقول ليل عظلم أي مظلم.

* * *

وله وقد حلق وفرته بمنى ورأي فيها شيئا من البياض ، وهي قطعة مفردة :

لا يبعدن الله برد شبيبة

ألقيته بمنى ورحت سليبا

شعر صحبت به الشباب غرانقا

والعيش مخضر الجناب رطيبا

بعد الثلاثين انقراض شبيبة

عجبا أميم لقد رأيت عجيبا

قد كان لي قطط يزين لمتي

ثروى السنان يزين الأنبوبا

فاليوم أطلب للهوى متكلفا

حصرا وألقى الغانيات مريبا

أما بكيت على الشباب فإنه

قد كان عهدي بالشباب قريبا

أو كان يرجع ذاهب بتفجع

وجوى شققت على الشباب جبوبا

ولئن حننت إلى منى من بعدها

فلقد دفنت بها الغداة حبيبا

* * *

٢١١

وله من جملة قصيدة :

ولقد أكون من الغواني مرة

بأعز منزلة الحبيب الأقرب

أقتادهن بفاحم متخايل

فيريبني ويرين لي ويرين بي

وإذا دعوت أجبن غير شوامس

زفف النياق إلى رغاء المصعب

فاليوم يلوين الوجوه صوادفا

صد الصحاح عن الطلي الأجرب

وإذا لطفت لهن قال عواذلي

ذئب الرداه يريغ ود الربرب

فلثن فجعت بلمة فينانة

مات الشباب بها ولما يعقب

فلقد فجعت بكل فرع باذخ

من عيص مدركه الأعز الأطيب

ولهذه الأبيات ما شئت من معنى ولفظ. وقوله " يرين لي " أي يوجبن حقي ، فأما " يرين بي " فمعناه أنهن يوجبن لغيري الحق من أجلي.

والزفف : ضرب من المشي. والمصعب : الفحل من الإبل. والرداه : جمع ردهة وهي النقرة في الجبل يستنقع فيها الماء. و" مات الشباب ولما يعقب " من مليح اللفظ.

وكنا ذكرنا في صدر الكتاب أنا أخرجنا من ديوان أخي رحمه الله مبلغا عيناه ووقع إلينا بعد ذلك من شعره ما زاد على ما ذكرناه من العدد ، والمخرج كله يزيد على الثلاثمائة بيت.

(انقضى ما أخرجته لأخي رضي الله عنه)

وهذا ابتداء ما انتزعته من ديوان شعري في الشيب

لي من قصيدة أولها " لو لم تعاجله النوى لتحيرا " :

جزعت لو خطات المشيب وإنما

بلغ الشباب مدى الكمال فنورا

٢١٢

والشيب إن فكرت فيه مورد

لا بد يورده الفتى إن عمرا

يبيض بعد سواده الشعر الذي

إن لم يزره الشيب واراه الثرى

زمن الشبيبة لا عدتك تحية

وسقاك منهمر الحيا ما استغزرا

فلطالما أضحى ردائي ساحبا

في ظلك الوافي وعودي اخضرا

أيام يرمقني الغزال إذا رنا

شغفا ويطرقني الخيال إذا سرى

معنى " بلغ الشباب مدى الكمال فنورا " إنه تكامل وانتهى إلى غايته ، والزرع إذا تكامل وبلغ غايته نور.

وفي هذا الموضع زيادة على ما يمضي كثيرا في الشعر من تشبيه الشيب بالنور ، لأن ذاك إنما يفيد تشبيهه به في لونه ، وهذا البيت الذي يختص به يريد مع أنه يشبهه في النور إن معنى الشيب مع النور في الظهور والطلوع عند بلوغ الغاية ، وإنما أردت تسلية من جزعت من شيبي من النساء بأن الشيب لا بد منه عند الانتهاء إلى غايته كما لا بد من النور في هذه الحال.

* * *

ولي من أبيات قد ذكرتها فيما خرجته من شعري مثل هذا بعينه ، وهو :

ورأت بياضا في نواحي لمة

ما كان فيها في الزمان السالف

مثل الثغام تلاحقت أنواره

عمدا لتأخذه بنان القاطف

والثغام نور أبيض تشبه العرب به الشيب ، فأما البيتان التاليان للبيت الأول فمعناهما واحد ، لأن من عمر شاب والشعر الأسود رهن يشيب مع البقاء أو بالتراب عند الفناء.

وقد تكررت هذه القسمة في كثير من شعري ، وأنت ترى ذلك في مواضعه ، من جملة ما يشبه ذلك لي :

٢١٣

من عاش لم تجن عليه نوب

شابت نواحي رأسه أو هرما

وقولي :

* ومن ضل عن أيدي الردى شاب مفرقا *

وهذه القسمة أصح من قسمة البحتري في قولي :

ولا بد من ترك إحدى اثنتين إما الشباب وأما العمر

لأن تلك القسمة اشتبهت على الآمدي حتى تكلم فيها فيما بينا الزلل منه.

فإن قيل : كيف تصح قسمتكم بأنه لا بد من الشيب مع طول العمر وفي الناس من لا يشيب على وجه ولا سبب؟

والجواب عن ذلك : إن في الناس من يتأخر شيبه ولا بد مع استمرار بقائه من بياض سواد شعره ولو كان فيهم من لا يشيب مع البقاء الأطول ، وليس الأمر كذلك لكانت القسمة صحيحة ومحمولة على أنه لا بد مع طول العمر من الشيب أو من ورود زمانه ، فإن زمانه إذا وفد وورد فهو كالوارد الوافد وإن عاق عنه في بعض الناس عائق. وهذا السؤال لا يتأتى في قولي (شابت نواحي رأسه أو هرما) لأنني جعلت من عاش بين موت أو هرم.

فإن قيل : جزع النساء إنما هو من الشيب وإنما يسلين عنه بأنه لا بد مع العمر من حلوله ، وإذا كان منه بد فلا تعزية.

قلنا : إنما تجزع النساء من الشيب لما فيه من أضعاف القوة واكلال الجوارح وإطفاء السورة ، والكبر والهرم يكون معه ذلك كله ، وإن لم يظهر شيب الشعر فقد بان أنه لا بد مما يجزع النساء منه.

* * *

٢١٤

ولي من قصيدة أولها " أظنك من جدوى الأحبة قانطا " :

وغر الثنايا رقتهن بلمتي

فواعدنها زورا من الشيب واخطا

سواد يبريني وإن كنت مذنبا

ويبسط من عذري وإن كنت غالطا

ويسكنني حب القلوب وطالما

ألف على ضمي أكفا سبائطا

معنى البيت الأول : إن الحسان اللواتي يوصفن بوضوح الثنايا لما رأين اللمة السوداء فغبطن بها واغتبطن منها تعللن بأن واعدنها زمان الشيب الذي يمحو حسنها ويذهب بهجتها ، ومعنى البيت الثاني يجئ كثيرا في الشعر وإن الشباب معذور الجناية مغتفر الذنب والشيب بالضد من ذلك ، وسيجئ من شعري مترددا.

* * *

ولي من قصيدة أولها " حييت يا ربع اللوى من مربعي " :

شعر شفيعي في الحسان سواده

حتى إذا ما أبيض بي لم يشفع

عوضت قسرا من غداف مفارقي

وهي الغبينة بالغراب الأبقع

لون تراه ناصعا حتى إذا

خلف الشباب فليس بالمستنصع

من العجب أن تتغير قبول الشفاعة ونجح الوسيلة بتغير الصبغة ، وهذا معنى يختص بالسبب.

فأما البيت الأخير فغريب المعنى ، لأن لون البياض أنصع الألوان وأشرفها وأحسنها ، هذا في الجملة ، وإذا كان البياض بدلا من الشباب كان مستقبحا مستهجنا منفورا عنه متباعدا منه. وهذا من عجائب لون الشيب ومن لطيف ما نبه عليه وأشير إليه.

وتشبيه الشعر الذي أبيض بعضه وباقيه أسود بالغراب الأبقع من غريب التشبيه ،

٢١٥

لأن الشعراء قد شبهت الشباب بالغراب والغداف وأكثرت من ذلك ، وما ورد تشبيه الشيب الممتزج بالغراب الأبقع.

فإن قيل : إذا شبهوا الشباب بالغراب والغداف قبح هذا التشبيه تشبيه المختلط بالغراب الأبقع. قلنا : هو كذلك ، إلا أن هذا لا يدفع استغراب هذا التشبيه وإنه غير متداول مبتذل.

وممن سبق إلى هذا المعنى أبو حية النميري في قوله :

زمان علي غراب غداف

فطيره الشيب عني فطارا

ووجدت لبعض الأعراب ممن لا أعلم تقدمه لزمان أبي حية أو تأخره :

وكأنما الشيب الملم بلمتي

باز أطار من الشباب غرابا

ونظير بيت الأعرابي قول أبي دلف :

أرى بازي المشيب أطار عني

غرابا حب ذلك من غراب

ومثله لابن المعتز :

وأرسل الشيب في رأسي ومفرقه

بزاته البيض في غرباني السود

ونظير قول أبي حية ليزيد بن الطثرية :

وأصيح رأسي كالصخيرة أشرفت

عليها عقاب ثم طار غرابها

* * *

ولي أيضا :

صدت وما صدها إلا على ياس

من أن ترى صبغ فوديها على رأسي

٢١٦

أحب إليها بليل لا يضئ لها

إلا إذا لم تسر فيه بمقباس

والشيب داء لربات الحجال إذا

رأينه وهو داء ما له آسي

يا قربهن ورأسي فاحم رجل

وبعدهن وشيبي ناصع عاسي

ماذا يريبك من بيضاء طالعة

جاءت بحملي وزانت بين جلاسي

وما تبدلت الأخير ما بدل

عوضت بالشيب أنوارا بأنقاس

معنى البيت الأول إنها لم تصد عنه إلا بعد يأسها من شبابه ويقينها بفوته. والبيت الثاني من غريب الصنعة لطيف اللفظ ، لأن الليل من شأنه أن يضئ بالأنوار والمصابيح والنجوم ، إلا الشباب المشبه للبل فإنه يضئ لمبصره ويحسن في عينه إذا كان خاليا من ضوء المشيب ونوره ويظلم إذا طلعت أنوار المشيب وأضواؤه فيه ، وهذا عكس المعهود.

والعبارة عن فقد معاينة الشيب فيه بأنها لم تسر فيه بمقباس ، لا تجهل بلاغتها وحلاوتها ، والنقس المداد وعلى الظاهر والمعهود ، والأنوار أفضل وأفخر من الأنقاس.

* * *

ولي من قصيدة أولها " عل البخيلة أن تجود لعاشق " :

صدت وقد نظرت سواد قرونها

عني وقد نظرت بياض مفارقي

وتعجبت من جنح ليل مظلم

أنى رمى فيه الزمان بشارق

وسواد رأس كان ربع أحبة

وسواد رأس كان ربع أحبة

يا هند إن أنكرت لون ذوائبي

فكما عهدت خلائقي وطرائقي

ووراء ما شنئته عينك خلة

ما شئت من خلق يسرك رائق

أوميض شيب أم وميض بواتر

قطعن عند الغانيات علائقي

٢١٧

وكأن طلعة شيبة في مفرق

عند الغواني ضربة من فالق

ومعيري شيب العذار وما درى

إن الشباب مطية للفاسق

ويقول لو غيرت منه لونه

هيهات أبدل مؤمنا بمنافق

والشيب أملا للصدور وإن نبت

عن لونه في الوجه عين الرامق

وإذا ليالي الأربعين تكاملت

للمرء فهو إلى الردى من حالق

أردت إنها لما رأت سواد شعرها وبياض شعري ظهر لها تضاد ما بيننا وتباعده فصدت وأعرضت. وتشبيه الشعر الأسود بالليل والشيب بالنجوم والشهب قد ذكرنا أنه يتردد في الشعر.

ومعنى البيت الثالث : إن الشباب كان للأنس به كالربع المسكون الذي تحله الأحبة ، ولما علاه الشيب صار كالطلول ، وهي الرسوم التي لا تسكن ولا تحل.

وفي البيتين الرابع والخامس تسلية لمن صد من النساء عن الشيب ، لأن الحلائق معه والطرائق كما عهدت وألفت وإنه لم ينقصن جلدا ولا غير ودا ولا حل عقدا ، وليس يعزى عنه بأبلغ من هذا القول.

ولما كان الشيب قاطعا علائق الغواني وبانا لحبالهن حسن التشكل في بياضه وومضه هل هو لشيب أم لسيوف بواتر قطعت علائق الحب ووصائله؟

وإنما أضفت في البيت السابع إلى الغواني إنزال حلول الشيب في الرأس منزلة حلول الضربة الفالقة له ، لأن هذا حكم موقوف على الغواني والنساء لأنهن الجازعات من الشيب دون الرجال. وإنما عادل النساء بين شيب الرأس والضربة الفالقة له ، لأنه عندهن بعد الشيب لا منفعة فيه ولا متعة به كما لا منفعة بالرأس الفيلق.

ووصفت الشباب في البيت الثامن بأنه مطية الفاسق من حيث الاستعانة به على بلوغ الأغراض ونيل الأوطار ، فجرى مجرى المطية التي توصل إلى بعيد

٢١٨

الوطر. وهذا أحسن من قول أبي نواس " كأن الشباب مطية الجهل " ، وفي الناس من يرويه " مظنة " بالظاء المعجمة والنون. وإنما تقدم عليه لأن الجهل يرجع إلى الاعتقاد بالقلب وليس للشباب معونة على ذلك ، اللهم إلا أن يريد بالجهل الأفعال القبيحة التي يدعو إليها الجهل ، فقد يسمى ما يدعو إليه الجهل الذي هو الاعتقاد من الأفعال جهلا على سبيل المجاز والاستعارة.

وهذا ما أراد أبو نواس لا محالة ، والترجيح باق ، لأنه استعمل لفظة " الجهل " في غير موضعها ، ولأن ليس كل من فعل قبيحا فعن جهل يقبحه ، بل أكثر من يرتكب القبيح يرتكبه مع العلم بقبحه ، فوصف الشباب بأنه مطية للفاسق أصح معنى وأبلغ لفظا.

فأما وصف الخضاب بأنه منافق والشباب بأنه مؤمن ، فمن غريب الوصف وبديعه ، ولا أعرف نظيره. لأن المؤمن ظاهره وباطنه سواء ، والشيب إذا لم يخضب كذلك ، والمنافق يخالف ظاهره باطنه ، والشعر المخضوب كذلك.

وأحسن ابن الرومي في قوله يصف الخضاب بأنه لا طائل فيه :

إذا كنت تمحو صبغة الله قادرا

فأنت على ما يصنع الناس أقدر

* * *

ولي من قصيدة أولها " ألا أرقت لضوء برق أو مضا " :

ولقد أتاني الشيب في عصر الصبي

حتى لبست به شبابا أبيضا

لم ينتقص مني آوان نزوله

بأسا أطال على العداة وأعرضا

فكأنما كنت امرءا مستبدلا

أثوابه كره السواد فبيضا

أردت أن الشيب لما طرق قبل كبر السن والهرم كان ما يرى من بياض شعره

٢١٩

كأنه شباب ، لأنه في زمان الشباب وأن صير مظلما لونه ، وهذا عكس قول البحتري :

وشبيبة فيها النهى فإذا بدت

لذوي التوسم فهي شيب أسود

فشباب أبيض عكس شيب أسود.

ومعنى البيتين الأخيرين تردد كثيرا في الشعر ، لأن عذر كل من اعتذر للشيب إنما هو بأنه ما فل حده ولا أوهن قوته ولا غير حزمه ، وقد قال الشاعر :

لم ينتقص مني المشيب قلامة

الآن حين بدا أكب وأكيس

وما تعوض عنه من لون الشباب بلون المشيب بمن استبدل ثوبا أسود بأبيض ، من بارع التشبيه ونادره ، لأن تبديل الثياب المختلفة الألوان لا تغير جلدا ولا توهن عضدا ، وإذا وصف بمثل ذلك من تغير لون شعره فهو الغاية في المعنى المقصود.

ونظير هذا المعنى بعينه من شعري مما سيجئ ذكره :

فلا تنكري لونا تبدلت غيره

كمستبدل بعد الرداء رداء

* * *

ولي أيضا :

أما الشباب فقد مضت أيامه

واستل من كفي الغداة زمامه

وتنكرت آياته وتغيرت

جاراته وتقوضت آطامه

ولقد درى من في الشباب حياته

إن المشيب إذا علاه حمامه

* * *

ولي أيضا :

ألا حبذا زمن الحاجري

وإذا أنا في الورق الناضر

٢٢٠