عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وسيجري ، مكتوب مثبت في النفوس الفلكية ، وأنها عالمة بلوازم حركاتها من الحوادث ، كما يأتي بيانه.

فإذن كلّ ما يوجد في هذا العالم فإنّما يوجد بعناية من الله سبحانه ، وقضاء منه ، وقدر ؛ وذلك لأنّ العناية عبارة عن إحاطة علمه سبحانه بما عليه الوجود ، من الأشياء الكلية والجزئية الواقعة في النظام الكلّي على الوجه الكلي ، المقتضي للخير والكمال المؤدّي لوجود النظام على أفضل ما في الإمكان ، أتم تأدية ، مرضيا بها عنده تعالى (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) (١) ، (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (٢).

والقضاء عبارة عن وجود الصور العقلية لجميع الموجودات بإبداعه سبحانه إياها في العالم العقلي على الوجه الكلي ، بلا زمان ، على ترتيبها الطولي الّذي هو باعتبار سلسلة العلل والمعلولات ، والعرضي الّذي هو باعتبار سلسلة الزمانيات والمعدّات بحسب مقارنة جزئيات الطبيعة المنتشرة الأفراد لأجزاء الزمان ، كما قال عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) (٣).

والقدر عبارة عن ثبوت صور جميع الموجودات في العالم النفسي الفلكي ، على الوجه الجزئي ، مطابقة لما في موادّها الخارجية الشخصية ، مستندة إلى أسبابها الجزئية ، واجبة بها ، لازمة لأوقاتها المعيّنة ، كما قال جل وعز : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٤) ، وتشملها العناية شمول القضاء للقدر والقدر لما في

__________________

(١) ـ سورة الأنعام ، الآية ٥٩.

(٢) ـ سورة فصلت ، الآية ٤٧.

(٣) ـ سورة الحجر ، الآية ٢١.

(٤) ـ سورة الحجر ، الآية ٢١.

٤٠١

الخارج ، إلّا أن العناية لا محلّ لها ، بل هو علم بسيط ، قائم بذاته تعالى ، مقدّس عن شائبة كثرة وتفصيل خلاق العلوم التفصيلية ، الّتي هي بعده ، وهي ذوات الأشياء الصادرة عنه ، ولكلّ من القضاء والقدر محلّ ، أمّا القضاء فالعالم العقلي ، وأمّا القدر فالعالم النفسي.

ثم الجواهر العقلية وما معها موجودة في القضاء والقدر مرة واحدة ، باعتبارين ، والجواهر الجسمانية وما معها موجودة فيهما مرتين. هكذا حقّق هذا البحث محقّقو الحكماء(١).

وصل

ثم إن وجود تلك الصور الجزئية في موادّها الخارجية الّتي هي أخيرة مراتب علمه عزوجل ، كلمات الله الّتي لا تنفد ، ولا تبيد مع أعراضها اللازمة والمفارقة ، الّتي هي بمنزلة الحركات البنائية ، والإعرابية ، والمادّة الكلية المشتملة عليها ، هي دفتر للوجود ، والبحر المسجور ، المملوء بالصور ، فلو كان بحر المادّة العنصرية مدادا لكلمات ربنا الوجودية لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّنا ، ولو جئنا بمثله مددا من أبحر المواد الفلكية ، من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله.

فهذه العوالم كلها ، كلّيها وجزئيها ، كتب إلهية ودفاتر سبحانية ؛ لإحاطتها بكلمات الله التامات ، وانتقاشها بها ، فعالم العقول المقدسة والنفوس الكلية كلاهما كتابان كلّيان.

__________________

(١) ـ أنظر : شرح الإشارات : ٣ : ٣١٧.

٤٠٢

ويقال للعقل الأوّل : أمّ الكتاب ، كما قال عزوجل : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (١) ؛ لإحاطته بالأشياء إجمالا.

وللنفس الكلية الفلكية : الكتاب المبين ، كما قال : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٢) ؛ لظهورها فيه تفصيلا ، وهو لوح القضاء ، واللوح المحفوظ عن التغيّر.

وللنفس المنطبعة في الجسم الفلكي : كتاب المحو والإثبات ، كما قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣) ؛ لوقوعهما فيه ، وهو لوح القدر ، وأعيان الموجودات هي آيات تلك الكتب (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٤).

وصل

روى في كتاب التوحيد ، بإسناده عن مولانا الرضا عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن عليّ عليهم‌السلام ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ الله عزوجل قدّر المقادير ، ودبّر التدابير ، قبل أن يخلق آدم بألفي عام» (٥).

وفي رواية أخرى : «قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض

__________________

(١) ـ سورة الزخرف ، الآية ٤.

(٢) ـ سورة الأنعام ، الآية ٥٩.

(٣) ـ سورة الرعد ، الآية ٣٩.

(٤) ـ سورة يونس ، الآية ٦.

(٥) ـ كتاب التوحيد : ٣٧٦ ، ح ٢٢.

٤٠٣

بخمسين ألف سنة» (١).

وبإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «لا يؤمن أحدكم حتّى يؤمن بالقدر ، خيره وشره، وحلوه ومرّه» (٢).

وبإسناده عن العالم عليه‌السلام ، قال : «علم ، وشاء ، وأراد ، وقدّر ، وقضى ، وأبدا ، فأمضى ما قضى ، وقضى ما قدّر ، وقدّر ما أراد ، فبعلمه كانت المشيئة ، وبمشيئته كانت الإرادة ، وبإرادته كان التقدير ، وبتقديره كان القضاء ، وبقضائه كان الإمضاء ، فالعلم متقدّم المشيئة ، والمشيئة ثانية ، والإرادة ثالثة ، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء ، فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم ، متى شاء ، وفيما أراد لتقدير الأشياء ، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء ، فالعلم بالمعلوم قبل كونه ، والمشيئة في المشاء قبل عينه ، والإرادة في المراد قبل قيامه ، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا وقياما ، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات ذوات الأجسام المدركات بالحواس ، من ذي لون ، وريح ، ووزن ، وكيل ، وما دبّ ودرج ، من إنس وجنّ ، وطير وسباع ، وغير ذلك ممّا يدرك بالحواس.

فلله تبارك وتعالى فيه البداء ، ممّا لا عين له ، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء ، والله يفعل ما يشاء ، وبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها ، وأنشأها قبل إظهارها ، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها ، وصفاتها (٣) ، وبالتقدير قدر أقواتها (٤) ، وعرف أوّلها وآخرها ، وبالقضاء

__________________

(١) ـ كتاب التوحيد : ٣٦٨ ، ح ٧.

(٢) ـ كتاب التوحيد : ٣٧٩ ، ح ٢٧.

(٣) ـ في المصدر : وصفاتها وحدودها.

(٤) ـ في المصدر : أوقاتها.

٤٠٤

أبان للناس أماكنها ، ودلّهم عليها ، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها ، وذلك تقدير العزيز العليم» (١).

أصل

إن قيل : ما السبب في المحو والإثبات ، وما الحكمة فيها؟ وكيف تصح نسبة التردد وإجابة الدعاء ونحو ذلك إلى الله سبحانه ، مع إحاطة علمه بكل شيء أزلا وأبدا ، على ما هو عليه في نفس الأمر ، وتقدّسه عما يوجب التغيّر والسنوح ، ونحوهما؟

فاعلم أن القوى المنطبعة الفلكية لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة ؛ لعدم تنافيها ، بل إنما تنتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا ، وجملة فجملة ، مع أسبابها وعللها ، على نهج مستمر ، ونظام مستقرّ ، فإنّ ما يحدث في عالم الكون والفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك المسخّرة لله تعالى ، ونتائج بركاتها ، فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا ، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم ، حكمت بوقوعه فيه ، فينتقش فيها ذلك الحكم ، وربّما تأخّر بعض الأسباب الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما توجبه بقية الأسباب لو لا ذلك السبب ، ولم يحصل لها العلم بذلك السبب بعد ؛ لعدم اطلاعها على سبب ذلك السبب ، ثمّ لما جاء أوانه واطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل ، فينمحي عنها نقش الحكم السابق ، ويثبت الحكم الآخر.

مثلا : لما حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا ، في ليلة كذا ، لأسباب

__________________

(١) ـ كتاب التوحيد : ٣٣٤ ، ح ٩.

٤٠٥

تقتضي ذلك ، ولم يحصل لها العلم بتصدّقه الّذي يأتي به قبل ذلك الوقت ؛ لعدم اطّلاعها على أسباب التصدق بعد ، ثمّ علمت به ، وكان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدّق ، فيحكم أولا بالموت ، وثانيا بالبرء ، وإذا كانت الأسباب لوقوع أمر ولا وقوعه ، متكافئة ولم يحصل لها العلم برجحان أحدهما بعد ؛ لعدم مجيء أوان سبب ذلك الرجحان بعد ، كان لها التردّد في وقوع ذلك الأمر ، ولا وقوعه ، فينتقش فيها الوقوع تارة ، واللاوقوع أخرى.

فهذا هو السبب في المحو والإثبات ، والحكمة فيهما.

وأمّا صحة نسبة البداء والتردد ، وأمثالهما ، إلى الله سبحانه ، مع إحاطة علمه عزوجل بالكلّيات والجزئيات جميعا ، أزلا وأبدا ، على ما هي عليها في المواقع ، من غير تطرّق تغيّر ، وسنوح في ذاته عزوجل ، فالوجه فيه ما ذكره أستاذنا ـ دام ظلّه ـ قال : لما كان كلّ ما يجري في ذلك العالم النفسي إنّما يجري بإرادة الله تعالى ، بل فعلهم بعينه فعل الله تعالى ، حيث إنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ؛ إذ لا داعي لهم على الفعل إلّا إرادة الله عزوجل؛ لاستهلاك إرادتهم في إرادته سبحانه ، ومثلهم كمثل الحواسّ للإنسان ، كلّما همّ بأمر محسوس امتثلت الحاسة لما همّ به وأرادته دفعة ، فكلّ كتابة تكون في تلك الألواح والصحف فهو أيضا مكتوب الله عزوجل بعد قضائه السابق المكتوب بقلمه الأوّل ، فيصحّ أن يوصف الله بالنسخ ، والبداء ، والتردد ، وإجابة الدعاء ، ونحو ذلك ، بهذا الاعتبار ، وإن كان مثل هذه الأمور يشعر بالتغيّر والسنوح ، وهو الله عزوجل منزّه عنه ، فإنّ كلّ ما وجد ، أو سيوجد، فهو غير خارج عن عالم ربوبيّته.

٤٠٦

أصل

قد بيّنا أن العالم كله تدريجي الوجود ، متبدّل الكون ، إلّا ما صار مخفيا تحت سطوع النور الأوّل ، وهو محلّ القضاء الّذي هو بمنزلة الضوء بالنسبة إليه سبحانه.

وقد ثبت أن العالم إنّما يوجد بالكلام ، وبأمر «كن» ، فهو الله سبحانه إذا قضى أمرا فإنّما يقول له : كن ، بلا حرف وصوت ، فيكون ، فإذا كان أشرف على العدم من ساعته لهلاكه الأصلي ، وبطلانه الذاتي ، فيقول الله جل جلاله ثانيا : كن ، فيكون ثانيا بهذه الكلمة الثانية.

وإن شئت قلت بتلك الكلمة الأولى بعينها ؛ لأنّ أمر الله واحد ، وكلمته واحدة ، والقضاء واحد ، إلّا أنها ثانية في حق العالم ، فإذا كان أشرف على العدم من ساعته ، فيقول الله ـ عزّ سلطانه ـ له ثالثا : كن ، فيكون ثالثا ، وهكذا إلى ما شاء الله.

فهو الله تبارك وتعالى كلّ يوم في شأن ، مع تعاليه عن تعدّد الشأن ، وكل مخلوق فهو دائما في حركة ، وفي كلّ لحظة في خلق جديد (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١) ، (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٢) ؛ وذلك للطافة الحجاب ، ورقّته ، وتشابه الصور ، مثل قوله تعالى :

__________________

(١) ـ سورة النمل ، الآية ٨٨.

(٢) ـ سورة ق ، الآية ١٥.

٤٠٧

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) (١).

قال صاحب الفتوحات : من علم الاتساع الإلهي علم أنّه لا يتكرّر شيء في الوجود، وإنما وجود الأمثال في الصور يخيّل أنها أعيان ما مضى ، وهي أمثالها ، لا أعيانها ، ومثل الشيء ما هو عينه (٢).

وقال أيضا ـ بعد كلام طويل في ذلك ـ : فالوجود كله متحرّك على الدوام ، دنيا وآخرة ؛ لأنّ التكوين لا يكون إلّا عن مكوّن ، فمن الله توجّهات دائمة ، وكلمات لا تنفد ، وهو قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (٣) ، فعند الله التوجّه ، وهو قوله : (إِذا أَرَدْناهُ) ، وكلمة الحضرة ، وهي قوله لكلّ شيء : (كُنْ) (٤) بالمعنى الأوّل الّذي يليق بجلاله ، و «كن» حرف وجودي ، فلا يكون عنه إلّا الوجود ؛ لأنّ العدم لا يكون ، والكون وجود ، وهذه التوجّهات والكلمات هي خزائن الجود لكلّ شيء يقبل الوجود ، قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) ، وهو ما ذكرناه (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)(٥).

تمثيل :

فمثل إفاضة الوجود من الله سبحانه ، كمثل قطعات الماء في النهر الجاري ، حيث ترى واحدة بالشخص ، وهي متبدلة آنا فآنا ، أو مثل شعل النار في السراج المستحيلة هواء على نعت الاتصال.

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥.

(٢) ـ الفتوحات المكية : ٢ : ٤٣٢.

(٣) ـ سورة النحل ، الآية ٩٦.

(٤) ـ سورة النحل ، الآية ٤٠.

(٥) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٢ : ٢٨٠ و ٢٨١. والآية في سورة الحجر ، الآية ٢١.

٤٠٨

وصل

فإذن ما أسهل عليك أن تتيقّن أن وجود العالم عن الباري جل ثناؤه ليس كوجود الدار عن البنّاء ، ولا كوجود الكتابة عن الكاتب ، الثابتة العين ، المستقلة بذاتها ، المستغنية عن الكاتب بعد فراغه ، وإن كان يشبه ذلك من وجه آخر لطيف ، ولكن كوجود الكلام عن المتكلّم إن سكت بطل الكلام ، بل كوجود ضوء الشمس في الجو المظلم الذات ما دامت الشمس طالعة ، فإن غابت الشمس بطل الضوء من الجو ، لكن شمس الوجود يمتنع عليه العدم لذاته ، وكما أن الكلام ليس جزء المتكلّم ، بل فعله وعمله أظهره بعد ما لم يكن ، وكذا النور الّذي يرى في الجوّ ليس بجزء الشمس ، بل هو انبجاس وفيض منها.

فهكذا الحكم في وجود العالم عن الباري جلّ ثناؤه ، ليس بجزء من ذاته ، بل فضل وفيض يتفضّل به ، ويفيض ، إلّا أن الشمس لم تقدر أن تمنع نورها وفيضها ؛ لأنها مطبوعة على ذلك ، بخلافه سبحانه فإنّه مختار في أفعاله بنحو من الاختيار ، أجلّ وأرفع ممّا تصوّره العوام ، كما دريت ، وأشدّ وأقوى من اختيار مثل المتكلّم القادر على الكلام ، إن شاء تكلّم ، وإن شاء سكت ، فهو سبحانه إن شاء أفاض وجوده وفضله ، وأظهر حكمته ، وإن شاء أمسك ، ولو أمسك طرفة عين عن الإفاضة والتوجّه لتهافتت السماوات ، وبادت الأفلاك ، وتساقطت الكواكب ، وعدمت الأركان ، وهلكت الخلائق ، ودثر العالم ، دفعة واحدة بلا زمان ، كما قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) (١).

__________________

(١) ـ سورة فاطر ، الآية ٤١.

٤٠٩

وصل

روى في كتاب التوحيد ، بإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ :) «لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنهم قالوا قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص ، فقال الله جل جلاله تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (١) ، ألم تسمع الله عزوجل يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٢)» (٣).

فصل

قال الله جل جلاله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) (٤) ، أي لا يعمل إلّا ما يشاكله ، بمعنى أن الّذي يظهر منه يدلّ على ما هو في نفسه عليه ، والعالم عمل الله وصنعته ، فهو على شاكلته ، فما من العالم شيء إلّا وله في الله أصل.

والعالم منحصر في عشر مقولات ، فجوهره مثال لذات الباري جل اسمه ، وأعراضه لصفاته ، ومتاه لأزله ، وأينه لاستوائه على العرش ، وكمّه لعدد أسمائه ، وكيفه لرضاه وغضبه ، ووضعه لقيامه بذاته ، ويداه مبسوطتان ، وجدته لكونه مالك الملك ، وإضافته لربوبيته ، وأن يفعل لإيجاده ، وأن ينفعل لإجابته من سأله.

__________________

(١) ـ سورة المائدة ، الآية ٦٤.

(٢) ـ سورة الرعد ، الآية ٣٩.

(٣) ـ كتاب التوحيد : ١٦٧ ، ح ١.

(٤) ـ سورة الإسراء ، الآية ٨٤.

٤١٠

وعلى هذا القياس أجناس المقولات ، وأنواعها ، وأفرادها.

وكما أن الذات لا تزال محتجبة بالصفات ، فكذلك الجوهر لا يزال مكتنفا بالأعراض.

وكما أن الذات الإلهية مع انضمام صفة من صفاتها اسم من الأسماء ، كلية كانت ، أو جزئية ، كذلك الجوهر مع انضمام معنى من المعاني الكلية إليه يصير جوهرا خاصّا ، مظهرا لاسم خاصّ من الأسماء الكلية ، بل عينه ، وبانضمام معنى من المعاني الجزئية يصير جوهرا جزئيا ، كالشخص.

وكما أنّه من اجتماع الأسماء الكلية تتولد أسماء أخر ، كذلك من اجتماع الجواهر البسيطة تتولد جواهر أخر مركّبة منها.

وكما أنّ الأسماء بعضها محيط بالبعض ، فكذلك الجواهر.

وكما أنّ الأمّهات من الأسماء منحصرة ، كذلك أجناس الجواهر وأنواعها منحصرة.

وكما أن الفروع من الأسماء غير متناهية ، كذلك الأشخاص غير متناهية.

فما من شيء ظهر في تفاصيل العالم إلّا وفي الحضرة الإلهية صورة تشاكله ، ولو لا هي لما ظهر ؛ لأنّ وجود المعلول ـ كما دريت ـ ناشىء من وجود العلّة ، ولكن يجب أن يتصور ويعتقد ما هناك على وجه أعلى وأشرف ، وإلّا فهو سبحانه منزّه عن الجوهرية والعرضية ، وإن ثبت له شيء من الأعراض ، بل هو تعالى في غاية الأحديّة والجلالة ، لا يشابه شيئا ، ولا يشابهه شيء بوجه من الوجوه ، تعاظم ربّنا عن ذلك ، وتقدّس.

ولنشر الآن إلى تحقيق الحق في خلق الأعمال ، والقدر في الأفعال ، وإبطال الجبر والتفويض ، ومن الله التأييد.

٤١١

أصل

قد دريت أن كلّ ما يوجد في هذا العالم فقد قدّر بهيئته وزمانه في عالم آخر فوق هذا العالم قبل وجوده ، وقد ثبت أن الله سبحانه قادر على جميع الممكنات ، ولم يخرج شيء من الأشياء عن مصلحته وعلمه وقدرته وإيجاده ، بواسطة ، أو بغير واسطة ، وإلّا لم يصلح لمبدئية الكل ، فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشرّ ، والنفع والضرّ ، وسائر المتقابلات كلها منتهية إلى قدرته ، وتأثيره ، وعلمه ، وإرادته ، ومشيئته ، إمّا بالذات ، أو بالعرض.

فأعمالنا وأفعالنا كسائر الموجودات وأفاعيلها بقضائه وقدره ، وهي واجبة الصدور منّا بذلك ، ولكن بتوسّط أسباب وعلل من إدراكاتنا وإراداتنا وحركاتنا وسكناتنا ، وغير ذلك من الأسباب العالية الغائبة عن علمنا وتدبيرنا ، الخارجة عن قدرتنا وتأثيرنا.

فاجتماع تلك الأمور الّتي هي الأسباب والشرائط مع ارتفاع الموانع علّة تامّة يجب عندها وجود ذلك الأمر المدبّر ، والمقضي المقدّر ، وعند تخلّف شيء منها ، أو حصول مانع ، بقي وجوده في حيز الامتناع ، ويكون ممكنا وقوعيّا بالقياس إلى كلّ واحد من الأسباب الكونية.

ولمّا كان من جملة الأسباب وخصوصا القريبة منّا إرادتنا وتفكّرنا وتخيّلنا ، وبالجملة ما يختار به أحد طرفي الفعل والترك ، فالفعل اختياريّ لنا ، فإنّ الله أعطانا القوّة والقدرة والاستطاعة ليبلونا أيّنا أحسن عملا ، مع إحاطة علمه ، فوجوبه لا ينافي إمكانه ، واضطراريّته لا تدافع كونه اختياريا.

٤١٢

كيف ، وأنّه ما وجب إلّا بالاختيار ، ولا شكّ أن القدرة والاختيار كسائر الأسباب من الإدراك والعلم والإرادة والتفكّر والتخيّل ، وقواها وآلاتها كلها بفعل الله تعالى ، لا بفعلنا واختيارنا ، وإلّا لتسلسلت القدر والإرادات ، إلى غير النهاية ، أو دارت ؛ وذلك لأنا وإن كنا بحيث إن شئنا فعلنا ، وإن لم نشأ لم نفعل ، لكنّا لسنا بحيث إن شئنا شئنا ، وإن لم نشأ لم نشأ ، بل إذا شئنا فلم تتعلق مشيئتنا بمشيئتنا ، بل بغير مشيئتنا ، فليست المشيئة إلينا ؛ إذ لو كانت إلينا لاحتجنا إلى مشيئة أخرى سابقة ، وتسلسل الأمر إلى غير النهاية.

ومع قطع النظر عن استحالة التسلسل نقول جملة مشيئاتنا الغير المتناهية بحيث لا يشذّ عنها مشيئة ، لا تخلو إمّا أن يكون وقوعها بسبب أمر خارج عن مشيئتنا ، أو بسبب مشيئتنا ، والثاني باطل ؛ لعدم إمكان مشيئة أخرى خارجة عن تلك الجملة ، والأوّل هو المطلوب.

فقد ظهر أن مشيئتنا ليست تحت قدرتنا ، كما قال الله عزوجل : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١).

فإذن نحن في مشيئتنا مضطرّون ، وإنما تحدث المشيئة عقيب الداعي ، وهو تصور الشيء الملائم تصورا ظنيا ، أو تخيليا ، أو علميا ، فإنا إذا أدركنا شيئا فإن وجدنا ملائمته أو منافرته لنا دفعة بالوهم ، أو ببديهة العقل ، انبعث منّا شوق إلى جذبه ، أو دفعه ، وتأكّد هذا الشوق هو العزم الجازم المسمى بالإرادة ، وإذا انضمّت إلى القدرة الّتي هي مهيئة للقوة الفاعلة انبعثت تلك القوّة لتحريك الأعضاء الأدوية ، من العضلات وغيرها ، فيحصل الفعل.

فإذن إذا تحقق الداعي للفعل الّذي تنبعث منه المشيئة تحقّقت المشيئة ،

__________________

(١) ـ سورة الإنسان ، الآية ٣٠ ؛ وسورة التكوير ، الآية ٢٩.

٤١٣

وإذا تحققت المشيئة الّتي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت القدرة لا محالة ، ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة ، فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة ، والقدرة محرّكة ضرورة عند انجزام المشيئة ، والمشيئة تحدث ضرورة في القلب عقيب الداعي.

فهذه ضروريات ترتّب بعضها على بعض ، وليس لنا أن ندفع وجود شيء منها عند تحقق سابقه ، فليس يمكن لنا أن ندفع المشيئة عند تحقق الداعي للفعل ، ولا انصراف القدرة إلى المقدور بعدها ، فنحن مضطرّون في الجميع ، فنحن في عين الاختيار مجبورون ، فنحن إذن مجبورون على الاختيار.

قال بعض العلماء : الحوادث كلها مستندة إلى القدرة الأزلية ، ولكن بعضها مرتّب على البعض في الحدوث ، ترتّب المشروط على الشرط ، فلا تصدر من القدرة الأزلية والقضاء الإلهي إرادة حادثة إلّا بعد علم ، ولا علم إلّا بعد حياة ، ولا حياة إلّا بعد محلّها ، ولكن بعض الشروط ممّا ظهر للعامة ، وبعضها ممّا لم يظهر إلّا للخواص المكاشفين بنور الحق ، فكلّ ما في عالم الإمكان حادث على ترتيب واجب ، وحق لازم ، لا يتصور أن لا يكون كما يكون ، وعلى الوجه الّذي يكون ، فلا يسبق سابق إلّا بحق ، ولا يلحق لا حق إلّا بحق ، كما أشير إليه بقوله سبحانه : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) (١).

فما تأخّر متأخّر إلّا لانتظار شرطه ؛ إذ وقوع المشروط قبل وقوع الشرط ممتنع ، والمحال لا يوصف بكونه مقدورا ، فلا يتخلّف العلم عن النطفة إلّا لفقد شرطه ، وهو الحياة، ولا الإرادة عن العلم إلّا لفقد شرطها ، وهو القدرة ، ولا الفعل عن القدرة إلّا لفقد شرطه ، وهو الإرادة ، وكل ذلك على المنهاج الواجب ،

__________________

(١) ـ سورة الدخان ، الآية ٣٩.

٤١٤

والترتيب الواجب ، ليس شيء منها ببخت واتفاق ، بل كلّ بحكمة وتدبير (١).

وإذا كان هذا هكذا فمن نظر إلى الأسباب القريبة للفعل ورآها مستقلة قال بالقدر والتفويض ، أي تكون أفاعيلنا واقعة بقدرتنا ، مفوّضة إلينا ، والله سبحانه أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه ، وأعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد.

ومن نظر إلى السبب الأوّل وقطع النظر عن الأسباب القريبة مطلقا ، قال بالجبر والاضطرار ، ولم يفرق بين أعمال الإنسان وأعمال الجمادات ، والله تعالى أعدل من أن يجبر خلقه ثمّ يعذّبهم ، وأكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، فكلاهما أعور لا يبصر بإحدى عينيه.

أما القدرية فبالعين اليمنى ، أي النظر الأقوى الّذي به يدرك الحقائق والأسباب القصوى للأشياء ، كالدجّال حيث يقول : أنا ربّكم الأعلى.

وأمّا الجبرية فباليسرى ، أي الأضعف الّذي به يدرك الظواهر والأسباب القريبة ، كإبليس حيث قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) (٢).

وأمّا من نظر حق النظر فقلبه ذو عينين ، يبصر الحق باليمنى ، فيضيف الأعمال كلها إليه (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٣) ، ويبصر الخلق باليسرى ، فيثبت تأثيرهم في الأعمال ، ذلك بما كسبت يداك ، لكن بالله سبحانه ، لا بالاستقلال ، لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، فيتحقق بمعنى قول مولانا الصادق عليه‌السلام : «لا جبر ، ولا

__________________

(١) ـ أنظر : إحياء علوم الدين : ١٣ : ١٧٦.

(٢) ـ سورة الحجر ، الآية ٣٩.

(٣) ـ سورة النساء ، الآية ٧٨.

٤١٥

تفويض ، بل أمر بين أمرين» (١) ، فتذهّب به ، وذلك الفوز الكبير.

هذه طريقة أهل العقل والنظر ، القريبة من الأفهام ، وترتقي إلى طريقة أخرى أعلى وأتمّ هي طريقة أهل الكشف والشهود ، وهي أقرب إلى التحقيق ، وإن كانت أبعد من الأفهام.

أصل

قد دريت أن الموجودات ـ على تفاوتها وترتبها في الشرف الوجودي ، وتخالفها في الذوات والأفعال ، وتباينها في الصفات ـ تجمعها حقيقة واحدة إلهية ، جامعة لجميع حقائقها ، ودرجاتها ، وطبقاتها ، مع أن تلك الحقيقة في غاية البساطة والأحدية ، ينفذ نوره في أقطار الجميع ، فكما أنّه ليس شأن إلّا وهو شأنه ، فكذلك ليس فعل إلّا وهو فعله ، ولا حكم إلّا له ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم ، يعني كلّ حول حوله ، وكل قوّة قوته ، مع علوّه وعظمته ، فهو مع علوّه وعظمته ينزل منازل الأشياء ، ويفعل فعلها ، كما أنّه مع تجرّده وتقدّسه عن جميع الأكوان لا تخلو منه أرض ولا سماء ، كما قال إمام الموحدين : «مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كلّ شيء لا بمزايلة» (٢).

فنسبة الفعل والإيجاد إلى العبد صحيح ، كنسبة الوجود والتشخّص إليه من الوجه الّذي ينسب إليه تعالى ، فكما أن وجود زيد بعينه أمر متحقق في الواقع ، وهو شأن من شؤون الحق الأوّل ، ولمعة من لمعات وجهه ، فكذلك هو فاعل لما

__________________

(١) ـ الكافي : ١ : ١٦٠ ، ح ١٣ ، وفي بعض المصادر «ولكن» بدل «بل».

(٢) ـ نهج البلاغة : ٤٠ ، خطبة رقم «١».

٤١٦

يصدر عنه بالحقيقة ، لا بالمجاز ، ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق الأوّل ، بلا شوب قصور وتشبيه ، تعالى الواحد القيّوم عن نسبة النقص والشين إليه.

فالتنزيه والتقديس لله سبحانه بحاله ؛ لأنّه راجع إلى مقام الأحدية الّتي يستهلك فيه كلّ شيء وهو الواحد القهّار ، الّذي ليس أحد غيره في الدار ، والتشبيه راجع إلى مقامات الكثرة والمعلولية ، والمحامد كلّها راجعة إلى وجهه الأحدي ، وله عواقب الثناء والتقاديس ، كذا أفاد أستاذنا ، سلمه الله (١).

وقال : «فاخمد ضرام أوهامك أيها الجبري ، فالفعل ثابت لك بمباشرتك إياه ، وقيامه بك. وسكّن جأشك أيها القدري ، فإنّ الفعل مسلوب منك من حيث أنت أنت ؛ لأن وجودك إذا قطع النظر عن ارتباطه بوجود الحق فهو باطل ، فكذا فعلك ؛ إذ كلّ فعل متقوّم بوجود فاعله.

وانظرا جميعا بعين الاعتبار في فعل الحواسّ كيف انمحى وانطوى في فعل النفس وتصوّرها في تصور النفس ، واتلوا جميعا قوله تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) (٢) ، وتصالحا بقول الإمام بالحق : «لا جبر ، ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين» (٣)» (٤).

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ٦ : ٣٧٤.

(٢) ـ سورة التوبة ، الآية ١٤.

(٣) ـ الكافي : ١ : ١٦٠ ، ح ١٣.

(٤) ـ الشواهد : ٥٨.

٤١٧

وصل

ولأجل هذا التطابق بين الجبر والتفويض ، والتوافق بين الوجوب والإمكان ، نسب الله الأفعال في القرآن مرّة إلى نفسه ، ومرّة إلى الملائكة ، ومرّة إلى العباد ، فقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (١) ، وقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) (٢).

وقال سبحانه في نفخ الروح في مريم ، على نبيّنا وعليها‌السلام : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٣) ، وقال : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (٤) ، وفي الحديث : أنّ النافخ جبرئيل.

وقال عزوجل في القتل : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) (٥) ، فأضاف القتل إلى العباد ، والتعذيب إلى نفسه ، والتعذيب عين القتل هنا ، وقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) (٦).

وقال في الرمي : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٧) ، وهو جمع بين النفي والإثبات ظاهرا ، ولكن معناه : وما رميت بالمعنى الّذي يكون العبد به راميا ، إذ رميت بالمعنى الّذي يكون الربّ به راميا ، إذ هما معنيان مختلفان.

__________________

(١) ـ سورة الزمر ، الآية ٤٢.

(٢) ـ سورة السجدة ، الآية ١١.

(٣) ـ سورة التحريم ، الآية ١٢.

(٤) ـ سورة مريم ، الآية ١٧.

(٥) ـ سورة التوبة ، الآية ١٤.

(٦) ـ سورة الأنفال ، الآية ١٧.

(٧) ـ سورة الأنفال ، الآية ١٧.

٤١٨

وصل

وكما أن الأشياء الداخلة في وجود الإنسان ، كالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، من جملة أسباب الفعل ، فكذلك الأمور الخارجة من الدعوات ، والطاعات ، والسعي ، والجدّ ، والتدبير ، والحذر ، والالتماس ، والتكليف ، والوعد ، والوعيد ، والإرشاد ، والتهذيب ، والترغيب ، والترهيب ، وأمثال ذلك ، فإنّ ذلك كله أسباب ووسائط ، ووسائل ، وروابط لوجود الأفعال ، ودواعي إلى الخير ، ومهيجات للأشواق ، مهيئة للمطالب ، موصلة إلى الأرزاق ، مخرجة للكمالات من القوّة إلى الفعل.

وكلّ ذلك ممّا يقاوم القضاء ، لا من حيث إنّه فعل العبد ، فإنّه من هذه الحيثية ممّا يتحكّم به القضاء ؛ لأنّه لو لم يقض لم يوجد ، بل من حيث إنّ الله سبحانه جعله من الأسباب على حسب ما قدّر وقضى ، لربط وموافاة بينه وبين الفعل ، كما جعل شرب الدواء سببا لحصول الصحّة في هذا المريض ، فالسبب والمسبّب كلاهما ينبعثان من القضاء ، ويستندان إلى الله سبحانه ، وإلى أمره ، أمرا ذاتيا عقليا.

وقد يكون بالأمر القولي السمعي أيضا ، كما فيما كلّفنا به من ذلك ، كالدعاء ـ مثلا ـ فإنّه سبحانه أمرنا به ، وحثّنا عليه ، قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) ، وقال : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (٢) ، فالدعاء والاستجابة كلاهما من أمر الله تعالى ، أمرا تكليفيا ، كما أنّه من أمره الذاتي ،

__________________

(١) ـ سورة غافر ، الآية ٦٠.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٦.

٤١٩

ولسان العبد ترجمان الدعاء ، وكلّ من فعل شيئا بأمر أحد فيده يد الآمر في الحقيقة ، إلّا أن بعض هذه الأمور علل وموجبات ، وبعضها علامات ومعرّفات ، وبعضها ينقسم إلى القسمين ، ولعل الدعاء من القسم الثالث ؛ ولهذا اشتهر بين الداعين أن الدعاء كالدواء ، بعضها يؤثّر بالطبع ، وبعضها بالخاصّية ، فالأول إشارة إلى الأوّل ، والثاني إلى الثاني.

وأمّا الابتلاء من الله سبحانه ، فهو إظهار ما كتب لنا أو علينا في القدر ، وإبراز ما أودع فينا ، وغرز في طباعنا بالقوّة ، بحيث يترتب عليه الثواب والعقاب ، فإنّه ما لم يخرج من القوّة إلى الفعل لم يوجد بعد ، وإن كان معلوما لله سبحانه فلا تحصل ثمرته وتبعته اللازمتان ؛ ولهذا قال سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (١) ، وأمثال ذلك من الآيات ، أي نعلمهم موصوفين بهذه الصفة ، بحيث يترتب عليها الجزاء ، وأمّا قبل ذلك الابتلاء فإنّه علمهم مستعدّين للمجاهدة والصبر ، صابرين إليهما بعد حين.

وأمّا الثواب والعقاب فهما من لوازم الأفاعيل الواقعة منّا ، وثمراتها ولواحق الأمور الموجودة فينا وتبعاتها ليسا يردان علينا من خارج ، فالمجازاة ـ أيضا ـ هو إظهار ما كتب لنا أو علينا في القدر ، وإبراز ما أودع فينا وغرز في طباعنا بالقوة ، كما قال سبحانه : (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (٢) ، وقال عزوجل : (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٣) ، فمن أساء عمله أو أخطأ في اعتقاده فإنّما ظلم نفسه بظلمة جوهره ، وسوء استعداده ، فكان أهلا للشقاوة في معاده ، وليس ذلك

__________________

(١) ـ سورة محمّد ، الآية ٣١.

(٢) ـ سورة الأنعام ، الآية ١٣٩.

(٣) ـ سورة التوبة ، الآية ٤٩ ؛ وسورة العنكبوت ، الآية ٥٤.

٤٢٠