عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

ولا جائز أيضا أن يكون ثباتها وقدمها باعتبار ماهيتها الكلية. كيف ، والماهيات ليست جاعلة ، ولا مجعولة ، فلا عبرة باستمرارها!

فإذن الحق في ذلك ما ذكره الأستاذ ـ دام ظلّه ـ موافقا لمرموزات المتقدّمين وتصريحاتهم ، وهو ما نذكره ، فاسمع :

أصل

إن لكلّ طبيعة حقيقة عقلية عند الله تعالى ، موجودة في علمه سبحانه ، بها بقاؤها وثباتها وتقوّمها ووجودها ، وهي بحقيقتها العقلية لا تحتاج إلى مادّة واستعداد وحركة وزمان ، ولها شؤونات متعاقبة متصلة واحدة في علم الله.

وإذا نظرت إلى تكثّر شؤونها الحادثة المتجددة وجدت كلا منها موجودا في وقت ، محتاجا إلى قابل مستعدّ يتقدّم عليه زمانا ، وذلك القابل من حيث كونه أمرا بالقوة أمر عدمي ، لا يحتاج إلى علّة معيّنة ، لكونه بمعنى عدم شيء ما عن شيء ما ، فيكفي في حصوله وجود صورة ما مطلقة تكون القوّة قوّة لها على كمال ما من الكمالات ، ومن حيث استعداده الخاص القريب يفتقر إلى صورة معيّنة هي جهة استعداده وقوته القريبة من الفعل ، فإذا خرج من هذه القوّة القريبة إلى الفعل الّذي يقابلها وجب أن تبطل صورته السابقة بلحوق صورته اللاحقة ؛ لعدم إمكان الاجتماع بينهما ، كما تبطل صورة النطفة إذا حدثت صورة الحيوان ، وهكذا كلّ صورة تتجدد بانقضاء سابقتها ، وتبطل بحدوث عاقبتها ، على نعت الاتصال التجددي.

وأمّا اختصاص كلّ صورة خاصة شخصية بوقتها الجزئي فليس ذلك بأمر

٢٠١

زائد على هويّته حتّى يرد السؤال في لمّيته (١).

ونزيدك بيانا وبرهانا من كلامه :

وصل

قد دريت أن الجسم والجسماني لا يكونان لذاتيهما علّة فاعلية لشيء ، فإذن جميع الصفات الطبيعية كالحركة وغيرها ، يجب أن يكون وجودها من لوازم وجود الطبيعة ، من غير تخلل جعل بين الطبيعة وبينها ، فلا بدّ وأن يكون في الوجود مبدأ أعلى من الطبيعة ، يفعل الطبيعة ولوازمها (٢) ، فتكون الطبيعة وآثارها الذاتية ، كالحركة للفلك ـ مثلا ـ معين في الوجود والحدوث والبقاء ، غاية الأمر أن فيض الوجود يمرّ من المبدأ على الطبيعة أولا ، وبواسطتها على صفاتها الذاتية ، فالأوضاع المتجدّدة للفلك تجددها تابع لتجدد الطبيعة الفلكية ، وكذا الاستحالات الطبيعية ، والحركات الكمّية الطبيعية ، الّتي في العنصريات البسائط ، والمركبات (٣).

ونزيدك بيانا من إفادته ـ دام ظلّه ـ :

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٣ : ١٣٣ ، تحت عنوان : بحث وتحصيل.

(٢) ـ هكذا في المخطوطة ، وما في الأسفار الأربعة هكذا : أعلى من الطبيعة ولوازمها.

(٣) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٣ : ١٠١ ، فصل ٢٦ ، في استئناف برهان آخر على وقوع الحركة في الجوهر.

٢٠٢

وصل

قد دريت أنّ تشخّص كلّ شيء إنّما هو بوجوده ، وأن الزمان والوضع والكم والأين ، وغيرها من العوارض ، لوازم للشخص ، وعلامات له.

فكلّ تشخّص جسماني تتبدّل عليه هذه العوارض كلا أو بعضا ، فتبدّلها تابع لتبدل الوجود ، بل هو عينه بوجه ، فإنّ وجود الطبيعة الجسمانية يحمل عليه بالذات أنّه الجوهر المتصل الوضعي المتكمّم الزماني ، المتحيّز لذاته ، فتبدل الأوضاع والأزمنة والأيون (١) والمقادير يوجب تبدل الوجود الشخصي للجوهر الجسماني ، وهذا هو الحركة في الجوهر الشخصي ؛ إذ وجود الجوهر جوهر ، كما أن وجود العرض عرض (٢). وهذا هو البرهان على تجدّد الطبيعة.

وقد تقرر أن كلّ متحرك فهو مفتقر إلى محرّك آخر غير ذاته ، لكن المتحرّك بنفسه لا يفتقر إلى ما يحركه ، وإلّا لزم تخلل الجعل بين الشيء ونفسه ؛ إذ لا يمكن أن يكون له وجود غير هذا الوجود ، وهو كونه متحركا ، بل يفتقر إلى محرّك يعطي وجوده ، ويجعل ذاته المتحرّكة جعلا بسيطا ، وذلك المحرّك المقوّم يجب أن يكون أمرا ثابتا مفارقا عن المادّة ولواحقها ، وإلّا لعاد الكلام فيتسلسل.

وما سوى العقل ليس كذلك ؛ لأنّ النفس بما هي نفس حكمها حكم الطبيعة في تجددها ، فيكون مقوّم كلّ طبيعة جوهرا مفارقا ، نسبته إلى جميع أفراد النوع

__________________

(١) ـ في الأسفار : والألوان.

(٢) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٣ : ١٠٣ ، تحت عنوان : برهان آخر مشرقي.

٢٠٣

ـ من الطبيعة ومراتبها وحدودها ـ نسبة واحدة ، فهو المقوم لوجود تلك الأفراد ، والمحصّل لنوعها ، والمقيم للمادّة باشتراك الطبيعة ، والمكمّل لجنسها نوعا طبيعيا ، فيكون صورتها المفارقة ، وهذا هو البرهان على ثبات الطبيعة.

وأيضا لا بدّ في الحركة من بقاء الموضوع ثابتا مع تبدّل خصوصيات الحركة ، ووحدة المادّة جنسية ، فلا بد من واحد ثابت ينحفظ به أصل الطبيعة وسنخها مع تبدل خصوصياتها ، فالطبيعة تنتظم ذاتها من جوهر ثابت عقلاني ، وجوهر متجدد مادي ، فلا محالة تكون الطبيعة متحدة الوجود بذلك الجوهر الثابت اتحادا معنويا ، تكون ذاتها ذاته ، وفعلها فعله ، مع كونه عقليا وكونها حسّية.

وصل

فكلّ شخص جوهري له طبيعة سيالة متجددة ، غير مستقر الذات ، وله أيضا أمر عقلي ثابت مستمر باق أزلا وأبدا في علم الله سبحانه ، ببقاء الله ، لا بإبقاء الله إياه ، فإنّ بين المعنيين فرقانا.

وذلك الأمر العقلي ربّ الطبيعة ، وسببها الفاعلي ، والله سبحانه ربّ الأرباب ، ومسبب الأسباب ، ونسبة ذلك الأمر إلى الطبيعة نسبة الروح الإنساني من حيث ذاته إلى الجسد ، فإنّ الروح الإنساني لتجرّده من حيث الذات باق ، وطبيعة البدن أبدا في التجدد والسيلان والذوبان ، وإنما هو متجدد الذات الباقية بورود الأمثال ، والخلق لفي غفلة عن هذا (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١).

__________________

(١) ـ سورة ق ، الآية ١٥.

٢٠٤

فالطبيعة وجود دنيوي ، بائد ، داثر ، لا قرار له ، والعقل وجود ثابت عند الله غير داثر ؛ لاستحالة أن يزول شيء من الأشياء أو يتغير في علمه تعالى وتقدّس ، (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (١).

وصل

وإذ لا مناسبة بين الثابت المحض ، والمتجدّد المحض ، إلّا بتوسط ذي جهتين ، فلا يمكن تأثير العقل في الطبيعة المعينة إلّا بتوسط أمر كذلك ، وهو النفس ؛ لأنّ ذاتها مجردة ، وفعلها مادي ، فالنفس واقعة بين العقل والطبيعة ، فذاتها عقل ، وفعلها طبيعة ، وهكذا ذات الطبيعة نفس ، وفعلها جسم. ثمّ ما يلحق الجسم بواسطة حركاتها الطبيعية.

ونسبة كلّ عال إلى سافله كنسبة الصورة الجسمية إلى المادّة ، وتلازمهما كتلازمهما بعينه على التفصيل السابق ، والله سبحانه وراء الكل ، وهو القاهر فوق عباده.

وصل

قال صاحب أثولوجيا : لما كان من شأن الجسم أن يتفرّق ويتقطّع فلا يجوز أن يكون هو علّة لوحدانية ذاته واتصالها ، فلو لم يكن له نفس تحفظ وحدانيته واتصاله لم يثبت على حال واحد.

__________________

(١) ـ سورة النحل ، الآية ٩٦.

٢٠٥

وأمّا العقل الصرف فنسبته إلى جميع أشخاص النوع واحدة ، ولا بدّ لكلّ شخص من حافظ لوحدته واتصاله ، فهو إذن ليس إلّا النفس.

وأيضا لو لم تكن القوّة النفسانية موجودة في أشخاص الأجرام ، ومن طبيعتها السيلان والفناء ، لبادت إذن وهلكت ؛ إذ لا بدّ للعقل الصرف من جهات ليتخصّص بالنسبة إلى الجزئيات ، وليست سوى الأنفس.

وأيضا الأرض الّتي هي أكثف الأجسام وأبعدها عن ينبوع الوجود والحياة ، تنمو وتنبت الكلأ ، وتنبت الجبال ، فإنها نبات أرضي ، وفي داخل الجبال حيوانات كثيرة ، ومعادن ، فلو لم تكن ذات نفس لما تفعل هذه الأفاعيل العجيبة العظيمة ؛ إذ النفس الأرضية هي الّتي تتحرك في الجوهر فتصير نفسا نباتية ، هذا محصّل كلامه.

وصل

فظهر أن لكلّ شيء ملكوتا ، وأن لكلّ شهادة غيبا ، وما من شيء في هذا العالم إلّا وله قوّة روحانية من عالم آخر ، وهي المسماة في لسان الشرع ب «الملك» ، ولكلّ شيء حياة باعتباره ، وتسبيح لصانعه عزوجل ، وأحسن (١) شيء إلّا يسبّح بحمده (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢).

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة ، ولعل الصواب : وما من.

(٢) ـ سورة يس ، الآية ٨٣.

٢٠٦

وصل

ثم إن كانت الجهة العقلية قوية في الجسم ، بحيث يكثر ظهور آثار الحياة فيه ، بأن تكون له حركات إرادية مختلفة ، وإدراكات متفنّنة ، وتصرّفات في دقائق الأمور ، واستنباطات للعلوم الكلية ، أو الجزئية ، بالفكر والرويّة ، فنفسه نفس مجرّدة عن المادّة ؛ لأنّ لها أن تبقى بعد بوار جسمها بوجود مستقل ، وهي إمّا ناطقة ، أي ذات إدراكات كلية عقلية ، كالإنسان ، أو غير ناطقة ، كبعض الحيوانات الكاملة الأخر.

وإن لم تكن كذلك ، بل تكون ضعيفة لا يظهر منها أمثال ذلك ، سواء كانت ذات حسّ وحركة إرادية ، أو لم تكن ، فنفسه نفس جرمية ، لا بقاء لها بعد تفرّق جسمه ، وتبدده ، كالحيوانات الضعيفة الإدراك ، والنباتات ، والجمادات.

وتحقيق ذلك يأتي فيما بعد إن شاء الله.

أصل

وأمّا الجسم المثالي البرزخي فإثباته بالقول الكلي على ما استفدناه من الأستاذ ـ سلّمه الله ـ أن يقال : إنا نشاهد في قوّة خيالنا صورا مخترعة لنا ، ذوات مقادير وأبعاد ، وهي ليست منطبعة في جسم من أجسام هذا العالم ، كالفوق والتحت ، أو غير ذلك ؛ لأنا لا يمكننا أن نشير إليها إشارة حسية بأنها هنا أو هناك ، وكيف تكون في موضع من الدماغ والروح الّتي فيه ـ مع قلة مقداره وحجمه ـ جبال شاهقة ، وصحاري واسعة مع أشجارها وأنهارها ، وتلالها ووهادها ،

٢٠٧

وأفلاك وكواكب عظيمة جدا ، مع أنا نتصورها على الوجه الجزئي المانع من الاشتراك ، فهي إذن ليست في هذا العالم ، وليست أعراضا ؛ لقيامها لا في محلّ ، مع أنها ذوات أبعاد ومقادير ، فهي أجسام بسيطة صورية ليست لها مادّة ؛ وذلك لأنها غير مصحوبة بقوة واستعداد ، ولا قابلة لتغير وتبدل من اتصال وانفصال أو نحو ذلك ، حتّى يجري فيها برهان إثبات المادّة ، بل هي تبدع دفعة كما هي عليها ، وتفنى دفعة بالكلية كذلك ، فإذا أردنا قسمة جسم ـ مثلا ـ في الخيال إلى نصفين ، فلا سبيل لنا إلى ذلك إلّا بإبداع نصفين لا أن نقسم ذلك الجسم إليهما.

وكذلك إن أردنا تسويد الجسم الأبيض هنالك اخترعنا جسما أسود مثله ، وعلى هذا القياس ، فافهم واغتنم ، فإنّه من الأسرار ، وسيأتي لإثبات هذه النشأة والنشأة العقلية براهين وحجج أخرى أوضح ممّا ذكر ، إن شاء الله تعالى.

أصل

وأمّا العرض فإثباته بالقول الكلي ، أن يقال : لا شك في مشاهدتنا للأجسام أحوالا ، كالحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ، والاستحالات ، والتغيّرات ، وغيرها ، فتبدّل الحالة الأولى بالثانية لا يخلو إما يقتضي تجدد أمر ما ، أو لا يقتضي ، فإن اقتضى فقد حدث أمر لم يكن ، وذلك هو العرض الفرض.

وإن لم يقتض يلزم أن يكون هذا التجدد والتبدل والتعدد والتزيّل في العدم البحت والنفي الصرف ، وذلك محال.

ثم الأعراض أكثرها محسوس ، أو معقول ، مستغن عن البرهان ، بل المحسوس بما هو محسوس إن كان هذا الأمر الخارجي فليس إلّا الأعراض

٢٠٨

فقط ، وأمّا الجواهر فلا تستقلّ الحواس بإدراكها حتّى الجسم ، فإنّ حقيقته غير محسوسة ، بل ظواهره وسطوحه الّتي هي أعراض فقط.

ولنشر إلى المقولات التسع وأقسامها إشارة.

وصل

الكم إمّا متصل ، وهو الّذي يكون لأجزائه المفروضة حدّ مشترك ، وإما منفصل ، وهو ما يقابله.

والأوّل إمّا قارّ الذات ، أي مجتمع الأجزاء في الوجود ، كالخط والسطح ، والثخن ، أو غير قارّ الذات ، كالزمان. والثاني هو العدد. ويشملهما قبول القسمة والمساواة وعدمها ، بالعد أو التطبيق ، بالفعل أو بالقوة ، بإمكان وجود العاد.

وصل

الكيف إمّا غير مختصّ بالكمّيات ، أو مختص بها ، والأوّل إمّا كمالات أو استعدادات.

والكمالات إمّا محسوسة ، أو غيرها.

وكل منهما إمّا ثابتة أو غير ثابتة ، فالمحسوسة الثابتة تسمى انفعاليات ، كصفرة الزعفران ، وحلاوة العسل. وغير الثابتة تسمى انفعالات ، كحمرة الخجل ، وصفرة الوجل.

وغير المحسوسة الثابتة تسمى ملكات ، كالعلم من العالم النحرير ، والحقد

٢٠٩

من الحقود. وغير الثابتة تمسى حالات ، كالظنّ الضعيف ، وغضب الحليم ، وهي المختصة بذوات الأنفس الحيوانية.

والاستعدادات منها ما للتأبّي والامتناع ، كالصلابة والمصحاحية ، لا الصحة ، وتسمى قوّة طبيعية ، سواء كانت في المحسوس ، أو في غيره ، ومنها ما للقبول ، كاللين والممراضية ، وتسمى لا قوّة طبيعة في القسمين.

وأمّا المختصة بالكمّيات ، فبالمتصلة منها ، كالاستقامة ، والاستدارة ، والتقعير ، والتقبيب ، والتكعيب ، والتثليث ، والشكل. وبالمنفصلة ، كالزوجية والفردية.

وصل

الكيفيات المحسوسة تنقسم بانقسام الحواس الظاهرة إلى خمس :

فللمس الكيفيات الأربع الأوّل ، الّتي هي الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، وما ينتهى إليها ، وهي اللطافة ، والكثافة ، واللزوجة ، والهشاشة ، والجفاف ، والبلة ، والثقل ، والخفّة.

وللبصر الضوء واللون أولا ، ثمّ غيرهما من الأطراف ، والحجم ، والبعد ، والوضع ، والشكل ، والتفرّق والاتصال ، والعدد ، والحركة والسكون ، والملاسة والخشونة ، والشفيف والكثافة ، والظل والظلمة ، والحسن والقبح ، والتشابه والاختلاف ، وما يرجع إلى بعض ذلك من الترتيب والنقوش ، والاستقامة ، والانحناء ، والتحدّب ، والتقعّر ، والقلّة والكثرة ، والضحك والبكاء ، والبشر ، والطلاقة ، والعبوس ، والتقطيب.

٢١٠

وللسمع الأصوات ، والحروف وعوارضها ، من الهمس ، والجهر ، والشدة والرخاوة ، والاستعلاء ، والإطباق ، وغيرها.

وللذوق التسعة الحاصلة من فعل الحرارة والبرودة ، والمتوسطة بينهما في اللطافة والكثافة ، والمعتدل بينهما وهي الحرافة ، والمرارة ، والملوحة ، والحموضة ، والعفوصة ، والقبض ، والدسومة ، والحلاوة ، والتفاهة ، وهي بسائط الطعوم.

ويتركب منها ما لا نهاية لها ، فمنها ما له اسم على حدة ، كالبشاعة المركبة من مرارة وقبض ، وكالزعوقة المركّبة من مرارة وملوحة.

ومنها ما لا اسم له بخصوصه ، كالمركّب من الحلاوة والحرافة ، ولا أسماء لأنواع المشمومات إلّا من جهة الموافقة والمخالفة ، والإضافة إلى المحل ، أو باعتبار ما يقارنه من طعم.

وصل

الأين هو النسبة إلى المكان ، ومتى هو النسبة إلى الزمان ، أو حدّ منه.

والحقيقي منهما النسبة إلى ما لا يفضل عن الشيء ، ككونه في مكانه الخاص به ، وكون الخسوف في ساعة معيّنة.

وغير الحقيقي بخلافه ، ككون الشيء في السماء ، وكون الخسوف في يوم كذا ، أو شهر كذا.

وكل من الحقيقيين لا يجوز فيه الاشتراك مع وحدة الآخر ، وإنما يجوز مع تعدّده بأن تتّصف أشياء كثيرة بالكون في مكان معيّن مع تغاير الزمان ، أو

٢١١

الكون في زمان واحد ، مع تعدّد المكان.

وغير الحقيقي يجوز فيه ذلك مطلقا.

وصل

الأمر الّذي له متى بالذات هو وجود الطبيعة الجوهرية ، على ما مرّ شرحه ، فإنّه لتجدده وسيلانه له كون تدريجي يطابق الزمان ، وفي حكمه الكمّيات ، والكيفيات ، والأوضاع ، والأيون التدريجية الوجود ، ممّا لها أكوان تدريجة.

وأمّا ماهياتها فلا متى لها إلّا بالعرض ، وكذا الحركات ؛ لأنها لا تدريج لها ، بل هي عين التدريج.

وأمّا الجواهر المقدّسة عن التغير فلها كون آخر.

وصل

كون الشيء في المكان أو الزمان ليس ككون الشيء في نفسه ؛ لأنّ الشيء يتحقق له كون أولا ، ثمّ تعرض له الإضافة إلى المكان ، أو الزمان ، فوجود الشيء في نفسه قبل وجوده فيهما ، ولو كان وجود الشيء في المكان نفس وجوده في الأعيان لكان كونه في الزمان أيضا وجودا له ، فكان لشيء واحد وجودات كثيرة.

وليس أيضا ككون السواد في الجسم ؛ لأنّ كون العرض في موضوعه عين كونه في نفسه ، وليس وجود الشيء في مكانه عين وجوده في نفسه ، وإلّا لبطل

٢١٢

وجوده عند زواله عن مكان ، ثمّ إذا حصل في مكان آخر صار المعدوم بعينه معادا ، وتحت هذا سرّ ينكشف بالتأمل في تجدد الطبيعة.

وصل

الإضافة نسبة متكرّرة من الجانبين ، وقد يتعاكسان رأسا برأس ، كالأخوة ، وقد يتخالفان ، كالأبوة والبنوّة ، وقد تفتقر إلى حصول صفة في كلّ من الطرفين ، كالعاشقية والمعشوقية ، أو في أحدهما ، كالعالمية والمعلومية بالعلم الحصولي ، وقد لا تفتقر ، كالتيامن والتياسر ، ويتكافأ طرفاها من حيث هما طرفاها في الإبهام والتحصّل ، والعموم والخصوص ، والتنوّع والتشخّص ، والقوّة والفعل ، والوحدة والتعدّد ، والوجود والعدم.

مثلا : الضعف المطلق بإزاء النصف المطلق ، والعددي بإزاء العددي ، والأربعة بإزاء الاثنين ، وتعدّد الأبناء يوجب تعدّد الآباء ، ولو بالاعتبار ، فذو الأبناء له أبوّة بالقياس إلى كلّ واحد منهم ، فهو آباء كثيرة من حيث الوصف ، وإن كان بالذات واحد ، وإذا عدم واحد عدم أبوّته من حيث هو أبوه ، وإن كان موجودا في ذاته ، وباعتبارات أخر.

وتعرض الإضافة لجميع الموجودات ، فلله سبحانه كالأول ، وللجوهر كالأب ، وللكم كالمساوي ، وللكيف كالمشابه ، وللأين كالعالي ، ولمتى كالمقدّم ، وللوضع كالأشدّ انتصابا ، وللملك كالأكسى ، وللفعل كالأشدّ تسخينا ، وللانفعال كالأشدّ تسخّنا.

وقد تقع فيها كلها إضافة في إضافة ، فقد عرضت الإضافة لنفسها أيضا ، وأكثر صيغ التفضيل مدلوله من هذا القبيل.

٢١٣

وصل

الوضع هو كون الجسم بحيث تكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الجهات المختلفة ، كالقيام والقعود ، وليس هو النسبة ؛ لأنها من باب الإضافة.

والملك هيئة تحصل للشيء بسبب ما يحيط به إحاطة ما ، وتنتقل بانتقاله طبيعيا كان ، كالإهاب للهرّة ، أو غير طبيعي ، كالقميص للإنسان ، والعمامة له.

قال صاحب الشفاء (١) : أمّا أنا فلا أعرف هذه المقولة حق المعرفة.

وقال في الشفاء : ولم يتفق لي إلى هذه الغاية فهمها ، ولعل غيري يفهمها ، فليتأمّل ذلك في كتبهم.

وصل

أن يفعل هو التأثير التدريجي ، كالحال الّذي للمسخّن مادام يسخّن.

__________________

(١) ـ كتاب الشفاء للشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن عبد الله بن حسن بن علي بن سينا ، المولود في سنة «٣٧٠ ه‍» في بلدة «أفشنه» ، من منطقة بخارى قرب «خرميثين» ، ويعتبر الشيخ الرئيس ابن سينا ، الطبيب العالم ، الفيلسوف ، الموسيقي ، عبقرية فذّة جديرة بالدهشة والإعجاب ، له مكانة رفيعة رائعة في سجلّ الحكماء العباقرة ، الّذين تدين لهم الإنسانية بالشيء الكثير في تطوّرها الفكري. من مؤلّفاته : كتاب الشفاء ، كتاب القانون في الطب ، كتاب علم الأخلاق ، كتاب المجسطي ، كتاب في الموسيقى ، وغيرها.

توفّي في سنة «٤٢٨ ه‍» وقد أكمل الخمسين من عمره تقريبا ، فدفن في همدان ، وأخيرا شيّدت الحكومة الإيرانية وجمعية البناء المتحدّة ضريحا مهيبا ، ومكتبة ضخمة سمّيت باسمه. (أنظر كتاب : في سبيل موسوعة فلسفية ، للدكتور مصطفى غالب ، «تسلسل ٣»).

٢١٤

وأن ينفعل هو التأثّر التدريجي ، كالحال الّذي للمتسخّن مادام يتسخّن.

فإذا فرغ الفاعل والمنفعل عن النسبة الّتي بينهما من تجدد التأثير والتأثّر ، فما هو الحاصل لكلّ منهما عند الاستقرار ليس من أن يفعل ، وأن ينفعل في شيء ، بل إمّا كيف ، كما في المثال المذكور ، أو كم ، أو وضع ، أو غير ذلك.

وأنواع هذين الجنسين هي أنواع الحركة ، بل هما نفس الحركة تنسب تارة إلى الفاعل ، وتارة إلى القابل.

وقال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : بل السلوك التدريجي ، أي الخروج من القوّة إلى الفعل ، سواء كان في جانب الفاعل أو المنفعل ، هو الحركة ، وهو نحو وجود خاص ليس من المقولات في شيء ، وإنما المقولة هي وجود كلّ منهما من حيث كونه تدريجيا يحصل منه تدريجي آخر ، ويحصل (١) من تدريجي آخر. انتهى (٢).

وإنما عبّر عنهما بأن يفعل وأن ينفعل ، دون الفعل والانفعال ؛ لأنّ الفعل والانفعال : الإيجاد بلا حركة ، والقبول بلا تجدّد ، ككون الباري تعالى فاعلا للعالم ، والعالم منفعلا عنه ، وليس في ذلك حركة ، لا في جانب الفاعل ، ولا المنفعل ، بل وجود يستتبع وجودا ، وتعرض لهما إضافة فقط ، فالفاعل والمنفعل بهذا المعنى إضافتان فقط ، بخلاف المقولتين الواقعتين تحت الزمان.

__________________

(١) ـ في المصدر : أو يحصل.

(٢) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٤ : ٢٢٥.

٢١٥

في الأبعاد والجهات وحدودها

(رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (١)

أصل

الأبعاد والامتدادات المادية متناهية ، وإلّا فيفرض فيها سلسلة من حيثيّات مختلفة ، أو أجسام مختلفة ، ونجري فيها براهين إبطال التسلسل من التطبيق ، والتضايف ، والحيثيات ، وذي الوسط وغيرها ، فإنها مطّردة فيها ، كما في المعقولات ، فيلزم الخلف.

وصل

وأيضا لو كانت الأبعاد غير متناهية لأمكن أن يخرج من مبدأ واحد امتدادان على نسق واحد ، كأنهما ساقا مثلث ، وكلّما كان أعظم كان البعد بينهما أزيد ، فيكون في الانفراج بينهما أبعاد غير متناهية فوق بعد الأصل ، زائدة عليه ، متزايدة ، فتكون هناك زيادات على البعد الأصل ، غير متناهية متساوية ، وأبعاد غير متناهية متفاضلة بقدر واحد.

__________________

(١) ـ سورة النازعات ، الآية ٢٨.

٢١٦

فإذن كلّ زيادة وكل مجموع زيادات فهو واقع في بعد ما من تلك الأبعاد ؛ إذ لو لم يكن كذلك لزم أن يوجد بعد يشتمل على جملة ما دونه من الزيادات ، ولا يشتمل عليه ، وعلى المزيد عليه بعد آخر فوقه ، فلا جرم يكون هو آخر الأبعاد الانفراجية ، وهذا خلف.

فإذن كلّ زيادة ، وكل مجموع زيادات ، أي مجموع كان ، فهو في بعد فوقها ، فمجموع الزيادات الغير المتناهية في بعد فوقها ، فقد صار غير المتناهي بالفعل محصورا بين حاصرين.

وأيضا قد صار الساقان منتهيين عند ذلك البعد.

وصل

وأيضا لو امتدّ البعد إلى غير النهاية أخرجنا خطا مستقيما غير متناه ، ووضعنا كرة يكون قطر منها موازيا له ، فإذا تحرّكت الكرة انتقل قطرها إلى المسامتة ، ولأن المسامتة حادثة ، فيجب أن تكون في الخط الغير المتناهي نقطة هي أوّل نقط المسامتة ، فينتهي الخط بها ؛ إذ لو كان فوقها نقطة فإما أن لا يسامتها القطر الموازي ، فيلزم الطفرة ، أو يسامتهما معا ، وهو ضروري البطلان ، أو يسامتها أولا ، فلم تكن النقطة المفروضة أوّل نقط المسامتة، هذا خلف.

وصل

وأيضا إذا فرضنا خطين غير متناهيين متقاطعين ، تحرّك أحدهما على الآخر إلى أن يوازيه ، فيجب أن يتخلّص عنه ، وهو إنّما يكون في آن وعند نقطة

٢١٧

منه ، فهي نهاية ذلك الخط ، وقد فرض غير متناه ، هذا خلف.

وقد يبّين هذا ببيانات أخر طوينا ذكرها ، ونشير إلى بعض الشبهات ، وحلّها.

سؤال : إن إنسانا لو وقف على طرف العالم ، فهل يمكن له مدّ اليد إلى خارج العالم، أو لا يمكن؟ فعلى الأوّل يلزم الخلف ؛ لوجود البعد خارج جميع الأبعاد ، وكذا على الثاني ، لوجود جسم يمنع عن ذلك.

جواب : لا يمكنه ذلك ، لا لوجود مانع مقداري عنه ، بل لفقد الشرط ، وهو البعد، بل الشروط ، فإنّ الجسم الّذي هناك ليس في طبعه حركة مكانية ، بل حاله هناك شبيه بأحوال ما في عالم المثال.

سؤال : إن العالم لو كان متناهيا ، فلو قدّرنا أزيد ممّا هو عليه الآن بذراع ، كان حيّزه أوسع من هذا الحيّز ، ولو قدّرنا أزيد بذراعين لكان أوسع من ذلك الأوسع ، وهكذا ، فخارج العالم أحياز وجودية هي مقادير ، أو ذوات مقادير.

جواب : هذا مجرّد أمر وهمي ، لا حاصل له في الوجود ، فلا عبرة به.

سؤال : الجسمية حقيقة واحدة كلية غير مقتضية ؛ لانحصار نوعها في شخصها ، كما دلّ عليه الحسّ والبرهان جميعا.

وجزئيات كلّ كلي غير متناهية عند العقل بحسب القوّة ، وليس بعضها أولى ، بالإمكان من بعض ؛ لأنّ الإمكان إذا كان من لوازم الماهية كان مشتركا بين أفرادها جميعا ، فإذن في الوجود إمكان أجسام غير متناهية ، فهي موجودة ؛ لأنّ الباري تعالى عامّ الفيض ، والاستحقاق ثابت ، فيجب الإيجاد.

جواب : الموانع قد تكون في خارج الماهية ؛ لعدم انحصار المانع فيما هو

٢١٨

من لوازم الماهية ، فالجسمية وإن لم تمنع من الكثرة لكن الوجود الصوري الّذي للجسم المحيط يمنع أن يكون نوعه إلّا في شخص واحد (١).

أصل

الجسم ينتهي بسطحه ، وهو قطعه ، والسطح ينتهي بخطّه ، وهو قطعه ، والخط ينتهي بنقطة ، وهي قطعه (٢) ، والجسم يلزمه السطح ، لا من حيث تقوّم جسميّته ، بل من حيث يلزمه التناهي بعد كونه جسما ، فلا كونه ذا سطح ، ولا كونه متناهيا ، أمر يدخل في تصوره جسما ، ولذلك قد يمكن قوم أن يتصوروا جسما غير متناه إلى أن يبيّن لهم امتناع ما يتصورونه.

وأمّا السطح ، كسطح الكرة من غير اعتبار حركة أو قطع ، فيوجد ولا خطّ ، وأمّا المحور والقطبان والمنطقة فمما يفرض عند الحركة والخط ، كمحيط الدائرة قد يوجد ولا نقطة.

فأما المركز فعند ما تتقاطع أقطار ، أو عند حركة ما ، أو بالفرض وقبل ذلك ، فوجود نقطة في الوسط كوجود نقطة في الثلثين وسائر ما لا يتناهى فإنّه لا وسط ، ولا سائر مفاصل الأجزاء في المقادير إلّا بعد وقوع ما ليس بواجب فيها من حركة ، أو تجربة.

__________________

(١) ـ وردت هذه الأسئلة والأجوبة في الأسفار الأربعة : ٤ : ٢٤ ، تحت عنوان : إشكالات وانحلالات.

(٢) ـ هكذا في المخطوطة ، وأمّا في شرح الإشارات فقد نقل عبارة الإشارات ، هكذا : «الجسم ينتهي ببسيط وهو قطعه ، والبسيط ينتهي بخطه وهو قطعه ، والخط ينتهي بنقطته وهو قطعه». أنظر : شرح الإشارات : ٢ : ١٥٤ ، تحت عنوان : تنبيه.

٢١٩

أصل

كل جسم فله شكل طبيعي من ربه ؛ لأنّ كلّ جسم متناه ، لما دريت ، وكل متناه مشكّل ؛ لأنّه يحيط به حدّ أو حدود ، وهي المواد بالشكل ، وكل شكل فله شكل طبيعي من ربّه ؛ لأنا لو فرضنا ارتفاع تأثير القواسر لكان على شكل معيّن ، فذلك الشكل إمّا أن يكون لطبعه من ربّه ، أو لقاسر ، لا سبيل إلى الثاني ؛ لأنّا فرضنا عدم القواسر ، فإذن هو لطبعه من ربّه ، وهو المطلوب.

أصل

الشكل الطبيعي للجسم البسيط إنّما هو الكرة ؛ لأنّ الجهة العقلية بسبب الطبيعة الواحدة في المادّة الواحدة لا تفعل إلّا فعلا متشابها ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح.

وسائر الأشكال غير الكرة فيها أفعال مختلفة من الزوايا والنقاط ، ولاختلاف الأجزاء في الانجذاب وغيره.

وأمّا ما يشاهد ممّا ليس كذلك من الأجسام البسيطة الّتي ليست الأفعال فيها متشابهة ، كبعض الأجسام الفلكية ، فذلك إنّما هو لأسباب خارجة ومرجّحات نشأت من جهات متعدّدة من المبادىء العالية ، كما تبيّن في محلّه.

٢٢٠