محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]
المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
في الوجود والعدم
(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ
وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) (١)
أصل
الوجود البحت الخالص الحقّ هو الله سبحانه ، والعدم البحت لا ذات له ، ولا أثر ، ولا تميّز ، بل هو لا شيء محض ، والوجود المشوب بالعدم ما سوى الله ، وهو خلق الله ، وهو مركّب من وجود له من الله ، هو بمنزلة صورته ، ومن عدم له من نفسه ، تميّز بذلك الوجود ، وتخصّص به بحسب قابليّته له في علم الله ، وإمكانه الذاتي ، الّذي به تمكّن من امتثال أمر «كن» ، وهو بمنزلة مادّته ، وهو المعبّر عنه في لسان الشرع ب «الماء» (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٢) ، لقبوله الأمر بسهولة ، كما يقبل الماء التشكّلات بسهولة ، فمنه عذب فرات ، ومنه ملح أجاج.
وباعتبار تقدّمه على الأشياء لكونه مادّة لها ، وشرطا في إيجادها ، ورد : «أوّل ما خلق الله الماء» (٣) ، ولأنّ العقل أوّل الأشياء خلقا ، ورد : «أوّل ما خلق
__________________
(١) ـ سورة فاطر ، الآية ١٢.
(٢) ـ سورة هود ، الآية ٧.
(٣) ـ علل الشرائع : ١ : ٨٣ ، ح ٦ بمضمونه.
الله العقل» (١).
قال مولانا الباقر عليهالسلام : «لو علم الناس كيف ابتدأ الخلق ما اختلف اثنان ، إنّ الله تعالى قبل أن يخلق الخلق قال : كن ماء عذبا ، أخلق منك جنّتي ، وأهل طاعتي ، وكن ملحا أجاجا ، أخلق منك ناري ، وأهل معصيتي ، ثمّ أمرهما فامتزجا ، فمن ذلك صار يلد المؤمن الكافر ، والكافر المؤمن» (٢).
وفي لفظ آخر : «إنّ الله تعالى حيث خلق الخلق خلق ماء عذبا ، وماء مالحا أجاجا ، فامتزج الماءان» الحديث (٣).
وهذه جملة نأتي بتفاصيلها وبراهينها إن شاء الله تعالى.
أصل
ليس في الوجود موجود بالذات سوى الوجود ، إذ لو وجد غيره ، فإما أن يكون الوجود زائدا عليه ، فيلزم أن يكون له وجود قبل وجوده ؛ لأنّ ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له ؛ أو جزء له ، وننقل الكلام إلى الجزء الآخر ، وهكذا إلى أن يتسلسل ، وهو محال.
نعم ، للعقل أن ينتزع من الوجودات الممكنة معنى غير الوجود ، لست أقول منفكّا عنه ، فإنّ الكون في العقل وجود عقلي ، كما أن الكون في الخارج وجود خارجي ، بل أقول من شأنه أن يلاحظه وحده ، من غير ملاحظة الوجود ،
__________________
(١) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ٩٩ ، ح ١٤١.
(٢) ـ الكافي : ٢ : ٦ ، ح ١.
(٣) ـ الكافي : ٢ : ٨ ، ح ١.
وعدم اعتبار الشيء ليس باعتبار لعدمه ، وذلك المعنى يسمى ب «الماهية» (١) ، و «العين الثابت» (٢) ، وهي ليست بموجودة بالذات ، بل بالعرض ، أي بتبعيّة الوجود ، لا كما يتبع الموجود الموجود ، بل كما يتبع الظلّ للشخص ، والشبح لذي الشبح.
ومن هنا قيل : الأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (٣).
سؤال : هب أنّ ثبوت الشيء للشيء فرع لثبوت المثبت له ، لكن الوجود إنّما هو ثبوت الشيء ، لا ثبوت الشيء للشي؟
جواب : فالوجود ـ إذن ـ غير زائد على الشيء ؛ إذ لو كان زائدا لكانا شيئين ، أحدهما ثابتا للآخر.
سؤال : لم لا يجوز أن يكون المسمّى بالماهية هو الأصل في التحقّق ، ويكون الوجود معنى اعتباريا ، منتزعا منه ، لا تأصّل له حتّى يجري فيه الترديد المذكور في البرهان؟
جواب : لأن الماهية قبل انضمام الوجود إليها ، أو اعتبار الوجود معها ، أو صيرورتها بحيث يمكن انتزاع الوجود عنها ، غير موجودة ، وأنها إذا اعتبرت بذاتها لا مع اعتبار الوجود ، وإن كان بعد الوجود ، فهي غير موجودة ، ولا معدومة ، فإذن لو لم يكن وجود ، ولو بالاعتبار والانتزاع ، لم توجد ماهية ، وما لم توجد ماهية لم يمكن ثبوت وجود لها ، ولا انضمامه إليها ، ولا اعتباره معها ،
__________________
(١) ـ باصطلاح الحكماء.
(٢) ـ باصطلاح العرفاء.
(٣) ـ سورة النجم ، الآية ٢٣.
ولا انتزاعه عنها ؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء ، أو انضمامه إليه ، أو اعتباره معه ، أو انتزاعه عنه ، أو ما شئت فسمّه ، فرع لثبوت المثبت له ، والمنضمّ إليه ، والمعتبر معه ، والمنتزع عنه ، وهذا ـ مع اشتماله على الدور الظاهر ـ مقتض لأن لا يوجد موجود أصلا ، فقد ثبت وتحقّق أنّ الأصل في التحقّق ، والحقيق بالتأصّل ، هو الوجود ، لا غير.
وما أحسن ما قيل : إنّ العقل الصحيح الفطرة يشهد بأنّ الماهية إذا كانت موجودة ـ بنفس وجودها لا قبل وجودها ـ بوجود آخر ، يكون الموجود بالذات وبالأصالة منهما لا محالة هو نفس الوجود ، لا نفس الماهية ، كما أنّ المضاف بالحقيقة هو نفس الإضافة ، لا ما هو المضاف المشهوري.
وأيضا : لو كانت الماهية هي الأصل دون الوجود ، وكان الوجود أمرا اعتباريا ، لم يبق فرق بين الوجود الخارجي ، والوجود الذهني ، إلّا بحسب الاعتبار ، دون صدور الآثار ؛ إذ الماهية بعينها منحفظة التقرّر فيهما ، وهي بعينها ، وبحسب ذاتها ، غير منفكّة عن الحكم عليها بالوجود على ذلك التقدير.
أصل
موجودية الماهية عبارة عن كونها بحيث تنسب إلى موجدها ، وترتبط به ، فتكون موجودة بهذا الكون ، لا بالذات ، ويكون الموجود بالذات كونها على هذه الحيثية ، دون نفسها بما هي هي.
وأمّا الوجود فكونه وجودا هو بعينه كونه موجودا ، وهو موجودية الشيء في الأعيان ، أو الأذهان ، لا أنّ له وجودا آخر ، بل هو الموجود من حيث هو
وجود ، والّذي يكون لغيره منه ، وهو أن يوصف بأنّه موجود ، يكون له في ذاته ، وهو نفس ذاته ، كما أن التقدّم والتأخّر لما كانا فيما بين الأشياء الزمانية بالزمان ، كانا فيما بين أجزائه بالذات ، من غير افتقار إلى زمان آخر.
سؤال : فيكون كلّ وجود واجبا ؛ إذ لا معنى للواجب سوى ما يكون تحقّقه بنفسه.
جواب : معنى وجود الواجب أنّه بمقتضى ذاته ، من غير احتياج إلى فاعل وقابل ، ومعنى تحقّق الوجود بنفسه ، أنّه إذا حصل إمّا بذاته ، كما في الواجب ، أو بفاعل ، كما في غيره ، لم يفتقر إلى وجود آخر يقوم به ، بخلاف غيره من الماهيات ، وهذا لا ينافي إمكانه الذاتي ؛ لأنّ معنى الإمكان في الوجود أن يكون تعلّقي الذات ، ارتباطيّ الحقيقة ، وهو يجامع الضرورة الذاتية ، بل هو عينها. وأمّا الإمكان بمعنى لا ضرورة الوجود والعدم ، فهو مختصّ بالماهيات.
كذا أجاب أستاذنا الأجل صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (١) ،
__________________
(١) ـ هو المولى صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي القوامي ، مؤلف كتاب «الأسفار» ، المشهور على لسان الناس ب «الملّا صدرا» ، وعلى لسان تلامذة مدرسته ب «صدر المتألهين».
وهو من عظماء الفلسفة الإلهيين ، الذين لا يجود بهم الزمن إلّا في فترات متباعدة من القرون ، وهو يعد المدرّس الأوّل لمدرسة الفلسفة الإلهية في هذه القرون الثلاثة الأخيرة في البلاد الإسلامية الإمامية ، والوارث الأخير للفلسفة اليونانية والإسلامية ، والشارح لهما والكاشف عن أسرارهما.
ولا تزال الدراسة عندنا تعتمد على كتبه ، لا سيما «الأسفار» ، الّذي هو القمة في كتب الفلسفة ، قديمها وحديثها ، والأم لجميع مؤلفاته هو.
ونقل عن المحقّق الشيخ محمّد حسين الأصفهاني أنه كان يقول : «لو أعلم أحدا يفهم أسرار كتاب الأسفار لشددت إليه الرحال للتلمذة عليه ، وإن كان في أقصى الديار». ـ
سلّمه الله وأبقاه (١).
وتحقيق المقام : ما ذكره بعض العرفاء ، فاستمع له.
__________________
ـ ولد في «شيراز» ، من والد صالح اسمه إبراهيم بن يحيى القوامي ، وهو من عائلة محترمة ، هي عائلة قوامي.
ويظهر أنّ أوّل حضوره ـ حين انتقل إلى أصفهان ـ كان على الشيخ بهاء الدين العاملي «٩٥٣ ـ ١٠٣١ ه».
ومن ولعه في طلب العلم أنفق كلّ ما خلفه والده من المال في تحصيله ، وأشرب المذهب الصوفي الفلسفي (العرفاني) ، الّذي كان هو السائد في ذلك العصر ، فانعكس على نفسية هذا الطالب الذكي ، فأولع فيه ولوعا أخذ عليه جميع اتجاهاته ، وخلق منه صوفيا عرفانيا وفيلسوفا إلهيا فريدا ، قلّ نظيره ، أو لا نظير له.
وقد صرح بهذا في مقدمة الأسفار ، فقال : «قد صرفت قوتي في سالف الزمان منذ أول الحداثة والريعان في الفلسفة الإلهية بمقدار ما أوتيت من المقدور ، وبلغ إليه قسطي من السعي الموفور».
ومن أثر ولعه بالفلسفة انقطع إلى درس فيلسوف عصره السيد الداماد محمّد باقر ، المتوفى «١٠٤٠ ه».
من مؤلفاته : الأسفار الأربعة ، المبدأ والمعاد ، الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية ، أسرار الآيات وأنوار البينات ، المشاعر ، الحكمة العرشية ، شرح الهداية الأثيرية ، شرح إلهيات الشفاء ، رسالة الحدوث ، وغيرها من المؤلفات الكثيرة ، الّتي لا يسعنا المقام في سردها ، لئلّا يطول بنا المقام.
توفي سنة «١٠٥٠ ه» في البصرة في طريقه للحج للمرة السابعة ، أو بعد رجوعه.
أنظر ترجمته في : سفينة البحار : ١ : ٣١١ ، والكنى والألقاب : ٢ : ٣٧٢ ، وأمل الآمل : ٢ : ٢٣٣ ، وروضات الجنّات : ٤ : ١١٧ ، وسلافة العصر : ٤٩٩.
(١) ـ الأسفار الأربعة : ١ : ٤٠.
وصل
الممكن هو الوجود المتعيّن ، فإمكانه من حيث تعيّنه ، ووجوبه من حيث حقيقته ، وذلك أنّ التعيّن نسبة عقلية ، فهي بالنسبة إلى المرجّح واجبة للمتعيّن ، والتعيّن هو حدوث ظهور الوجود من وجه معيّن يعيّنه القابل المعيّن للوجود ، بحسب خصوصه الذاتي ، فيمكن بالنظر إلى كلّ تعيّن حادث للوجود أن ينسلخ الوجود عنه ، ويتعيّن تعيّنا آخر ، وينعدم التعيّن الأوّل ؛ إذ نفس التعيّن هو الواجب للوجود الحق الساري في الحقائق ، بمعنى أنّه شرط لظهوره في المراتب ، لا لتحققه في ذاته ، وإلّا لانقلب الواجب ممكنا ، وليس كلّ تعيّن معيّن واجبا له على التعيين إلّا لموجباته ، والوجود المتعيّن لا ينقلب عدما ، بل تنقلب تعيّناته بتعيّنات أخر ، غير متعيّنات قبلها ، فتحقّق من هذا حقيقة الإمكان المتعيّن المعيّن ، وهو نسبة عدمية في الوجود ، فهو بين عدم ووجود ، فمهما رجع الحق إلى إفاضة نور الوجود على ذلك الوجه المعين بقي موجودا.
والتحقيق : أنّه لا يبقى آنين ، بل يتبدّل مع الآنات ، وإن أعرض عنه التجلّي الوجودي انعدم وعاد إلى أصله ، هذا أصل الإمكان.
وأمّا اسم الغير والسوي للممكنات فذاك من حيث امتيازاتها النسبية والذاتية بالخصوصيات الأصلية ، فهي من هذا الوجه أعيان ، بعضها مع بعض ، وأمّا غيريّتها للوجود المطلق الحق ، فمن حيث إنّ كلا منها تعيّن مخصوص للوجود الواحد بالحقيقة ، تغاير الآخر بخصوصيته ، والوجود الحق المطلق لا يغاير الكل ، ولا يغاير البعض ؛ لكون كليّة الكلّ وجزئية الجزء نسبا ذاتية له ، فهو لا ينحصر في الجزء ، ولا في الكل ، فهو مع كونه فيهما عينهما ، لا يغاير كلا منهما
في خصوصهما ، ولكن غيريّته في أحديّة جمعه الإطلاقي مطلقة عن الكلية والجزئية ، والإطلاق ، فما في الحقيقة إلّا وجود مطلق ، ووجود مقيّد ، وحقيقة الوجود فيهما حقيقة واحدة ، والإطلاق والتعيّن والتقيّد نسب ذاتية له ، وتلك المعاني والنسب ليست زائدة عليها إلّا في التعقّل دون الوجود ، فلا تمايز ، ولا تغاير إلّا في التعقّل ، ولكن العقول الضعيفة تغلط.
ولنزدك من كلامه وبيانه ، فانصت :
وصل
وجود الممكنات ليس مغايرا لوجود الحق الباطن المجرّد عن الأعيان والمظاهر إلّا بنسب واعتبارات ، كالظهور والتعيّن والتعدّد الحاصل بالاقتران ، وقبول حكم الاشتراك ، ونحو ذلك من النعوت الّتي تلحقه بواسطة التعلّق بالمظاهر.
فللوجود اعتباران :
أحدهما : من حيث كونه وجودا فحسب ، وهو الحق ، وأنّه من هذا الوجه لا كثرة فيه ، ولا تركيب ، ولا صفة ، ولا نعت ، ولا اسم ، ولا رسم ، ولا نسبة ، ولا حكم ، بل وجود بحت.
والاعتبار الآخر : من حيث اقترانه بالممكنات ، وشروق نوره على أعيان الموجودات ، وهو سبحانه ، إذا اعتبر تعيّن وجوده مقيّدا بالصفات اللازمة لكلّ متعيّن من الأعيان الممكنة ، فإنّ ذلك التعيّن والتشخّص يسمى «خلقا» ، و «سوى» ، وينضاف إليه سبحانه إذ ذاك كلّ وصف ، ويسمى كلّ اسم ، ويقبل كلّ
حكم ، ويتقيّد بكل رسم ، ويدرك بكلّ مشعر ، من بصر وسمع وعقل وفهم ؛ وذلك لسريانه في كلّ شيء بنوره الذاتي المقدّس عن التجزّىء ، والانقسام ، والحلول في الأرواح والأجسام ، ولكن كلّ ذلك متى أحب ، وكيف شاء ، وهو في كلّ وقت وحال قابل لهذين الحكمين المذكورين المضادّين بذاته ، لا بأمر زائد عليه ، إذا شاء ظهر بكل صورة ، وإن لم يشأ لا تنضاف إليه صورة ، لا يقدح تعيّنه وتشخصّه واتصافه بصفاتها في كمال وجوده وعزّته وقدسه ، ولا ينافي ظهوره بها ، وإظهار تقيّده بها ، وبأحكامها غناه بذاته عن جميع ما وصف بالوجود ، وإطلاقه عن كلّ القيود ، بل هو الجامع بين متماثلاتها ومتخالفاتها جميعا ، فتأتلف وتختلف.
وصل
قد ظهر من هذه البيانات أنّ الماهيات كلّها وجودات خاصة في الواقع ، عينا وذهنا ، وإن كان المفهوم من الماهية غير المفهوم من الوجود في اعتبار العقل ، فهما متّحدان اتّحاد الأمر العيني مع المفهوم الاعتباري ، ولكلّ منهما تقدّم على الآخر ، لا بمعنى التأثير ؛ إذ لا معنى لتأثير الماهية في الوجود ، وإلّا لزم أن تكون قبل الوجود موجودة. ولا لتأثير الوجود في الماهية ؛ لأنها ليست مجعولة ولا موجودة في نفسها لنفسها ، بل تقدّم الوجود عليها عبارة عن أصالته في التحقّق ، ومتبوعيّته لها ، وتقدّمها على الوجود عبارة عن صحّة ملاحظة العقل إيّاها وحدها ، من غير ملاحظة الوجود ، لا الخارجي ولا الذهني ، وبهذا الاعتبار يصير الوجود نعتا لها ، ويحكم عليه بأنه زائد عليها ، وإلّا فالحقيقة العينية ليست إلّا للوجود.
وصل
كيف لا يكون للوجود حقيقة عينيّة وغيره به يكون متحقّقا وكائنا في الأعيان ، أو في الأذهان ، فهو الّذي به ينال كلّ ذي حقّ حقّه ، فهو أحقّ الأشياء بأن يكون ذا حقيقة ، كما أنّ البياض أولى بأن يكون أبيض ممّا ليس ببياض ، ويعرض له البياض.
ومن هنا قيل : الوجود حقيقته أنّه في الأعيان لا غير ، وكيف لا يكون في الأعيان ما هذه حقيقته ، يعني به الوجود البحت الّذي لا ماهية له ، فإنّ ما لا ماهية له لا يمكن تصوّره بالحدّ ، ولا بالرسم ، ولا بصورة مساوية له ؛ إذ تصوّر الشيء عبارة عن حصول معناه وانتقاله من حدّ العين إلى حدّ الذهن ، وكل ما كان حقيقته أنّه في الأعيان فيمتنع أن يكون في الأذهان ، وإلّا لزم انقلاب الحقيقة عمّا كانت بحسب نفسها ، فكلّ ما يرتسم من الوجود في النفس ، وتعرض له الكلية والعموم ، فهو ليس حقيقة الوجود ، بل هو وجه من وجوهه ، وحيثية من حيثيّاته ، وعنوان من عنواناته.
فليس عموم ما ارتسم من الوجود في النفس بالنسبة إلى الوجودات عموم المعنى الجنسي ، بل عموم أمر لازم اعتباري انتزاعي ، كالشيئية للأشياء الخاصة من الماهيات المتحصّلة المتخالفة المعاني.
وصل
وإذ ليس له مفهوم ، فليس بكليّ ولا جزئي ، ولا عامّ ولا خاص ، ولا مطلق ولا مقيّد ، بل تلزمه هذه الأشياء بحسب ما يوجد به من الماهيات وعوارضها ،
كما إنه تلزمه الجوهرية والعرضية بحسب اتّحاده بماهية الجوهر والعرض ، من غير حصول تغيّر في ذاته وحقيقته ، من حيث هو هو ، فإن قيد ذاته بالإطلاق يشترط فيه أن يتعقّل ، بمعنى أنّه وصف سلبي ، لا بمعنى أنّه إطلاق ، ضدّه التقييد ، بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة العدديتين ، وعن الحصر أيضا في الإطلاق والتقييد ، وفي الجمع بين ذلك والتنزّه عنه ، فيصحّ في حقّه كلّ ذلك حال تنزّهه عن الجميع ، ولا يصحّ أن يحكم عليه بحكم أو يعرف ، أو يضاف إليه نسبة ما ، من وحدة أو وجوب وجود ، أو مبدأية إيجاد ، أو صدور أثر ، أو تعلّق علم منه بنفسه ، أو بغيره ؛ إذ كلّ ذلك مقتضى التعيّن والتقيّد ، فلا طريق إلى العلم إليه بوجه.
وصل
سيتبيّن لك أن الوجود في بعض الموجودات مقتضى ذاته من غير احتياج إلى فاعل وقابل ، وفي بعضها مفتقر إلى أحدهما ، أو كليهما.
ولا يخفى أنّ الأوّل أولى بالموجودية من الأخيرين ، وهو متقدّم عليهما بالطبع ، والثاني أقوى وأتمّ من الثالث.
فللوجود أفراد حقيقية وراء الحصص ؛ لاتّصافه بلوازم الماهيات المتخالفة الذوات ، أو المتخالفة المراتب ، فشموله للأشياء من باب الانبساط والسريان على هياكل الموجودات ، سريانا مجهول التصوّر ، فهو مع كونه أمرا شخصيا متشخّصا بذاته ومشخّصا لما يوجد به من ذوات الماهيات الكلية ممّا يجوز القول بأنه مختلف الحقائق ، بحسب الماهيات المتّحدة به ، كلّ منها بمرتبة من مراتبه ، ودرجة من درجاته المتفاوتة بالتشكيك ، فالوجودات هي حقائق متشخّصة بذواتها ، متفاوتة بنفس حقيقتها ، مشتركة في مفهوم الموجودية العامّة
الّتي هي من الأمور الاعتبارية.
فتخصّص كلّ وجود : إمّا بالتقدّم والتأخّر ، أو بالكمال والنقص ، أو الغنى والفقر.
وإما بعوارض مادّية إن وقع في المواد ، وهي لوازم الشخص المادّي وعلاماته ، فوقوع كلّ وجود في مقام من المقامات ، ومرتبة من المراتب مقوّم له ، لا يتصوّر وقوعه في مرتبة أخرى ، لا سابقة ، ولا لاحقة ، ولا هو وقوع وجود آخر في مرتبته ، لا سابق ، ولا لاحق.
ومن هنا قيل : لا يصح أن يوجد الوجود المحتاج غير محتاج ، كما إنه لا يصحّ أن يوجد الوجود المستغني محتاجا ، وإلّا بدّل حقيقتهما.
وصل
وما يقال : من أنّ الذات والذاتي بالقياس إلى أفراده يمتنع أن يكون متفاوتا بشيء من أنحاء التشكيك ، فغير محقّق في الوجود ، وإن سلّم في الماهيات.
وما قيل في بيانه : إنّه لو لم يشتمل الأكمل على ما ليس في الأنقص ، فلا افتراق ، وإن اشتمل عليه فهو إمّا معتبر في سنخ الطبيعة ، فلا اشتراك ، وإلّا فلا تفاوت فيها ، بل في شيء آخر.
فقد قيل : إنّه مصادرة على المطلوب الأوّل ؛ إذ الكلام في أنّ التفارق قد يكون بنفس ما فيه التوافق ، لا بما يزيد عليه.
ومثله ما قيل : لو كانت الذات هي الأكمل ، فالأنقص ليس نفس الذات ،
وكذا العكس ، على أنّ الوحدة النوعية ليست كالوحدة العددية غير محتملة للتعميم والتفاوت ، بل هي وحدة جمعية جامعة للمحدود ، والكلّي الطبيعي في المشكّك أشدّ إبهاما منه في المتواطىء ، ليس فيهما بمعنى واحد.
قيل : وممّا ينبّه على ذلك أنّ أجزاء الزمان متشابهة الماهية ، مع تقدّم بعضها على بعض بالذات ، لا بما هو خارج عنها ، وكذا مراتب السوادات والبياضات في الأشدّية والأضعفية ، ومراتب سائر المقدارات في الأزيدية والأنقصية ، إلى غير ذلك ، وإن كان بعض هذا ممّا قد يناقش فيه.
والحقّ أنّ التفاوت في جميع ذلك يرجع إلى أنحاء الوجودات ، فللوجود أطوار مختلفة في نفسه ، والمعاني تابعة لأطواره ، وعلى هذا فلا فرق بين الذاتيات والعوارض ، ولا بين الجواهر والأعراض ، في قبولها التشكيك ، لكن لا بذواتها ، بل بواسطة وجوداتها الخاصّة ، فالقابل للتشكيك بالحقيقة ليس إلّا الوجود ، وهو بذاته متقدّم وتقدّم ، ومتأخّر وتأخّر ، وغنيّ وغنى ، وفقير وفقر ، وكامل وكمال ، وناقص ونقص ، وشديد وشدّة ، وضعيف وضعف ، إلى غير ذلك.
وإلى هذا أشير بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (١) ، فإنّ قوّته تعالى عين ذاته المقدّسة.
وصل
الوجود لا تتألّف حقيقته ـ من حيث هي ـ من أجزاء خارجية ، أو ذهنية ، وإلّا فلا يخلو إمّا أن يكون شيء منها محض حقيقة الوجود ، فالوجود قد حصل
__________________
(١) ـ سورة فصلت ، الآية ١٥.
به قبل نفسه ؛ أو لا يكون شيء منها ذلك ، فيلزم أن يكون غير الوجود متقدّما على الوجود بالوجود ، وهو ظاهر البطلان.
وإذ استحال قبليّة غير الوجود على الوجود بالوجود ، ظهر أنّ الوجود من حيث هو وجود لا فاعل له ينشأ منه ، ولا مادّة تستحيل هي إليه ، ولا موضوع يوجد هو فيه ، ولا صورة يتلبّس هو بها ، ولا غاية يكون هو لها ؛ لأنّ لكلّ من هذه الأمور التقدّم ، وأمّا من حيث إنّ له ماهية ، فيجوز اتّصافه بهذه الأمور.
أصل
الوجود يتنزّل من سماء الإطلاق إلى أرض التقييد مترتّبا ، فيبتدىء من الأشرف فالأشرف إلى أن ينتهي إلى ما لا أخسّ منه في الإمكان ، ولا أضعف ، فتنقطع عنده السلسلة النزولية ، ثمّ يأخذ في الصعود ، فلا يزال يترقّى من الأرذل إلى الأفضل إلى أن ينتهي إلى الّذي لا أفضل منه في هذه السلسلة الصعودية ، فيكون هو بإزاء ما بدأ منه في النزول ، كما أشير إليه بقوله سبحانه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) (١) ، وكلّما كان إلى مبدئه سبحانه أقرب ، فهو إلى البساطة والوحدة والغنا أقرب ، ومن الاختلاف والتركّب والافتقار أبعد.
ففي المرتبة الأولى لا يفتقر في تقوّمه ، ولا في شيء من صفاته وأفعاله ، إلى شيء سوى مبدعه القيّوم جلّ اسمه ، ويسمى أهل تلك المرتبة ـ على اختلاف درجاتهم ـ بالعقول والأرواح ، والملائكة المقرّبين.
__________________
(١) ـ سورة السجدة ، الآية ٥.
وفي المرتبة الثانية ، وإن لم يفتقر في تقوّمه إلى غير ما فوقه ، ولكنه يفتقر في أفعاله وصفاته إلى ما دونه من المراتب ، ويسمى أهلها ـ على تفاوت أقدارهم ـ بالنفوس ، والملائكة المدبّرين.
وفي المرتبة الثالثة يفتقر في تقوّمه ـ أيضا ـ إلى ما دونه ، ويسمى بالصور والطبائع.
وفي المرتبة الرابعة ليس له حيثية سوى حيثية الإمكان والقوّة ، ولا شيئية له في ذاته متحصّلة إلّا قبول الأشياء ، ويسمى بالمادّة ، والماء ، والهباء ، والهيولى الأولى ، وهي نهاية تدبير الأمر.
ثم يأخذ في العود ، فأوّل ما يحصل فيه مركّب من مادّة وصورة ، ويسمى بالجسم ، ثمّ يتخصّص الجسم بصورة أعلى وأشرف ، فيصير بها ذا اغتذاء ونموّ ، ويسمى بالنبات ، ثمّ يزيد تخصّصه بصورة أخرى أعلى ممّا قبلها يصير بها ذا حسّ وحركة ، ويمسى بالحيوان ، ثمّ يزيد تخصّصه بصورة أعلى وأفضل يصير بها ذا نطق ، ويسمى بالإنسان ، وللإنسان مراتب كثيرة إلى أن يصير ذا عقل مستفاد ، فحينئذ تتمّ دائرة الوجود ، ومنتهى سلسلة الخير والجود.
فالوجودات ابتدأت فكانت عقلا ، ثمّ نفسا ، ثمّ صورة ، ثمّ مادّة ، فعادت متعاكسة كأنّها دارت على نفسها جسما مصوّرا ، ثمّ نباتا ، ثمّ حيوانا ، ثمّ إنسانا ذا عقل ، فابتدأ الوجود من العقل ، وانتهى إلى العقل (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (١) ، (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٢).
والشرف والكمال إنّما هو بالدنوّ من الحق المتعال ، ففي البدء كلّ ما تقدّم
__________________
(١) ـ سورة الأعراف ، الآية ٢٩.
(٢) ـ سورة الأنبياء ، الآية ١٠٤.
كان أوفر اختصاصا ، وفي العود كلّ ما تأخّر كان أعلى مكانا.
وإلى البدء أشير بليلة القدر ، وإنزال الكتب ، وإرسال الرسل المعنويّين (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) (١).
وإلى العود بيوم القيامة ، والمعراج المعنوي (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢).
وعنهما عبّر في الأخبار بالإقبال والإدبار ، قال مولانا الصادق عليهالسلام : «إنّ الله خلق العقل ، وهو أوّل خلق من الروحانيين عن يمين العرش ، من نوره ، فقال له : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فأقبل ، فقال الله تعالى : خلقتك خلقا عظيما ، وكرّمتك على جميع خلقي ، قال : ثمّ خلق الجهل من البحر الأجاج ، ظلمانيا ، فقال له : أدبر فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فلم يقبل ، فقال له : استكبرت ، فلعنه» (٣) ، ثمّ ذكر عليهالسلام جنود العقل من الخيرات ، وجنود الجهل من الشرور.
والمراد بالجهل ما يقابل العقل ، تقابل التضادّ الشبيه بتقابل العدم والملكة ؛ لأنّه وجودي شبيه بالعدميّ ، حيث هو وجود للعدم ، كما يأتي تحقيقه في بيان معنى الألم من مباحث الخير والشر.
فالجهل تابع للعقل ، متميّز به ، فوجوده بالعرض من غير صنع ، وإدباره تابع لإدبار العقل وإقباله جميعا ، وإنما لم يقبل ؛ لأنّه بالإدبار بلغ أقصى مراتب الكمال المتصوّر في حقّه ، ولهذا استكبر ، وسنبرهن على وجوب هذا الترتيب ـ نزولا وصعودا ـ فيما بعد إن شاء الله.
__________________
(١) ـ سورة القدر ، الآية ٤.
(٢) ـ سورة المعارج ، الآية ٤.
(٣) ـ الكافي : ١ : ٢٠ ، ح ١٤.
وصل
هذه المراتب كلّها ـ على تفاوت درجاتها ـ متواصلة على نعت الاتّصال بدءا وعودا ، بحيث لا ثلمة في الوجود أصلا ، بناء على قاعدة الإمكان الأشرف ، فيتقوّم السافل بالعالي دائما ، فلا يوجد السافل إلّا وقد وجد العالي قبله ، هكذا جرت سنّة الله ، كما قال: (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) (١) ، فآخر كلّ مرتبة متّصل بأوّل المرتبة الّتي هي أسفل منه ، أو أعلى ، بل آخر كلّ درجة من درجات مرتبة واحدة متّصل بأول درجة أخرى أسفل منه أو أعلى ، وإلّا يلزم انحصار غير المتناهي بين حاصرين ، فآخر مراتب الألوهية متّصل بأول درجات العقل الأوّل ، وآخر درجات العقل الأوّل متّصل بأول درجات العقل الثاني ، وهكذا.
فليس شيء من العقول محدودا في حدّ غير منقسم فرضا ، بل كلّ منها ذو سعة في الرحمة الوجودية على درجات غير متناهية.
ومن العقول النازلة ما يقرب من النفوس ، ومن النفوس البشرية ما كاد يكون لبعض البهائم ، ومن النفوس الغير البشرية ما لا يحتاج إلى توسّط الروح البخاري ، من شدّة نقصه ، كالنفوس النباتية والجمادية ، ومن المعادن ما قرب من هيئة النبات ، كالمرجان ، ومن النبات ما قرب من الحيوان ، كالنخل ، ومن الحيوان ما قرب من الإنسان في كمال القوّة الناطقة وغيرها ، كالقرد وغيره ، ومن الإنسان ما كاد يكون عقلا.
فالطبقة العالية نازلها يقرب من الطبقة السافلة ، والطبقة السافلة عاليها في
__________________
(١) ـ سورة الحجر ، الآية ٨.
جميع الموجودات يكاد يقرب من الطبقة العالية.
قال أستاذنا ـ أدام الله أيام إفادته ـ : وكلّ كامل في مرتبة من المراتب يحوي جميع الكمالات الّتي دونه ، فالحق سبحانه يحوي جميع ما في الوجود ، وكذا العقل الأوّل يحوي جميع ما هو دونه في الوجود ، ولهذا يصدر بوساطته عقل آخر ، ونفس ، وخيال ، وحسّ ، وطبع ، وجرم ، ومادّة ، وهي كلّها مترتبة في الوجود متّصلة في أعلى مراتبها العقلية إلى أدناها المادية ، وهكذا في غيره من العقول والنفوس ، وفي كلّ قوّة مجرّدة أو مادية.
فما من درجة من درجات الوجود إلّا وقد خرجت من القوّة إلى الفعل ، متّحدة بما قبلها ، أو مفصولة عنه ، فليس بين مراتب الوجود خلاء عقلي على قاعدة الإمكان الأشرف ، كما ليس بين الأجسام خلاء مقداريّ ، كما برهن عليه.
وصل
كل ما لا يفتقر من هذه المراتب في تقوّمه إلى شيء آخر غير مبدعه القيّوم ، بل هو قائم بذاته ، فوجوده لذاته ، وكل ما يفتقر في ذلك إلى شيء آخر بأن يكون وجوده قائما بشيء آخر ، فوجوده ليس إلّا لغيره.
ومثل هذا الشيء لا يدخل في دار الأعيان إلّا بالتركيب الاتّحادي بينه وبين ذلك الغير ، بأن يكون أحدهما بمنزلة القوّة والنقص بالنسبة إلى الآخر ، والآخر بمنزلة الفعل والكمال بالنسبة إليه ، فلو كان كلّ منهما قوّة بالنسبة إلى الآخر ، وفعلية وكمالا ، لم يكن أحدهما أولى ، بأن يكون وجوده الآخر وقائما به من الآخر بعكسه.
وأيضا لا يكون إذا بينهما ارتباط إلّا بمجرّد الإضافة ، والإضافة بين الشيئين لا توجب أن يكون أحدهما للآخر ، أو قائما به ، وسيأتي لهذا مزيد انكشاف عن قريب ، إن شاء الله.
وصل
ومن هذا يظهر أنّ الأجسام والجسمانيات كلّها من حيث وجوداتها الخارجية ضعيفة الوجود جدا ؛ وذلك لأنّها ـ كما يأتي ـ مركبة من مادّة هي قوّة وجوداتها ، وصورة هي فعليّتها ، بالتركيب الاتّحادي ، والمادّة أمر عدمي ؛ لأنها قوّة الوجود لا نفسه ، وهذا حظّها من الوجود ، والصورة ليس وجودها لنفسها ، وإلّا لاستقلّت بذاتها ، ولم تقم بالمادّة ، فهي إذن وجودها للمادّة ، وقيامها بها على نحو من الاتحاد ، والقائم بما يشبه المعدوم المتّحد معه لا محالة يكون شبيها بالعدم قريبا منه.
فالأجسام ليست إلّا كظلال للموجودات القائمة بذواتها الّتي في عالم الغيب المبرهن عليه فيما بعد ، ولهذا ترى كلا من أجزائها معدوما عن الآخر ، مفقودا عنه ، وليس له من الجمعية والتحصّل قدر يمكن أن يجمع بعضه بعضا ، وكذا ليس له من البقاء ما يجمع أوّله آخره ، فأوّله ينقطع عن آخره ، وآخره يفوت أوله ، بل كلّ بعض فرض منه فهو غائب عن بعض آخر ، وكذا حكم بعض البعض منه بالقياس إلى بعض بعضه الآخر ، فالكلّ غائب عن الكلّ ، مفقود عنه ، فهي (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (١).
__________________
(١) ـ سورة النور ، الآية ٣٩.
نعم لو كانت صورها موجودة لأنفسها ، قائمة بذواتها ، كما في عالم الغيب ، أو كانت موجودة لشيء له وجود لنفسه ، كوجوداتها لقوانا الحسّية والخيالية والعقلية ، على ما سيأتي بيانه ، فهي إذن وجودات خالصة لا يشوبها شوب عدم ، سوى العدم الذاتي الأصلي العام ، لما سوى الله ، فافهم واغتنم ، فإنّه من الأسرار الّتي لا يمسّها إلّا المطهّرون ، وسيأتي له مزيد كشف وإيضاح إن شاء الله العزيز.
أصل
العدم ليس له ماهية إلّا رفع الوجود ، فلا يتميز إلّا بالوجود ، وحيث علم أنّ وجود كلّ شيء هو نفس هويّته ، فكما لا يكون لشيء واحد إلّا هوية واحدة ، فكذلك لا يكون له إلّا وجود واحد وعدم واحد ، فلا يتصوّر وجودان لذات بعينها ، ولا عدمان لشخص بعينه.
وأمّا تعدّد العدم للحادث الزماني من حيث السبق واللحوق فهو من تصرّفات الوهم ؛ إذ العدم لا يتعدد عند العقل إلّا بتعدد الملكات ، فلا ذات قبل الوجود ، ولا بعده ، حتّى يقال إنها واحدة ، أو متعددة متماثلة ، وإنما يضيف العقل نسبة العدم إلى ذات يختصّ وجوده بزمان معيّن قبل وجوده ، وبعد وجوده ، ومرجعه إلى انحصار وعائه الوجودي وضيق استعداده عن الاستمرار والانبساط سابقا ولا حقا ، إلّا أن المحجوب لقصور نظره عن الإحاطة يتوهم أنّ العدم يطرأ على شيء ويرفع وجوده الخاص عن متن الواقع ، ويحكّ هويته عن صفحة الأعيان ، ولم يتفطّن بأنّ طريان العدم على الشيء الثابت في الواقع لا يخلو إما أن يكون في مرتبة وجوده وفي وعاء تحقّقه المختص به بعينه ، فيلزم اجتماع النقيضين في مرتبة واحدة ، أو في زمان واحد بعينه ، وإما أن يكون في