عين اليقين - ج ٢

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

٤

المقصد الثاني :

في العلم بالسماوات والأرض

وما بينهما

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ)

(سورة الجاثية ، الآية ٣ ـ ٦)

٥
٦

في هيئة العالم وأجرامه البسيطة

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) (١)

أصل

الأجرام تنقسم إلى : بسيط ، ومركّب.

ونعني بالبسيط : ما له طبيعة واحدة ، كالهواء ، والماء ، والأفلاك.

وبالمركّب : الّذي يجمع بين طبيعتين متخالفتين ، أو أكثر ، باختلاف قوى وطبائع فيه ، كأبدان الحيوانات.

والبسيط ينقسم إلى : ما له وجود كمالي ، وحياة ذاتية يمكن له مع بساطته وهويته عبادة الحق ، وطاعته ، ومعرفته ، من غير اكتساب قوّة أخرى يحتاج إليها في ذلك.

وإلى ما ليس له ذلك ، من حيث هو هو ؛ لقصور جوهره ، وخسّة صورته ، ولكن يتأتّى منه التركّب الموصل إلى ذلك بالفساد والكون ، فإنّ الموجودات لم تخلق عبثا وهباء ، بل لأن تكون عبادا عابدين لله عزوجل ، شاهدين لوجوده ووحدانيته.

__________________

(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ١٩١.

٧

فالأجسام البسيطة صنفان : صنف يختصّ بصورة واحدة ، لا ضدّ لها ، فيكون حدوثها عن الباري جل وعز على سبيل الإبداع ، لا على سبيل التكوّن من جسم آخر ، ولها حياة ذاتية ، وتسمى بالعلويّات.

وصنف تهيّأ لقبول صورة بعد أخرى ، فتارة يقبل هذه بالفعل ، وتلك بالقوة ، وتارة بالعكس ، وليس لها حياة بالذات ، وتسمى بالسفليات.

ولنبيّن الصنفين تبيانا ، ونشرّحهما تشريحا ، في فصول :

وصل

أما الصنف الأوّل ، فقد دللنا على وجوده في مباحث تحديد الجهات بإثبات جسم بسيط مستدير ، مبدع ، ذي طبيعة ونفس وعقل غير قابل للحركة المستقيمة ، ولا التركيب ، ولا الكون والفساد ، إلّا عن العدم البحت ، وإليه (١).

وأمّا عدد أجرام هذا الصنف فيدل على أقلّه وجدان تسع حركات متخالفة ، قدرا وجهة ، بالأرصاد ، اثنتان منها لجميع الكواكب المزيّنة للسماء الدنيا ، من السيارات ، والثوابت ، إحداهما الحركة السريعة الظاهرة الفاعلة للّيل والنهار ، المشاهد بها طلوع الشمس والقمر والنجوم كلّها بكرة وعشيا ، والأخرى الحركة البطيئة الخفية الّتي وجدت بنظر أدقّ ، ممتازة عن الأولى ، باختلاف المنطقة والأقطاب.

وسبع أخرى للكواكب السبعة السيارة ، الّتي هي النيّران اللذان جعلهما الله سبحانه ضياء ونورا ، وجعل أعظمهما سراجا وهّاجا ، والخمسة المتحيرة في

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة.

٨

جمال بارئها ، المعبّر عنها في القرآن المجيد ب (... بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (١) ، وعن أعلاها ب (... الطَّارِقِ* وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ) (٢).

فهذه الحركات التسع المتخالفة تدلّ على وجود تسعة أجرام فلكية مستديرة ، دورية الحركات ، ترتكز في سبعة منها السبعة الجاريات (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣) ، وفي آخر سائر النجوم ، وواحد غير مكوكب ، محيط بالكلّ ، كأنه مع الكلّ حيوان واحد ، له نفس واحدة لتحريكه الكلّ بالحركة السريعة ، كتحريك الإنسان بدنه وأعضاءه ، كما أن ما تحته مع كلّ ما يحاط به ، كذلك لتحريكه إياها بالحركة البطيئة.

وما يقال من أن المحاط يتحرك بحركة المحيط حركة بالعرض ، فلا يستقيم إلّا بما ذكر من جهة الوحدة ، وإلّا فلا وجه للتبعية.

ثم ما ذكرناه من تعدد الأفلاك إنّما يتم لو كانت الكواكب مرتكزة في مواضع معينة من أفلاكها دائما ، وإنما تتحرّك بحركة الأفلاك تبعا حركة بالعرض ، لا كحركة السمكة في الماء ، وهو كذلك ؛ لامتناع الخرق والالتئام فيما لا يقبل الحركة المستقيمة ، ولهذا وصف الله سبحانه السماوات بالشدّة في قوله عزوجل : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) (٤) ، وقوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) (٥).

__________________

(١) ـ سورة التكوير ، الآية ١٥ و ١٦.

(٢) ـ سورة الطارق ، الآية ١ ـ ٣.

(٣) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٣٣ ؛ وسورة يس ، الآية ٤٠.

(٤) ـ سورة النبأ ، الآية ١٢.

(٥) ـ سورة النازعات ، الآية ٢٧.

٩

وبالمحفوظية في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (١).

وأمّا ما في حديث المعراج ، فهو من قبيل المعجزات ، وخرق العادات ، كأصل العروج، ويأتي سرّه.

وقد ورد عن سيد العابدين عليه‌السلام أنه قال في حديث له : «ثمّ وكّل بالفلك ملكا ومعه سبعون ألف ملك ، فهم يديرون الفلك ، فإذا أداروه دارت الشمس والقمر والنجوم والكواكب معه ، فنزلت في منازلها الّتي قدّرها الله فيها ليومها وليلتها». الحديث (٢) ، وهو نصّ في المطلوب.

وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، المذكور في نهج البلاغة أيضا ما يدلّ عليه (٣).

فصل

يشبه أن يكون الفلكان المحيطان من فوق أحدهما هو العرش المشار إليه بقوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٤) ، من وجه ، والآخر هو الكرسي المشار إليه بقوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٥) ، من وجه ، والسبعة الأخر هي السماوات السبع المشار إليها بقوله عزوجل : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٦) ، وقوله : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى

__________________

(١) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٣٢.

(٢) ـ الكافي : ٨ : ٨٣ ، ح ٤١.

(٣) ـ أنظر : نهج البلاغة : ١٢٧ ، خطبة «في صفة السماء».

(٤) ـ سورة الأعراف ، الآية ٥٥.

(٥) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٥.

(٦) ـ سورة الطلاق ، الآية ١٢.

١٠

فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (١).

روى علي بن إبراهيم ، والعياشي ، في تفسيريهما ، عن مولانا الرضا عليه‌السلام : أنّ «هذه أرض الدنيا ، والسماء الدنيا فوقها قبّة ، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها قبّة ، وهكذا ـ إلى أن قال : ـ والسماء السابعة فوق الأرض السابعة قبّة ، وعرش الرحمن تبارك وتعالى فوق السماء السابعة ، وهو قول الله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٢)» (٣).

أقول : كأنه عليه‌السلام جعل كلّ سماء أرضا بالإضافة إلى ما فوقها ، وسماء بالنسبة إلى ما تحتها ، ويكون التعدد باعتبار تعدد سطحيهما.

والعرش في لسان العرب قد يطلق ويراد به الملك ، يقال : ثلّ عرش الملك إذا دخل في ملكه خلل ، وقد يطلق ويراد به السرير ، كما هو معروف.

والكرسي في لسانهم قد يطلق ويراد به العلم ، وقد يطلق ويراد به السرير ، وعلى الثاني يرادف العرش بالمعنى الثاني ، ولهذا اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر في الحديث المذكور في مقام تعداد الأجرام.

وعلى المعنى الأوّل هو من المعاني ليس من الأجسام ، إلّا باعتبار اتحاد العلم بالمعلوم ، فهو من وجه هو الجرم ، ومن وجه هو العلم ، وكذلك العرش من وجه هو جملة الخلق والأمر من حيث وحدته ، ومن وجه هو العلم المحيط

__________________

(١) ـ سورة الملك ، الآية ٣ و ٤.

(٢) ـ سورة الطلاق ، الآية ١٢.

(٣) ـ لم أعثر عليه في تفسير العيّاشي ، بل عثرت عليه في تفسير القمّي : ٢ : ٣٢٨ ، باختلاف يسير ؛ ومجمع البيان : ١٠ : ٥٠ ، عن العيّاشي.

١١

بالكلّ.

سئل الإمام الصادق عليه‌السلام عن العرش والكرسي ، ما هما؟ فقال : «العرش في وجه هو جملة الخلق ، والكرسي وعاؤه ، وفي وجه آخر العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه عليهم‌السلام ، والكرسي هو العلم الّذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه ورسله وحججه عليهم‌السلام» (١).

وفي خبر آخر أنه عليه‌السلام سئل عن قول الله عزوجل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٢) ، قال : «علمه» (٣).

فصل

وأمّا أن هذه الأجرام حيّة بالحياة الذاتية ، فلأنّ لها نفوسا ناطقة قاهرة عليها ، تدبّرها وتحرّكها ؛ وذلك لأنّ حركاتها إرادية ، كما بيّنا فيما سبق أن الحركة المستديرة لا تكون طبيعية ، والقسر لا يكون دائميا ، مع أنه لا قاسر في الأفلاك ، فهي إمّا حسّية ، أو عقلية.

لا جائز أن تكون حسّية ؛ إذ لا نموّلها ، ولا تغذي ؛ إذ لا كون لها من شيء حتى تكون لها شهوة تزيد بحصول ما اشتهته شهوتها ، ولا فساد لها ؛ ليكون لها غضب تدفع به ما يزاحمها ، ويفسدها.

والأغراض الحسية لا تخرج عن هذين ، أعني الشهوية والغضبية ، فليس

__________________

(١) ـ معاني الأخبار : ٢٩ ، ح ١.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٥.

(٣) ـ كتاب التوحيد : ٣٢٧ ، ح ١.

١٢

حركتها إذن إلّا عقلية ، فلها مراد عقلي ، وإدراك كلي ، فمحرّكها إذن ليست طبيعة محضة، ولا نفسا جرمية ، فهو إمّا نفس ناطقة ، أو عقل محض ، لا جائز أن تكون عقلا محضا ؛ إذ العقل لا يقبل التغيّر ، والإرادة الكلية لا توجب حركة جزئية من موضع إلى آخر ، ومن الثاني إلى ثالث ، بل لا بدّ فيها من تجدد إرادات جزئية.

فإرادتك للحج ـ مثلا ـ لا توجب حركة رجلك بالتخطّي من باب منزلك إلى جهة معيّنة ما لم تجدّد ذلك إرادة جزئية لتلك الخطوة ، ثمّ إذا تخطّيت يحدث لك بتلك الخطوة تصوّر لما بعدها ، وتنبعث منه إرادة جزئية للخطوة الثانية ، وإنما تنبعث من الإرادة الكلية المنبعثة من التصور الكلي الّتي تقتضي دوام الحركة إلى الوصول إلى الكعبة ، فيكون الحادث حركة وتصوّرا وإرادة ، والحركة حدثت بالإرادة الجزئية ، والإرادة الجزئية حدثت بالتصور الجزئي مع الإرادة الكلية ، والتصور الجزئي حدث بالحركة.

وهكذا الحال في تجدد بعضها من بعض على وجه الدور الغير المستحيل.

مثاله : كمن مشى بسراج في ظلمة ، لا يظهر له بالسراج إلّا مقدار خطوة بين يديه ، فيتصوّره بضوء السراج ، فينبعث منه مع الإرادة الكلية إرادة الكلية إرادة جزئية لسلوكه ، فيسلكه ، وإذا سلكه وقع ضوء السراج على مقدار آخر ، وحصل منه تصور آخر ، وإرادة أخرى ، جزئيين لسلوكه مع التصور والإرادة الكليين للحركة ، فيقع سلوك آخر موجب لحصول الضوء على مقدار آخر.

وهكذا الكلام في أجزاء الخطوة الواحدة والتصورات والإرادات والحركات المتعلّقة بها بعينه هذا الكلام.

وكذا في أجزاء أجزائها حسب قبول المقدار الانقسام بلا نهاية.

فهكذا يمكن أن تكون حركة السماء وكلّ ما هو متغيّر الإرادة والتصور

١٣

يسمّى نفسا ، لا عقلا محضا ، وصاحب الإرادة الكلية والجزئية يجب أن يكون شيئا واحدا حتّى يحصل الارتباط ، وتتم الحركة المتصلة لمحرك السماوات.

إذن نفوس مجردة ناطقة عاقلة بذواتها ، ذوات إدراكات كلية وجزئية ، تحرّكها بتصوّرات حيوانية منبعثة عنها ، منطبعة في أجرامها ، كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ، على ما سيأتي بيانه ، لا بمعنى أن للفلك ذوات متعددة متباينة الوجود عقلا ونفسا ، وطبيعة سارية في جرمه ، فإنّ ذلك ممتنع ، ولا أن صورة ذاته إحدى هذه الأمور وغيرها من العوارض والآلات الخارجة عنها ، بل ذات الفلك وهويّته البسيطة جامعة لحدود هذه المراتب.

فقولنا : إن حركة الفلك ليست طبيعية ، أي ليس قاصد هذه الحركة وداعيها طبيعة محضة ، ناقصة الكون ، غير شاعرة بغاية فعلها ، وإلّا فمباشر الحركة ليس إلّا ما يميل الجسم بقوته ، فكما أن العقل من جهة عقليّته لا يباشر التحريك ؛ لتساوي نسبة الإرادة الكلية إلى جزئيات حدود الحركة ، فكذا حكم النفس من حيث جوهرها العقلي.

وأمّا من حيث نشأتها الحيوانية فلها وجه إلى القدس ، فيها عين جارية ، نبع منها ماء الحياة ، ووجه إلى طبيعة الفلك فيها سرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، فإنّ الوجود الواحد قد يكون مع أحديّته جامعا لحدود متفاوتة ومراتب متفاضلة ، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق وتوضيح في مباحث النفوس الإنسانية.

١٤

وصل

وممّا يدلّ على أن السماوات أحياء عالمون ، ويوضح ذلك بسرعة أن المانع من قبول الفيض الّذي يكون للأجسام التضاد والتفاسد ، والكثافة الطبيعية الحاصلة عن البعد عن الاعتدال.

وسنبيّن أن الأجسام البسيطة المتضادّة الطبائع إذا تركّبت واعتدلت ازدادت في قبول الفيض والحياة بقدر اعتداله وتوسّطه في المتضادّات ، فما ظنّك بأجرام كريمة صافية دورية الحركات ، دائمة الأشواق ، تترشّح من حركاتها البركات والخيرات على ما دونها.

فكل جرم سماوي فهو حيوان مطيع لله جل وعزّ ، متصرّف في نظام الكون بالتدبير ، متجلّي بقدر قسطه ومرتبته بانتقاش صور الأشياء وأحوالها في لوح نفسه ، ورقيم ذهنه ، وكتاب عقله.

وما في الصحيفة السجادية ، في دعاء الهلال : «أيها الخلق المطيع ، الدائب السريع، المتردد في منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التدبير» (١) ، شاهد صدق على ذلك.

وصل

وهل النفس الناطقة الّتي بها حياة السماء تتعلّق بالكوكب أوّل تعلّقها ، وبأفلاكه الكلية والجزئية الّتي بها تتم حركته على ما يأتي بواسطة الكوكب بعد

__________________

(١) ـ الصحيفة السجادية : ١٨٣ ، من دعائه عليه‌السلام إذا نظر إلى الهلال.

١٥

ذلك ، كما تتعلق نفس الحيوان بقلبه أولا ، وبأعضائه الباقية بعد ذلك ، وبتوسّطه ، فالقوّة المحركة منبعثة عن الكوكب الّذي هو كالقلب في أفلاكه الّتي هي كالجوارح ، والأعضاء الباقية، أو أنّ لكلّ جرم منها فلكا كان ، أو كوكبا ، كليا أو جزئيا ، نفسا ناطقة هي مبدأ حركة مستديرة على نفسه ، حتّى أن للكواكب أيضا حركات وضعية على أنفسها؟ وجهان.

ويؤيد الثاني وجوب اختصاص كلّ جرم بسيط في الإبداع بصورة كمالية ، والأوّل امتناع صيرورة موجود حي بالذات جزء لموجود آخر ، ويشبه أن يكون الثاني حقّا ، وتكون الجزئية والاستقلال باعتبارين ، ويكون الكلّ ذا درجات ، كما مرّ مثله آنفا.

ومن هنا قيل : إن لمجموع العالم أيضا نفسا واحدة ، تدبّرها ، كما أشرنا إليه ، وسيأتي له مزيد بيان ، وبه يستقيم تحرّك الكلّ بحركة واحدة.

فصل

الأفلاك كلّها كروية الأشكال ، صحيحة الاستدارة ، تحديبا ، وتقعيرا ؛ لبساطتها ، وعدم مانع لها عن ذلك ، وأمّا اختلاف الشكل فيما ارتكز فيه كوكب منها ، أو اشتمل على أفلاك أخر جزئية بسبب النفرات واختلافها بالرقة والغلظ ، كما ستعرف ، مع أنه لا قاسر هناك ، فلا يقدح في بساطتها ؛ لما دريت في مباحث الماهيات والتشخّصات ، فتذكّر له.

وممّا يدلّ على كرويتها واستدارة حركاتها أنا نرى الكواكب طالعة من مشارق الأرض ، مرتفعة بالتدريج إلى حد ما ، هابطة منه كذلك ، إلى أن تغيب في

١٦

المغارب ، ماكثة في غيبتها زمانا ما ، عائدة بعد ذلك إلى المشارق ، متكافئة في أزمنة الظهور والخفاء ، في المشارق والمغارب ، في جلّ الأمر ، كأنها على دوائر متوازية مترتبة.

ويؤكد ذلك مشاهدة استدارة الكواكب الأبدية الظهور حول نقطة تصلح لأن تكون قطبا للكل في دوائر متوازية مختلفة الصغر والكبر على الترتيب ، بحسب البعد من تلك النقطة إلى أن تنتهي إلى ما تطلع وتغيب ، وتزداد أزمنة الخفاء ، وتنقص أزمنة الظهور بحسب ازدياد البعد إلى أن يتساويا ، ثمّ يختلفان على عكس الأوّل ، بنسبة واحدة.

ويزيده تأكيدا تساوي مقدار الكواكب في النظر في جميع أبعادها ، في دوراتها ، إلّا عند الأفق ، فإنّ تراكم الأبخرة المرتفعة من الأرض يري ما وراءها من الأشخاص أكبر ممّا يجب أن يرى ، كما يشاهد فيما يرى تارة في الهواء ، وتارة في الماء ، ولذلك يزداد الكبر إذا صار الهواء أغلظ ، وبالضدّ ، وكذلك ظهور النصف من الفلك ، أو قريب منه دائما ، لكلّ من على الأرض في أيّ موضع يكون ، إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة.

فصل

وكلّها كاملة تامة ، كما لا يليق بالجوهر الجسماني ، فليست هي بالقوّة في جواهرها ، ولا في أعراضها الذاتية ، ولا في أشكالها ، بل هي بالفعل في جميع الصفات ، أي كلّ ما هو ممكن لها ، فهو حاصل لها بالفعل ، إلّا أمر واحد لا يمكن أن يكون فيه بالفعل ، وهو الوضع ؛ إذ لا يمكن أن يكون على وضعين في حالة واحدة ، ولو لم يكن لها هذا القدر بالقوّة لم تكن أجساما ، وليس لها بعض

١٧

الأوضاع بأولى من بعض ، حتّى تلازم ذلك ، وتترك البقية ، فإذا لم يمكن جميع الأوضاع بالفعل دفعة ، ويمكن جمعه بالنوع على سبيل التعاقب قصد أن يكون كلّ وضع له بالفعل في آن ، وأن يستديم جميعها بطريق التعاقب ليكون نوع الأوضاع دائما له بالفعل ، كما أن الإنسان الحسّي لما لم يكن بقاء شخصه بالفعل ، دبّر لبقاء نوعه بطريق التعاقب الأشخاص الجسمانية ، فلها من الأشكال أفضلها وأقدمها بالطبع ، وأتمها بالذات ، وأحوطها لما يحويه ، كما أشير إليه بقوله سبحانه : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (١).

وأحكمها في القوام ، وأصونها عن الآفات ، كما أشير إليه بقوله عزوجل : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٢) ، وبقوله جل وعزّ : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٣).

ولها من الهيئات أفضلها ، وهي الإضاءة والشفيف ، ومن الكيفيات المتضادّة الخلو عنها جميعا عند الجمهور ، والجمع بينها من حيث لا تضادّ فيها عند المحقّقين ؛ لأنّ كلّ جوهر شريف يشتمل على ما يوجد في الجوهر الدني بوجه أعلى وأشرف ، وكلّ ما هو أبسط فهو أحوط للوجود ، فالجرم الّذي تمتنع عليه الكثرة الانفكاكية لا بدّ وأن يوجد فيه جميع الكمالات الموجودة في الأجسام الأخر على وجه يليق به ، وهو الإمكان الأشرف.

وحكي عن بعض الحكماء المتقدّمين (٤) أنه عرج بنفسه إلى العالم

__________________

(١) ـ سورة الذاريات ، الآية ٤٧.

(٢) ـ سورة الملك ، الآية ٣.

(٣) ـ سورة ق ، الآية ٦.

(٤) ـ المراد به «فيثاغورس» ، أنظر : الأسفار الأربعة : ٨ : ١٧٦.

ولد فيثاغورس في ساموس ، حوالي سنة «٥٨٠ أو ٥٧٢ ق. م» ، وينسب التاريخ إليه أنّه صرف ثلاثين عاما من الأسفار. وقال هرقليطس : إنّه كان أكثر الباحثين مثابرة ـ

١٨

العلوي ، فسمع بصفاء جوهر نفسه ، وذكاء قلبه ، نغمات الأفلاك ، وأصوات حركات الكواكب ، ثمّ رجع إلى البدن ، ورتّب عليه الألحان والنغمات ، وكمّل علم الموسيقى.

ومنهم من قال : إن الأجرام الفلكية لما أبدعت على أتمّ ما ينبغي ، من الوثاقة والصلابة والملاسة والحركة الدائمة ، فيحتكّ بعضها ببعض ، فتظهر منها نغمات لا يمكن أن يكون أنسب منها ، ولا أوفق يناسب عشقها وشوقها.

وممّا يؤيد كون الأفلاك مشتملة على النغمات ، بل الروائح والطعوم ، وجميع ما تدركه الحواس ، كون هذه الكيفيات من حيث كونها مدركة لنا ليست هي الّتي تكون في الخارج ، من قوانا ؛ لما ثبت أن المحسوس ـ بما هو محسوس ـ وجوده في نفسه ليس إلّا وجود للجوهر الحاسّ ، ومعلوم أنّ وجودها للخيال مناط علمنا بها وانكشافها لدينا ، وقد ثبت أن الخيال وجميع ما يحصل فيه خارج عن هذا العالم.

فإذن كما توجد تلك الأشياء في قوّة من قوانا تارة من جهة أمور خارجية ، وتارة من أسباب باطنية ، كما في المنام ، فكذلك يجوز ذلك في

__________________

ـ وعمقا ، ويذكر أنّه زار بلاد العرب ، وسوريا ، وفينقية ، وكلديا ، والهند ، وغاله. وله حكمة عالية جديرة بالإعجاب ، هي قوله : إذا كنت مسافرا في خارج بلادك فلا تلتفت وراءك إلى حدودها.

ويقال : إنه قد زار مصر ، ودرس الحكمة على أيدي الكهنة ، وتعلّم الكثير من علم الفلك ، والهندسة النظرية ، وربما تعلّم أيضا قليلا السخف والأساطير.

قضى بقيّة أيّامه الأخيرة متواريا عن الأنظار في مدينة ميتابونتوم ؛ وذلك عندما شعر بالخطر نتيجة قيام الحركة المعارضة له ولنظامه ، بزعامة فيلون ، أحد أشراف كروتونا وأثريائها.

(أنظر كتاب : في سبيل موسوعة فلسفية ، للدكتور مصطفى غالب ، تسلسل ١٩).

١٩

الأفلاك من جهة الباطن ، سيّما وسنبيّن أن السماوات بقوّتها الخيالية محل عالم الملكوت بجميع نقوشها ، ففيها جميع ما في عالم الكون والفساد على نحو أشرف وألطف.

فصل

وترتيبها يعرف من انكساف بعض الكواكب ببعض ، فإنّ فلك المنكسف إنّما يكون فوق فلك الكاسف ، كما هو ظاهر.

وقد ثبت أن بعض الثوابت ينكسف بزحل ، المنكسف بالمشتري ، المنكسف بالمرّيخ ، المنكسف بالزهرة ، المنكسفة بعطارد ، المنكسف بالقمر ، الكاسف للشمس ، فعلم الترتيب في غير فلك الشمس.

وطريقة الكسف لا تتمشى بين الشمس وغير القمر من الكواكب ، لاضمحلالها تحت الشعاع عند مقارنتها إياها ، فعلم بالأرصاد من طريقة أخرى أن فلكها تحت فلك المرّيخ ، وأمّا كونه فوق فلك الزهرة ، أو تحته ، أو تحت عطارد أيضا ، فباق على الاحتمال.

وقد يؤيّد الأوّل بتأييدات وهو الأشهر ، وعليه الأكثر ، والعلم عند الله.

فصل

وأمّا الصنف الثاني من الأجسام البسيطة ، وهي السفليات ، فمعلوم لنا وجوده بالحسّ ، بمشاهدة الأجسام العنصرية القابلة للتركيب ، إمّا تركيبا غير تام ، مقدور لنا ، كما ركّبنا الماء بالتراب ، وإما تركيبا تاما طبيعيا ، غير متأت إلّا

٢٠