عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

[٤]

في بيان أصناف الناس

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (١) ، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : «الظالم يحوم حوم نفسه ، والمقتصد يحوم حوم قلبه ، والسابق يحوم حوم ربّه» (٣).

وعن الأصناف الثلاثة وقع التعبير في الحديث السابق بالعالم والمتعلّم ، والهمج الرعاع(٤).

وفي حديث أهل البيت عليهم‌السلام : «الناس يغدون على ثلاثة : عالم ، ومتعلّم ، وغثاء ، فنحن العلماء ، وشيعتنا المتعلّمون ، وسائر الناس غثاء» (٥).

والشيعة في عرفهم عليهم‌السلام عبارة عن الخواص من أهل الله ، المشايعين لهم عليهم‌السلام ، في سلوك سبيل الله ، علما وعملا ، الحافظين لأسرارهم ، المطيعين لأوامرهم ونواهيهم ، المستفيدين من علومهم ، المستضيئين بأنوارهم.

__________________

(١) ـ سورة الواقعة ، الآية ٧.

(٢) ـ سورة فاطر ، الآية ٣٢.

(٣) ـ معاني الأخبار : ١٠٤ ، ح ١.

(٤) ـ راجع نهج البلاغة : ٤٩٥ ، حكمة رقم «١٤٧».

(٥) ـ بصائر الدرجات : ٨ ، ح ٣.

٤١

وإليهم الإشارة بقولهم عليهم‌السلام : «إنّ شيعة عليّ الحلماء العلماء ، الذّبل الشفاه ، تعرف الرهبانية في وجوههم» (١).

وبقولهم عليهم‌السلام : «إنّ شيعتنا الذين يتبعوننا ، ويطيعون جميع أوامرنا ونواهينا ، فأمّا من خالفنا في كثير ممّا فرضه الله عليه فليسوا من شيعتنا ، إنّما هم من موالينا ومحبّينا» (٢).

فظهر أنّ من لم يكن على الصفات المذكورة ممّن سواهم عليهم‌السلام فهو داخل في الهمج والغثاء ، وإن كان من أهل النجاة من وجه ، بل من المنتسبين إلى العلم إذا كان علمه مقصورا على العلوم الرسمية الظاهرية ، كما يستفاد من قول أمير المؤمنين عليه‌السلام في الحديث السابق «أو منقادا لجملة الحقّ ، لا بصيرة له في أحنائه» (٣) ، فإنّ المراد به المقلّد الشامل لمن ذكر ، مع أنّ سياق كلامه عليه‌السلام يقتضي دخوله في الهمج ، وكذا قولهم عليهم‌السلام : «وإنّما هم من موالينا ومحبّينا» (٤) مع أنّهم عليهم‌السلام حصروا غيرهم في الشيعة والغثاء ، إلّا أنّ في دخول مثله على الإطلاق في أصحاب الشمال إشكالا على المحجربين (٥) ، وإن كان ذلك غير لازم ، وعسى أن ينحلّ في محلّه ، فإنّا سنعود إلى هذا البحث إن شاء الله.

__________________

(١) ـ أمالي الصدوق : ٥٦١ ، ح ٢ ، وفيه : «يا علي ، إخوانك ذبل الشفاه ...».

(٢) ـ تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢ : ٣١٦ ، ضمن الحديث ١٦١.

(٣) ـ نهج البلاغة : ٤٩٥ ، حكمة رقم «١٤٧».

(٤) ـ تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٣١٦ ، ح ١٦١.

(٥) ـ هكذا في المخطوطة.

٤٢

[٥]

في تظاهر العقل والشرع

ولنقتصر فيه على كلام بعض الفضلاء (١) ، فإنّه كاف في هذا المقام.

قال : اعلم أنّ العقل لن يهتدي إلّا بالشرع ، والشرع لن يتبيّن إلّا بالعقل ، والعقل كالأسّ ، والشرع كالبناء ، ولن يثبت بناء ما لم يكن أسّ ، ولن يغني أسّ ما لم يكن بناء.

وأيضا : العقل كالبصر ، والشرع كالشعاع ، ولن ينفع البصر ما لم يكن شعاع من خارج ، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر ، فلهذا قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) (٢).

وأيضا : فالعقل كالسراج ، والشرع كالزيت الّذي يمدّه ، فما لم يكن زيت لم يشعل السراج ، وما لم يكن سراج لم يضىء الزيت ، وعلى هذا نبّه بقوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) إلى قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) (٣).

وأيضا : فالشرع عقل من خارج ، والعقل شرع من داخل ، وهما

__________________

(١) ـ هو الفاضل الراغب الاصبهاني ، قاله في كتابه المسمى بتعطيل النشأتين. (من الهامش).

(٢) ـ سورة المائدة ، الآية ١٥ و ١٦.

(٣) ـ سورة النور ، الآية ٣٥.

٤٣

يتعاضدان ، بل يتّحدان ، ولكون الشرع عقلا من خارج. سلب الله اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن ، نحو : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (١).

ولكون العقل شرعا من داخل ، قال تعالى في صفة العقل : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ، فسمى العقل دينا.

ولكونهما متّحدين قال : (نُورٌ عَلى نُورٍ) ، أي نور العقل ، ونور الشرع ، ثمّ قال: (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣) ، فجعلهما نورا واحدا ، فالعقل إذا فقد الشرع عجز عن أكثر الأمور ، كما عجزت العين عند فقد النور.

واعلم أنّ العقل بنفسه قليل الغناء ، لا يكاد يتوصّل إلّا إلى معرفة كلّيات الشيء ، دون جزئياته ، نحو أن يعلم جملة حسن اعتقاد الحق ، وقول الصدق ، وتعاطي الجميل ، وحسن استعمال المعدلة ، وملازمة العفّة ، ونحو ذلك ، من غير أن يعرف ذلك في شيء شيء.

والشرع يعرّف كلّيات الشيء وجزئياته ، ويبيّن ما الّذي يجب أن يعتقد في شيء شيء ، وما الّذي هو معدلة في شيء شيء ، ولا يعرف العقل ـ مثلا ـ أنّ لحم الخنزير والدم والخمر محرّمة ، وأنّه يجب أن يتحاشى من تناول الطعام في وقت معلوم ، وأن لا ينكح ذوات المحارم ، وأن لا يجامع المرأة في حال الحيض ، فإنّ أشباه ذلك لا سبيل إليها إلّا بالشرع ، فالشرع نظام الاعتقادات

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ١٧١.

(٢) ـ سورة الروم ، الآية ٣٠.

(٣) ـ سورة النور ، الآية ٣٥.

٤٤

الصحيحة ، والأفعال المستقيمة ، والدال على مصالح الدنيا والآخرة ، من عدل عنه فقد ضلّ سواء السبيل.

ولأجل أن لا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك ، قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، وقال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٢).

وإلى العقل والشرع أشار بالفضل والرحمة ، بقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) (٣) ، وعنى بالقليل المصطفين الأخيار. انتهى كلامه (٤).

ويصدّقه ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «العلم علمان (٥) : مطبوع ومسموع ، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع» (٦) ، كما لا ينفع نور الشمس ، ونور العين ممنوع.

وقد ظهر من تضاعيف ما ذكر أنّ أصحاب العقل قليل جدّا ، وأنّ من لم يهتد لنور الشرع ، ولم يطابق عقله ، فليس من ذوي العقول في شيء ، وأنّ العقل فضل من الله ، ونور ، كما أنّ الشرع رحمة منه وهدى ، (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ

__________________

(١) ـ سورة الإسراء ، الآية ١٥.

(٢) ـ سورة طه ، الآية ١٣٤.

(٣) ـ سورة النساء ، الآية ٨٣.

(٤) ـ أنظر : الأصول الأصلية : ١١٩ ، في الهامش ، تحت عنوان : «أقول» ، وقد نقله عن تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين : ٥٠ و ٥١.

(٥) ـ في المخطوطة : العقل عقلان.

(٦) ـ نهج البلاغة : ٥٣٤ ، حكمة رقم «٣٣٨».

٤٥

مَنْ يَشاءُ) (١) و (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (٢) ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٣) ، (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤).

__________________

(١) ـ سورة الحديد ، الآية ٢٩.

(٢) ـ سورة النور ، الآية ٣٥.

(٣) ـ سورة النور ، الآية ٤٠.

(٤) ـ سورة الأحزاب ، الآية ٤.

٤٦

المقصد الأول :

في أصول العلم

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

(سورة الجاثية ، الآية ٢٠)

٤٧
٤٨

في متشابهات الكتاب والسنّة

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١)

أصل

إنّ لكلّ معنىّ من المعاني حقيقة وروحا ، وله صورة وقالبا ، وقد تتعدّد الصور والقوالب لحقيقة واحدة ، وإنما وضعت الألفاظ للحقائق والأرواح ، ولوجودهما في القوالب تستعمل الألفاظ فيها على الحقيقة ؛ لاتّحاد ما بينها.

مثلا : لفظ القلم إنّما وضع لآلة نقش الصور في الألواح ، من دون أن يعتبر فيها كونها من قصب ، أو حديد ، أو غير ذلك ، بل ولا أن يكون جسما ، ولا كون النقش ، محسوسا ، أو معقولا ، ولا كون اللوح من قرطاس ، أو خشب ، بل مجرّد كونه منقوشا فيه ، وهذا حقيقة اللوح ، وحدّه وروحه.

فإن كان في الوجود شيء تسطّر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم ، فإنّ الله علّم بالقلم ، علّم الإنسان ما لم يعلم ، بل هو القلم الحقيقي ، حيث وجد فيه روح القلم وحقيقته ، وجد من دون أن يكون معه ما هو خارج عنه.

وكذلك الميزان ـ مثلا ـ فإنّه موضوع لعيار تعرف به المقادير ، وهذا معنى

__________________

(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ٧.

٤٩

واحد هو حقيقته وروحه ، وله قوالب مختلفة ، وصور شتّى ، بعضها جسمانيّ ، وبعضها روحاني ، كما توزن به الأجرام والأثقال ، مثل ذي الكفّتين والقبّان ، وما يجري مجراهما ، وما توزن به المواقيت والارتفاعات ، كالاصطرلاب ، وما توزن به الدوائر والقسي ، كالفرجار ، وما توزن به الأعمدة ، كالشاقول ، وما توزن به الخطوط ، كالمسطر ، وما يوزن به الشعر ، كالعروض ، وما توزن به الفلسفة ، كالمنطق ، وما يوزن به بعض المدركات ، كالحسّ والخيال ، وما توزن به العلوم والأعمال ، كما يوضع ليوم القيامة ، وما يوزن به الكلّ ، كالعقل الكامل ، إلى غير ذلك من الموازين.

وبالجملة : ميزان كلّ شيء يكون من جنسه.

ولفظة الميزان حقيقة في كلّ منها باعتبار حدّه ، وحقيقته الموجودة فيه ، وعلى هذا القياس كلّ لفظ ومعنى.

وأنت إذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا ، وفتحت لك أبواب الملكوت ، وأهّلت لموافقة الملأ الأعلى (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (١) ، كذا أفاد بعض العلماء قدس الله تعالى سرّه ، ونزيدك ممّا استفدنا منه.

أصل

ما من شيء في عالم الحس والشهادة إلّا وهو مثال وصورة لأمر روحاني في عالم الملكوت ، هو روحه المجرّد ، وحقيقته الصرفة ، كما سيتبيّن لك.

__________________

(١) ـ سورة النساء ، الآية ٦٩.

٥٠

وعقول الخلائق في الحقيقة أمثلة للعقول العالية ، فليس للأنبياء عليهم‌السلام أن يتكلّموا معهم إلّا بضرب الأمثال ؛ لأنّهم أمروا أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم ، وقدر عقولهم أنّهم في النوم بالنسبة إلى تلك النشأة ، والنائم لا ينكشف له شيء في الأغلب إلّا بمثل ، ولهذا من يعلّم الحكمة غير أهلها يرى في المنام أنّه يعلّق الدرّ في أعناق الخنازير ، وعلى هذا القياس ، وذلك لعلاقة خفيّة بين النشآت ، فالناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، وعلموا حقائق ما سمعوه بالمثال وأرواح ذلك ، وعقلوا أن تلك الأمثلة كانت نشورا.

قال الله سبحانه : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) ، فمثّل العلم بالماء ، والقلب بالأودية والينابيع ، والضلال بالزبد ، على ما فسّره المفسّرون.

ثمّ نبّه في آخرها فقال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١) ، فكلّ ما لا يحتمل فهمك فإنّ القرآن يلقيه إليك على الوجه الّذي كنت في النوم ، مطالعا بروحك للّوح المحفوظ ، ليمثل لك بمثال مناسب ، وذلك يحتاج إلى التعبير ، فالتأويل يجري مجرى التعبير ، فالمفسّر يدور على القشر ، فافهم.

وصل

ولك أن تقول : إنّ متشابهات الكتاب والسنّة كلّها محمولة على ظواهرها ، ومفهوماتها الأوّلية ، من دون حاجة إلى تأويل ، أو حمل على تمثيل ، أو تخييل ،

__________________

(١) ـ سورة الرعد ، الآية ١٧.

٥١

إلّا أن للمفهومات مظاهر مختلفة ، ومنازل شتّى ، وقوالب متعددة حسب تعدّد النشآت ، واختلاف المقامات ، وكذلك لله سبحانه ، وصفاته في كلّ عالم من العوالم مظاهر ومرائي ومنازل ومعالم يعرف بها ، كما سيأتي بيانه وتفصيله.

فكلّ إنسان يفهم من تلك الألفاظ ما يناسب مقامه ، والنشأة الّتي غلبت عليه ، والكلّ صحيح ، وهي حقيقة في الكلّ ، ولكن لكلّ في محلّه.

قال صاحب الفتوحات ، في بيان نشأة الملكوت : كلّ حديث وآية وردت عندنا ، فصرفها العقل عن ظاهرها وجدناها على ظاهرها في هذه الأرض (١).

وصل

قد ورد في الحديث أنّ : «المساجد بيوت الله» (٢) ، فلفظ البيوت فيه حقيقة ؛ وذلك لأنّ المسجد محلّ للعبادة ، ومحلّ العبادة ـ بما هي عبادة ـ هو محلّ حضور المعبود ، وموقف شهوده ، فيكون بيتا له بالحقيقة ، لا بالمجاز ، والتخييل ، ولكن يكون بيتا معقولا ، لا محسوسا بإحدى هذه الحواس ، وما هو المحسوس منه ليس معبدا ومشعرا للعبادة ، بل هو من هذه الجهة كسائر مواضع الأرض ، وكل محسوس ذي وضع ليس ذاته بذاته محسوسا من كلّ وجه ، فإنّ زيدا ـ مثلا ـ ليس بمحسوس من جميع وجوهه ، بل إنّما محسوسيّته من حيث كونه متقدّرا ، متحيّزا ، ذا وضع ، وأمّا من حيث كونه ناطقا ، متوهّما ، متخيّلا ، عالما ، أو جاهلا ، فليس ممّا يناله الحسّ ، والإشارة الوضعية ، كما سيتبيّن فيما بعد.

__________________

(١) ـ الفتوحات المكية : ١ : ١٣٠.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ١ : ١٩٨ ، ضمن الحديث ٦٠٣.

٥٢

ويؤيّد هذا ما ورد في حديث آخر : «إنّ المسجد ينزوي بالنخامة» (١) ، مع أن المحسوس منه لم تتغيّر مساحته أصلا ، فكأنّ المراد أنّ النخامة توجب قلّة توقيره وتعظيمه ؛ لأنّه محلّ عبادة الله ، فيجب أن يكون موقّرا مستعظما ، والنخامة فيه تنافي ذلك ، فيقلّ عظم قدره في العقل ، لا في الحسّ ، وهذا وأمثاله ممّا يدركه أهل البصيرة (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

وصل

ولمّا كان الناس إنّما يكلّمون على قدر عقولهم ، ومقاماتهم ، فما يخاطب به الكلّ يجب أن يكون للكل فيه نصيب ، فالقشرية من الظاهريين لا يدركون إلّا المعاني القشرية ، كما أنّ القشر من الإنسان وهو ما في الإهاب ، والبشرة من البدن ، لا ينال إلّا قشر تلك المعاني ، وهو ما في الجلد والغلاف من السواد والصور ، وأمّا روحها وسرّها وحقيقتها فلا يدركها إلّا أولوا الألباب ، وهم الراسخون في العلم.

وإلى ذلك أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في دعائه لبعض أصحابه ، حيث قال : «اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل» (٣) ، ولكلّ منهم حظّ ، قلّ أم كثر ، وذوق ، نقص أو كمل ، ولهم درجات في الترقّي إلى أطوارها ، وأغوارها ، وأسرارها ، وأنوارها.

وأمّا البلوغ للاستيفاء ، والوصول إلى الأقصى ، فلا مطمع لأحد فيه ، ولو

__________________

(١) ـ وسائل الشيعة : ٥ : ٢٢٤ ، ح ٦٣٩٥ ، عن المجازات النبوية ، وفيه : «إن المسجد لينزوي من النخامة».

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٦٩ ؛ وسورة آل عمران ، الآية ٧.

(٣) ـ الخرائج والجرائح : ١ : ٥٧.

٥٣

كان البحر مدادا لشرحه ، والأشجار أقلاما. فأسرار كلمات الله لا نهاية لها ، فنفد البحر قبل أن تنفد كلماته.

وصل

وممّا ذكر يظهر سبب اختلاف ظواهر الآيات والأخبار الواردة في أصول الدين ؛ وذلك لأنها ممّا خوطب به طوائف شتى ، وعقول مختلفة ، يجب أن يكلّم كلّ على قدر فهمه ، ومقامه ، ومع هذا فالكلّ صحيح ، غير مختلف من حيث الحقيقة ، ولا مجاز فيه أصلا ، واعتبر ذلك بمثال العميان والفيل ، وهو مشهور.

وعلى هذا فكلّ من لم يفهم شيئا من المتشابهات من جهة أنّ حمله على الظاهر كان مناقضا بحسب الظاهر لأصول صحيحة دينية ، وعقائد حقّة يقينية عنده ، فينبغي أن يقتصر على صورة اللفظ ، ولا يبدّلها ، ويحيل العلم به إلى الله ، والراسخين في العلم ، ثمّ يترصّد لهبوب رياح الرحمة من عند الله ، ويتعرّض لنفحات أيام دهره الآتية من قبل الله ، لعل الله يأتي له بالفتح أو أمر من عنده ، ويقضي الله أمرا كان مفعولا ، فإنّ الله سبحانه ذمّ قوما على تأويلهم المتشابهات بغير علم ، فقال سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(١).

وعن مولانا الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ حديث آل محمّد صعب مستصعب ، لا يؤمن به إلّا ملك مقرّب ، أو نبيّ مرسل ، أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان ، فما عرض عليكم من حديث آل محمّد فلانت له قلوبكم ،

__________________

(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ٧.

٥٤

وعرفتموه ، فخذوه ، وما اشمأزّت منه قلوبكم وأنكرتموه ، فردّوه إلى الله ، وإلى الرسول ، وإلى العالم من آل محمّد ، إنّما الهالك أن يحدّث أحدكم بشيء منه فيقول : والله ما كان هذا ، والله ما هذا بشيء ، والإنكار هو الكفر» (١).

ومن تدبّر فيما حقّقناه ثمّ فيما ورد في الشرع من أصول الدين ، علم أنّ مقتضى العقل الصريح لا ينافي موجب الشرع الصحيح بوجه من الوجوه ، ولله الحمد.

__________________

(١) ـ الكافي : ١ : ٤٠١ ، ح ١ ، باختلاف يسير.

٥٥

في ضوابط مهمّة

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) (١).

أصل

إنّ من المستبينات المركوزة في فطرة الله الّتي فطر الناس عليها ، أنّه لا يجوز أن يترجّح أحد المتساويين على الآخر ، من غير مرجّح ، ولا أن يرجّحه غيره بدون ذلك ، وأنّه لا يجوز أن يدخل في دار الوجود أمر جزافا ، ولا اتّفاقا ، كما قال مولانا الإمام الصادق عليه‌السلام : «أبى الله أن يجري الأشياء إلّا بالأسباب» (٢).

وسنبيّن بالبرهان أنّ لكلّ موجود سببين ، فاعليا ، وغائيا ، ولكلّ منهما سببان آخران كذلك ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب ، فعند ذلك يقف اللمّ ؛ لاتّحاد السؤال هنالك بالجواب ، كما ستقف عليه إن كنت من أهله.

أصل

إنّ لله سبحانه في خلق الكائنات أسبابا ، ومبادىء ، غائبة عن شعور

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٥.

(٢) ـ بصائر الدرجات : ٦ ، ح ١ و ٢ ؛ وص ٥٠٥ ، ح ٢.

٥٦

أذهاننا ، وغايات وحكما ، محجوبة عن أعين بصائرنا ، وإنّ الجهل بالشيء لا يستلزم نفيه ، فإنّ إنكار أحد طرفي الممكن من غير حجّة ليس إلى الحق أقرب من الإقرار بطرفه الآخر من غير بيّنة. فعليك الاعتصام بحبل التوقّف في كلّ ما لم يبرهن استحالته لك.

قال بعض العلماء : لا يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقضي العقل باستحالته ، نعم يجوز أن يظهر في طور الولاية ما يقصر العقل عنه ، بمعنى أنّه لا يدرك بمجرّد العقل ، ومن لا يفرق بين ما يحيله العقل ، وبين ما لا يناله العقل ، فهو أخسّ من أن يخاطب ، فليترك وجهله (١).

أصل

ليس شيء من الموجودات إلّا وله خاصية ذاتية ، ولوجوده حكمة عظيمة ، وسرّ غريب ، لا يوجد في غيره.

قال الله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢) ، (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(٣).

إلّا أنّ الناس لا يتعجّبون ممّا تكرر مشاهدتهم إيّاه ، وإنّما يتعجّبون من النوادر وإن كان المتكرر أجلّ حكمة ، وأعظم أمرا ، وأعجب فعلا من النادر ،

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ٢ : ٣٢٢ ، وقد نقله عن الغزالي.

(٢) ـ سورة ص ، الآية ٢٧.

(٣) ـ سورة الدخان ، الآية ٣٩.

٥٧

ولذلك تحرك الإنسان في الجهات الّتي تخالف جهة حركته الّتي بحسب طبيعة بدنه بمجرّد إرادة نفسه الناطقة ، الّتي هي جوهر ملكوتي من عالم الأمر ليس معدودا عندهم من العجائب ، وصاروا يتعجّبون من جذب حجر المغناطيس مثقالا من الحديد.

قال بعض العلماء : والعجب من بعض الجهلة من الطبيعيين ، ومن تشبّه بهم ، حيث يأخذون في طلب السبب في فعل الطبيعة الّتي لبعض المركبات ، مثل الطبيعة الّتي للسقمونيا في إسهال الصفراء ، والأقيمون في إسهال السوداء ، والطبيعة الّتي في حجر المغناطيس الموجبة لجذب الحديد ، ثمّ صاروا يتعجّبون من صدور هذه الآثار والأفاعيل منها ، ولا يتعجّبون من النار كيف تفرّق المجتمع ، وكيف تحيل أجساما كثيرة إلى مثل طبيعته في ساعة ، ولا يشتغلون بالبحث عن علّته ، وغاية ما يجيبون به عنه إذا سئلوا عن ذلك أن يقولوا : لأنّ النار حارّة.

ثمّ السؤال لازم في أنّ الحار لم يفعل هكذا؟ فيكون منتهى الجواب للطبيعي أن يقال: إنّ الحرارة قوّة ، من شأنها أن تفعل هذا الفعل.

ثمّ إن سئلوا بعد هذا : أنّه لم كان هذا الجسم حارّا دون البارد؟ لم يكن جوابهم إلّا الجواب الإلهي : من أنّ إرادة الصانع هكذا ، ولا يقنعون بهذا الجواب في جذب المغناطيس الحديد إذا اشتغلوا بالبحث عن علّته ، من أنّ في المغناطيس قوّة جاذبة للحديد ، وأنّ سبب وجودها إرادة الصانع.

وليس هذا الجواب قاصرا ، لكن تعجّبوا عمّا استندروا وجوده ، وألهاهم التعجّب البحث عن علّته ، ولم يعرض لهم ذلك ممّا كثرت مشاهدتهم له ، وإن كانت حكمته أعجب من حكمة المغناطيس في جذب الحديد ، وهو هذا الحيوان

٥٨

الحسّاس المتحرّك بالإرادة ، الّذي يغتذي ، وينمو ، ويولد ، بل الإنسان الّذي هو عالم صغير ، وما يخصّه من الأحكام الإنسانية (١).

أصل

ومن المستقرّات في مقر الفطرة الإنسانية : بطلان الدور ، المستلزم لتقدّم الشيء على نفسه ، وتأخّره عنها ، فإنّ ذلك يحكم به كلّ من له أدنى مسكة من دون تجشّم برهان.

وأمّا التسلسل في الأمور المترتبة المجتمعة الآحاد ، فلا تقضي ببطلانه أوائل العقول ، بل يحتاج فيه إلى إقامة البرهان.

ولكنّ الإنصاف أنّ البراهين المشهورة في ذلك من التطبيق ، والتضايف ، وذي الوسط ، وغيرها ، كافية لمن لا تغلبه شيطنة الوهم ، مع أنّ هذا الحكم من الأمور المقرّرة ، المفروغ عنها عند أهل العلم كافّة ، فلا مجال للتوقّف فيه ، وعليه يبنى كثير من المسائل والعلوم ، كما ستقف عليه.

أصل

ومن القواعد المقرّرة ، الكثيرة الفوائد ، قاعدة الإمكان الأشرف ، الموروثة من بعض أكابر القدماء (٢) ، وهي مبنية على ثلاث مقدّمات ، مبرهنة في محالّها ،

__________________

(١) ـ المبدأ والمعاد : ١٦٩ ، فقد ذكر القول ضمن (فصل في بيان المحدد للجهة).

(٢) ـ وهو أرسطو ، أنظر : المبدأ والمعاد : ٢٠٦.

٥٩

كما يأتي :

أحدها : أنّ البسيط الّذي لا تركيب فيه أصلا ، لا يكون مبدأ لفعلين من جهة واحدة.

والثانية : أنّ صانع العالم بسيط ، أحديّ ، ذاتا ، وصفة ، وفعلا.

والثالثة : أنّه سبحانه أعلى وأشرف من جميع الموجودات.

فإذا تقرّرت هذه المقدّمات ، فنقول في بيان القاعدة : إنّه لا يجوز أن يوجد الممكن الأخسّ إلّا وقد وجد الممكن الأشرف قبله ، وإلّا لم يبق للصانع جهة خلق الأشرف ، فإذا فرض الأشرف موجودا استدعى جهة أشرف ممّا عليه الصانع ، هذا خلف.

وإنّما تجري هذه القاعدة في الإبداعيّات ، دون المكوّنات المبنية على الحركات ، والأسباب الخارجة عن الذات ؛ لجواز حرمان الأكمل الأشرف عن الوجود في المكونات ، لممانعة أسباب سماوية ، وعلل طبيعية ، تابعة لاستعدادات أرضية ، تابعة لحركات سماوية ، إلّا أنّ الخسيس في الأشياء الكائنة وإن أمكن أن يكون متقدّما على الشريف ، زمانا ، وطبعا ، بحسب الإعداد ، كالنطفة متقدّمة على الحيوان ، والبيضة على الدجاج ، والبذر على الشجر ، لكن عند التأمّل يظهر أنّ الشريف متقدّم على الخسيس ذاتا ، بحسب الإيجاد ، وأنّ الفضل والكمال للمتقدّم بالذات في الإيجاد ، والخسّة والنقيصة للمتأخّر بالذات فيه ، وسيأتي : أنّ ما بالفعل أبدا متقدّم على ما بالقوّة ، والوجوب متقدّم على الإمكان مطلقا.

٦٠