عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

أصل

الأبعاد الجسمانية متمانعة عن التداخل ، ولا ينفذ جسم في جسم واقف له غير متنح عنه ، وذلك ممّا يعرف بأدنى تأمّل ؛ والسبب فيه إمّا مجرد المقدار ، أو بشرط المادّة ، ولا يجوز خلوها عن الشاغل ؛ لأنها على هذا التقدير لا تكون موهومة محضة ، لقبولها المساحة والتقدير ، والزيادة والنقصان ، والمساواة والمفاوتة ، مع كونها ذات وضع ، فيجري فيها برهان إثبات المادّة ، فيكون جسما ، أو مملوّة منه لا خلاء.

وصل

فإذن ظهر أن فوق كلّ بعد مادّي بعدا آخر ماديا ، إلى أن ينتهي إلى بعد هو آخر الأبعاد المادية الوضعية ؛ لوجوب التناهي فيها.

ثم إن كان فوقه بعد فهو غير محتاج إلى مادّة ، ولا قوّة انفعالية ، لغلبة أحكام الفعلية والصورية عليه ، وهو غير قابل للإشارة الحسية ، بل إنّما يقبل الإشارة الخيالية.

قال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : ويشبه أن يكون المراد بسدرة المنتهى في لسان الشريعة ، هو آخر الأبعاد الوضعية ، وبالعرش الّذي تستوي عليه الرحمة الإلهية ، هو ما يحيط بجميع المتماديات الحسية ، إحاطة غير وضعية ، فيكون ذا جهتين ، وواسطة بين العالمين ، فمن أحد الجانبين وهو الأعلى ينفعل عن الحق بالصور والتماثيل ، ومن الجانب الأسفل يتّصل بالصور الجسمية النوعية وأبعادها

٢٢١

المادية ، كالخيال الّذي فينا. انتهى كلامه ، مدّ ظلّه (١).

وسيأتي تحقيق ذلك في تضاعيف ما سنذكر إن شاء الله.

وصل

وإذا ثبت تناهي الأبعاد والامتدادات المادية ، ثبت تناهي الإشارات الوضعية ، ومنتهى الإشارات هي الجهات ، فالجهة موجودة.

وأيضا لو كانت معدومة لما أمكن اتجاه المتحرّك إليها ، ولكن المتحرّك يتجه إليها ويتوخّى بلوغها ، أو القرب منها بالحركة ، فإنّ الأجسام العنصرية يتحرك بعضها إلى جهة الفوق ، وبعضها إلى جهة التحت ، كما هو مشاهد ، وليس ذلك لأنها تطلب أمكنتها الطبيعية من حيث هي أمكنة ، بل إنّما تطلب بالحركة الجهات والأوضاع الحاصلة لها بالنسبة إلى حدود الجهات ، كما سيأتي بيانه.

وأيضا لو كانت الجهة بحسب الخارج معدومة صرفة لما امتازت جهة الفوق عن جهة التحت بحسب نفس الأمر ، ولا اليمين عن الشمال ، ولا جهة القدّام عن جهة الخلف ؛ لأنّه على هذا التقدير تكون الجهة من مخترعات الوهم ، من غير أن يكون لها منشأ في الوجود ، ومادّة بحسب الواقع ، لكنّا نعلم ضرورة حسية امتياز الجهات بعضها عن بعض امتيازا بحسب الواقع ، وفي نفس الأمر ، فهي موجودة بوجه ما.

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ٤ : ٥٧ ، تحت عنوان : تذنيب.

٢٢٢

وصل

الجهات غير متناهية ؛ لأنّ الجسم يقبل القسمة إلى لا نهاية ، فيمكن أن تخرج منه خطوط غير متناهية ذاهبا كلّ منها إلى جهة أخرى.

والمشهور منها ستّ ؛ لأنّ الأبعاد المعتبرة في الأجسام ـ وهي المتقاطعة على الزوايا القائمة ـ ثلاثة ، ولكلّ منها طرفان ، فأطرافها الستة هي الجهات الست.

والحقيقية منها اثنتان ، هما : الفوق ، والتحت ، وهما مختلفتان بالطبع والنوع ؛ وذلك لتوجّه بعض الأجسام في حركته الطبيعية إلى إحداهما ، والبعض الآخر المباين له بالطبع إلى الأخرى.

والطبيعة إذا اقتضت توجّها ورغبة من شيء إلى شيء فلا بد وأن يكون الشيئان متخالفين نوعا ، والأطراف وإن اتفقت آحادها في كونها نقطا ، أو خطوطا ، لكنها ممّا يقبل التخالف الحقيقي من جهة حيثيات مختلفة تلحقها ، فإنّ للحد الواحد ، من حيث كونه عاليا يخالف نفسه من حيث كونه سافلا ، تخالفا نوعيا راجعا إلى التخالف النوعي بين العلو والسفل ، فإنّ المضاف المشهوري ـ من حيث هو مضاف ـ حكمه حكم المضاف الحقيقي ، ومن ثمّة لا تتبدّل إحداهما بالأخرى ؛ إذ ليس ثبوتهما باعتبار إضافتهما إلى شيء خارج عنهما ، فليس فوقية الفوق باعتبار وقوعه فيما يلي رأس الإنسان ، ولا تحتية التحت باعتبار وقوعه فيما يلي قدميه ، بل الوضع الطبيعي للإنسان هو أن يكون كذلك ، فإذا انقلب هذا الوضع بالانتكاس لم يبق الإنسان على الوضع الطبيعي ، لا أن ينقلب الفوق تحتا ، وبالعكس.

٢٢٣

بخلاف الأربع الباقية ، فإنها ليست بحقيقية ، فإنّ كونها تلك الجهات ليست باعتبار نفس الحقيقة ، بل باعتبار إضافتها إلى ما هو خارج عنها ، بل كلّ منها عند التحقيق جهة فوق أو تحت ، اعتبرت معها إضافة إلى شيء تارة ، فصارت بها جهة ، وإلى مقابل ذلك الشيء أخرى ، فصارت بها جهة أخرى مقابلة للجهة الأولى ، ولهذا تتبدل تلك الإضافات، فإنّ اليمين ـ مثلا ـ بالحقيقة جهة فوق ، أو تحت ، اعتبر كونها واقعا فيما يلي أقوى جانبي الإنسان.

وكذا اليسار إنّما هو إحداهما معتبرة معها وقوعها فيما يلي أضعف الجانبين ، ولهذا ينقلب اليمين يسارا ، وبالعكس ، بانقلاب الإضافتين.

وصل

الجهات محدودة ؛ لأنها منتهى الإشارة ، ولأنه لو لم تنته جهة الفوق إلى ما هو فوق حقيقي ، لا فوق له ، لكان لكلّ فوق فوق ، وهكذا إلى لا نهاية ، فلم يكن شيء من هذه الفوقات فوقا أصلا ، لا حقيقيا ، وهو ظاهر ، ولا إضافيا ؛ لأنّه فرع الحقيقي ، فعدم تناهي امتداد جهة الفوق يوجب بطلانه ، وهكذا في جميع الجهات ، فلا بد من كلّ جهة إلى نهاية ينتهي إليها السلوك والإشارة ، وإلّا فلا سلوك ولا إشارة ، هذا خلف.

فلا بد لجهة السفل من نهاية ، هي أسفل سافلين ، ولجهة العلو من غاية ، هي أعلى علّيّين.

٢٢٤

وصل

الجهات غير منقسمة في امتداد مأخذ الحركة ؛ لأنها لو انقسمت ووصل المتحرّك إلى أقرب الجزئين ، فإما أن يسكن ، أو يستمر على حركته ، فإن سكن لزم أن يكون المقصد هو الجزء الأقرب ، ولا يكون للأبعد مدخل أصلا.

وإن تحرّك فإما أن يتحرّك عن المقصد ، أو إلى المقصد ، فإن تحرّك عن المقصد لم يكن أبعد الجزئين من الجهة ، وإن تحرك إلى المقصد لم يكن الأقرب من الجهة ، فالجهة ليست بجسم ؛ لأنّ الجسم يقبل الانقسام في سائر الامتدادات ، فهي إذن غير جوهر ؛ لبطلان ما سوى الجسم من ذوات الأوضاع الجوهرية ، فهي قائمة بأمر آخر ، جسم أو جسماني ، يحدّدها ويعيّن وضعها.

وصل

ذلك الأمر لا يجوز أن يكون خلاء ؛ لامتناعه ، كما مرّ ، ولا ملاء متشابها ، وإلّا لما كانت الفوق والتحت مختلفتين بالطبع ؛ ضرورة تشابه الحدود المفروضة في الملاء المتشابه ، وعدم تحقق الأمور المتخالفة بالذات فيه ، فهو إذن شيء مختلف خارج ممّا يتشابه ، فهو إمّا جسم واحد من حيث هو واحد ، أو لا من حيث هو واحد ، أو جسمان يحدد كلّ واحد منهما واحدة من الجهتين.

أما الجسم الواحد من حيث هو واحد فلا يمكن أن يكون محددا ؛ لأنّ كلّ امتداد فله جهتان ، هما طرفاه ، وذلك لوجوب تناهيه ، كما مرّ ، وكذلك اللتان بالطبع فإنهما أيضا طرفا امتداد ، فالمحدد يجب أن يحدد جهتين معا ، والجسم

٢٢٥

الواحد من حيث هو واحد إن حدّد ما يليه بالقرب ، فلا يمكن أن يحدد ما يقابله ؛ لأن البعد عنه ليس بمحدود.

وأمّا التحديد بالجسمين فهو أيضا باطل ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون على سبيل إحاطة أحدهما بالآخر ، أو على سبيل المباينة ، والأوّل يقتضي دخول المحاط في التحديد بالعرض ؛ لأنّ المحيط وحده كاف في تحديد امتدادين بالقرب الّذي يتحدد بإحاطته ، والبعد الّذي يتحدد بأبعد حد من محيطه وهو مركزه ، فهذا القسم يرجع إلى ما كان المحدد جسما واحدا لا من حيث هو واحد.

وأمّا القسم الآخر ، وهو أن يكون بالمباينة ، فباطل لوجهين :

أحدهما : أن كلّ واحد من الجسمين لا يتحدّد به إلّا القرب منه ، ولا يتحدّد البعد عنه ، فإذن لا تتحدد الجهتان معا بكل واحد منهما.

وقلنا : إن المحدد يجب أن يحدد الجهتين معا ؛ وذلك لأنّه لا يجوز أن يكون التحدّد بجسمين متباينين ، باعتبار القرب فقط من غير احتياج إلى اعتبار البعد ، بأن يكون الجسمان المتباينان مختلفين بالطبع ، ويتحدد بقرب كلّ منهما واحدة من الجهتين ؛ لأنّ تينك الجهتين متقابلتان ، حتّى أن أيّ بعد فرض من أحدهما كالفوق ـ مثلا ـ في كلّ جانب يمتد إلى الجهة الأخرى الّتي يقابلها ، وهي السفل ، وبالعكس.

فعلى التقدير المذكور لا يلزم أن يكون البعد عن أحد الجسمين قربا من الآخر ؛ لاحتمال وقوعه في سمت غير الامتداد الواصل بينهما ، فالبعد عن أحدهما الّذي ليس قربا من الآخر يكون جهة حقيقية مغايرة لكلّ من جهتي القرب منهما ؛ إذ كلّ جهة راجعة إلى الجهة الحقيقية ، كما مرّ ذكره ، لكن المعلوم

٢٢٦

من الجهة الحقيقية ليس إلّا الفوق والتحت.

والوجه الثاني : أن لكلّ واحد منهما جهات لا تتناهى بحسب فرض الامتدادات الخارجة منه ، ووقوع الآخر منه في جهة من تلك الجهات ، وعلى بعد معيّن منه ، دون سائر الأبعاد الممكنة ، ليس بأولى من وقوعه في جهة أخرى ، وعلى بعد آخر ممّا يمكن ، فإنّ الوقوع في كلّ جهة وعلى كلّ بعد من ذلك ممكن بحسب العقل ، وإن امتنع فلمانع مؤثر في التحديد ، وهو أيضا يجب أن يكون جسمانيا ، ذا وضع ، والكلام في وقوعه في بعض جهات هذين دون بعض ، وعلى بعد معيّن منهما ، كالكلام فيهما ، فإن علل بهذين صار دورا ، وإلّا تسلسل ، ولمّا بطل هذا القسم ثبت أن تحديد الجهة يتمّ بجسم واحد ، لا من حيث هو واحد ، ولا على أي وجه يتّفق ، بل من حيث الإحاطة وهي الحالة الموجبة لتحديدين متقابلين ، كما مرّ ، فإذن محدّد الجهات جسم واحد محيط بالأجسام ذوات الجهات.

وصل

وهذا الجسم لا يجوز أن يفارق موضعه ؛ لأنّ كلّ ما يقبل الحركة الأينية فإنّه متّجه إلى جهة ، وتارك أخرى ، وكل ما هذا شأنه فالجهات متحددة قبله ، لا به ، ولا يجوز أن يكون مؤلفا من أجسام مختلفة ، أو متشابهة ؛ لأنّ اختصاص كلّ جسم منها بأن يكون في جهة من الأشياء الداخلة فيه دون جهة يقتضي امتناع تأخّر الجهة عن أجزائه المتقدّمة عليه ، ويلزم من ذلك تقدّم الجهة على محدّدها.

وأيضا لا يخلو إمّا أن يكون لكلّ من أجزائه شكل طبيعي ، أو قسري ، فإن كان الأوّل ، والشكل الطبيعي للبسيط إنّما هو الكرة ، للزم تحقق الخلاء في فرج

٢٢٧

تلك الأجزاء ، ولاستحال أن يحصل من مجموعها سطح واحد كري ، متصل الأجزاء.

وإن كان الثاني كان كلّ منها طالبا للشكل الطبيعي عند زوال القاسر ، فإنّ القاسر لا يكون دائميا ، فيكون قابلا للحركة الأينية ، هذا خلف.

فإذن هو بسيط ، ليس له أجزاء إلّا بالفرض.

وصل

ويجب أن تكون نسب تلك الأجزاء المفروضة بعضها إلى بعض ، وجميعها إلى المركز ، وهي الّتي يلحقها الوضع بسببها متشابهة ؛ لأنها إن اختلفت فصار بعض الأجزاء أقرب إلى المركز من بعض لزم من اختصاص القريب بجهة وبعد غير جهة البعيد وبعده ، اختلاف أجزاء المحدد ، ويلزم من ذلك أيضا تقدم الجهة على محددها ، هذا خلف.

وتشابه أجزاء الشيء في الوضع هو الاستدارة ، فإذن محدّد الجهات مستدير الشكل ، وله التقدّم على سائر الأجسام ذوات الجهات من حيث إنها ذوات جهات ، تقدّما بالطبع ؛ لتوقّفها من هذه الحيثية على الجهة المحدّدة به.

وصل

ويجب أن يكون مصمتا ؛ لامتناع الخلاء ، فما لم يكن مصمتا لم يدخل في دار الوجود ، فما لم يكن مصمتا لم يحدد الجهات ، فالمحدد للجهات في الحقيقة هو مجموع الأجسام والجسمانيات بأسرها من حيث وحدتها ، وبهذا الاعتبار

٢٢٨

عبّر عنه أو عمّا يحيط به إحاطة غير وضعية بالعرش ، في قوله سبحانه : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (١) ، أي على المجموع.

كما قال الإمام الصادق عليه‌السلام ، في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) : «إنه استوى من كلّ شيء ، فليس شيء أقرب إليه من شيء» (٣).

وقال أيضا : «العرش من وجه هو جملة الخلق» (٤).

وتمام الحديث يأتي مع تتمة الكلام في العرش. ويأتي أيضا أنّه غير ذي وضع ، ولا في جهة.

وصل

ويجوز على هذا الجرم المحدد أن يتحرك بالحركة الوضعية الدورية ؛ لأنّ بعض الأوضاع ليس أولى له من بعض ، لما ثبت من بساطته ، وقد دريت أن لكلّ جوهر جسماني طبيعة ونفسا وعقلا ، فهذا الجرم كذلك ، بل هو أولى بذلك ، بل طبيعته ونفسه وعقله من جهة هو طبيعة مجموع الأجسام ، ونفس الكل ، وعقل

__________________

(١) ـ سورة الفرقان ، الآية ٥٩.

(٢) ـ سورة طه ، الآية ٥.

(٣) ـ الكافي : ١ : ١٢٨ ، ح ٧.

(٤) ـ معاني الأخبار : ٢٩ ، ح ١ ، والحديث هكذا : عن المفضل بن عمر ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العرش والكرسي ما هما؟ فقال : العرش في وجه هو جملة الخلق ، والكرسي وعاؤه ، وفي وجه آخر العرش هو العلم الّذي أطلع الله عليه أنبياءه ورسله وحججه ، والكرسي هو العلم الّذي لم يطلع الله عليه أحدا من أنبيائه ورسله وحججه عليهم‌السلام.

٢٢٩

الكل ، باعتبار جهة وحدتها ، فإنّ للكلّ وحدة ، كما يأتي بيانه إن شاء الله ، ولتكن هذه الأحكام ثابتة عندك ، ولله الحمد.

٢٣٠

في الحركة والسكون

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١)

أصل

كل ما له جهتا قوّة وفعل ، فله من حيث كونه بالقوة أن يخرج إلى الفعل بغيره ، وإلّا لم تكن القوّة قوّة.

وهذا الخروج إمّا بالتدريج ، أو دفعة ، والأوّل معنى الحركة ، ويقابله السكون تقابل العدم والملكة.

ثم الحركة لكونها صفة لا بدّ لها من قابل ، ولكونها حادثة ، بل حدوثا ، لا بدّ لها من فاعل ، ولا بدّ من أن يكونا متغايرين ؛ لاستحالة كون الشيء فاعلا وقابلا ، فعلا وقبولا تجدديين ، وكون معطي الكمال قاصرا عنه ، فالمحرّك لا يحرّك نفسه ، بل شيئا لا يكون في نفسه متحرّكا ، لتكون حركته بالقوة ، فقابل الحركة أمر بالقوة ، وفاعلها أمر بالفعل ، إمّا من هذه الجهة ، وإما من كلّ جهة ، ولا محالة منتهى جهات الفعل إلى ما هو بالفعل من كلّ وجه ؛ دفعا للدور ، والتسلسل.

كما أن جهات القوّة ترجع إلى أمر بالقوة من كلّ وجه ، إلّا كونه بالقوة ؛ دفعا لهما.

__________________

(١) ـ سورة النمل ، الآية ٨٨.

٢٣١

وصل

للحركة معنيان :

أحدهما : توسط الشيء بين المبدأ والمنتهى بحيث أي حدّ يفرض في الوسط لا يكون ذلك الشيء قبل وصوله إليه ، ولا بعده فيه ، وهو صفة واحدة شخصية ، غير متغيّرة بتبدّل حدود التوسّط ، لكن بواسطة نسبته إلى حدود المسافة الغير المتناهية بالفرض ، ممّا يقبل انقساما بغير نهاية بالفرض ، إذ له حدود بالقوة من جهة اتصال موافاة حدود المسافة ، فهو مستقرّ بحسب الذات ، غير مستقر بحسب النسبة إلى تلك الحدود ، وكما أن كلّ حد في المسافة المتصلة وكل نقطة في الخط بين طرفيه لا يكون بالفعل ، ولكن بالقوة ، فكذلك كلّ كون من هذه الأكوان لا يكون إلّا بالقوة ، فهذا المعنى من الحركة وجود بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل ، ويسمى بالحركة التوسطية.

والثاني : ما يحصل من هذا بسبب استمرار ذاته واختلاف نسبه إلى حدود المسافة ، وهو أمر متّصل منطبق على المسافة ، منقسم بانقسامها ، واحد بوحدتها ، ويسمى بالحركة القطعية. والتوسطية كأنها فاعلة للقطعية.

مثال ذلك : النقطة المنتقلة ، كرأس مخروط مماس لسطح ، يرسم بحركته وسيلانه على ذلك السطح خطا ، فقد تعرض للنقطة مماسة منتقلة ، يحصل من استمرارها على ذلك السطح خط تفرض فيه نقط متوهمة ليس شيء منها فاعلة له ، ولأجزائه ، بل متأخّرة عنه ، ففي الحركة شيء كالخط المرسوم وهو الحركة المتصلة القطعية ، وشيء كالنقطة الفاعلة للخط، وهو الحركة التوسطية ، وأشياء كالنقط المفروضة فيه الّتي لم تفعله ، بل تأخّرت عنه ، وهي الأكوان المفروضة

٢٣٢

حسب انفراض حدود المسافة ، وسنبين أن الزمان مقدار الحركة ، ففيه أيضا شيء ، كالراسم ، يقال له الآن السيال ، وشيء كالمرسوم ، يقال له الزمان المتصل ، وأشياء كالحدود والنهايات ، يقال لكلّ منها الآن بالمعنى الآخر.

وكل من الأمور الثلاثة في كلّ واحد من الأشياء الثلاثة ينطبق على نظيريه في الآخرين ، وليس الباقي مع المتحرك إلّا الواحد المستمر من كلّ منها ؛ ضرورة أنّه لا يكون مع المنتقل خط المسافة ، إذ قد خلّفه ، ولا الحركة بمعنى القطع ، فقد انقضت ، ولا الزمان المتصل ، فقد مضى.

فإذن إنّما يكون معه من القطع التوسط ، ومن المسافة النقطة ، أو ما في حكمها ، ومن الزمان الممتد ذلك الآن.

والمتحرّك من حيث إنّه متحرك حاله بعينها حال الحركة في تحقق الأمور الثلاثة فيه ، فإنّه من حيث إنّه متوسّط بين مبدأ المسافة ومنتهاها مع استمرار مبدأ لنفسه من حيث إنّه قد انتقل ؛ إذ هو بهذا الاعتبار كأنه شيء ممتد منطبق على المسافة ، ونفسه من حيث إنّه وصل إلى حدّ حدّ مبدأ لنفسه من حيث إنّه قطع المسافة إلى ذلك الحد.

وصل

فللحركة وجود ضعيف تدريجي ، بعضه سابق ، وبعضه لاحق ، وليس موجوديّتها في الخارج إلّا تحقّق حدها فيه ، وصدقها على أمر كوجود الإضافات ، وأمّا حضورها الجمعي فليس إلّا في الذهن.

والحركة بمعنى التوسط وإن كان لها إبهام بالقياس إلى الحصولات الآنية

٢٣٣

والزمانية ، الّتي يعتبرها العقل ، إلّا أنها مع ذلك لها تعيّن من جهة تعيّن الموضوع ، ووحدة المسافة ، ووحدة الزمان ، والفاعل المعين ، والمبدأ الخاص ، والمنتهى الخاص ، ويكفيها هذا القدر من التعيّن لضعف وجودها ، ونسبة تلك الحصولات إلى التوسط المستمر نسبة الجزئيات إلى الكلي ، ونسبتها إلى معنى القطع المتّصل نسبة الأجزاء والحدود إلى الكل ، وكلا المعنيين ذو حظّ من الوجود ، وإن كان ضعيفا.

أصل

الحركة لا تقع في الآن ، وإلّا يلزم أن يكون بإزائه جزء غير متجزّىء من المسافة ، لتطابقهما ، وقد دريت استحالته ، فكلّ آن يفرض في أثناء الحركة لا يتّصف الجسم فيه بالحركة ، ولا بالسكون ؛ لأنّ تقابله معها تقابل العدم والملكة ، ولاتّصال الحركة ، ولا يلزم من ذلك خلوّ الموضوع عنهما ؛ لأنّ الحركة في الآن أخصّ من اللاسكون ، وممّا يساويه ، فانتفاؤها لا يستلزم انتفاء ما يساويه ؛ لتحققه بالحركة ، لا في الآن.

والحاصل : أن الآن إن أخذ ظرفا للاتّصاف ، فالجسم يتّصف فيه بالحركة الواقعة في الزمان ، لا فيه ، وإن جعل ظرفا لوقوع الحركة ، أو السكون ، فلا يقع شيء منهما فيه ، ولا يلزم خلوّ الموضوع عن الاتّصاف بهما.

٢٣٤

أصل

الحركة : إمّا ذاتية ، أو عرضية.

والذاتية : ما تكون القوّة المحركة فيه موجودة في المتحرك ، من حيث إنّه متحرك ، وهي : إمّا إرادية ، أو طبيعية ، أو قسرية ، أو تسخيرية ؛ وذلك لأنّ القوّة المحركة إمّا غير مستفادة من خارج ، أو مستفادة منه.

وعلى الأوّل إمّا مع شعور ، أو لا معه ، وعلى الثاني إمّا على سبيل الإعداد ، أو الفاعلية.

فالأول هي الإرادية ، كحركة الأفلاك ، والحيوانات. والثاني هي الطبيعية ، كحركة العناصر ، والنباتات. والثالث هي القسرية ، كحركة الحجر المرمي إلى فوق ، والشجر إلى اليمين والشمال بالريح. والرابع هي التسخيرية ، كحركة المواد ، والأجساد ، بما هي مادّة وجسد ، لا بما هي محصّلة أنواعا بحركات ما فيها من الصور والطبائع والنفوس ، وكانفعال السافل من العالي.

والعرضية : ما يقابل الذاتية ، كحركة المحمول.

وقد يتركّب بعض هذه مع بعض ، فيختلف بالاعتبار ، كحركة النبات فإنها تسخيرية وطبيعية ، باعتبارين.

أصل

الفاعل للحركة القسرية طبيعة الجسم المقسور ، لكن مع انضمام ميل قسري إليها ، يكون القاسر علّة معدّة له ، ولو كان القاسر فاعلا للحركة القسرية ،

٢٣٥

أو للميل القسري ، لا ينتفي كلّ منهما بانتفائه ، وليس كذلك.

وأمّا الحركة الإرادية والتسخيرية ففاعلهما النفس باستخدام الطبيعة المادية الّتي أحدثتها في الجسم ، أعني القوّة المحرّكة للعضلات ، والأوتار ، والرباطات ، فإنّ تلك القوّة هي بعينها طبيعة تلك الأعضاء والآلات جعلت مطيعة للنفس بعد تحقق التخيل والإرادة والشوق ، ومعلوم بالوجدان أن الأمر المميل للجسم والصارف له من مكان إلى مكان ، أو من حال إلى حال لا يكون إلّا قوّة فعلية قائمة به ، وهي المسماة بالطبيعة ، فالطبيعة هي المميلة القريبة إياه.

وهذه الطبيعة غير الطبيعة الموجودة في عناصر البدن وأمشاجه بالعدد ، فإنّ تسخير النفس لهذه ذاتي ؛ لأنها قوّة منبعثة من ذاتها ، ولتلك قسري ، ولهذا يقع الإعياء والرعشة بسبب تعصيها عن طاعتها أحيانا.

فللنفس طبيعتان مقهورتان ، إحداهما مطاوعة لها ، والأخرى مكرهة ، فثبت أن الفاعل المباشر لجميع الحركات هي الطبيعة ، إلّا أنّه في الطبيعية طبيعة مطلقة مجبولة ، وفي القسرية طبيعة مقسورة ، وفي الإرادية والتسخيرية طبيعة مسخّرة ، والكلّ ممّا تستخدمه القوّة العقلية المفارقة ، طاعة لله تعالى ؛ إذ كما أنها تقيم كلا من الصورة والمادّة بالأخرى ، أو معها ، كذلك لها مدخل في إقامة كلّ ما يلزمهما من الاستحالات والحركات ، وغيرهما.

فالحركة بمنزلة شخص ، روحه الطبيعة ، كما أن الزمان شخص روحه الدهر ، والطبيعة بالقياس إلى النفس ، بل العقل ، كالشعاع من الشمس ، يتشخّص بتشخّصها. كذا أفاده أستاذنا ، سلّمه الله (١).

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ٩٠ ، تحت عنوان : تفريع نوري.

٢٣٦

أصل

لا بدّ في الحركة ـ في أي مقولة وقعت ـ أن يكون الموضوع فيها ثابتا ، لوجوده وتشخصه ، وتتبدل عليه أفراد تلك المقولة بحيث يكون له في كلّ آن فرض من آنات زمان تلك الحركة فرد من تلك المقولة ، يخالف الفرد الّذي يكون له في آن آخر مخالفة نوعية ، أو صنفية ، إلّا أنّه يكفي في بقاء الموضوع انحفاظ وحدته الشخصية بوحدة عقلية فاعلية نورية، كالعقل المدبّر المعتني بكلاية الشخص ، وحفظه في مراتب التطورات والتقلّبات في النشآت ، أو بوحدة إبهامية قابلية ، كوحدة المادّة الأولى ، فإنّه يكفي في تشخّصها وجود صورة ما ، وكيفية ما ، وكمّية ما ، وأين ما ، إلى غير ذلك من الأعراض ، ويجوز التبدّل له في خصوصيّات كلّ منها ، فهذه الأفراد الغير المتناهية إنّما توجد بوجود واحد اتصالي ، له حدود غير متناهية بالقوة ، بحسب حدود مفروضة فيه ، ففيه وجود أنواع بلا نهاية ، بالقوة لا بالفعل ، وبالمعنى لا بالوجود.

وهذا الوجود الواحد المتّصل مع وحدته وتشخّصه ؛ حيث إنّ الوجود إنّما يتشخّص بذاته يندرج تحت أنواع كثيرة ، وتتبدل عليه معان ذاتية ، وفصول منطقية ، حسب تبدّله في شؤونه وأطواره ، فهو مع وحدته واستمراره بعينه وجود متجدد ، ينقسم إلى سابق ولاحق ، وناقص وكامل ، وله بعينه أبعاض وأفراد ، بعضها زائل ، وبعضها حادث ، وبعضها آت ، ولكلّ من أبعاضه المتصلة حدوث في وقت معين ، وعدم في غير ذلك ، قبله وبعده.

فما أعجب حال مثل هذا الوجود ، وتجدده في كلّ حين ، كذا أفاد أستاذنا ، دام ظلّه.

٢٣٧

وصل

وليست الحركة عبارة عن تغيّر حال المقولة المعينة ، فإنّ معنى التسوّد ـ مثلا ـ ليس أن سوادا واحدا يشتد حتّى يكون الموضوع الحقيقي للحركة في السواد ، نفس السواد.

كيف ، وذات الأوّل في نفسها كانت ناقصة ، والزائدة ليست بعينها الناقصة ، وليس لأحد أن يقول ذات الأوّل باقية وينضم إليه شيء آخر ، فإنّ الّذي ينضمّ إليه إن لم يكن سوادا ، بل يكون شيئا آخر ، فما اشتدّ السواد في سواديّته ، بل حدثت فيه صفة أخرى ، وإن كان الّذي ينضمّ إليه سوادا آخر ، فيحصل سوادان في محل واحد ، بلا امتياز بينهما في الحقيقة ، أو المحل ، أو الزمان ، وهو محال.

وكذا اتحاد الاثنين منهما ، فليس ذلك إلّا بانعدام ذات الأوّل ، وحصول سواد آخر أشدّ منه.

وكذا الكلام في الحركة الكمية بعينه ، فإنّ المقدار الأوّل ينعدم بالكلية ، ويوجد مقدار آخر أزيد ، أو أنقص ، والعبرة ببقاء الأمر العقلي ، والمادّة المبهمة ، كما بيّناه.

أصل

الحركة : قد تكون في الكم ، كالنموّ والذبول ، والسمن والهزال ، والتخلخل والتكاثف.

وقد تكون في الكيف ، كتسخّن الماء وتبردّه ، وكانتقال الجسم من البياض

٢٣٨

إلى السواد على التدريج ، وتسمى استحالة.

وقد تكون في الأين ، كانتقال الجسم من أين إلى آخر تدريجا ، وتسمى نقلة.

وقد تكون في الوضع ، كحركة الكرة في مكانها ، فإنّ بها تختلف نسب أجزائها بعضها إلى بعض ، وإلى الأمور الخارجة على التدريج.

وقد تكون في الجوهر ، على ما حقّقه أستاذنا ، دام ظلّه (١) ، واختص بتحقيقه ، وقد نبّهنا عليه في بيان تجدد الطبيعة.

وممّا يدلّ عليه ـ أيضا ـ استكمالات النفس الإنسانية من لدن كونها جنينا ، بل منيا ، إلى غاية كونها عقلا بالفعل ، وما هو فوقه ، فإنّ الذهن الصافي ، والقلب السليم يحكم بأن التفاوت بين الجنين والطفل الجاهل الناقص ، وبين الشيخ الحكيم والولي ، ليس بأمور عرضية زائدة على جوهرية كلّ من هذين ، حتى لو فرض زوالها لم يتغيّر في تجوهره الحقيقي شيء.

وأيضا لو كان حصول كلّ من الصور الواردة عليه من المنوية والنباتية والحيوانية والإنسانية ، دفعية بلا تدرّج في الاشتداد والاستكمال ، بل بحسب فساد وكون ، للزم تفويض أحد الفاعلين الطبيعيين فعله إلى الآخر ، وهذا غير جائز في الأفعال الطبيعية ، بل إنّما جاز في الصناعات الاختيارية الّتي تكون بالقصد والرويّة.

وممّا يدلّ على الحركة الجوهرية ـ أيضا ـ انقلاب الصورة النوعية من المائية إلى الهوائية عند ورود الحرارة الشديدة عليها ، المضعفة للمائية قليلا قليلا

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ٩٦ ، ضمن «حكمة مشرقية».

٢٣٩

بالتدريج ، حتّى تقرب طبيعة الماء إلى طبيعة الهواء ، وانتقصت مائيّته حتّى صار هواء ؛ إذ لو لم يكن حدّ مشترك بين الماء والهواء حتّى يكون أسخن الأفراد المائية ، وأبرد الأفراد الهوائية ، لكان الانتقال للمادّة من الصورة المائية إلى الصورة الهوائية بلا جامع ، فيلزم إما تتالي الآنين، أو خلوّ المادّة عن الصور في آن واحد ، وكلاهما مستحيل.

والسر في ذلك ، ما دريت ، أن الوجود ممّا يشتد ويضعف دون الماهية ، وأن مبادىء الآثار هي وجودات الأشياء ، لا ماهياتها ، فالماء إذا اشتد في سخونته أو تضعف في برودته ، وهما صفتان ، وكل صفة عرضية لشيء ، فهي معلولة لوجود جوهري ، والوجود ما لم يتغير في قوته وضعفه لا يمكن أن يختلف أثره في القوّة والضعف ، لكن كلّ تضعّف أو اشتداد لا يوجب أن يتغيّر به حدّ الماهية في جواب «ما هو» ، إنّما التدرّج في أحدهما ممّا ينتهي إلى حيث يتغير جواب «ما هو» دفعة.

ومن هنا اشتبه الأمر على الجمهور ، فزعموا أن الانقلاب دفعيّ ، والاستحالة تدريجية ، فأنكروا الحركة في الصورة ، وأثبتوها في الكيفية.

وليس الأمر كذلك ، بل الاستحالة لا تخلو عن الكون والفساد ، إلّا أن الاستحالة محسوسة في الأكثر ، والتفاوت في الوجود والحركة في الجوهر غير محسوسين ، إلّا في الأقل ، ولا يلزم من ذلك وجود أنواع بلا نهاية بالفعل بين جوهر وجوهر ، بل هناك وجود واحد شخصي متصل ، له حدود غير متناهية بالقوة ، كما نبّهنا عليه على قياس الاشتداد الكيفي والكمّي ، من غير فرق.

٢٤٠