عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

ومنها : أنّ النفس الواحدة من النفوس الإنسانية فيها مع ما تتصوّره وتدركه من الصور بمنزلة عالم عظيم نفساني ، أعظم من هذا العالم الجسماني بما فيه ، وأن كلّ ما فيها من الأشجار والأنهار والأبنية والغرف حيّة بحياة واحدة ذاتية ، هي حياة النفس الّتي تدركها وتوجدها ، وأن إدراكها للصور هو بعينه إيجادها لها ، لا أنها أدركتها فأوجدتها ، أو أوجدتها فأدركتها ، بل أدركتها موجودة ، وأوجدتها مدركة ، بلا تقدّم وتأخّر ، ولا مغايرة ؛ إذ الفعل والإدراك هناك شيء واحد ، هذا لأهل الجنة.

وأمّا دار جهنّم فليست كذلك ؛ لأنها ليست دارا روحانية خالصة ، بل هي مكدّرة مشوبة بهذا العالم ، فكأنّها هي هذا العالم انساق إلى الآخرة بسائق القهرمان وزمام التسخير ، فالجهنّمي يريد ما لا يجده ، ويشتهي ما يضرّه ، ويفعل ما يكرهه ، ويختار ما يعذّبه ، ويهرب عمّا يصحبه ، قائلا : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) (١) ، وجميع مشتهياته عقاربه وحيّاته.

وبالجملة : حقيقة جهنّم وما فيها هي حقيقة الدنيا ومشتهياتها ، تصوّرت للنفوس الشقية بصورة مؤلمة معذّبة ، لها محرقة لأبدانها ، مذيبة للحومها وشحومها ، مبدلة لجلودها ، مشوّهة لخلقتها ، مسوّدة لوجوهها.

ومنها : أنّه ما لم تخرب الدنيا لم توجد الآخرة ، وهذا فرقان مبين ؛ إذ لو كانت الآخرة من جوهر الدنيا لم يصح أن الدنيا تخرب ؛ لأنّ الدنيا إنّما هي دنيا بالجوهر ونحو الوجود ، لا بالتخصّصات الشخصية ، والامتيازات التعيّنية ، وإلّا لكان كلّ يوم دنيا أخرى لتبدّل الأشكال والهيئات والمشخّصات ، ولكان القول بالآخرة تناسخا ، ولكان البعث عبارة عن عمارة الدنيا بعد خرابها ، وإجماع

__________________

(١) ـ سورة الزخرف ، الآية ٣٨.

٣٢١

العقلاء منعقد على أنّ الدنيا تضمحلّ وتفنى ، ولا تعود ، ولا تعمر أبدا.

ومنها : أنّ الآخرة عالم تامّ لا ينتظم مع الدنيا في سلك واحد ، ولا أحدهما من الآخر في جهة واحدة ، أو في اتّصال واحد ، زماني أو مكاني ، بل لا مكان للآخرة لا كلّها ولا أجزائها ، كما دريت سابقا.

نعم ، لها إحاطة بالدنيا إحاطة الروح بالجسم ، وإنما يراها الكمّل من الأولياء الذين انقلبت نشآتهم إلى تلك النشأة في الدنيا ، دون غيرهم ؛ إذ ليس عند غيرهم منها ومن الصور الموجودة فيها إلّا الألفاظ الموضوعة شرعا لأجلها من غير دلالة لها على خصوص معانيها ، إلّا على الأمثلة البعيدة ، كما أخبر الله سبحانه عنه بقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) ، وقوله : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

قال ابن عباس رضى الله عنه : ليس في الدنيا ممّا في الجنة إلّا الأسماء (٣).

ومنها : أن القدرة على الإيجاد في المادّة الأخروية أوسع وأكمل وأتمّ منها على الإيجاد في المادّة الدنيوية ، والتأثير فيها ؛ لأنّ الموجود في الدنيا لا يوجد في مكانين ، وإذا صارت النفس مشغولة باستماع واحد ومشاهدته ومماسّته صارت مستغرقة محجوبة عن غيره ، وأمّا الموجود في الآخرة فيتّسع اتّساعا لا ضيق فيه ، ولا منع ، حتّى لو اشتهى مشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مثلا ـ ألف شخص ، في ألف مكان ، في حالة واحدة ، لشاهدوه كما خطر ببالهم في الأمكنة

__________________

(١) ـ سورة السجدة ، الآية ١٧.

(٢) ـ سورة الواقعة ، الآية ٦١.

(٣) ـ جاء في الخبر ، عن ابن عباس : كلّما ذكر الله في القرآن ممّا في الجنة وسماه ، ليس له مثل في الدنيا ، ولكن سماه الله بالاسم الّذي يعرف. أنظر : بحار الأنوار : ٨ : ١١٢.

٣٢٢

المختلفة ، وأما الإبصار الحاصل عن شخص النبي الدنيوي فلا يكون إلّا في مكان واحد ، وأمر الآخرة أوسع وأوفى بالشهوات ، وأوفق لها.

وقد دريت أنّ كلّ ما يصدر من الفاعل لا بواسطة المادّة الجسمانية ، فحصوله في نفسه عين حصوله لفاعله ، وليس من شرط الحصول الحلول والاتّصاف ، فإنّ صور الموجودات حاصلة للباري سبحانه ، قائمة به من غير حلول ، ولا اتّصاف ، وأنّ حصول الشيء للفاعل أوكد من حصوله للقابل ، فلكل واحد من أهل السعادة في الآخرة عالم فيه ما يريد ، ومن يرغب في صحبته ينشأ في لحظة عين ، أو فلتة خاطر ، فالعوالم هناك بلا نهاية ، كلّ منها كعرض السماوات والأرض ، بلا مزاحمة شريك وسهيم ، فكلّ عالم عالم ، والله ربّ العالمين جلّ جلاله ، وله الحمد.

٣٢٣

في مبدأ الوجود ، وتوحيده سبحانه

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١)

أصل

قد اهتديت في مواضع ممّا أسلفنا من الأصول إلى آيات مبيّنات ، لوجود المبدأ ، ومبدأ الوجود عزّ اسمه ، بطرق متعدّدة :

فمنها : آية أصل الوجود ، فإنّه إن كان قائما بذاته غير متعلّق بغيره أصلا ، فهو الله المبدأ المبدىء ، وإن كان قائما بغيره ، وذلك الغير يكون وجودا أيضا ؛ إذ غير الوجود لا يتصور أن يكون مقوّما للوجود ، فننقل الكلام إليه ، وهكذا إلى أن يتسلسل ، أو يدور ، أو ينتهي إلى وجود قائم بذاته ، غير متعلّق بغيره أصلا.

ثم جميع تلك الوجودات المتسلسلة ، أو الدائرة ، في حكم وجود واحد في تقوّمها بغيرها ، وهو الله القيّوم جلّ ذكره.

ومنها : آية الإمكان والفقر ، فإنّه لو لم يوجد الواجب ـ أعني الغني بالذات ـ لم يوجد الممكن ـ أعني المستغني بالغير ـ فلم يوجد موجود أصلا ؛ لأن ذلك الغير على هذا التقدير مستغن بالغير ، فإمّا أن يتسلسل ، أو يدور ، وعلى التقديرين جاز انتفاء الكلّ بأن لا يوجد شيء منها أصلا ، فلا بدّ من مرجّح خارج

__________________

(١) ـ سورة الحديد ، الآية ٣.

٣٢٤

عنها ، يرجّح وجودها ، وهو الله الغنيّ بالذات ، (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (١).

ومنها : آية الماهيات ، فإنّ كلّ ما له ماهية غير الوجود ، فالوجود له من الغير ؛ لاستحالة كون الوجود من اللوازم للماهية ، وإلّا لكان وجودها متقدّما على وجودها ، ولكانت موجودة ، سواء فرضت موجودة ، أو معدومة ، كما هو شأن اتّصاف الماهيات بلوازمها ، فلا بدّ بالتقريب المذكور من الانتهاء إلى ما لا يكون وجوده إلّا عين ذاته ، ومقتضى ذاته ، من غير افتقار إلى الغير ، وهو الله الواحد الأحد جل اسمه.

ومنها : آية الجسم وتركّبه من المادّة والصورة ، وكون كلّ منهما ـ لتلازمهما ومعيّتهما في الوجود ـ مفتقرا إلى صاحبه ، فلهما موجد غيرهما ، لا يكون جسما ، ولا جسمانيا ، فإن كان غنيا بالذات من جميع الوجوه ، فهو الله البارىء ، وإلّا فينتهي إليه لا محالة.

ومنها : آية العقل ، والتقريب ما ذكر ، فإنّه يجب انتهاؤه إلى منتهى الحاجات ، تعالى ذكره.

ومنها : آية النفس ، فإنها لما كانت جوهرا ملكوتيا خارجا من حدّ القوّة والاستعداد إلى حدّ الكمال العقلي ـ كما يأتي بيانه مفصّلا في المقصد الثاني ـ فلا بدّ لها من مكمل عقلي ، مخرج لها من القوّة إلى الفعل ، ومن النقص إلى الكمال ، ولا بدّ أن لا يكون عقلا بالقوة ، وإلّا لكان معطي الكمال قاصرا عنه ، ولاحتاج إلى مخرج آخر ، أو ينتهي إلى عقل وعاقل بالفعل ، ثمّ إلى الله المصير.

ومنها : آية الحركة ، من جهة حدوثها وتجدّدها وافتقارها إلى فاعل حافظ

__________________

(١) ـ سورة محمّد ، الآية ٣٨.

٣٢٥

للزمان ، ومحدّد للمكان ، ومفيد لجسم يقبل حركات غير متناهية ، عن قوّة غير متناهية إلّا ما شاء الله ؛ لينتظم به وجود كلّ حادث ، ولا بدّ ـ أيضا ـ أن يكون غاية هذه الحركات والأشواق أمرا عقليا ، لا يقع تحت تغيّر ونقصان ، كما سنبيّنه فيما بعد إن شاء الله ، فالحركة دلّت على وجود فاعل ، وغاية يكون مقدّسا عن الحدوث والأفول ، والعدم والنقصان ، والفقر والإمكان ، وهو الله الحق جلّ كبرياؤه.

وصل

أشرف الدلائل وأوثقها وأسرعها في الوصول ، وأغناها عن ملاحظة الأغيار ، هو طريقة الصديقين ، الذين يستشهدون بالحق على كلّ شيء ، لا بغيره عليه ، فيشاهدون جميع الموجودات في الحضرة الإلهية ، ويعرفونها في أسمائه وصفاته ، فإنّه ما من شيء إلّا وله أصل في عالم الأسماء الإلهية ، وله وجه إلى الحق سبحانه ؛ لما دريت أن كلّ ممكن فهو زوج تركيبي ، ولذلك لما سئل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله : بم عرفت الله؟ فقال : «بالله عرفت الأشياء».

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اعرفوا الله بالله» (١) ، يعني انظروا في الأشياء إلى وجوهها الّتي إلى الله سبحانه لكي تعرفوا أولا أن لها ربّا صانعا ، ثمّ اطلبوا حينئذ معرفته بآثاره فيها ، من حيث تدبيره لها ، وقيّوميّته إياها ، وتسخيره لها ، وإحاطته بها ، وقهره عليها ، حتّى تعرفوا الله بهذه الصفات القائمة به ، ثمّ تعرفوا

__________________

(١) ـ متشابه القرآن : ١ : ٤٦ ؛ وفي الكافي : ١ : ٨٥ ، ح ٢ سئل أمير المؤمنين بم عرفت ربك؟ قال : بما عرّفني نفسه.

٣٢٦

الأشياء بقيامها به.

ولا تنظروا إلى وجوه الأشياء الّتي إلى أنفسها ، أعني من حيث إنها أشياء ، لها ماهيات لا يمكن أن توجد بذاتها ، بل مفتقرة إلى موجد يوجدها ، فإنكم إذا نظرتم إليها من هذه الجهة تكونوا قد عرفتم الله بالأشياء ، يعني أتيتموه بها ، وأقررتم بوجوده فحسب ، فلن تعرفوه ـ إذن ـ حق المعرفة ، فإنّ معرفة كون الشيء مفتقرا إليه في وجود الأشياء ليست بمعرفة له في الحقيقة ، على أن ذلك غير محتاج إليه ؛ لأنها فطرية ، بخلاف النظر الأوّل ، فإنكم تنظرون في الأشياء أولا إلى الله عزوجل وآثاره من حيث هي آثاره ، ثمّ إلى الأشياء وافتقارها في أنفسها.

فإنّا إذا عزمنا على أمر ـ مثلا ـ وسعينا في إمضائه فلم يكن علمنا أن في الوجود شيئا غير مرئي الذات يمنعنا عن ذلك ، وعلمنا أنّه غالب على أمره ، وأنّه مسخّر للأشياء على حسب مشيئته ، ومدبّر لها على حسب إرادته ، وأنّه منزّه عن صفات أمثالنا ، وهذه صفات بها يعرف صاحبها بعض المعرفة ، وفي هذه الطريقة السالك ، والمسلك ، والمسلوك منه ، والمسلوك إليه ، كلّه واحد ، وهو البرهان على ذاته تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (١).

وبعد هذه الطريقة في الإحكام والشرف ، طريقة معرفة النفس ، كما أشير إليه بقولهعليه‌السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» (٢) ، «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه» (٣) ، وفي هذه الطريقة يكون المسافر عين الطريق ، فيمتاز عن سائر الطرق

__________________

(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ١٨.

(٢) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٠٢ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) ـ جامع الأخبار : ٤.

٣٢٧

بهذا الوجه ، وبعدها سائر الطرق الآفاقية ، على تفاوت مراتبها.

وإلى الثلاث الإشارة بقوله عزوجل : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (١).

أصل

وإذ قد دريت في الأصول عدم موجودية ما سوى الموجود بالذات ، استغنيت عن نفي زيادة الوجود على ذاته تعالى.

ولكنا نقول ـ مع التنزّل ـ : لو كان حقيقته تعالى غير الوجود لافتقر إليه في موجوديته ، تعالى عن ذلك ، أو نقول : لو كان وجوده زائدا عليه لم يكن في حدّ ذاته ـ مع قطع النظر عن العوارض ـ موجودا ، وكل ما كان كذلك فهو فقير محتاج ؛ لأنّ اتّصافه بالوجود لا يجوز أن يكون بسبب ذاته ؛ لاستلزامه تقدّم الشيء بالوجود على نفسه ، فتعيّن أن يكون بسبب غيره ، فيكون مفتقرا إلى ذلك الغير ، هذا خلف.

بل نقول : إنه سبحانه لا ماهية له سوى الوجود البحت ، سواء كانت متأصّلة ، أو غير متأصّلة ، وإلّا لكان العقل أن يحلّله إلى ماهية ووجود ، ويحكم عليه بعدم الوجود في مرتبة الماهية من حيث هي هي ، مع أنها مرتبة من مراتب نفس الأمر ، فلا يكون وجودا تاما متأكّدا غنيا من جميع الوجوه ، هذا خلف.

وأيضا : كلّ ماهية فنفس تصورها لا تأبى أن تكون لها جزئيات ، وكلّما وقع من جزئيات كلّيّ بقي الإمكان بعد ، فلو كان له سبحانه ماهية فلا يجوز أن

__________________

(١) ـ سورة فصلت ، الآية ٥٣.

٣٢٨

تكون تلك الماهية ممتنعة لذاتها ، وإلّا لم يوجد هذا الفرد منها. ولا ممكنة ، وإلّا لم يكن هذا واجبا لذاته. ولا واجبة ، وإلّا لم تنعدم الأفراد الأخر ، وإن امتنعت بسبب غير نفس الماهية فتكون ممكنة في نفسها ، وقد فرضت واجبة ، هذا خلف.

كذا أفاد بعض العلماء (١).

أصل

وإذ ليس له سبحانه ماهية سوى الوجود البحت ، فلا يمكن تصوّره بوجه من الوجوه ، وإلّا لكان الوجود الخارجي العيني ـ من حيث هو وجود عيني ـ وجودا ذهنيا ، هذا خلف. كذا أفاد أستاذنا ـ دام ظلّه ـ.

وإذا استحال تصوّره استحال أن يكون له أجزاء ذهنية ، وإذ لا يتقدّم عليه شيء فليس له أجزاء عينية ؛ لتقدّم الجزء على الكلّ بالضرورة ، وكيف يكون له جزء وكلّ ذي جزء فإنّما هو بجزئه يتقوّم ، وبتحقّقه يتحقق ، وإليه يفتقر ، وهو سبحانه غني عن العالمين.

وأيضا هو سبحانه عين الوجود ، وقد بيّنا أن الوجود لا جزء له ، لا عينا ، ولا ذهنا.

وأيضا : إمّا أن يكون شيء من أجزائه عين الوجود الأتم ، فيكون الغني بالذات ذلك الجزء ، والجزء الآخر خارجا عنه ، ولا يكون الكلّ ـ حينئذ ـ عين الوجود الأتم ؛ ضرورة تغاير الكلّ والجزء ، أو لا يكون شيء منها ذلك ، فيجوز

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ١ : ١٠٤.

٣٢٩

للعقل تحليل كلّ منها إلى شيء ووجود ، ويلزم أن يكون الكلّ كذلك ، مع أنا قد بيّنا بطلانه.

وأيضا : إن كان شيء من أجزائه غنيا ، أو فقيرا ، مستندا إلى غني آخر ، لزم تعدّد الغني بالذات ، وسنبطله ، وإن كانت كلّها فقراء مستندة إليه ، فلا يكون شيء منها موجودا في مرتبة ذاته ، فإما أن يستغني عنها في تلك المرتبة ، ويتم بدونها ، فلا يكون شيء منها جزءا ، أو لا ، فلا يكون غنيا بالذات ، بل ولا موجودا في تلك المرتبة ، تعالى عنه.

أو نقول : مع الاستناد إليه ، يلزم تقدّم الشيء على نفسه ؛ ضرورة تغاير الكلّ للأجزاء ، هذا خلف.

وهذا البرهان ممّا ألهمت به. ولله الحمد.

وإذ ليس له سبحانه جهة فقر أصلا فلا أغنى منه ، ولا أتمّ ، ولا أشدّ ، ولا أقدم ، بل هو غير متناه في الفناء والتمامية والشدّة والتقدّم ؛ إذ لو كان متناهيا في شيء من ذلك لكانت تتصور مرتبة فوقه يكون فاقدا لها ، مفتقرا إليها ، هذا خلف. فلا يحدّه حدّ ، ولا يضبطه رسم (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً* وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) (١).

__________________

(١) ـ سورة طه ، الآية ١١٠ و ١١١.

٣٣٠

أصل

وإذ ثبت أن حقيقته تعالى هو الوجود البحت الغير المتناهي ، ثبت أنّه تعالى واحد ، لا شريك له ؛ إذ لا تعدّد في صرف شيء ، ونعم ما قيل : صرف الوجود الّذي لا أتمّ منه ، كلّما فرضته ثانيا فإذا نظرت فهو هو ؛ إذ لا ميز في صرف شيء ، فإذن شهد الله أنّه لا إله إلّا هو.

وأيضا لو اقتضى ذاته من حيث هو ، ولأنّه غني بذاته أن يكون هذا بعينه فلا يصحّ أن يكون غيره ، وإن كان بسبب ما صار هذا فيكون هذا فقيرا ، هذا خلف.

فإذن لا إله إلّا هو.

وأيضا لو تعدّد فلا يمتاز أحدهما عن الآخر بنفس ما اشتركا فيه ، ولا بلازمه ، وهو ظاهر ، ولا بعارض غريب ؛ إذ ليس وراء هما مخصّص ، وإن خصّص أحدهما نفسه وصاحبه فيكونان قبل التخصّص متعيّنين لا بالمخصّص ، هذا خلف. فلم يكن له كفوا أحد.

وأيضا إمّا أن تقتضي ذاته الوحدة ، فلا يكون إلّا واحدا ، أو التعدد ، فلا يوجد في واحد ، وإذ لا واحد فلا متعدّد ، هذا خلف ، أو لا ذا ولا ذاك فتتساوى نسبة مراتب الأعداد إليه ، فالتعيّن إمّا لمرجّح ، فيفتقر إليه ، أو لا لمرجّح ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، فلا ندّ له.

ويلزم من الشق الثاني ـ أيضا ـ أن لا يوجد بمحوضته وصرافته ، وأن يتقدّم عليه شيء ما ، فإنّ كلّ عدد يتأخّر عما دونه بالطبع ، وأن يفتقر إلى الأفراد

٣٣١

وإلى الأمور الزائدة على الذات. ويلزم من الأوّل عدم موجوديته في مرتبة الذات ، ومن الثاني والثالث ـ مع الافتقار ـ أن لا يكون غير متناه في القدم. ومن الرابع ـ مع ذينك ـ أن لا يكون التعدّد مقتضى الذات ، من حيث هو هو ، وهو خرق الفرض.

وأيضا لو تعدّد فإما أن يفتقر كلّ منهما أو أحدهما إلى الآخر ، فلا يكون غنيا مطلقا ، ولا وجودا تاما ، أو يستغني عنه فيكون المستغنى عنه عادما لكمال ما هو فقر كلّ شيء إليه ، ومفتقر في تحصيله إلى غيره ، ولزم المحذور أيضا ف (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) (١).

وأيضا لو كان بينهما علاقة ذاتية موجبة لتعلّق أحدهما بالآخر لزم فقرهما ، أو فقر أحدهما ، وإلّا فيكون لكلّ منهما كمال وجودي ليس للآخر ، ولا مستفادا منه ، فيتركّب كلّ منهما من حصول شيء وفقدان شيء آخر ، فلا يكون ذاته وجودا خالصا تاما ، ولا واحدا حقيقيا ، هذا خلف. فليس معه من إله.

وهذا البرهان لأستاذنا ـ سلّمه الله ـ.

وأيضا يلزم أن يكون أثر أحدهما بعينه ممكنا أن يكون أثر الآخر ؛ لاتفاقهما في الحقيقة ، أعني الوجود الأتم ، فاستناده إلى أحدهما دون الآخر يوجب ترجّحا بلا مرجّح ، وصدوره عنهما جميعا يوجب صدور أمر واحد بالشخص عن متعدّد ، وكلاهما محال ، فإذن لو كان في السماوات والأرض آلهة إلّا الله لفسدتا ، فإنّ عدم الأثر فساد.

__________________

(١) ـ سورة النحل ، الآية ٥١.

٣٣٢

أصل

وإذ هو واحد فلا شريك له في الإيجاد ؛ لاستناد الكلّ إليه تعالى ، ولا ينافي ذلك إثبات الوسائط والروابط من الملائكة العمّالة بإذنه تعالى ؛ إذ لا تأثير لها أصلا في الإيجاد ، بل في الإعداد وتكثير الخيرات ، فإنّ من الفقراء ما فقره اللازم لماهيته كاف في صدوره عنه سبحانه من غير شرط ، ومنها ما لا يكفي فقره ، بل لا بدّ من حدوث أمر قبله حتّى يستعدّ به للصدور عنه تعالى ، فإذن له الخلق والأمر.

وأيضا لا يجوز أن يفيض الوجود إلّا ما هو بريء من جميع جهات الفقر ، وإلّا لكان للعدم شركة في إفادة الوجود ، وليس ما هذا شأنه سوى الله ، أو ما أغناه الله بحيث استهلك غناؤه في غنائه تعالى ، فالكلّ من عند الله تعالى.

سؤال : لم لا يجوز أن تكون إفاضته الوجود من جهة غنائه فحسب؟

جواب : لأنّ المفيض بالذات على هذا التقدير إنّما تكون تلك الجهة ، وهي له مستفادة من الغير ؛ لما دريت أن كلّ فقير بالذات من جهة ما فهو فقير بالذات من جميع الجهات ، فالمفيض بالحقيقة ذلك الغير دونه ، وتلك الجهة إنّما تكون مستهلكة في غناء ذلك الغير ، لا يكون أمرا وراءه ، بل شأنا من شؤونه إن كان ، على أنها ليست تمام ما فرضناه مفيضا للوجود ، فلا يكون ما فرضناه مفيضا مفيضا ، بل غيره ، هذا خلف.

وسيأتي لهذا مزيد بيان وبرهان ، من كلام أستاذنا ـ دام ظلّه ـ.

٣٣٣

تمثيل : نسبته تعالى إلى ما سواه (لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) (١) نسبة نور الشمس لو كان قائما بذاته إلى الأجسام المستنيرة به ، المظلمة بحسب ذواتها ، فإنّه بذاته منير ، وبسببه تستنير تلك الأجسام ، فإذا أشرقت الشمس على موضع وأنارته ، ثمّ حصل من ذلك النور نور آخر ، فلا جرم يحكم بأنّ النور الثاني من الشمس ، ويستند إليه ، فكذلك حال وجودات الأشياء بالنسبة إلى الله تعالى ، فالله غالب على أمره ، وهو القاهر فوق عباده ، ليس شأن ليس فيه شأنه.

وصل

وكما أن ائتلاف أعضاء الشخص الواحد الإنساني منتظمة في رباط واحد ، منتفعة بعضها عن بعض مع اختلافها وامتياز بعضها عن بعض ، يدلّ على أن مدبّرها وممسكها عن الانحلال قوّة واحدة ، ومبدأ واحد ، فكذلك ارتباط الموجودات بعضها ببعض ، على الوصف الحقيقي والنظم الحكمي ، دليل على أن مبدعها ومدبّرها ، وممسك رباطها عن أن ينقصم ، واحد حقيقي ، يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، إذ لو كان معه من إله لتميز صنع بعضهم عن بعض ، فينقطع الارتباط ويختل النظام (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢).

سئل مولانا الصادق عليه‌السلام : ما الدليل على أن الله واحد؟ قال : «اتصال التدبير ، وتمام الصنع ، كما قال عزوجل : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ

__________________

(١) ـ سورة الروم ، الآية ٢٧.

(٢) ـ سورة المؤمنون ، الآية ٩١.

٣٣٤

لَفَسَدَتا) (١)» (٢).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصاياه لابنه الحسن عليه‌السلام : «واعلم ـ يا بني ـ أنّه لو كان لربك شريك لأتتك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته ، ولكنه إله واحد ، كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحد ، ولا يزول أبدا» (٣).

وصل

كل ما سمعت في بيان التوحيد كان إشارة إلى التوحيد الألوهي ، وهو توحيد الأنبياء صلوات الله عليهم ، وتوحيد الظاهر ، وعليه نبّه قول الله سبحانه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (٤).

وقول نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» (٥).

والشرك المقابل لهذا التوحيد هو الشرك الجليّ ، وإليه الإشارة بقول الله سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (٦).

وهاهنا توحيد آخر أعلى وأجلّ وأشرف وأكمل ، وهو التوحيد الوجودي ،

__________________

(١) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٢٢.

(٢) ـ كتاب التوحيد : ٢٥٠ ، ح ٢.

(٣) ـ نهج البلاغة : ٣٩٤ ، من وصية له عليه‌السلام لابنه الحسن عليه‌السلام ، رقم ٣١.

(٤) ـ سورة آل عمران ، الآية ٦٤.

(٥) ـ تفسير القمّي : ١ : ١٧١.

(٦) ـ سورة الفرقان ، الآية ٣.

٣٣٥

وهو توحيد الأولياء عليهم‌السلام ، وتوحيد الباطن ، وعليه نبّه قوله سبحانه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» (٢).

والشرك المقابل لهذا التوحيد ، هو الشرك الخفي ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٣) ، وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دبيب الشرك في أمّتي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصمّاء (٤) في الليلة الظلماء» (٥).

وقد بيّنوا هذا التوحيد ببيانات وعبارات ، ولكن ما اتّفق أيضا لأحد كما اتّفق لأستاذنا ـ أدام الله أيام بركاته ـ و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (٦) ، وها نحن ذاكرون برهانه وبيانه ـ دام ظلّه ـ فاستمع :

__________________

(١) ـ سورة القصص ، الآية ٨٨.

(٢) ـ سنن الترمذي : ٥ : ٧٧ ، ضمن الحديث ٣٣٥٢ ، وفيه : لو أنكم دليتم.

(٣) ـ سورة يوسف ، الآية ١٠٦.

(٤) ـ عبارة «على الصخرة الصمّاء» لم ترد في المصدر.

(٥) ـ عوالي اللئالي : ٢ : ٧٤ ؛ وقد ورد مضمون هذا الحديث في مصادر أخرى ، فراجع.

(٦) ـ سورة المائدة ، الآية ٥٤ ؛ وسورة الحديد ، الآية ٢١ ؛ وسورة الجمعة ، الآية ٤.

٣٣٦

وصل

قد دريت أن الإيجاد هو إبداع هوية الشيء وذاته الّتي هو نحو وجوده الخاص ، فكلّ ما هو مفتقر إلى موجد فهو في ذاته متعلّق ومرتبط إليه ، فيجب أن تكون ذاته بما هي ذاته عين معنى التعلّق والارتباط ؛ إذ لو كانت حقيقة غير التعلّق والارتباط بالغير ، أو يكون التعلّق بموجده صفة زائدة عليه ، وكل صفة زائدة على الذات فوجودها بعد وجود الذات ؛ لأنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، فلا يكون ما فرضناه مفتقرا مفتقرا ، بل غيره ، فيكون ذلك الغير مرتبطا إليه ، ويكون هذا المفروض مستقلّ الحقيقة ، مستغني الهوية عن السبب الفاعلي ، وهو خرق الفرض.

فإذا ثبت أن كلّ فاعل ـ بما هو فاعل ـ فاعل بذاته ، وكل مفعول ـ بما هو مفعول ـ مفعول بذاته ، وثبت أيضا أن ذات كلّ منهما عين وجوده ؛ إذ الماهيات أمور اعتبارية فالمسمى بالمفعول ليس بالحقيقة هوية مباينة لهوية فاعله المفيضة إياه ، منفصلة عنها ، حتّى تكون هناك هويّتان مستقلّتان ، إحداهما مفيضة ، والأخرى مستفاضة ، أي موصوفة بهذه الصفة ، وإلّا لم تكن ذاته بذاته مفاضة ، فانفسخ ما أصّلناه من كون الفاعل فاعلا بذاته ، والمفعول مفعولا بذاته ، فإذن المجعول بالجعل البسيط الوجودي لا حقيقة له متأصّلة سوى كونه مضافا إلى فاعله بنفسه ، ولا معنى له منفردا غير كونه متعلّقا به ، وتابعا له ، وما يجري مجراهما.

كما أن الفاعل كونه متبوعا ومفيضا عين ذاته ، وإذا تحقق هذا وقد ثبت تناهي الوجودات إلى حقيقة واحدة ظهر أنّ لجميع الوجودات أصلا واحدا ذاته

٣٣٧

بذاته فيّاض الموجودات ، وبحقيقته محقّق للحقائق ، وبسطوع نوره منوّر للسماوات والأرض ، فهو الحقيقة ، والباقي شؤونه ، وهو الذات ، وغيره أسماؤه ونعوته ، وهو الأصل ، وما سواه أطواره وفروعه ، (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١).

ولنبيّن ذلك ببيان آخر ، وإن كانت هذه المعاني لا تدخل تحت البيان ، ولا قوّة إلّا بالله.

وصل

قد دريت في الأصول أن وحدة المعقولات ليست كوحدة المحسوسات ، وحدة عددية ، بل هي وحدة حقيقية جمعية ، لا تنافيها الكثرة من وجه ؛ لأنها منزهة عن الحصر والتقيّد في مدلول الواحدية والوحدة ، فما ظنّك بوحدة مبدأ الكلّ الّتي هي فاعل الوحدات والكثرات جميعا ، فهي أولى بالتنزّه عما يفهمه الجمهور من مفهومي الوحدة والكثرة ، سيّما وتلك الوحدة عين ذاته تعالى ، فلا يجوز أن يتوقّف تعقّلها على تعقّل الكثرة ، بل نسبة كلّ واحدة من الوحدة والكثرة إليها من حيث هي كذلك على السواء ، كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : «كل مسمّى بالوحدة غيره قليل» (٢) ، يعني : أنّه واحد كثير ، لقوله أيضا : «الأحد لا بتأويل العدد» (٣).

__________________

(١) ـ سورة القصص ، الآية ٨٨.

(٢) ـ نهج البلاغة : ٩٦ ، خطبة رقم «٦٥».

(٣) ـ ورد هذا القول هكذا : «أحد لا بتأويل عدد». أنظر : تحف العقول : ٦٣ ، ضمن خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام في إخلاص التوحيد.

٣٣٨

فهو سبحانه واحد من كلّ وجه بهذا التقرير ؛ إذ هو الّذي ليس معه إلّا هو ، ومن هنا قيل : هو هو في أنا وأنت وهو ، فهو هو وحده لا إله إلّا هو ، وفي أسمائه سبحانه ، يا هو ، يا من هو ، يا من لا هو إلّا هو.

قال بعض العلماء : المتفرّد بالوجود هو الله سبحانه ؛ إذ ليس موجود معه سواه ، فإنّ ما سواه أثر من آثار قدرته ، لا قوام له بذاته ، بل هو قائم به ، فلم يكن موجودا معه ؛ لأنّ المعيّة توجب المساواة في الرتبة ، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال ، بل الكمال لمن لا نظير له في رتبته ، وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصا في الشمس ، بل هو من جملة كمالها ، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة. فكذلك وجود كلّ ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة ، فيكون تابعا.

فإذن معنى الربوبية التفرّد بالوجود ، وهو كمال. انتهى كلامه (١).

ونزيدك بيانا ممّا ألهمت به ، فاستمع ، وعه :

وصل

قد بيّنا وجوب انتهاء كلّ جهة من جهات الفقر إلى غنيّ بالذات من تلك الجهة ، وبيّنا أن الغني بالذات واحد ، وقد ثبت أن الاختلاف النوعي في الوجودات لا بدّ وأن يكون مستندا إلى اختلاف جهات في الفاعل ، ودريت أن المستغني بالغير إنّما يكون من سنخ موجده المغني له ، ليس له هوية ووجود غير هويّته ووجوده.

__________________

(١) ـ إحياء علوم الدين : ١٠ : ٨٩ ، مع بعض الاختلافات اليسيرة.

٣٣٩

فظهر من هذه المقدمات أن للغني بالذات بإزاء كلّ نوع من أنواع الموجودات جهة هي مبدأ أفراد ذلك النوع ، متحدة معها نحوا من الاتحاد ، بل هي عين كلّ واحد منها ، فإنّ وحدتها ليست عددية من جنس وحدات الأشياء حتى يحصل من تكرّرها الأعداد ، كما عرفت ، والاتحاد فرع الاثنينية.

وقد دريت أن ليس للمفيض والمستفيض هويتان ، وإطلاق مثل هذه الألفاظ من ضيق العبارة ، فإذن تلك الأفراد من حيث وجوداتها واستغنائها بتلك الجهة ليست أمورا وراء تلك الجهة ، وأمّا من حيث ذواتها فهي معدومات صرفة.

وتلك الجهات هي أسماء الله الحسنى ، وسيأتي بيانها ، وأنها على وجه لا يوجب تكثّرها تكثّرا في الذات الأحدية بوجه من الوجوه أصلا ، بل إنها ليست لها وجودات وراء الذات ، وإلّا لزم تعدّد الغني بالذات ، إن كانت أغنياء ، والتسلسل والانتهاء إلى جهات أخرى متكثرة في الذات إن كانت فقراء ، وكلها محالات.

فإذن هي نفس الذات ، مع تعيّن ما ، فهو سبحانه مع وحدته الحقّة وبساطته الحقيقية من كلّ وجه ، كلّ الأشياء ، وليس هو شيئا من الأشياء ؛ لأنّ وحدته وحدة حقيقية ، لا مكافىء لها في الوجود ، ولهذا كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ، ولو قالوا : ثالث اثنين لم يكونوا كفّارا إذ (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) ، فهو رابع الثلاثة ، وسادس الخمسة ، (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) (١) ، فهو بكلّ مكان ، وفي كلّ حين وأوان ، ومع كلّ إنس وجان ، «مع كلّ شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا بمزايلة» (٢) ، وهو معكم أينما كنتم.

__________________

(١) ـ سورة المجادلة ، الآية ٧.

(٢) ـ نهج البلاغة : ٣٩ ، الخطبة رقم «١».

٣٤٠