عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

غير مرتبة وجوده ووعاء تحقّقه ، فالشيء يستحيل أن يكون له وجود إلّا في مرتبة وجوده وظرف فعليته ، فإنّ لكلّ شيء نحوا خاصا من الوجود ، ومرتبة متعيّنة من الكون ، مع توابعه ولوازمه من الصفات والأزمنة والأمكنة اللائقة به يقتضيه ، له أسبابه السابقة ، وشرائطه المتقدّمة المنبعثة عن وجود المبدأ الأوّل ، جلّ كبرياؤه ، ولم يتصور له طور آخر من الكون غير ما هو الواقع حتّى يطرأ عليه العدم ، ويرفعه عن ساهرة الأعيان ، أو يقع العدم بدلا عنه في مقامه المفروض له.

وصل

ومن هنا يظهر أنّ المعدوم لا يجوز أن يعاد بعينه ؛ لأنّ الهوية الشخصية المستأنفة إذا كانت بعينها هي الهوية المبتدأة على ما هو المفروض ، فكان الوجود أيضا واحدا ، فإنّ وحدة الهوية عين وحدة الوجود ، وقد فرض متعددا ، هذا خلف.

على أنّه يلزم أن تكون حيثية الابتداء عين حيثية الاستئناف ، مع كونهما متنافيين ، وأن يتخلل العدم بين الشيء ونفسه ، فيكون هو قبل نفسه ، قبلية بالزمان ؛ لاتحاد الهوية والوجود ، وهو بحذاء الدور الّذي هو تقدّم الشيء على نفسه بالذات.

وأمّا إعادة الإنسان بعد موته فهو بمعنى إنشائه في نشأة أخرى ، كما قال الله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ* عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا

٨١

تَعْلَمُونَ) (١) ، على أنّ الإنسان لا يعدم بالموت ، بل ينتقل من دار إلى دار ، كما يأتي تحقيقه في محلّه.

__________________

(١) ـ سورة الواقعة ، الآية ٦٠ و ٦١.

٨٢

في العلم والجهل

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١)

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

أصل

العلم : هو حصول صورة الشيء للعالم ، وظهوره لديه مجرّدا عما يلابسه.

والجهل : ما يقابله.

وهما يرجعان إلى الوجود والعدم ؛ وذلك لأنّ من علم شيئا ، فإن كانت صورة المعلوم عين ذاته ، فيعلمها بذاته ، وذاته عبارة عن وجوده الّذي لا ينفكّ عنه فيعلمها دائما بوجوده ، فوجوده العالم ، ووجوده المعلوم ، ووجوده العلم ، وذلك كعلم الله سبحانه بذاته ، وعلمنا بذواتنا.

وكذلك إذا كانت صورة المعلوم داخلة في ذاته ، بأن تكون مرتبة من مراتبه النازلة ، كعلم الله سبحانه بما سواه ، وعلمنا بقوانا وإن كانت خارجة عن ذاته ، فلا بدّ أن تكون فيه قوّة هيولانية قابلة لأن تتصور بتلك الصورة ، حتّى يمكن له إدراكها.

__________________

(١) ـ سورة فاطر ، الآية ١٩ ؛ وسورة غافر ، الآية ٥٨.

(٢) ـ سورة الزمر ، الآية ٩.

٨٣

ثم إنّ تلك الصورة لا يجوز أن تفيض عليه من ذاته بالاستقلال ؛ لأنها صورة كمالية لذاتها الّتي هي ناقصة من دونها ، فلا محالة تفيض عليه ممّا فوقه ممّا هو بالفعل في إدراكها ، ولكن بتوسط استعداد منه ومرور عليه ، وهذا كإدراكنا لما سوى ذواتنا ، وما أحاطت به ذواتنا من المحسوسات والمتخيلات والموهومات والمعقولات ، فإنّ صورة هذه كلها إنّما تفيض على أنفسنا من الجوهر العقلي الّذي هو ربّ نوعنا ، ومقيم صورنا بإذن الله ، واستعداد منا ، ورجوع إلى ذلك الجوهر العقلي ، واتصال به ، كما يأتي بيانه في محله.

وإنما شرطنا فيه القوّة الهيولانية القابلة للتصور بتلك الصورة في إدراكها ؛ لأن العلم بالأمر الخارج عن ذات العالم هو كالعلم بذات العالم ، وبما في ذاته ، فلا يتحقق إلّا بالاتحاد بالمعلوم ، والاستكمال به ، بأن يكون العالم في نفسه ناقصا من جهة هذا العلم ، فيصير تاما بالمعلوم ، فتكون نسبته إليه نسبة القوّة إلى الفعل ، ونسبة النقص إلى الكمال ، فكأنه يرتقي من وجود إلى وجود أعلى منه ، وهذا أيضا من الأسرار والغوامض الّتي لا يمسّها إلّا المطهّرون. وقد كان رأي جماعة من المتقدّمين.

وممن برهن عليه من حكماء الإسلام ثقتهم ورئيسهم ، أفضل الدين القاساني رحمه‌الله (١) ، فإنّه استدلّ عليه بأن الإدراك لا بدّ فيه من نيل المدرك لذات

__________________

(١) ـ وهو : أفضل الدين بابا محمد القاشاني (ت ٦٧٢ ه‍) ، المعروف ب «بابا أفضل المرقي» ؛ لأنّه دفن ب «مرق» من قرى كاشان. الصوفي ، الشهير بالكاشاني ، كان معاصرا لخواجه نصير الدين الطوسي ، بل قيل : إنّه كان خال المحقّق الطوسي ، وقد مدحه الطوسي برباعية مشهورة. كان عارفا ، متصوّفا ، وله تصانيف كثيرة ، وله رسالات فارسية ، عرفانية ، وأشعار كثيرة متفرّقة ، وطبعت جامعة طهران مجموعة رسائله في مجلّدين ، بتصحيح الدكتور مهدوي ، ومجتبى مينوى أخيرا.

(أنظر : الذريعة : ٢ : ٣٦٤ ، وج ٩ : ١١٦ ، وهدية العارفين : ٢ : ١٢٨).

٨٤

المدرك ، وذلك إمّا بخروجه من ذاته إلى أن يصل إليه ، أو بإدخاله إياه في ذاته ، وخروج الشيء من ذاته محال ، وكذا دخول الشيء في ذات آخر ، إلّا أن يتّحد معه ويتصور بصورته.

وقال أستاذنا ـ مدّ ظلّه ـ : لو لم تكن ذات العالم مصوّرة بصورة المعلوم فبأيّ شيء يناله؟ أبذاته العارية من تلك الصورة ينال تلك الصورة؟ هذا محال ، وهل هو إلّا مثل أن يبصر الأعمى شيئا ، كيف (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١).

أو ينال تلك الصورة بتلك الصورة ، فما لم يدرك تلك الصورة أولا كيف يدرك بها؟ وإلّا فتكون تلك الصورة عالمة ومعلومة ، والمفروض خلافه.

أو ينالها بصورة أخرى ، فننقل الكلام إلى تلك الأخرى جذعا ، ويتسلسل.

ولا يجوز أن يكون إدراكه لها بمجرّد حصولها له ، حصول موجود مباين لموجود مباين ، كوجود السماء والأرض لنا ، أو أمر عارض ؛ وذلك لأنّ الحاصل في مثل ذلك ليس إلّا إضافة محضة ، والإضافة من أضعف الأعراض وجودا ، بل وجودها وجود الطرفين على وجه إذا عقل أحدهما غفل الآخر ، فهذا حظّها من الوجود ، لا أن لها صورة في الأعيان.

ثم إنّ وجود الإضافة إلى شيء غير وجود ذلك الشيء ، فإنّ إضافة الدار والفرس والغلام لنا لا يوجب وجود شيء منها لنا ، أو فينا ، نعم ربّما حصلت صورها لذاتنا ، أو لقوانا ، والكلام عائد في تلك الصور وكيفية حصولها لنا ، أهي بمجرّد الإضافة ، أو بالاتّحاد معنا؟ فإن كان بمجرّد الإضافة فحصول الإضافة

__________________

(١) ـ سورة النور ، الآية ٤٠.

٨٥

ليس حصولا لصورة شيء ، وهكذا يتسلسل الأمر إلى غير نهاية ، وهو محال.

وإن كان بالاتحاد ، فهو المطلوب.

وكذلك حكم العوارض اللاحقة لاستغناء الموضوع عنها في تحصّله النوعي والشخصي ، على أنّ المعلوم قد يكون جوهرا ، أو مع جوهر ، فعلم أنّ كلّ إدراك وعلم فهو باتّحاد بين العالم والمعلوم.

وكل من أنصف من نفسه علم أن النفس العالمة ليست ذاتها بعينها هي الذات الجاهلة ، بل الجاهل من حيث هو جاهل لا ذات له أصلا ؛ لأنّه من هذه الحيثية قوّة العلم فحسب ، والقوّة عدمية ، وليست الصور العلمية كالقنية المالية من الذهب والفضة ، والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ، أي وجودات الماديات ذوات الأوضاع الجسمية بعضها لبعض الّذي مرجعه إلى وجود النسب الوضعية (١).

وصل

قد تبيّن من هذا البيان أن العلم لا يتعلّق بالأجسام بما هي أجسام ، أي بوجوداتها الخارجية ؛ وذلك لأنّ صورها بما هي هي ليست حاصلة هذا النحو من الحصول الاتحادي الّذي وصفناه ، إلّا لموادّها ، كما دريت.

وإذا كان حصولها لموادّها فلم تحصل أنفسها لها ، بل لا يحصل لها شيء أصلا ؛ لأنّ القائم بالغير الحاصل له تكون إنّيته بعينها إنّيّته للمحلّ ، فلو حصل له شيء يكون حصوله في الحقيقة لمحلّه لا له ، والمادّة إذ هي أمر عدمي ليست إلّا

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ٢٤٢ ـ ٢٤٤ ، الإشراق الثاني في اتحاد العقل بالمعقول.

٨٦

جهة القوّة في الوجودات ، فليس لها في نفسها ذات يصحّ أن تدرك شيئا وتعلمه حتى تدرك الصور الحاصلة فيها هذا الحصول ، فإنّ ما ليس له حصول في نفسه كيف يحصل له شيء؟

وإذا لم تكن الصور الخارجية للأجسام ممّا يصح أن يحصل لها شيء الحصول المعتبر في العلم ، ولا هي حاصلة لما يصحّ له أن يعلمها ، فليست هي عالمة بشيء أصلا ، ولا لشيء أن يعلمها بعينها كما هي ، فهي إذن معلومة بالقوة لا بالفعل ، بمعنى أنّ في قوّتها أن تنتزع منها صورا فتعلم تلك الصور.

لست أقول : إنّ متعلّق العلم هو هذه الصورة بعينها بعد انتزاعها ؛ لاستحالة انتقال المنطبعات في المواد. بل أقول : صور أخرى مثلها.

فالمعلوم بالذات من كلّ شيء ليس إلّا صورا إدراكية قائمة بالنفس ، متّحدة معها ، لا صورا مادية خارجية ، سواء كان العلم بطريق الإحساس ، أو بغير ذلك ، فالمعلوم بالفعل لا يكون معلوما لغير عالمه ، فكلّ عالم فمعلومه غير معلوم عالم آخر ، بل هو متّحد بمعلومه ، بل هو بعينه العالم والمعلوم والعلم ، فافهم واغتنم.

وصل

الأجسام لما كانت بمنزلة ظلال للموجودات الغيبية القائمة بذواتها ، ولها نحو اتحاد معها ، لقيّوميّتها إياها ، وتلك الوجودات عالمة بذواتها ومعلومة لها ؛ لأن وجوداتها لأنفسها ، فالأجسام أيضا من هذه الجهة ، لها علم وشعور بقدر اتصالها بها ، وبحسب وجوداتها.

٨٧

ألا ترى إلى الحجر المرمي إلى فوق ـ مثلا ـ كيف يتحرّك إلى تحت ، ولو لم يكن له شعور بأنّ المكان التحتي أوفق له ، وبطبعه لما تحرّك إليه ، إذ لو لم يكن له في ذلك مقتض ذاتي لما فعله بالذات ، وإذ لم يكن لمقتضاها وجود إلّا أخيرا فله نحو من الثبوت أولا ، المستلزم لنحو من الشعور ، وإن لم يكن على سبيل القصد والرويّة ، كما في القرآن المجيد (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١).

ثمّ ألم تنظر إلى إناث النخل وميلانها إلى صوب بعض ذكرانها ، وإلى سائر الأشجار ، وميل عروقها إلى جانب الماء في الأنهار ، وانحرافها في الصعود عن الجدار ، وإخراجها الأوراق الكثيرة بين الفواكه لتسترها عن صنوف الآفات ، ويبقى لبّ الثمار ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، فيتبين أن العلم والشعور إنّما يكون بقدر الوجود ، فما يكون وجوده أقوى فعلمه أقوى ، وما يكون وجوده أضعف فعلمه كذلك. فالعلم والجهل للأشياء هما عين الوجود والعدم لها.

__________________

(١) ـ سورة الإسراء ، الآية ٤٤.

٨٨

في النور والظلمة

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (١)

أصل

النور : هو الظاهر بنفسه ، المظهر لغيره.

والظلمة : ما يقابله.

وهما أيضا يرجعان إلى الوجود والعدم ؛ إذ المظلم إنّما يسمى مظلما لأنّه ليس للأبصار إليه وصولا ؛ إذ ليس موجودا للبصر ، مع أنّه موجود في نفسه ، والّذي ليس موجودا لا لغيره ولا لنفسه ، فهو الغاية في الظلام ، بل هو الظلمة الحقيقية.

وفي مقابله الوجود ، فهو النور الحقيقي ، وكما أنّ ما به يتحقّق ويوجد الشيء يجب أن يكون موجودا في نفسه ، لا بوجود زائد عليه ، أعني اتصافه بالوجود ليس بجعل جاعل ، وإن كانت ذاته مجعولة جعلا بسيطا ، فكذلك ما به يظهر الشيء لا بدّ وأن يكون ظاهرا في نفسه ، لا بظهور زائد عليه ، أي لا مظهر له ، وإن كانت ذاته الظاهرة مجعولة جعلا بسيطا ، فالوجود والنور والظهور كأنّها ألفاظ مترادفة تعرب عن معنى واحد.

__________________

(١) ـ سورة فاطر ، الآية ١٩ و ٢٠.

٨٩

فكلّ ما قيل أو يقال في باب الوجود من الأحكام ، كالبساطة ، والغنى عن التعريف، وانتفاء الحدّ والرسم عنه ، وثبوت الشدّة والضعف ، والتقدّم والتأخّر له ، وكونه غنيّا وفقيرا ، وجاعلا ومجعولا ، ومتعيّنا بذاته ، وغير ذلك ، تصدق كلها في باب النور ؛ لأنّ الوجود والنور حقيقة واحدة ، وأقسام كلّ منهما هي بعينها أقسام الآخر ، لا تغاير بينهما ، إلّا بحسب تغاير الاصطلاحات ، كذا أفاد أستاذنا ـ دام ظلّه ـ.

قال : وأمّا المسمّى بالنور عند الجمهور ، كنور الكواكب ، ونور النار ، وغير ذلك من الأضواء ، فليس بنور حقيقي خالص ؛ لأنّ نوريّته وظهوره إنّما هو بالإضافة إلى القوّة الباصرة فقط ، وأمّا بالنسبة إلى سائر الحواس فهو ظلمة وخفاء ، لا خبر لها عنه أصلا ، ونسبة المبصر إلى المبصر كنسبة المسموع والمشموم إلى السامعة والشامّة ، وكذلك غيرها ، لا فرق بينها إلّا فيما يرجع إلى شدّة الوجود وضعفه ، فإنّ قوّة الباصرة لما كانت أقوى الحواس والمدرك دائما من باب المدرك ، فمدركات الباصرة تسمى بالنور بحسب العرف لأجل ذلك ، وإلّا فكما أنّ الضوء ظاهر بذاته عند الباصرة ، مظهر لغيره ، من معروضاته عليها ، فكذلك الصوت ظاهر بذاته للسامعة ، مظهر لغيره من معروضاته عليها ، فيقال : صوت الرعد ، وصوت الرحى ، وكذلك الريح ظاهر بذاته للشامّة ، مظهر لغيره من معروضاته عليها ، فيقال : ريح المسك ، وريح الورد ، وهكذا في سائر المدركات.

وكما أن الصوت لا يظهر ، ولا يظهر لغير حاسّة السمع ، والطعم لا يظهر ولا يظهر لغير حاسة الذوق ، فالضوء أيضا لا يظهر ولا يظهر على غير حاسّة البصر ، فلا فرق بينها في النورية أصلا.

قال في الفتوحات : لو لا النور ما أدرك شيء ، لا معلوم ، ولا محسوس ، ولا

٩٠

متخيّل أصلا ، ويختلف على النور الأسماء الموضوعة للقوى ، فهي عند العامّة موضوعة للقوى ، وعند العارفين أسماء للنور المدرك به ، فإذا أدركت المسموعات سمّي ذلك النور سمعا ، وإذا أدركت المبصرات سمّي بصرا ، وغير ذلك لمسا ، وذوقا ، وشما ، وخيالا ، ووهما ، وعقلا ، وحافظة ، ومفكّرة ، ومصورة ، وكل ما يقع به إدراك فليس إلّا النور (١).

وصل

قد تبين ممّا ذكر أنّ ظهور كلّ محسوس ووجوده بما هو محسوس إنّما هو بالإضافة إلى حسّ واحد ، وذلك أيضا من جهة تجرّده عن المادّة ، وأمّا من حيث انطباعه في المادّة فنوريّته بالقوة وهو بالفعل ظلمة وغسق ، وظهوره بالإضافة إلى النفس أيضا من جهة تجرّده ليس إلّا بتوسّط هذه الحواس ، ولهذا إذا فقدت عنها هذه الحواس كما في يوم القيامة كوّرت الشمس ، وانكدرت النجوم ، وظهوره بالإضافة إلى العقول أيضا إنّما هو بتوسّط النفوس ، ولهذا السماوات مطويّات بيمينه.

والنور الحقيقي والوجود البحت ما يكون ظاهرا في نفس الأمر بلا توسط شيء من الحواس والنفوس ، وفي جميع المراتب والأحوال.

ومن هنا يظهر أنّ وجود عالم الحسّ كلّه مشوب بالعدم ، ونوريّته مخلوطة بالظلمة ، وعلمه ممزوج بالجهل ، فافهم.

__________________

(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ٣ : ٢٧٦.

٩١

في الحياة والموت

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) (١)

أصل

الحياة : هي ما يساوق الفعل والإدراك معا.

والموت : ما يقابلها.

وهما أيضا يرجعان إلى الوجود والعدم ؛ لأنّ مبدأ الأفعال والآثار إنّما هو الوجود ، وهو كما دريت عين الإدراك ، فكلّ موجود حيّ على حسب وجوده ، شدّة وضعفا ، وكل معدوم ميّت من جهة أنّه معدوم ، وكذلك كلّ عالم فهو حيّ بقدر علمه ، وكل جاهل فهو ميّت على حسب جهله.

ومن هنا قال سبحانه عند ذكر العلماء والجهّال : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ).

وقال : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) (٢) ، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (٣) ، (أَوَمَنْ كانَ

__________________

(١) ـ سورة فاطر ، الآية ٢٢.

(٢) ـ سورة يس ، الآية ٧٠.

(٣) ـ سورة النحل ، الآية ٩٧.

٩٢

مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (١). إلى غير ذلك من الآيات.

وصل

كلّ ما وجوده لنفسه فحياته ذاتية ، وكل ما وجوده لغيره فحياته عرضية ؛ لأنها بتوسّط ذلك الغير ، فلو لم يكن لذلك الغير وجود لنفسه ، كصور الأجسام القائمة بالمواد ، فمثل هذا الشيء ميّت إلّا بقدر اتّصاله بوجوده الغيبي القائم بالذات ، فإنّه من تلك الجهة حي.

وبالجملة : الحياة كالعلم والنور تابعة للوجود ، كما أنّ متقابلاتها تابعة للعدم ، فالمجرّدات عن المادّة حياتها ذاتية ، والماديات حياتها عرضية ، لكن الماديات الّتي لها نفوس مجرّدة يمكن أن يطلق عليها الحي بالذات ؛ لأنّ الغلبة والقهر فيها للنفوس ، والحيوان أخصّ من الحي بالمعنى الأعم مطلقا ، وأعم من الحي بالذات من وجه ؛ لأنّه إنّما يطلق على الحساس المتحرّك بالإرادة ، سواء كانت حياته ذاتية ، أو عرضية.

__________________

(١) ـ سورة الأنعام ، الآية ١٢٢.

٩٣

في الإيمان والكفر

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى

الظُّلُماتِ) (١)

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ

يَسْتَوِيانِ مَثَلاً) (٢)

أصل

الإيمان : هو التصديق بالشيء على ما هو عليه ، ولا محالة هو مستلزم لتصور ذلك الشيء كذلك بحسب الطاقة ، فهو يرجع إلى العلم الراجع إلى نحو من الوجود.

وفي الشرع : عبارة عن التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٣) ، ويدخل في الكتب والرسل أوصياء الرسل ـ صلوات الله

__________________

(١) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٧.

(٢) ـ سورة هود ، الآية ٢٤.

(٣) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٨٥.

٩٤

عليهم أجمعين ـ وسائر ما جاؤوا به.

والكفر : ما يقابله ، وهو بمعنى الستر والغطاء ، فهو يرجع إلى الجهل الراجع إلى نحو من العدم.

والشرك : هو الاعتقاد بالشيء على خلاف ما هو به.

سئل الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام عن أدنى ما يكون العبد مشركا ، فقال : «من قال للنواة إنّها حصاة ، وللحصاة هي نواة ، ثمّ دان به» (١).

وقال : «الكفر أعظم من الشرك ، فمن اختار على الله وأبى الطاعة وأقام على الكبائر فهو كافر ، ومن نصب دينا غير دين المؤمنين ، فهو مشرك» (٢).

وصل

كما أن للوجود درجات مترتبة بعضها فوق بعض ، وهو معقول عليها بالتشكيك ، فكذلك الإيمان له درجات مترتبة في القوّة والضعف.

قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : «الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التامّ المنتهي تمامه ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد رجحانه» (٣).

وقال أيضا : «لو علم الناس كيف خلق الله تعالى هذا الخلق لم يلم أحد أحدا ، قيل: وكيف ذاك؟ فقال : إنّ الله تعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين

__________________

(١) ـ الكافي : ٢ : ٣٩٧ ، ح ١.

(٢) ـ الكافي : ٢ : ٣٨٣ ، ح ٢.

(٣) ـ الكافي : ٢ : ٣٣ ، ح ١.

٩٥

جزء ، ثمّ جعل الأجزاء أعشارا ، فجعل الجزء عشرة أعشار ، ثمّ قسمه بين الخلق ، فجعل في رجل عشر جزء ، وفي آخر عشري جزء ، حتّى بلغ به جزء تاما ، وفي آخر جزء وعشر جزء، وآخر جزء وعشري جزء ، وآخر جزء وثلاثة أعشار جزء ، حتّى بلغ به جزئين تامّين ، ثمّ بحساب ذلك حتّى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزء ، فمن لم يجعل فيه إلّا عشر جزء لم يقدر على أن يكون مثل صاحب العشرين (١) ، ولا يكون مثل صاحب الثلاثة الأعشار ، وكذلك من تمّ له جزء لا يقدر على أن يكون مثل صاحب الجزئين ، ولو علم الناس أن الله تعالى خلق هذا الخلق على هذا لم يلم أحد أحدا» (٢).

وعن أبيه الباقر عليه‌السلام : «إنّ المؤمنين على منازل ، منهم على واحدة ، ومنهم على اثنتين ، ومنهم على ثلاث ، ومنهم على أربع ، ومنهم على خمس ، ومنهم على ستّ ، ومنهم على سبع ، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو ، وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو. وساق الحديث ، ثمّ قال : وعلى هذه الدرجات» (٣).

وصل

أوائل درجات الإيمان تصديقات مشوبة بالشكوك والشبه ، على اختلاف مراتبها ، ويمكن معها الشرك (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٤) ،

__________________

(١) ـ في المصدر إضافة : وكذلك صاحب العشرين.

(٢) ـ الكافي : ٢ : ٤٤ ، ح ١.

(٣) ـ الكافي : ٢ : ٤٥ ، ح ٣.

(٤) ـ سورة يوسف ، الآية ١٠٦.

٩٦

وعنها يعبّر بالإسلام في الأكثر (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١).

وعن الصادق عليه‌السلام : «الإيمان أرفع من الإسلام بدرجة ، إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر ، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن ، وإن اجتمعا في القول والصفة» (٢).

وأواسطها تصديقات لا يشوبها شك ولا شبهة (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) (٣).

وأكثر إطلاق الإيمان عليها خاصة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤).

وأواخرها تصديقات كذلك ، مع كشف وشهود وذوق وعيان ومحبّة كاملة للمبدأ جلّ ذكره ، وشوق تام إلى حضرته المقدّسة (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (٥).

وعنها العبارة تارة بالإحسان «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» (٦) ، وأخرى بالإيقان (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٧).

__________________

(١) ـ سورة الحجرات ، الآية ١٤.

(٢) ـ الكافي : ٢ : ٢٥ ، ح ١.

(٣) ـ سورة الحجرات ، الآية ١٥.

(٤) ـ سورة الأنفال ، الآية ٢.

(٥) ـ سورة المائدة ، الآية ٥٤.

(٦) ـ صحيح البخاري : ٦ : ٢٠ ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٧) ـ سورة البقرة ، الآية ٤.

٩٧

وإلى المراتب الثلاث الإشارة بقوله سبحانه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١).

وإلى مقابلاتها الّتي هي مراتب الكفر ، الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) (٢).

فنسبة الإحسان واليقين إلى الإيمان كنسبة الإيمان إلى الإسلام.

قال الصادق عليه‌السلام : «إنّ الإيمان أفضل من الإسلام ، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان ، وما من شيء أعزّ من اليقين» (٣).

وصل

إنّ لليقين مراتب ثلاث : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين ، (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) (٤) ، (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٥).

والفرق بينها إنّما ينكشف بمثال ، فعلم اليقين بالنار ـ مثلا ـ هو مشاهدة المرئيات بتوسط نورها ، وعين اليقين بها هو معاينة جرمها بفيض ذلك النور ،

__________________

(١) ـ سورة المائدة ، الآية ٩٣.

(٢) ـ سورة النساء ، الآية ١٣٧.

(٣) ـ الكافي : ٢ : ٥١ ، ح ١.

(٤) ـ سورة التكاثر ، الآية ٥ ـ ٧.

(٥) ـ سورة الواقعة ، الآية ٩٥.

٩٨

وحقّ اليقين بها الاحتراق فيها ، وانمحاء الهوية بها ، والصيرورة نارا صرفا ، وليس وراء هذا غاية (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١) ، أي الحق ، ولا هو قابل للزيادة «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (٢) ، رزقنا الله الوصول إليه بمنّه.

__________________

(١) ـ سورة الحجر ، الآية ٩٩.

(٢) ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي : ١١ : ٢٠٢.

٩٩

في الخير والشرّ

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (١)

أصل

الخير والشر معناهما ظاهر ، وهما أيضا يرجعان إلى الوجود والعدم ؛ لأنّ الوجود كله خير ، والشر لا ذات له ، بل هو عدم ذات ، أو عدم كمال الذات ؛ وذلك لأنّ الشر لو كان أمرا وجوديا ، فلا يخلو إمّا أن يكون شرا لنفسه ، أو لغيره ، والأوّل باطل ؛ لأنّ معنى كون الشيء شرا لشيء أن يكون معدما له ، أو لبعض كمالاته ليس إلّا ، والشيء لا يقتضي عدمه ، وإلّا لما وجد.

وكذا لا يقتضي عدم كماله ، كيف وجميع الأشياء طالبة لكمالاتها ، لا مقتضية لعدمها؟ مع أنّه لو اقتضى أحدهما لكان الشر ذلك العدم ، لا نفسه.

وكذا الثاني ؛ لأنّ كونه شرا لغيره ، إمّا لأنّه يعدم ذلك الغير ، أو يعدم بعض كمالاته ، فليس الشرّ إلّا عدم ذلك الشيء ، أو عدم كاله ، لا نفس الأمر الوجودي المعدم.

فالشرّ إمّا عدم ذات ، أو عدم كمال الذات ، وكل ما لا يكون كذلك فهو خير ، فالوجود من حيث إنّه وجود خير محض ، والعدم من حيث إنّه عدم شرّ

__________________

(١) ـ سورة الأنبياء ، الآية ٣٥.

١٠٠