عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

ونعني بالحيّز المكان ، لكن لا بما هو مكان ، بل بما هو في جهة مخصوصة ، وله وضع مخصوص ، من الجسم المحدد للجهات ، مع ترتيب بين أجزاء العالم ، فإنّ المكان بما هو مكان ليس طبيعيا لجسم من الأجسام أصلا ، سواء كان بعدا مجردا ، أو سطحا.

أما على الأوّل ؛ فلتشابه أجزائه في الهيئة والحقيقة ، كما يشهد به النظر الصحيح ، فلا اختصاص لبعض أجزائه بكونه طبيعيا لبعض الأجسام ، دون بعض.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنه يلزم أن تسكن الأرض بطبعها لو فرضت فيما بين الماء في أيّ موضع كان ، سواء انطبق مركز ثقلها على مركز العالم ، أم لا ، وأن تتحرك الأرض بطبعها لو فرضت في وسط العالم غير محاطة بالماء ، واللازمان ، كلاهما ظاهر البطلان ، فكذا الملزوم ، فالمطلوب بالطبع للأجسام إنّما هو الوضع والجهة ، والمكان مطلوب بالعرض.

فالأرض ـ مثلا ـ تطلب مكانها الّذي هي فيه ؛ لأنّه تحت جميع الأمكنة ، والماء يطلب أن يكون محيطا بالأرض بكلّيّته ، بشرط أن تكون الأرض على مركز العالم.

وصل

الحيّز الّذي يقتضيه الجسم بطبعه ويكون فيه عند عدم القواسر ، يكون واحدا لا محالة ؛ لاستحالة كون الجسم الواحد في المكانين ، فالحيّز الطبيعي لكلّ جسم واحد.

وأيضا كلّ جسم له طبيعة واحدة ، وهو ظاهر. والطبيعة الواحدة لا تقتضي

٢٦١

شيئا مختلفا.

وأيضا لو كان لجسم واحد حيّزان طبيعيّان ، فإذا حصل في أحدهما ، فإما أن يطلب الآخر ، أو لا ، فإن طلبه لم يكن ما حصل فيه طبيعيا ؛ لأنّه يهرب منه. وإن لم يطلبه لم يكن هو طبيعيا ؛ لأنّ الحيّز الطبيعي ما يطلبه الجسم عند الخروج منه.

وصل

وكذلك الحيّز الواحد لا تقتضيه طبيعتان مختلفتان نوعا ؛ وذلك لأنّ اقتضاء الطبيعة لحيّز ما إنّما هو بواسطة ما اقتضتها من لوازمها الخاصة ، كالحرارة للنار ، والبرودة للأرض.

فعلى هذا إن اقتضت طبيعة أخرى ذلك الحيّز بعينه ، فإما أن يشاركها في تلك اللوازم ، فلا مخالفة بينهما بحسب الحقيقة ، بل هما فردان من نوع واحد ، وإلّا فالثانية غير مقتضية لذلك الحيّز ؛ لعدم اقترانها باللوحق الذاتية الّتي لها دخل في اقتضاء ذلك الحيّز.

وصل

لما كانت طبيعة الأجزاء هي بعينها طبيعة الكل ، فكما أن الطبيعة في الكلّ تقتضي أن تكون على وضع خاصّ بالنسبة إلى المحدد المحيط ، فطبيعة الجزء في مادّته تقتضي ذلك من غير تفاوت ، فتتحرك إلى تلك الجهة والحيّز ، ويكون ميله الطبيعي إلى جانب كله ، وإلى حيّزه ، فإذا وجد بينه وبين كلّ جسم غريب

٢٦٢

شقّه وخرقه إن أمكنه حتّى اتّصل بكلّه على وجه يكون حيّزه حيّز كله ، فإذا اتصل بكلّه أو بقطعة أخرى من نوعه استهلكا بتعيّنهما وتشخّصهما ، وحصل من المجموع أمر آخر له تعيّن منفرد ، وكان المطلب واقتضاء الحيّز له من غير أن يكون لأجزائه طلب مستقل ، فإنّ أفراد الطبيعة الواحدة شديدة الالتئام ، بحيث يتّصل بعضها ببعض ، ويصير المجموع أمرا واحدا ، ويفنى كلّ منهما ، ويستهلك.

وصل

ولا يجوز أن تكون حركة الجزء إلى مكان الكلّ بالقسر ، إمّا بجذب ممّا يتحرك إليه ، أو بدفع ممّا يتحرك منه ، لا بالطبع ؛ وذلك لأنّ الكبير من أجزاء العناصر يتحرك إلى أمكنتها أسرع من الصغير ، كما يشهد به الوجود.

ولو كانت حركته بالقسر لكانت أبطأ ؛ لأنّ الأكبر يكون أشدّ ميلا ، وأقلّ مطاوعة للقاسر.

وصل

وكما لا يكون لجزء البسيط مكان إلّا بعد حصول الجزئية والقسمة لذلك البسيط ، بل موقع التجزئة في المتمكن هو موقع التجزئة في المكان ، فمكان الجزء ليس أمرا خارجا عن مكان الكلّ ، فلذلك لا يكون للمركّب مكان إلّا بعد حصول التركيب ، والتركيب أمر يعرض بعد الإبداع ، ولو بعديّة بالطبع.

فلو كان للمركّب مكان حالة الإبداع يلزم وجود الخلاء قبل التركيب ثمّة ، ولو قبلية بالطبع ، ومن اقتضائه الحصول فيه ، يلزم وجود الخلاء بعد التركيب هاهنا.

٢٦٣

ثم إن التركيب حيث لا يقتضي زيادة في التجسّم فلا احتياج بسببه إلى مكان زائد على ما كان للبسائط ، فأمكنة المركّبات هي أمكنة البسائط بعينها ، وكما أنّ حيّز البسيط واحد لا غير ، فكذلك المركّب حيّزه ليس إلّا واحدا ؛ لأنّ حيّزه ما يقتضيه الغالب من أجزائه إن كان فيه غالب ميلا (١) ، إمّا مطلقا ، أو بحسب جهة الحيّز ، أو بحسب فعل صورته النوعية المناسب لفعل الغالب من أجزائه ، أو ما اتفق وجود فيه إذا تساوت الميول فيه ، وتجاذبت إن أمكن وجود مثل هذا الجسم.

أصل

إذا ثبت أن الحيّز هو المكان من حيث الجهة المخصوصة والوضع المخصوص ، فما لا وضع له ولا جهة بالنسبة إلى شيء ما لا خلاء ولا ملاء ، فلا حيّز له.

وقد دريت أن الأبعاد والجهات متناهية ، فإذا أخذ مجموع ما في العالم من الأحياز والمتحيّزات كلها بما هي شيء واحد مسمّى باسم واحد ، فلم يبق شيء خارجا منه ، خروجا وضعيا حتّى يكون حيّزا للمجموع ، أو يكون للمجموع وضع وجهة بالنسبة إليه ، وإلّا لم يكن المجموع مجموعا ، فلا حيّز للعالم جميعا ، كما لا زمان له جميعا.

وكما لا عدد لجميع الأعداد والمعدودات من جنسها ؛ وذلك لأنها إذا فرضها الذهن بحيث لا يشذّ عنها عدد ولا معدود ، لا يكون بهذا الاعتبار

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة.

٢٦٤

مقسوما أبدا ، ولا عادّا ، ولا معدودا ، فكذلك حكم مجموع الأجسام والكمّيات المتحيّزة إذا أخذت بأجمعها كأنها شيء واحد ، فلا يخرج عنه جسم ، ولا مقدار ، فلم يكن منقسما بوجه من الوجوه ، فيكون حكمه حكم النقطة ، بل أرفع منها عن التحيّز ؛ لكونها ذات وضع بوجه ، بخلافه.

ومن هنا يظهر أن الدار الآخرة ليست من جنس هذه الدار ، بل لها نشأة ثانية داخل حجب السماوات والأرض ، كما يأتي تحقيقها.

٢٦٥

في أصول النشآت ، وكيفية نشوء الآخرة

من الأولى ووجوه الفرق بينهما

(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ

مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ

بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (١)

أصل

العوالم كثيرة ، لا يعلم عددها إلّا ربّ العالمين ، وأصولها ترجع إلى نشآت ثلاث :

عقلية روحانية ، تسمى بعالم الغيب والجبروت ، وأصحابها السابقون (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٢).

وخيالية مثالية ، تسمى بعالم البرزخ والملكوت ، وأصحابها أصحاب اليمين (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ* وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٣).

وحسّية جسمانية ، تسمى بعالم الشهادة والملك ، وأصحابها أصحاب

__________________

(١) ـ سورة الأعراف ، الآية ١٨٥.

(٢) ـ سورة الواقعة ، الآية ١١ و ١٢.

(٣) ـ سورة الواقعة ، الآية ٢٨ و ٢٩.

٢٦٦

الشمال (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ* وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (١) ، وهؤلاء إنّما يتعذّبون في دار أخرى هي من جنس النشأتين الأوليين ، خلقت بالعرض لا بالذات ، كما يأتي تحقيقه. بخلاف الأولين فإنّ السابقين يتنعّمون أينما كانوا ، وأصحاب اليمين يتنعّمون في دارهم المختصة بهم.

وقد يطلق الغيب والملكوت على ما يشمل الأوليين ، والجبروت على صفات الله وأسمائه ، ويقيد الملكوت بالأعلى والأسفل.

ولنفصّل هذا الإجمال تفصيلا بليغا ، ثمّ لنبرهن على النشآت ، ومن الله التأييد.

وصل

أما النشأة العقلية فهي نشأة الحياة الحقيقية ، والبقاء الأبدي ، والخير المحضّ ، والنور الصرف ، والظهور التام ، والإدراك البحت ، أهلها كلهم علماء حضور بعضهم لدى بعض (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٢) ، ينظر إليهم ، وينظرون إليه ، بعيون القلب ، وهم الملائكة المقرّبون ، وأهل السعادة الحقيقية الكاملة ، من الناس (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٣) ، لا غيبة هناك ، ولا فقد أصلا بوجه من الوجوه ، وهي نشأة وحدانية لكلّ ما له ماهية نوعية ، وفيها ترجع الأشياء كلها

__________________

(١) ـ سورة الواقعة ، الآية ٤٢ و ٤٣.

(٢) ـ سورة القمر ، الآية ٥٥.

(٣) ـ سورة النساء ، الآية ٦٩.

٢٦٧

إلى وجود تام كاملي ، لا كثرة فيه ، ولا تغيّر ، كما قال الصادق عليه‌السلام في شأن الأئمةعليهم‌السلام : «علمنا واحد ، وفضلنا واحد ، ونحن شيء واحد» (١).

وقال : «وكلّنا واحد عند الله» (٢).

وهذه النشأة لغاية شرفها ونقائها وعلوّها وبعدها عن إقليم نفوسنا المتعلّقة بالاجرام ، لم يتيسّر لنا في هذا العالم أن نشاهدها مشاهدة تامة نورية ، ونراها رؤية كاملة عقلية ، لا لحجاب بيننا وبينها ، أو منع من جهتها ، بل لقصور نفوسنا وعجزها ، وضعف إدراكها ؛ وذلك لأنّ الإدراك التام ـ كما دريت ـ لا يحصل إلّا باتّحاد المدرك بالمدرك ، فما دام لم يحصل لنفوسنا الاتّحاد بتلك الموجودات ، فلا جرم إنّما نشاهدها مشاهدة ضعيفة ، مثل من أبصر شخصا من بعد ، أو في هواء مغبر ، فيحتمل عنده أشياء كثيرة ، فكذلك تلك الصور تحتمل عندنا الكلية ، والإبهام ، والاشتراك ، بالنسبة إلى أشخاص هي أفعالها ومعاليلها ، وتتّحد معها ضربا من الاتحاد.

وصل

وكان إلى هذه النشأة العقلية أشار سيّد العابدين عليه‌السلام حيث قال : إنّ «في العرش تمثال جميع ما خلق الله ، من (٣) البرّ والبحر ، قال : وهذا تأويل قوله

__________________

(١) ـ بحار الأنوار : ٢٦ : ٣١٧ ، ح ٨٢.

(٢) ـ غيبة النعماني : ٨٥ ، ح ١٦.

(٣) ـ في المصدر «في» بدل «من».

٢٦٨

تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) (١)» (٢).

وقال بعض المتألّهة من الحكماء المتقدّمين : من وراء هذا العالم سماء ، وأرض ، وبحر ، وحيوان ، ونبات ، وناس سماويّون ، وكل من في ذلك العالم سماوي ، وليس هناك شيء أرضي ، والروحانيون الذين هناك ملائمون للإنس الذين هناك ، لا ينفر بعضهم عن بعض ، وكل واحد لا ينافر صاحبه ، ولا يضادّه ، بل يستريح إليه (٣).

وقال أيضا : الأشياء الّتي هناك كلها مملوءة غنى ، وحياة كأنها حياة تغلي وتفور ، وجري حياة تلك الأشياء إنّما ينبع من عين واحدة ، لا كأنها حرارة واحدة ، أو ريح واحدة فقط ، بل كلّها كيفية واحدة ، فيها كلّ طعم (٤).

ونقول إنك تجد في تلك الكيفية الواحدة طعم الحلاوة والشراب ، وسائر الأشياء ذوات الطعوم ، وقواها ، وسائر الأشياء الطيبة الروائح ، وجميع الروائح ، وجميع الألوان الواقعة تحت البصر ، وجميع الأشياء الواقعة تحت اللمس ، وجميع الأشياء الواقعة تحت السمع ، أي اللحون كلها ، وأصناف الإيقاع ، وجميع الأشياء الواقعة تحت الحسّ ، وهذه كلها موجودة في كيفية واحدة مبسوطة على ما وصفناه ؛ لأنّ تلك الكيفية حيوانية عقلية ، تسع جميع الكيفيات الّتي وصفناها ، ولا تضيق عن شيء منها من غير أن يختلط بعضها ببعض ، وينفسد بعضها ببعض ، بل كلّها فيها محفوظة ، كأنّ كلا منها قائم على حدة.

__________________

(١) ـ سورة الحجر ، الآية ٢١.

(٢) ـ روضة الواعظين : ١ : ٤٧.

(٣) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٢ : ٦٤ ، فقد نقل بعض هذا القول عن كتاب أثولوجيا للمعلم الأوّل في الميمر الرابع.

(٤) ـ الأسفار الأربعة : ٣ : ٣٤١ ، عن كتاب أثولوجيا.

٢٦٩

وقال أيضا : إنّ العالم الأعلى كلها ضياء ؛ لأنها في الضوء الأعلى ، ولذلك يرى فيها الأشياء كلها في ذات صاحبه ، فصار لذلك كلها في كلّها ، والكلّ في الواحد ، والواحد منها هو الكل (١).

قال : فليس موضع العين ـ مثلا ـ في ذلك الإنسان غير موضع اليد ، ولا مواضع الأعضاء كلها مختلفة ، بل كلها في موضع واحد (٢).

إلى غير ذلك من كلماته في وصفها ، وهي كثيرة.

وصل

وأمّا النشأة المثالية ، فهي أيضا ذات حياة وبقاء ، ونورية وإدراك ، إلّا أنها دون الأولى في هذه الأحكام ، ووجودها وإن كان مستقلا مجرّدا عن مادّة الجسم ، وكذا جميع مدركاتها مجرّدة عن المواد الجسمانية ، قائمة بأنفسها ، وبذات فاعلها ، إلّا أنها شريكة مع الأجسام في أنها ذات امتدادات وكثرة مقدارية ، وإن لم تكن كثرتها كثرة موجبة للتزاحم في المكان والزمان ، أو قبول القسمة ، أو غيبة بعض الأجزاء عن بعض ، ككثرة الأجسام فهي متوسّطة بين النشأتين.

أنظر إلى صورة زيد الحاصلة في ذهنك ، وكل ما تدركه من الصور والأشباح الخيالية ، وكل ما تراه في المنام فإنها كلّها من موجودات تلك النشأة ، إلّا أن أهلها قسمان : قسم خلقه الله سبحانه على سبيل الإبداع ، أو التكميل بعد

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٢ : ٦٨ ، عن كتاب أثولوجيا.

(٢) ـ الأسفار الأربعة : ٢ : ٦٤ ، وج ٦ : ٢٧٧ ، وج ٨ : ٢٨٤ ، عن كتاب أثولوجيا ، الميمر الرابع.

٢٧٠

التكوين ، فهم قائمون بذواتهم ، باقون ببقاء بارئهم ، إمّا وجوههم ناضرة ، إلى ربّها ناظرة ، وهم الملائكة المدبّرون في هذا العالم الجسماني ، والسعداء المتوسّطون من الإنس والجنّ ، الذين هم أهل النجاة ، من الزهّاد والعبّاد ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لهم هناك جنّات تجري من تحتها الأنهار وهم فيها خالدون. وإمّا وجوههم قترة عليها غبرة ، أولئك هم الكفرة الفجرة ، والشياطين المكرة.

وقسم يصدر عن نفوسنا بإذن الله بإبداعنا إياه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وهو قائم بنفوسنا قيام الفعل بالفاعل ، وإنما يبقى ببقاء توجّه النفس والتفاتها إليه ، واستخدامها المتخيّلة في تصويره وتثبته ، فإذا أعرض عنه انعدم وزال ؛ وذلك لأنّ الله سبحانه خلق النفس الإنسانية وأبدعها مثالا لنفسه ذاتا وصفة وفعلا ، مع التفاوت بين المثال والحقيقة ، لتكون معرفتها مرقاة لمعرفته ، فنفخ فيها من روحه ، وجعل ذاتها مجرّدة عن الأكوان والأحياز والجهات ، وصيّرها ذات قدرة ، وعلم ، وإرادة ، وحياة ، وسمع ، وبصر ، وجعلها ذات مملكة شبيهة بمملكته ، يخلق ما يشاء ويختار ما يريد ، فلها في ذاتها عالم خاصّ بها من الجواهر والأعراض المفارقة والمادية ، والأفلاك والعناصر والمركّبات ، وسائر الخلائق ، إلّا أنها لضعفها وبعدها عن ينبوع الوجود بوسائط وتنزّلات ، وغلبة أحكام التجسّم عليها بصحبة المادّة وعلائقها ، لا تترتب على أفعالها وآثارها مادامت في هذه النشأة ما يترتب على الأشياء الخارجية ، بل وجودات آثارها ـ حينئذ ـ كظلال وأشباح للوجودات الخارجية ، وإن كانت الماهية بعينها محفوظة في الوجودين.

نعم من تجرّد عن جلباب البشرية ، واتّصل بعالم القدس ومحل الكرامة ، وكملت قوّته ، فإنّه يقدر على إيجاد أمور موجودة في الخارج ، مترتبة عليها الآثار ، ولو كان بعد في هذه النشأة.

٢٧١

كما قال في الفتوحات المكية : بالوهم يخلق كلّ إنسان في قوّة خياله ما لا وجود له إلّا فيها ، وهذا هو الأمر العام لكلّ إنسان ، والعارف يخلق بالهمّة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة ، ولكن لا تزال الهمة تحفظه ، ولا يؤدها حفظ ما خلقه ، فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق عدم ذلك المخلوق ، إلّا أن يكون العارف قد ضبط جميع الحضرات ، وهو لا يغفل مطلقا (١).

وصل

وإلى هذه النشأة المثالية أشير فيما نقل عن الأقدمين أن في الوجود عالما مقداريا غير العالم الحسّي ، لا تتناهى عجائبه ، ولا تحصى مدنه ، من جملة تلك المدن جابلقا ، وجابرصا ، وهما مدينتان عظيمتان ، لكلّ منهما ألف باب ، لا يحصى ما فيهما من الخلائق.

وقال في الفتوحات ، في الباب الثامن الّذي يذكر فيه أرض الحقيقة وما فيها من الغرائب والعجائب ، قال : وفي كلّ نفس يخلق الله فيها عوالم يسبّحون الليل والنهار لا يفترون.

وخلق الله من جملة عوالمها عالما على صورنا ، إذا أبصرها العارف يشاهد نفسه فيها.

وقد أشار إلى ذلك عبد الله بن عباس فيما روي عنه في حديث : هذه الكعبة وإنها بيت واحد من أربعة عشر بيتا ، وإن في كلّ أرض من الأرضين السبع

__________________

(١) ـ الأسفار الأربعة : ١ : ٢٦٦ ، عن فصوص الحكم لابن عربي.

٢٧٢

خلقا مثلنا ، حتّى إن فيهم ابن عباس مثلي. وصدّقت هذه الرواية عند أهل الكشف.

قال : وكل ما فيها حي ناطق ، وهي باقية لا تفنى ، ولا تتبدل ، وإذا دخلها العارفون إنّما يدخلون بأرواحهم ، لا بأجسامهم ، فيتركون هياكلهم في هذه الأرض الدنيا ، ويتجرّدون. وفيها مدائن لا تحصى ، بعضها يسمّى مدائن النور ، لا يدخلها من العارفين إلّا كلّ مصطفى مختار.

قال : وكل حديث وآية وردت عندنا فصرفها العقل عن ظاهرها وجدناها على ظاهرها في هذه الأرض ، وكل جسد يتشكّل فيه الروحاني من ملك وجن ، وكل صورة يرى الإنسان فيها نفسه في النوم ، فمن أجساد هذه الأرض (١).

وصل

روى محمّد بن الحسن الصفّار رحمه‌الله في كتاب بصائر الدرجات ، بإسناده عن هشام الجواليقي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إنّ الله مدينة خلف البحر ، سعتها مسيرة أربعين يوما للشمس ، فيها قوم لم يعصوا الله قط ، ولا يعرفون إبليس ، ولا يعلمون خلق إبليس ، نلقاهم في كلّ حين فيسألونا عما يحتاجون إليه ، ويسألون الدعاء فنعلّمهم ، ويسألونا عن قائمنا متى يظهر ، وفيهم عبادة واجتهاد شديد.

لمدينتهم أبواب ما بين المصراع إلى المصراع مائة فرسخ ، لهم تقديس واجتهاد شديد ، لو رأيتموهم لاحتقرتم عملكم. يصلّي الرجل منهم شهرا لا يرفع رأسه من سجوده ، طعامهم التسبيح ، ولباسهم الورع ، ووجوههم مشرقة بالنور ،

__________________

(١) ـ هذه عبارات متفرقة مأخوذة من عدة صفحات. أنظر : الفتوحات المكية : ١ : ١٢٦ ـ ١٣٠.

٢٧٣

إذا رأوا منّا واحدا تحيّوه واجتمعوا إليه ، وأخذوا من أثره من الأرض يتبرّكون به ، لهم دوي إذا صلّوا أشدّ من دوي الريح العاصف ، فيهم جماعة لم يضعوا السلاح منذ كانوا ، ينتظرون قائمنا ، يدعون الله أن يريهم إياه ، وعمر أحدهم ألف سنة ، إذا رأيتهم رأيت الخشوع والاستكانة ، وطلب ما يقرّبهم إليه ، إذا احتبسنا ظنّوا أن ذلك من سخط ، يتعاهدون أوقاتنا الّتي نأتيهم فيها ، لا يسأمون ، ولا يفترون ، يتلون كتاب الله كما علمناهم ، وإن فيما نعلّمهم ما لو تلي على الناس لكفروا به ، ولأنكروه ، يسألوننا عن الشيء إذا ورد عليهم من القرآن لا يعرفونه ، فإذا أخبرناهم به انشرحت صدورهم لما يسمعون منّا ، وسألوا الله لنا طول البقاء ، وأن لا يفقدونا ، ويعلمون أنّ المنّة من الله عليهم فيما نعلمهم عظيمة ، ولهم خرجة مع الإمام إذا قاموا يسبقون فيها أصحاب السلاح منهم ، ويدعون الله أن يجعلهم ممن ينتصر به لدينه.

فيهم كهول وشبّان إذا رأى شابّ منهم الكهل جلس بين يديه جلسة العبد لا يقوم حتّى يأمره. لهم طريق هم أعلم به من الخلق إلى حيث يريد الإمام ، فإذا أمرهم الإمام بأمر قاموا عليه أبدا حتّى يكون هو الّذي يأمرهم بغيره. لو أنهم وردوا على ما بين المشرق والمغرب من الخلق لأفنوهم في ساعة واحدة ، لا يختلّ الحديد فيهم ، ولهم سيوف من حديد غير هذا الحديد ، لو ضرب أحدهم بسيفه جبلا لقدّه حتّى يفصله ، يغزو بهم الإمام الهند ، والديلم ، والكرك ، والترك ، والروم ، وبربر ، وما بين جابرسا إلى جابلقا ، وهما مدينتان ، واحدة بالمشرق وأخرى بالمغرب ، لا يأتون على أهل دين إلّا دعوهم إلى الله وإلى الإسلام وإلى الإقرار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومن لم يقرّ بالإسلام ولم يسلم قتلوه ، حتّى لا يبقى بين

٢٧٤

المشرق والمغرب وما دون الجبل أحد إلّا أقرّ (١).

وبإسناده عن الحسن بن علي عليه‌السلام ، قال : إن لله مدينتين ، إحداهما بالمشرق ، والأخرى بالمغرب ، عليهما سور من حديد ، وعلى كلّ مدينة منهما سبعون ألف ألف مصراع من ذهب ، وفيها سبعون ألف ألف لغة ، يتكلّم كلّ لغة بخلاف لغة صاحبه ، وأنا أعرف جميع اللغات ، وما فيهما وما بينهما ، وما عليهما حجة غيري ، وغير الحسين أخي(٢).

وبإسناده عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، قال : إن لله بلدة خلف المغرب ، يقال لها : جابلقا ، وفي جابلقا سبعون ألف أمّة ، ليس منها أمة إلّا مثل هذه الأمة ، فما عصوا الله طرفة عين ، فما يعملون من عمل ولا يقولون قولا إلّا الدعاء على الأولين ، والبراءة منهما ، والولاية لأهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إن من وراء أرضكم هذه أرضا بيضاء ، ضوؤها منها ، فيها خلق يعبدون الله لا يشركون به شيئا ، يتبرأون من فلان وفلان (٤).

وبإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : إن الله خلق جبلا محيطا بالدنيا من زبرجد خضر ، وإنما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل ، وخلق خلفه (٥) خلقا

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : ٤٩٠ ، ح ٤ ، مع بعض الاختلافات اليسيرة.

(٢) ـ بصائر الدرجات : ٤٩٣ ، ح ١١.

(٣) ـ بصائر الدرجات : ٤٩٠ ، ح ١.

(٤) ـ بصائر الدرجات : ٤٩٠ ، ح ٢.

(٥) ـ كلمة «خلفه» غير موجودة في المصدر.

٢٧٥

لم يفترض عليهم شيئا ممّا افترض على خلقه من صلاة ، وزكاة ، وكلّهم يلعن رجلين من هذه الأمة ، وسمّاهما (١).

وبإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إن من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس ، فيها خلق كثير ، وإن من وراء قمركم أربعين قمرا ، فيها خلق كثير ، لا يدرون أن الله خلق آدم أم لم يخلقه ، ألهموا (٢) إلهاما لعنة فلان وفلان (٣).

وروى محمّد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله في كتاب الكافي ، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قال لي ليلة وأنا عنده ، ونظر إلى السماء ، فقال : يا با حمزة ، هذه قبة أبينا آدم عليه‌السلام ، وإن لله تعالى سواها تسعا وثلاثين قبة ، فيها خلق ما عصوا الله طرفة عين (٤).

وأمثال هذه الروايات كثير جدا ، وكلها إشارة إلى موجودات النشأة المثالية ، فيما أحسب ، ويشبه أن يكون تثنية المدينتين الشرقي والغربي المسمّاتين بجابرسا وجابلقا ، إشارة إلى ما تقدّم من هذه النشأة على النشأة الدنياوية ، وما يتأخّر منها عليها ، كما يأتي بيان القسمين ، إن شاء الله.

وإنما وصفها بالبيضاء حيث سمّاها أرضا ؛ فلأنّ نورها ذاتيّ ، كما وصفها بقوله : ضوؤها منها ، بخلاف هذه الأرض ، ووصفها بالخضرة حيث سمّاها جبلا ؛ لأن الخضرة برزخ بين البياض والسواد ، كما أنها برزخ بين الأرواح النورية والأجساد الظلمانية.

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : ٤٩٢ ، ح ٦.

(٢) ـ في المخطوطة : ألهم.

(٣) ـ بصائر الدرجات : ٤٩٠ ، ح ٣.

(٤) ـ الكافي : ٨ : ٢٣١ ، ح ٣٠٠.

٢٧٦

وكلمات العارفين المكاشفين في وصف هذه النشأة أكثر من أن تحصى ، وناهيك بما في الباب الثامن من الفتوحات المكّية في ذلك (١) ، فإنّ فيه لبلاغا.

ولعل الرجعة الّتي تكون في زمن القائم عليه‌السلام كما ورد من أهل البيت عليهم‌السلام في أخبار كثيرة إنّما تكون لأشخاص من هذا العالم ، تشاهد في الحس الظاهر ، والعلم عند الله.

وصل

وأمّا النشأة الحسّية ، فهي نشأة الموت ، والفناء ، والفقد ، والظلمة ، والجهل ، وهي مركّبة من مادّة وصورة سائلتين زائلتين ، دائمتي التغيّر والتفرقة والانقسام ، لا يتعلّق بها شعور ، ولا إشعار إلّا بتبعية النشأتين الأخريين ، وإنما يظهر للحس بتوسط الأعراض ، وذلك أيضا من حيث وحدتها الاتصالية.

وأمّا من حيث كثرتها المقدارية المتجزّية عند فرض القسمة فكلّ من أجزائها معدوم عن الآخر ، مفقود عنه ، فالكلّ غائب عن الكل ، معدوم عنه.

وكذا كلّ ما تعلّق بها من حيث هو متعلّق بها ؛ وذلك لأنها مادية ، والمادية مصحوبة بالعدم والظلمة ، بل هو جوهر مظلم ، وهي أوّل ما ظهر من الظلام ، لكونها بالقوة في ذاتها ، وبما لها في أصلها من عالم النور قبلت جميع الصور النورية ، للمناسبة ، فانتفت ظلمتها بنور صورها ، فالصور أظهرتها ، فكلّ ما وجد فيها قلّت نوريّته ، وضعفت الوجودية فيه ، وخفيت ، فاحتيج في إدراكه إلى مصادفته مجرّدا عن المادّة حتّى خلص الوجود عن العدم ، فظهر ظهورا مطلقا.

__________________

(١) ـ أنظر : الفتوحات المكية : ١ : ١٢٦.

٢٧٧

فهذه النشأة مشوبة بالظلمة ، مخلوطة بالعدم ، فهي أخسّ النشآت وأضعفها ، ولضعفها احتاجت إلى مهد المكان ، وظئر الزمان ، وأهلها الذين هم أهلها أشقياء الإنس والجن ، وسائر الحيوانات ، والنباتات ، والجمادات ، من البسائط والمركبات المحسوسة في هذا العالم الأدنى ، الذين لا يكلّمهم الله ، ولا ينظر إليهم أبدا ، كما ورد في الحديث القدسي : «ما نظرت إلى الأجسام مذ خلقتها» (١).

والأشقياء وإن كانوا في النشأة المتوسطة أيضا بأبدانهم ، ولكنهم ليسوا من أهلها ؛ لعدم شوقهم إليها ، وتعلّقهم بها ، بل إنّما تعلّقهم وركونهم وشوقهم بهذه النشأة الأدنى الأرذل ؛ لأنهم رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، فإذا فارقوها عذّبوا بفراقها ، وهذا بخلاف السعداء فإنهم وإن كانوا في النشأة الفانية أيضا بأبدانهم ، ولكنهم ليسوا من أهلها ؛ لعدم تعلّقهم بها ، وركونهم إليها ، بل إنّما شوقهم وحنينهم إلى النشأة الأخرى ، ولهذا نعموا بالوصول إليها ، ومفارقة هذا الأدنى.

ومن هنا ورد في الحديث : «الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر» (٢) ، وتصديق هذا ما روي في نهج البلاغة ، من كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في وصف الزهّاد : «كانوا قوما من أهل الدنيا ، وليسوا من أهلها ، فكانوا فيها كمن ليس منها ، عملوا فيها بما يبصرون ، وبادروا فيها ما يحذرون ، تقلّب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة ، ويرون أهل الدنيا يعظمون موت أجسادهم ، وهم أشدّ إعظاما لموت قلوب أحيائهم» (٣).

__________________

(١) ـ لم نعثر على مصدره.

(٢) ـ من لا يحضره الفقيه : ٤ : ٣٦٢.

(٣) ـ نهج البلاغة : ٣٥٢ ، رقم الخطبة «٢٣٠» فضل الجد.

٢٧٨

وصل

وإلى هذه النشأة الفانية أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث قال : «إنها حلوة خضرة حفّت بالشهوات ، وتحبّبت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها ، ولا تؤمن فجعتها ، غرّراة ، ضرّارة ، حائلة ، زائلة ، نافدة ، بائدة ، أكّالة ، غوّالة ، لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الأرض والرغبة بها (١) ، أن تكون كما قال الله عزوجل : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (٢)» (٣).

وقال عليه‌السلام : «رنق مشربها ، ردع مشرعها ، يونق منظرها ، ويوبق مخبرها ، غرور حائل ، وضوء آفل ، وظلّ زائل ، وسناد مائل» (٤).

وقال عليه‌السلام : «أقرب دار من سخط الله ، وأبعدها من رضوان الله» (٥).

إلى غير ذلك ممّا ورد في كلامه ، وكلام غيره من الأولياء عليه وعليهم‌السلام ، وفي القرآن المجيد في غير موضع (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٦).

__________________

(١) ـ في النهج : أمنية أهل الرغبة فيها والرضاء بها.

(٢) ـ سورة الكهف ، الآية ٤٥.

(٣) ـ نهج البلاغة : ١٦٤ ، خطبة رقم «١١١» في ذم الدنيا.

(٤) ـ نهج البلاغة : ١٠٨ ، خطبة رقم «٨٣» التنفير من الدنيا.

(٥) ـ نهج البلاغة : ٢٣٠ ، خطبة رقم «١٦١» النصح بالتقوى.

(٦) ـ سورة آل عمران ، الآية ١٨٥ ؛ وسورة الحديد ، الآية ٢٠.

٢٧٩

وصل

وهذه النشآت الثلاث متطابقة ، مترتبة في الصدور ، بمعنى أن كلّ موجود في هذه النشأة الدنيا من الجواهر والأعراض حتّى الحركات والسكنات والهيئات والطعوم والروائح ، فله صورة في النشأة الوسطى ، متقدّمة عليه في الوجود ، وله حقيقة في النشأة العليا ، متقدّمة على كلتيهما ، بل كلّ ما في هذا العالم الأدنى من الذوات والهيئات والنسب والأشكال والترتيبات الجسمانية والنفسانية ظلال ورسوم وتمثالات لما في العالم الأعلى من الذوات الروحانية ، والهيئات العقلية ، والنسب المعنوية ، إنّما تنزّلت وتكدّرت وتجرّبت بعد ما كانت نقية صافية مقدّسة عن النقص والشين ، مجرّدة عن الكدورة والرين ، متعالية عن الآفة والقصور ، منزّهة عن الهلاك والدثور.

ولكلّ من الثلاث طبقات متفاوتة ، مترتبة ، فالإنسان العقلي إنّما يفيض ـ مثلا ـ بنوره على هذا الإنسان السفلي بوسائط مترتبة في العوالم العقلية والمثالية ، كلّها أناس متفاوتو المراتب والنشآت.

وكذلك بين النار العقلية والنار السفلية نيرانات مترتبة ، ولهذا ورد في الحديث : «أنّ هذه النار غسلت بسبعين ماء ، ثمّ أنزلت» (١) ، إشارة إلى تنزّل مرتبتها عن كمال حقيقتها النارية ، وتضعّف تأثيرها وتنقّص جوهرها على حسب كلّ نزول.

__________________

(١) ـ ورد مضمونه في مسند زيد بن علي : ٤١٦.

٢٨٠