عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

محض ، فكلّ ما وجوده أقوى فخيريّته أتم وأوفر ، وكل ما وجوده أضعف فخيريّته أنقص وأقل، إلى أن ينتهي إلى أضعف الموجودات ، وهو المادّة الجسمانية الّتي هي قوّة الوجودات ، فهي قوّة الخيرات.

وصل

ومن هذا ظهر أنّ إطلاق الشرّ على ما يقتضي منع المتوجه إلى كمال عن وصوله إلى ذلك الكمال ، مثل البرد المفسد للثمار ، والحرّ المعفّن لها ، والمطر المانع للقصّار عن تبييض الثياب. وكالأفعال المذمومة ، مثل الظلم ، والزنا. وكالأخلاق الرديّة ، مثل الجبن ، والبخل. وكالمؤلمات والغموم ، وغير ذلك من الأمور الوجودية الّتي يتبعها أعدام إنّما هو على سبيل المجاز ؛ وذلك لأنّ هذه الأشياء ليست في أنفسها شرورا ، بل إنما يتأدى إلى الشرور بالعرض ، فإنّا إذا تأمّلنا في ذلك وجدنا البرد في نفسه من حيث هو كيفيّة ما ، وبالقياس إلى علّته الموجبة له ليس بشرّ ، بل هو كمال من الكمالات ، وإنما هو شرّ بالقياس إلى الثمار لإفساده أمزجتها ، فالشرّ بالذات هو فقدان الثمار كمالاتها اللائقة بها.

والبرد إنّما صار شرّا بالعرض ؛ لاقتضائه ذلك ، وكذلك الحر والمطر.

وأيضا الظلم والزنا ، ليسا من حيث هما أمران يصدران عن قوّتين ، كالغضبية والشهوية ـ مثلا ـ بشرّ ، بل هما من تلك الحيثية كمالان لتينك القوّتين ، إنّما يكونان شرا بالقياس إلى المظلوم ، أو إلى السياسة المدنية ، أو إلى النفس الناطقة الضعيفة عن ضبط قوّتيها الحيوانيتين ، فالشرّ بالذات هو فقدان أحد تلك الأشياء كماله ، وإنما أطلق على أسبابه بالمجاز ، لتأديته إلى ذلك.

١٠١

وكذلك القول في الأخلاق الّتي هي مبادؤها.

وعلى هذا القياس المؤلمات ، فإنها ليست بشرور من حيث إنها أمور خاصة ، ولا من حيث وجوداتها في أنفسها ، أو صدورها عن مبدئها ، إنّما هي شرور بالإضافة إلى المتألّم الفاقد لاتّصال عضو من شأنه أن يتّصل مثلا.

فهذه الوجودات ليست من حيث هي وجودات بشرور ، إنّما هي شرور بالقياس إلى الأشياء العادمة كمالاتها ، لا لذواتها ، بل لكونها مؤدية إلى تلك الأعدام ، فشرّيتها المجازية أيضا إنّما هي بالإضافة إلى أشخاص معيّنة ، وأمّا في أنفسها فليست بشرور ، كيف والشيء لا ينافي نفسه؟ وكذلك بالقياس إلى أشخاص أخر لا تنافيها ، وهو ظاهر.

وأمّا الخيرات فقد تكون حقيقية ، وقد تكون إضافية.

سؤال : نحن نعلم بالوجدان أن في الألم الّذي هو نوع من الإدراك الراجع إلى نحو من الوجود يحصل شرّان : أحدهما بالعرض ، وهو الأمر العدمي ، كقطع العضو ـ مثلا ـ أو زوال الصحّة. والآخر بالذات ، وهو الأمر الوجودي الّذي هو نفس الألم ؛ إذ لا شكّ أن تفرّق الاتصال شرّ ، سواء أدرك ، أو لم يدرك.

ثمّ الألم المترتب عليه شرّ آخر بيّن الحصول ، لا ينكره عاقل حتّى لو كان التفرّق حاصلا بدون الألم لم يتحقّق هذا الشر الآخر ، ولو فرض تحقق هذا الألم من غير حصول التفرّق لكان الشرّ بحاله ، فثبت أنّ نحوا من الوجود شرّ بالذات.

جواب : الألم إدراك للمنافي العدمي ، كتفرّق الاتصال ونحوه بالعلم الحضوري ، وهو الّذي يكون العلم فيه هو المعلوم بعينه ، لا صورة أخرى حاصلة منه ، فليس في الألم أمران أحدهما مثل التفرّق والقطع ، والثاني صورة حاصلة منه عند المتألّم يتألم لأجلها ، بل حضور ذلك المنافي العدمي هو الألم بعينه ، فهو

١٠٢

وإن كان نوعا من الإدراك لكنّه من أفراد العدم وثبوته على نحو ثبوت أعدام الملكات ، كالعمى والسكون.

وقد علمت أن وجود كلّ شيء عين ماهيّته ، فوجود العدم عين ماهية ذلك العدم ، كما أنّ وجود الإنسان عين الإنسان ، فهاهنا الوجود عين التفرّق ، أو القطع ، الّذي هو عدمي ، والإدراك المتعلّق به عين ذلك الوجود ، الّذي هو نفس الأمر العدمي ، الّذي هو شرّ بالذات ، وظاهر أن العدم الّذي يقال إنه شرّ هو العدم الحاصل لشيء ، لا العدم مطلقا ، كذا أفاد أستاذنا ـ دام ظلّه ـ (١).

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٧ : ٦٢ ـ ٦٦.

١٠٣

في اللذّة والألم

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا

الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (١)

أصل

اللذّة : هي إدراك الملائم.

والألم : هو إدراك للمنافي.

وهما أيضا ـ عند التحقيق ـ يرجعان إلى الوجود والعدم ؛ لأنّ الملائم للشيء ما هو خير وكمال بالنسبة إليه ، والمنافي له ما هو شر ووبال بالقياس إليه ، ومآل الخير والشرّ ـ كما دريت ـ إلى الوجود والعدم ، ومآل الإدراك إلى الاتحاد بالمدرك ، وأمّا الأمور الوجودية المؤلمة فإنّما إيلامها يرجع إلى الأعدام كما أشرنا إليه ، ولو كانت وجودات بحتة لما كانت مؤلمة ، وكذا لو كانت أعداما بحتة لما أمكن إدراكها أصلا ، مع أنّ الألم أيضا من جنس الإدراك ، ولكنّه متعلّق بالوجود المستلزم لعدم ما ، من حيث استلزامه له ، أو بوجود العدم ، كما دريت.

__________________

(١) ـ سورة فاطر ، الآية ١٩ ـ ٢١.

١٠٤

وصل

ولما كانت الملائمة والمنافرة ـ المعتبرتان في اللذّة والألم ـ ما يكون بالإضافة ، وملائم الشيء قد يكون غير ما يلائم الشيء الآخر ، كالغلبة للقوة الغضبية ، والمطعم والمنكح للقوة الشهوية ، والرجا للوهمية ، والعلوم والإدراكات للعقلية ، إلى غير ذلك ، فلا جرم كلّ لذيذ بالنسبة إلى شيء لا يجب أن يكون لذيذا بالنسبة إلى شيء آخر.

وكذا ما يكون لذيذا في حال أو في نشأة ليس بواجب أن يكون لذيذا في حال آخر، أو نشأة أخرى ، إلّا أن يكون ذلك الملذّ ملائما للملتذّ مطلقا ، وكذا القول في جانب الألم.

ولا بدّ أيضا من الشعور بالملائمة والمنافرة ؛ إذ لو كان غافلا عن ذلك لم يلتذّ ، ولم يتألّم ، ولهذا لا نلتذّ بالصحة والسلامة مع أنهما كمال وخير لنا ، فإنّ استمرار المحسوسات يذهل النفوس عن إحساسها ، ألا ترى إلى المريض الطويل المرض إذا عاد إلى الحالة الطبيعية مغافصة (١) غير خفي التدريج كيف يجد لذّة عظيمة؟

ومن هذا القبيل قلّة التذاذ بعض العلماء بعلمهم ، وقلّة تألّم الجهال بجهلهم ، أو عدم تألّمهم رأسا ، فإنّ سبب ذلك خروج أنفسهم عن مقتضى الطبيعة الأصلية بالعادات الردية ، والآفات العارضة ، والإلف مع المحسوسات والإخلاد إلى الأرض ، فإنّ هذه العوارض في النفس بمنزلة الخدر في العضو يمنعها عن

__________________

(١) ـ غافص الرجل مغافصة وغفاصا : أخذه على غرّة. (لسان العرب : ٧ : ٦١ ، مادّة : غفص).

١٠٥

الالتفات إلى المعقولات ، كما يمنع الخدر العضو عن الإحساس بالاحتراق مثلا ، وما لم تقبل النفس على المعقولات لم تجد ذوقا منها ، فلم يحصل لها شوق إليها.

وأمّا الجهل فلما كان مستمرا غير متجدّد ، وكانت النفس مشتغلة بغيره لم تكن مدركة له ، فلم تكن متألّمة به.

وصل

ثم إنّ نسبة اللذّة إلى اللذّة هي بعينها نسبة المدرك إلى المدرك ، والإدراك إلى الإدراك ؛ وذلك لأنّ المحدود والحدّ يجب أن يكونا متطابقين في قبول الشدة والضعف ، كالسواد الّذي يحد بأنه لون قابض للبصر ، ثمّ كان بعض الألوان أقبض للبصر من بعض ، فوجب أن يكون بعض ما هو سواد أشدّ من بعض ، فكلّ ما وجوده أقوى ، وخيريته أتمّ ، وملائمته أوفر ، وإدراكه أشدّ ، فالالتذاذ به أكثر ، والابتهاج به أكمل ، والسرور به أدوم.

وكل ما هو استلزامه للعدم أقوى ، وشرّيته أتم ، ومنافرته أوفر ، وإدراكه أشدّ ، فالتألّم به أكثر ، والاغتمام به أكمل ، والحزن به أدوم ، وعلى هذا القياس.

وصل

قد دريت أنّ المجرّدات عن المواد وجوداتها أقوى ، ومدركيّتها أتمّ ، وأن الخيرية والملائمة فرعان للوجود ، فإدراكها ـ لا محالة ـ ألذّ من إدراك المادّيات على اختلاف مراتبها جميعا ، فاللذات العقلية أقوى وأشدّ من اللذات الخيالية ، والخيالية أقوى وأتم من الحسية.

١٠٦

بل نقول لا نسبة للذات العقلية إلى الحسية ، كيف لا والعقل يدرك الشيء على ما هو عليه مجرّدا عما هو غريب له من القشور واللبوسات ، فينال حاق جوهره ولبّ ذاته ، وأمّا الحس فلا يدرك إلّا الخلطاء ، ولا ينال إلّا المشوبات بالغير ، فلا يحس باللون ما لم يحسّ معه بالطول والعرض ، والوضع والأين ، وبأمور أخرى غريبة عن حقيقة اللون.

وأيضا فإنّ إدراك العقل يطابق المدرك ، ولا يتفاوت ، والحس يرى الشيء الواحد عظيما في القرب ، صغيرا في البعد ، وكلّما صار أبعد يراه أصغر إلى أن يصير بسبب البعد كنقطة ، ثمّ تبطل رؤيته ، وكلّما صار أقرب كان أعظم إلى أن يصير بسبب القرب ساترا لنصف العالم ، ثمّ تبطل رؤيته.

وأيضا فإنّ مدركات العقل الأرواح الباقية الأزلية الّتي يمتنع فناؤها ، والذوات الثابتة النورية الّتي يستحيل تغيّرها ، وهي تقوّي العقل وتزيده نورا ، كلّما كثرت.

وأمّا مدركات الحس فهي الأجسام المتغيرة الفانية ، وأعراضها المادية المستحيلة الزائلة ، وهي تفسد الحسّ إذا قويت لذّته ، فإنّ لذّة العين ـ مثلا ـ في الضوء ، وألمها في الظلمة. والضوء القوي يفسدها. وكذا الصوت القوي يفسد السمع ويمنعه من إدراك الخفي بعد.

١٠٧

وصل

فتبّا وتعسا لأوهام عامية خسيسة زعمت أن اللذات القوية المستعلية هي الحسية ، وأن ما عداها لذات ضعيفة ، وكلها خيالات غير حقيقية.

قال في الإشارات : وقد يمكن أن ينبّه من جملتهم من له تمييز ما ، فيقال له : أليس ألذّ ما تصفونه من هذا القبيل هو المنكوحات ، والمطعومات ، وأمور تجري مجراها ، وأنتم تعلمون أن المتمكّن من غلبة ما ، ولو في أمر خسيس كالشطرنج والنرد ، قد يعرض له مطعوم ومنكوح فيرفضه لما يعتاضه من لذّة الغلبة الوهمية ، وقد يعرض مطعوم ومنكوح في صحبه حشمة (١) فينفض اليد منهما مراعاة للحشمة ، فتكون مراعاة الحشمة آثر وألذّ ـ لا محالة ـ هناك من المطعوم والمشروب ، وإذا عرض للكرام من الناس الالتذاذ بإنعام يصيبون موضعه آثروه على الالتذاذ بمشتهى حيواني متنافس فيه ، وآثروا فيه غيرهم على أنفسهم مسرعين إلى الإنعام به.

وكذلك فإنّ كبير النفس يستصغر الجوع والعطش عند المحافظة على ماء الوجه ، ويستحقر هول الموت ، ومفاجأة العطب عند مناجزة الأقران والمبارزين ، وربّما اقتحم الواحد منهم على عددهم ممتطيا ظهر الخطر ، لما يتوقّعه من لذّة الحمد ، ولو بعد الموت ، كأنّ تلك تصل إليه وهو ميّت ، فقد بان أنّ اللذّات الباطنة مستعلية على اللذّات الحسية.

__________________

(١) ـ هكذا في المخطوطة. وفي شرح الإشارات هكذا : وقد يعرض مطعوم ومنكوح لطالب العفة والرئاسة مع صحبة جسمه في صحة حشمه.

١٠٨

وليس ذلك في العاقل فقط ، بل وفي العجم من الحيوانات ، فإنّ من كلاب الصيد ما يقتنص على الجوع ، ثمّ يمسكه على صاحبه ، وربما حمله إليه ، والراضعة من الحيوانات تؤثر ما ولدته على نفسها ، وربما خاطرت محامية عليه أعظم من مخاطرتها في ذات حمايتها نفسها.

فإذا كانت اللذات الباطنة أعظم من الظاهرة ، وإن لم تكن عقلية ، فما قولك في العقلية؟ (١)

وصل

وطوبى وبشرى لعقول خاصية شريفة تمثّلت فيها جلية الحق الأوّل قدر ما يمكنها أن تنال منه ببهائه الّذي يخصه ، ثمّ يتمثّل فيها الوجود كله على ما هو عليه مجرّدا عن الشوائب ، مبتدئا فيه بعد الحق الأوّل بالجواهر العقلية الجبروتية ، ثمّ الروحانية الملكوتية ، والأجرام السماوية ، ثمّ ما بعد ذلك تمثّلا لا يمايز الذات.

قال بعض العلماء (٢) : لو علم الملوك ما نحن فيه من لذّة العلم لحاربونا بالسيوف (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٣).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع به الأعداء من زهر الحياة الدنيا

__________________

(١) ـ شرح الإشارات : ٣ : ٣٣٤ ، وهم وتنبيه.

(٢) ـ وهو إبراهيم بن أدهم. أنظر : تاريخ مدينة دمشق : ٦ : ٣٠٢ و ٣٠٣.

(٣) ـ سورة الإسراء ، الآية ٢١.

١٠٩

ونعيمها ، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطأونه بأرجلهم ، ولنعّموا بمعرفة الله تعالى ، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله. إنّ معرفة الله تعالى آنس من كلّ وحشة، وصاحب من كلّ وحدة ، ونور من كلّ ظلمة ، وقوّة من كلّ ضعف ، وشفاء من كل سقم ، ثمّ قال : وقد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير ، وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردّهم عما هم عليه شيء ممّا هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم، ولا أذى ، بل ما نقموا منهم إلّا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، فسلوا ربّكم درجاتهم ، واصبروا على نوائب دهركم ، تدركوا سعيهم» (١).

__________________

(١) ـ الكافي : ٨ : ٢٤٧ ، ح ٣٤٧.

١١٠

في الغنى والفقر

(وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (١)

أصل

الغنا : هو استقلال الشيء بذاته ، في كلّ ما له ، من غير تعلّق له بالغير أصلا ، ويرجع إلى ضرورة الوجود الذاتية المسماة بالوجوب الذاتي ، وهي كون الشيء بحيث ينتزع عن نفس ذاته بذاته الموجودية ، ويحكم بها عليه ، مع قطع النظر عن جميع ما عداه ، ويسمى صاحبها الغنيّ بالذات ، والواجب بالذات.

والفقر : هو عدم استقلال الشيء بذاته ، وتعلّقه بالغير ، ولو في شيء ما ، ويرجع إلى لا ضرورة الوجود ، ولا العدم بالذات ، المسماة بالإمكان الذاتي ، وهي كون الشيء بحيث لا ينتزع عن نفس ذاته الموجودية بذاته ، بل بحسب إعطاء الغير ذلك ، فيفتقر في هذا الانتزاع إلى ملاحظة ذلك الغير ، ويسمى صاحبها المستغني بالغير ، والواجب بالغير.

وقد تكون ضرورة الوجود بالنظر إلى الغير ، بأن يستدعي الغير وجود الشيء استدعاء أعمّ من الاقتضاء ، ومرجعه إلى أن الغير تأبى ذاته إلّا أن يكون للشيء ضرورة الوجود ، سواء كان باقتضاء ذاتي ، أو بحاجة ذاتية ، ووجود

__________________

(١) ـ سورة محمّد ، الآية ٣٨.

١١١

تعلّقي ، وإليه أشير في الحديث القدسي : «يا موسى أنا بدّك اللازم» (١) ، ويسمى صاحبها الغني ، أو الواجب ، بالقياس إلى الغير ، وهو قد يكون غنيا بالذات ، وقد يكون فقيرا.

وكذلك ضرورة العدم ، إمّا بالذات أو بالغير ، أو بالنظر إلى الغير ، فله الأقسام الثلاثة ، ويسمى بالامتناع ، وصاحبها بالممتنع ، والهالك ، على القياس.

وأمّا لا ضرورة الوجود ، ولا العدم ، فهي إنّما تكون بالذات ، أو بالقياس إلى الغير ، ولا تكون بالغير ، وإلّا فلو قطع النظر عن ذلك الغير يبقى هو ممكنا فقيرا في حدّ ذاته ، أو واجبا غنيا ، أو ممتنعا هالكا ، فإن كان ممكنا فلا تأثير للغير في إمكانه ، لتساوي فرض وجوده وعدمه ، واعتباره ولا اعتباره ، وقد فرض كونه مؤثرا ، هذا خلف.

وإن كان واجبا ، أو ممتنعا في ذاته ، فقد أزاله ذلك الغير عمّا يقتضيه ذاته ، وكساه خلاف ما استوجبه بطباعه ، وهذا محال ، كيف لا ، وما بالذات لا يزول ، ولا يزال ، إذن يلزم الانقلاب المحال ، وليس كذلك إذا كان الوجوب أو الامتناع بالغير حين كون الذات متّصفة بالإمكان الذاتي ؛ لأنّه عبارة عن لا اقتضاء الذات إحدى الضرورتين ، لا اقتضاؤها سلبهما.

وبينهما فرق ؛ إذ الأوّل سلب تحصيلي ، لا إيجاب سلب ، أو إيجاب عدول ، والثاني إيجاب لأحدهما ، والسلب البسيط التحصيلي بما هو كذلك لا يخرج صدقه على شيء بحسب ذاته إلى اقتضاء من تلقاء تلك الذات له ، بل يكفي فيه عدم الاقتضاء على الإطلاق.

__________________

(١) ـ تاريخ بغداد : ٢ : ٢٤٤ ، والموضوعات لابن الجوزي : ٣ : ١٣٦ ، وفيهما «يا ابن آدم» بدل «يا موسى».

١١٢

وإمّا تجويز أن يكون لشيء واحد باعتبار واحد إمكانان ، أحدهما بالذات ، والآخر بالغير ، فهو ظاهر الفساد ؛ إذ كما لا يتصور لشيء واحد باعتبار واحد وجودان ، أو عدمان ، فكذلك لا يتصور لواحد بعينه من الذوات أو الحيثيات المكثرة للذات ضرورتا وجود واحد ، أو ضرورتا عدم واحد ، ولا ضرورتا وجود وعدم واحد.

كيف ، وهذه المعاني طبائع ذهنية لا تحصل إلّا بالإضافة ، ولا يتعدد كلّ منها إلّا بتعدد ما أضيفت هي إليه؟

وقد ظهر من هذه البيانات أن كلا من الواجب بالذات والممتنع بالذات لا يكون واجبا بالغير ، ولا ممتنعا بالغير ، وإلّا يلزم إمّا عدم تأثير ذلك الغير ، وتساوي اعتباره ولا اعتباره ، وإما زوال ما بالذات ، وانقلاب الحقيقة ، وكلاهما مستبين الفساد.

أصل

قد دريت أنّه لا يجوز ترجّح أحد طرفي المتساويين من دون مرجّح ، فالماهية الممكنة ما لم يترجّح وجودها لم توجد ، وما لم يترجّح عدمها لم تنعدم ، ولا يجوز أن تقتضي ذاتها رجحان أحد الطرفين من غير سبب خارج عن نفسها ، لما دريت أن الماهية لا ذات لها قبل جعل الوجود ، وأنها ما لم تدخل في دار الوجود دخولا عرضيا ليست في نفسها شيئا من الأشياء حتّى نفسها ، فلا يصلح لإسناد مفهوم ما إليها إلّا بحسب التقدير البحت.

وأمّا اتصافها بالإمكان والامتناع وإن كان من أحوالها السابقة على

١١٣

وجودها ، وصفات وجودها ، باعتبار العقل ، فمرجعه إلى أنها لو انقلبت من التقديرية إلى الحقيقة المستقلة بحسب الفرض الجائز ، أو المستحيل ، كان الإمكان أو الامتناع من اعتباراتها ، لا أنها في حال عدمها بما هي عدم موصوفة بأحدهما.

كيف ، والمعدوم ليس بشيء؟ فإما تجويز كون الشيء مكوّن نفسه ، ومقرّر ذاته ، مع بطلانه الذاتي ، فلا يتجشّمه ذو مسكة ، على أنّه يلزم أن يكون الشيء الواحد مفيدا لوجود نفسه ، ومستفيدا عنه ، فيلزم تقدّمه بوجوده على وجوده.

وصل

وما لم يبلغ الرجحان الخارجي إلى حدّ الوجوب ، أو الامتناع ، لم يوجد الممكن ، ولم ينعدم ؛ لأنّ وقوع أحد الطرفين مع ذلك الرجحان ، إمّا ممكن ، أو واجب ؛ إذ لا وجه للامتناع ، فإن كان ممكنا عاد الكلام في سبب ترجّحه ولا يقف ، بل يؤدي إلى الافتقار بعد كلّ سبب إلى سبب آخر لا إلى نهاية ، ويلزم منه أيضا أن لا يكون ما فرض سببا بسبب ، وهو محال ، فإذن وقوعه مع الأولوية واجب.

وأيضا وقوع الطرف الآخر مع مرجوحيته غير جائز ، وإلّا لزم ترجّح المرجوح ، فوقوع الراجح واجب ، فالوجوب منتهى سلسلة الإمكانات ، والغني بالذات مرجع الفقراء ، ومن هنا قيل : إن وجوب الشيء قبل إمكانه ، وفعليته قبل قوّته.

١١٤

وصل

إمكان الماهيات الخارج عن مفهومها الوجود ، عبارة عن لا ضرورة وجودها وعدمها بالقياس إلى ذاتها من حيث هي ، وإمكان الوجودات كونها بذواتها مرتبطة ومتعلّقة ، وبحقائقها روابط وتعلّقات إلى غيرها ؛ حيث إنّ حقائقها حقائق تعلّقية ، وذواتها ذوات لمعانيّة ، كما سيأتي بيانه ، فصدق عليها لا ضرورة الطرفين من حيث خصوصياتها وتعيّناتها ؛ حيث إنّها من هذه الحيثية عين الماهيات ، وأمّا من حيث استهلاكها في الوجود الواجبي ، مع قطع النظر عن تشخّصاتها ، فليس يثبت لها الإمكان في شيء ، بل هي من هذه الحيثية واجبة بعين وجوبه تعالى.

أصل

الإمكان اللازم للماهية إن كان كافيا في فيضانها عن الواجب لذاته ، دامت الماهية موجودة بدوام الواجب ، وإلّا توقّف على شرائط ، فيكون لها إمكانان ، أحدهما الإمكان اللازم للماهية ، والثاني الاستعداد التام الّذي يحصل عند حصول الشرائط وارتفاع الموانع ، وهذه الشرائط تكون ـ لا محالة ـ حادثة مسبوقة بحوادث أخر ، وكذلك تلك الحوادث الأخر ، وهكذا ليكون كلّ سابق مقرّبا للسبب الموجد إلى المسبب ، بعد بعده عنه ، وذلك إنّما يكون بحركة دائمة إلّا ما شاء الله ، كما سيأتي تحقيقه.

ولا بدّ لتلك الحوادث من محل ليتخصّص الاستعداد بوقت دون وقت ،

١١٥

وبمحل دون آخر ، وذلك المحل هو المادّة ، كما ستعرف.

ومن هذا يظهر أن كلّ حادث فله مادّة.

وصل

الإمكان الاستعدادي له حظّ من الوجود ؛ لكونه بالفعل من جهة أخرى غير جهة كونها قوّة وإمكانا لشيء ، فإنّ المني ـ مثلا ـ وإن كان بالقياس إلى حصول الصورة الإنسانية له بالقوة ، لكن بالقياس إلى نفسه وكونه ذا صورة منوية بالفعل فهو ناقص الإنسانية ، تام المنوية ، وهذا بخلاف الإمكان الذاتي ، الّذي هو أمر سلبي محض ، وليس له من جهة أخرى معنى محصّل.

وأيضا المقوي عليه في الإمكان الاستعدادي هو أمر معيّن ، وصورة خاصة ، كالإنسانية في مثالنا ، بخلاف ما يضاف إليه الإمكان الذاتي ؛ لأنّه مطلق الوجود والعدم ، إنّما التعيّن ناشىء من قبل الفاعل من غير استدعاء الماهية بإمكانها إياه.

وأيضا الإمكان الاستعدادي يزول عند طريان ما هو استعداد له ؛ لأنّه إنّما هو بحسب حال الماهية قبل وجودها ، بخلاف الإمكان الذاتي الّذي هو بحسب حال الماهية في مرتبة بطلان نفسها ، وباعتبار عدم ذاتها ، فالذاتي أشدّ فيما تستدعيه الممكنية من القوّة والفاقة والشرّ ، ولأجل أن للاستعدادي حظّا من الوجود يقبل الشدّة والضعف بحسب القرب من الحصول والبعد عنه ، فاستعداد النطفة ـ مثلا ـ للصورة الإنسانية أضعف من استعداد العلقة لها ، وهو من استعداد المضغة ، وهكذا إلى استعداد البدن الكامل بقوته وأعضائه ، مع مزاج صالح لها.

١١٦

وبحسب هذا الإمكان يمكن لماهية واحدة أنحاء غير متناهية ، من الحصول والكون لأجل استعدادات غير متناهية ، تلحق لقابل غير متناهي الانفعال ، ينضمّ إلى فاعل غير متناهي التأثير ، فيستمرّ نزول البركات ، وينفتح باب الخيرات إلى غير النهاية ، كما ستطّلع على كيفيته ، ولو انحصر الإمكان في القسم الأوّل لا نغلق باب الإفاضة والإجادة ، ولبقي في كتم العدم عدد من الوجود لم يخرج إلى فضاء الكون أكثر ممّا وقع ، وهذا لا يليق بالجواد الكريم ، والواسع العليم.

أصل

كل ما وجد فقد وجب وجوده مادام كونه موجودا ؛ إذ لو جاز له العدم في زمان الوجود ومع الوجود لجاز الاقتران بين النقيضين ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله. وإذا لم يجز له العدم فقد وجب له الوجود.

وكذلك كلّ ما لم يوجد أو عدم فقد امتنع وجوده ما دام كونه معدوما ، لمثل ما ذكر.

وهذا الوجوب والامتناع بالقياس إلى الماهية الممكنة بالغير ، وبالقياس إلى وجودها بالذات.

أما الأوّل : فلأنّ الموصوف بالوجوب على هذا التقدير إنّما هي الماهية بشرط الوجود، على أن يكون الوجود خارجا عنها ، لا مجموع الماهية ، ومفهوم الوجود ، فالماهية الموجودة متقدّمة على وجوبها اللاحق ، وضرورة وجودها بحسب الواقع لا تنفك عن إمكانه لها بحسب نفسها.

١١٧

وأمّا الثاني : فلأنّ صدق مفهوم الوجود على حقيقة كلّ وجود من قبل صدق ذاتيات الشيء عليه ؛ حيث إنها ضرورية ذاتية مادامت الذات متحقّقة ، كما سنبينه ، فحيث تحقق الوجود فقد وجب بذاته ، وحيث لم يتحقق فقد امتنع بذاته.

نعم ، لو جرّدت الوجودات الخاصة الإمكانية بحسب الفرض عن تعلّقها بجاعلها لم يبق لها عين وذات أصلا ، بخلاف الماهيات ، فإنها حين صدور وجودها عن المبدأ بحسب ذاتها ممكنة الوجود.

أصل

كل ممكن لحقه الوجود والوجوب بغيره في وقت من الأوقات ، فإنّه كما يمتنع عدمه في ذلك الوقت ، كذلك يمتنع عدمه في مطلق نفس الأمر ، أي ارتفاعه عن الواقع مطلقا ، بلا تقييده بالأوقات المباينة لذلك الوقت ؛ لأنّ ارتفاعه عن الواقع إنّما يصح بارتفاعه عن جميع مراتب الواقع ، والمفروض خلافه ، فمعنى جواز العدم للممكن الموجود في وقت ، جوازه بالنظر إلى ماهيته ، لا بالنظر إلى الواقع.

أصل

إذا صدر شيء من الفاعل ، فلا يفتقر بعد صدوره منه إلى جاعل يجعل ذاته تلك الذات ؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، والضروري لا يفتقر إلى السبب ، فالإنسان ـ مثلا ـ إذا وجد فقد استغنى عن جاعل يجعله إنسانا ، فهو واجب

١١٨

الإنسانية ، وإن كان ممكن الوجود.

وكذا الموجود الحادث واجب الحدوث ، لا يفتقر في حدوثه إلى سبب ، وإن افتقر في وجوده.

ولا استبعاد في أن يكون اتّصاف الشيء ببعض الصفات ممكنا ، إلّا أنّه متى اتصف به يكون اتصافه بصفة أخرى عند ذلك واجبا لا يفتقر فيه إلى السبب.

ومن هنا قيل : الجوهر جوهر لنفسه ، والعرض عرض لنفسه ، وليس إذا كان كون الذات ذاتا متفرّعا على نفس الذات ، والذات مجعولة محتاجة إلى الجاعل ، فتكون هذه النسبة أيضا محتاجة إلى الجاعل ، ومجعولة ؛ لأنّه فرق بين الاحتياج الناشىء من الشيء بالذات ، والاحتياج الناشىء منه بالعرض ، وعلى سبيل الاتفاق فالذاتيات ولوازم الماهيات لا تحتاج إلى جعل جاعل ، وتأثير مؤثّر ، بل جعلها تابع لجعل الذات وجودا وعدما ، فإن كانت الذات مجعولة ، كانت ذاتياتها ولوازمها مجعولة بنفس ذلك الجعل ، وإن كانت الذات غير مجعولة ، كانت الذاتيات واللوازم غير مجعولة باللاجعل الثابت للذات ، وكما أن الضرورة الأزلية تدفع الحاجة إلى المبدأ ، كذلك الضرورة الذاتية.

والفرق بينهما إنّما هو بعدم الاحتياج التبعي في الأوّل ، وثبوته في الثاني ، فاختلاف الموصوفات والملزومات إنّما هو لأجل اختلاف الصفات واللوازم الّتي هي ذاتيات ، أو عرضيات.

وأمّا اختلاف الصفات واللوازم فهو لنفس اختلاف ذواتها ووجوداتها الّتي هي متخالفة المراتب ، كمالا ونقصا ، وشدّة وضعفا ، وسبقا ولحوقا ؛ لأنّ الباري تعالى أبدعها مختلفة بأعيانها ، لا لعلة فيها ، بل لنفسها ، ولو كان اختلافها لعلّة أخرى لتمادى إلى غير النهاية.

١١٩

وإلى مثل هذا أشار الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : «لو علم الناس كيف خلق الله هذا الخلق لم يلم أحد أحدا» (١).

وصل

فالماهية الممكنة الفاقرة إنّما تتعلق بالفاعل ، وتفتقر إليه في أصل وجودها ، دون سائر صفاتها الّتي هي من لوازم وجودها الخاص ، كالحدوث وغيره ، فهي إن كانت دائمة الوجود بالفرض ، فهي متعلّقة بالفاعل ، ومفتقرة إليه دائما ، بحيث لو فرض الوهم أن يمسك الفاعل عن إفاضة الوجود لحظة لعادت إلى عدمها الأصلي ، وإن كان وجودها مختصّا بزمان معيّن ذي مبدأ ومنتهى ، فهي متعلّقة به في ذلك الزمان كذلك.

وعلّة تعلّقها بالفاعل إنّما هو وجوبها بالغير ، وافتقارها في نفسها ، سواء دام وجودها أم لا ؛ وذلك لأنّ الوجوب بالغير أعمّ من المسبوقية بالعدم ، وكلاهما مشترك في مفهوم التعلّق بالغير ، وإذا كان معنيان أحدهما أعمّ من الآخر ، ويحمل على مفهوميهما معنى ، فإنّ ذلك المعنى للأعم بذاته وأوّلا وللأخصّ بعده ؛ لأنه لا يلحق الأخص إلّا وقد لحق الأعمّ ، من غير عكس.

__________________

(١) ـ الكافي : ٢ : ٤٤ ، ح ١.

١٢٠