محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]
المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
فإنّ الأوّل إنّما يصدق بالحمل الذاتي الأوّلي ، المسمى ب «هو هو» ، وهو ما يكون الموضوع فيه عين المحمول.
والثاني إنّما يصدق بالحمل المتعارف المسمى ب «ذو هو» ، وهو ما يكون الموضوع فيه من أفراد المحمول وجزئياته ، وباختلاف الكم والجهة في المحصورة والموجبة على الوجه المقرّر.
وهذا التقابل إنّما يتحقق في الذهن دون الخارج ، لاعتبارية أحد الطرفين فيه ، ويستحيل فيه الواسطة ، واجتماع الطرفين ، صدقا وكذبا ، إلّا في المعدوم.
ومنها : ما يكون بالملكة والعدم ، والأوّل مأخوذا باعتبار خصوصية ما ، كالبصر والعمى.
ومنها : ما يكون بالتضاد ، كالبياض والسواد ، وإنما يكون في الأنواع المندرجة تحت جنس قريب ، دون الأجناس ، كما علم بالاستقراء.
ويتعاكس هو وما قبله عموما وخصوصا ، في الحقيقي والمشهوري ، لاشتراط غاية الخلاف في حقيقي التضاد ، والقبول بحسب الشخص في مشهوري العدم.
ومنها : ما يكون بالتضايف ، بأن يعقل أحدهما بالقياس إلى الآخر ، كالأبوّة والبنوّة ، ولا يجتمعان في شيء واحد ، من جهة واحدة ، ويشترط فيه ، وفيما قبله ، أن يكون الطرفان وجوديين ، والمضاف الحقيقي هو الإضافة ، وأمّا المحمول عليه والمركب منهما فهو المشهوري ، وكذا في كلّ مشتقّ ، واندراجه تحت التقابل إنّما هو بحسب المفهوم وأعمّيته منه باعتبار ما يصدق عليه ، فلا محذور.
في المتقدّم والمتأخّر
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (١)
أصل
التقدّم : زماني ، كما لإبراهيم على محمّد عليهماالسلام ؛ وشرفي ، كما للعالم على الجاهل ؛ وطبعي ، وهو تقدّم العلّة الناقصة على المعلول ، أي تقدّم ما يمتنع بعدمه وجود المعلول ، ولا يجب بوجوده وحده ، كتقدّم الواحد على الاثنين ؛ ورتبي ، سواء كان بحسب الوضع ، كتقدّم الإمام على المأموم ، إذا اعتبر المحراب ، وبالعكس ، إذا اعتبر الباب ، أو بحسب الطبع ، كتقدّم العموم إذا ابتدأت من الجوهر هابطا إلى الإنسان ، وإذا عكست الأمر رجع المتقدّم متأخّرا ، أو علّيّ ، كتقدّم العلّة الكاملة على معلولها ، ويقال له وللطبيعي الذاتي.
وزاد أستاذنا ـ دام ظله ـ قسمين آخرين ، هما التقدم بالحقّ ، والتقدّم بالحقيقة.
والأوّل ما للحقّ باعتبار تجلّيه في أسمائه ، وتنزّله في مراتب شؤونه الّتي هي أنحاء وجودات الأشياء ، فإنّ له بهذا الاعتبار تقدّما وتأخّرا بذاته ، لا بشيء آخر ، فلا يتقدّم متقدّم ، ولا يتأخّر متأخّر إلّا بحق لازم ، وقضاء حتم.
__________________
(١) ـ سورة الحجر ، الآية ٢٤.
والثاني ما لوجود الجاعل على وجود المجعول إذا كان لكلّ منهما شيئية ووجود ، فإنّ تقدّم الشيئية على الشيئية من جهة اتصافها بالوجود تقدّم بالذات ، وتقدّم نفس الوجود على الوجود تقدّم بالحقيقة (١).
وزاد بعض سادة فضلاء العصر (٢) قسما آخر سمّاه : تقدّما دهريا ، وبنى عليه إثبات حدوث العالم ، أخذا ممّا قاله الأوائل : إنّ نسبة الثابت إلى الثابت سرمد ، ونسبة الثابت إلى المتغير دهر ، ونسبة المتغيّر إلى المتغير زمان. ويأتي الكلام فيه.
وصل
ملاك التقدّم في الزماني الزمان بحسب هويّات أجزائه ، وفي الشرفي الفضيلة ، وفي الرتبي القرب إلى المبدأ المحدود ، وفي الطبيعي أصل الوجود ، وفي العلّيّ الوجوب ، وفي الحقّي الحقّية ، وفي الحقيقي تجوهر الحقيقة وتقوّمها ، وأمّا الدهري فلا ملاك له.
وصل
المتأخّر يقابل المتقدّم ، وينقسم بانقسامه ، وقد يتصادقان باعتبارين ، وكذا المعية ، إلّا أنّ للمعية قسما آخر هو المعية في الوجود مطلقا ، كمعية شيئين ليس بينهما علاقة ذاتية ، ولا يكونان زمانيين حتّى تكون المعية زمانية ، سواء
__________________
(١) ـ أنظر : الشواهد : ٦١ ، تحت عنوان : حكمة مشرقية.
(٢) ـ هو المحقّق الداماد. أنظر : شرح المنظومة : ٢ : ٢٨٨.
كان أحدهما زمانيا ، وهو المسمى بالدهر ، أو لا يكون ، وهو المسمى بالسرمد ، بل المعية بين الزمانيات إذا اعتبرت جواهر ذواتها مع قطع النظر عن تغيّراتها الزمانية ، معيّة غير زمانية.
فصل
الزمانيات تحتاج ـ في عروض التقدم والتأخّر ، والمعية لها ـ إلى الزمان ، وأمّا أجزاء الزمان فهي بنفس ذاتها متقدّمة ومتأخّرة ، ومع لا بشيء آخر ، وتقدّمها وتأخّرها عين معيّتها في الوجود ؛ لأنها عين نحو وجودها ، ولا يتصور لها وجود غير هذا ، لضعفها وقصورها ، فهي وإن كانت متشابهة إلّا أن اختلافها بالتقدم والتأخّر من ضروريات حقيقتها ؛ لأنّ حقيقة الزمان اتصال أمر متجدّد متقضّ لذاته ، فأجزاؤه لا يمكن أن تكون لذواتها إلّا متقدّمة ومتأخّرة ومع ، وظرف وجوداتها أنفسها ، فهي قبلية وقبل ، وبعدية وبعد ، ومعية ومع ، باعتبارين.
في القديم والحادث
(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (١)
أصل
القديم : ذاتي ، وزماني.
والذاتي : ما لا يكون وجوده من غيره.
والزماني : ما لا أوّل لزمان وجوده.
ويقابله الحادث بالمعنيين ، فالحادث ـ زمانيا كان أو ذاتيا ـ يستلزم المسبوقية بالعدم ، أو اللاوجود.
أما الزماني فظاهر.
وأمّا الذاتي ، فلأنّ ما يكون وجوده من غيره لا يكون موجودا قبل أن يوجده ذلك الغير ، فلا يكون موجودا لو انفرد ، وحال الشيء باعتبار ذاته متخلّيا عن غيره قبل حاله من غيره قبلية بالذات ، فإذن يكون وجوده مسبوقا بعدمه ، أو لا وجوده.
وهذا مثل ما تقول : حرّكت يدي فتحرّك المفتاح ، أو ثمّ تحرّك المفتاح ،
__________________
(١) ـ سورة مريم ، الآية ٦٧.
ولا تقول : تحرّك المفتاح فتحرّكت يدي ، وإن كانا معا في الزمان.
أو تقول : الشعاع من النيّر ، ولا تقول : النيّر من الشعاع ، وإن لم ينفكّ أحدهما عن الآخر بحسب الزمان.
وأمّا القدم والحدوث الدهريان ، اللذان اخترعهما بعض فضلاء العصر (١) ، فلا محصّل لهما ، كما يأتي بيانه في مباحث حدوث العالم إن شاء الله.
وصل
القديم الذاتي لا يسبقه العدم أصلا ؛ لأنّ ما لا يكون وجوده من غيره لا يكون ممكنا ؛ لما دريت أنّ الممكن وجوده من غيره. ولا ممتنعا ؛ إذ الكلام في الموجودات ، فهو إذن واجب ، والواجب لا يسبقه العدم بالضرورة.
وأمّا القديم الزماني فقد يكون مسبوقا بالعدم ، حيث يكون وجوده من غيره ، فيتصادق مع الحادث الذاتي.
والحقّ أن ما لا يدخل تحت الزمان لا يتّصف بالقدم والحدوث الزمانيين ، فلا فرد للقديم الزماني ، لما سيأتي من بيان حدوث كلّ ما يدخل تحت الزمان بحسب الزمان.
__________________
(١) ـ وهو المحقّق الداماد. أنظر : شرح المنظومة : ٢ : ٢٨٨.
فصل
حدوث الأشياء الزمانية على ثلاثة أنحاء :
لأنّها إمّا أن تحدث دفعة في آن من الآنات ، فينطبق حدوثها لا محالة على ذلك الآن، كالوصول والمماسة والانطباق ونحوها.
وإما أن تحدث في مجموع زمان معيّن على نحو الانطباق عليه ، بحيث تنفرض فيها الأجزاء بإزاء ما ينفرض من الأجزاء في ذلك الزمان ، فيكون وجود كلّ جزء منها في جزء معيّن من الزمان ، كالحركة بمعنى القطع ، كما يأتي ، بل الطبائع كلها على ما سيتبيّن ، ومثل هذا الحادث بقاؤه عين حدوثه.
وإما أن تحدث في جميع الزمان ، لا على نحو الانطباق عليه ، بل بأن يوجد في كلّ جزء ينفرض في ذلك الزمان ، ولا يلزم أن يكون لمثل هذا الحادث آن يكون أوّل آنات وجوده ، والحدوث لا يستلزم ذلك ، فإنّ الحادث ما يكون زمان وجوده مسبوقا بزمان عدمه ، سواء كان لحدوثه أوّل آني ، أو لا.
ومن هذا القبيل وجود الحركة بمعنى التوسط ، كما يأتي ، وكذا الآن والسيّال الّذي هو الموجود من الزمان ، وحدوث الزاوية وأشباهها.
وقياس العدم الحادث كقياس الوجود الحادث في تثليث الأقسام ، لكن ليس نحو عدم كلّ حادث كنحو حدوثه ، فإنّ وجود الآن الّذي هو طرف الزمان على النحو الأوّل ، وعدمه على النحو الثالث ، وكذا اللاوصول ، واللامماسة ، واللاانطباق ، والفساد وأمثالها.
في القوة وما يقابلها
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (١)
أصل
القوّة قد تقال لمبدأ التغيّر في شيء آخر من حيث هو آخر ، سواء كان فعلا أو انفعالا.
وقد تقال لما به يجوز أن يصدر عن الشيء فعل أو انفعال ، وأن لا يصدر ، ويرجع إلى الإمكان الاستعدادي بالمعنى الّذي مضى ذكره ، ويقابلها الفعل.
وقد تقال لما به الشيء غير متأثر عن مقاوم ، ويقابلها الضعف.
أصل
قوّة المنفعل قد تكون مهيّئة نحو القبول دون الحفظ ، كالماء ، وقد تكون قوّة عليهما ، كالشمعة ، وقد تكون قوّة الشيء على أمر واحد ، كقوّة الفلك على الحركة الوضعية ، أو أمور محدودة ، أو غير متناهية ، كقوّة المادّة الأولى ؛ إذ لا صورة لها ، ولكن تقوى بتوسط شيء على شيء.
__________________
(١) ـ سورة فصلت ، الآية ١٥.
وكذا قوّة الفاعل قد تكون محدودة نحو أمر واحد ، كالنار على الإحراق ، وقد تكون على أمور كثيرة ، كقوّة المختارين على ما يختارونه ، والقوّة الإلهية على الكل.
قال أستاذنا ـ مدّ ظلّه ـ : الضابط في القبيلين : أنّ الشيء كلّما كان أشدّ تحصّلا كان أكثر فعلا ، وأقل انفعالا ، وكلّما كان أقلّ تحصّلا كان أكثر انفعالا ، وأقل فعلا.
فالباري سبحانه لما كان في غاية التحصّل وشدّة الوجود ، كان فاعلا للكل ، وكانت قوّته وراء ما لا يتناهى ممّا لا يتناهى.
والمادّة الأولى لما كانت في ذاتها مبهمة غاية الإبهام في الوجود ؛ لتعريها عن كافة الصور ، كانت فيها قوّة جميع الأشياء.
لست أقول : استعدادها ؛ إذ الاستعداد لكونها قوّة قريبة مخصوصة ، لا يكون إلّا بسبب صورة مخصوصة ، فلا استعداد للمادّة الأولى في ذاتها ، وإنما تستعد لشيء لأجل لحوق صورة بها (١).
أصل
القوّة الفاعلية المحدودة إذا لاقت القوّة الانفعالية المحدودة وجب صدور الفعل منها ، ولو كانت الحوادث تامة القوّة على قبول الإفاضة في هويّاتها لكانت موجودة دائما ، لكنها إنّما تتم إمكاناتها واستعداداتها للوجود بتغيّرات تعرض لها شيئا فشيئا ، فتتم بها قوّتها على الوجود ، فإذا تمّت قوتها وجدت بلا مهلة وتراخ.
__________________
(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٣ : ٦.
أصل
القوّة الفعلية قد تسمى قدرة ، وهي إذا كانت مع شعور ومشيئة ، سواء كان الفعل دائما من غير تخلّف أو لا ، وليس من شرط الفعل أن يكون مسبوقا بالعدم ، إلّا أن يعنى بالفاعل ما هو معنى إحدى المقولات التسع العرضية ، لا الفاعل بمعنى المفيض للوجود ، فلهذا صحّ أن المعلول لا يفتقر إلى الفاعل إلّا في الحدوث ، لا في البقاء ؛ إذ لا بقاء له كما سيأتي ، وإلّا فلا وجه له ؛ لما دريت أن للفاعل ليس بالذات سببا للحدوث ، بل للوجود ، فما دام المعلول موجودا فهو متعلّق بالفاعل ، ومفتقر إليه.
أصل
القوّة الفعلية قد تكون مبدأ للوجود بالإفاضة ، وقد تكون معدّة للوجود بالتحريك ، والأحق باسم الفاعل هو المعنى الأوّل ؛ لأنّ الموجد المفيض يطرد العدم عن الشيء ، ويزيل الشرّ والنقص ، والمعد المحرّك ليس من شأنه إلّا تهيئة المواد وتخصيص الأجساد بالاستعداد ، مع أنّه في نفسه متصرّم متجدّد ، فهو محرّك متحرّك ، حافض متغيّر.
أصل
القوى ـ الّتي هي مبادىء الحركات ـ بعضها يقارن النطق والتخيّل ، وبعضها لا يقارن ذلك ، والأولى يصدر عنها الشيء وضدّه ، فلا تكون قوّة تامة ، وإنما تتم إذا اقترنتها إرادة جازمة تتوقف على علم بداع ، فيجب الفعل ، فالقدرة فيها عين القوّة والاستعداد.
ومن هنا قيل : الإنسان مضطرّ في صورة مختار ، وسيأتي تحقيق هذا.
أصل
الموجود : إمّا بالفعل من كلّ وجه ، فيمتنع عليه الخروج عما كان ، كالواجب الوجود.
وإما بالقوّة من كلّ جهة ، وهذا غير متصوّر في الوجود ، إلّا فيما كان له فعلية القوّة ، ومن شأنه أن يتقوّم بأي شيء كان ، كالمادّة الأولى.
وإما بالفعل من جهة ، وبالقوة من جهة ، فلا محالة تكون ذاته مركبة من شيئين ، بأحدهما بالفعل ، وبالآخر بالقوّة ، كأكثر الموجودات.
في السبب والمسبب
(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (١)
أصل
السبب ـ ويقال له العلّة ـ ما يجب الشيء بوجوده ، ويمتنع بعدمه.
والمسبّب ـ ويقال له المعلول ـ ما يجب بوجود الشيء ، ويمتنع بعدمه ، أو عدم شيء منه.
وقد يقال : السبب بإزاء ما له مدخل في وجود الشيء ، فيمتنع بعدمه ، وإن لم يجب بوجوده ، وهو بهذا المعنى أربع : فاعل ، وغاية ، وهما علّتان للوجود ، ومادّة ، وصورة ، وهما علّتان للماهية ، أي بحسب القوام.
فالفاعل : ما به وجود الشيء ، كالنجّار للسرير.
والغاية : ما لأجله وجود الشيء ، كالاستواء للسرير.
والمادّة : هي الّتي عنها الشيء ، كالخشب للسرير ، فهي الّتي يكون الشيء معها بالقوة.
والصورة : هي الّتي يلزم منها وجود الشيء ، فمعها يكون الشيء بالفعل ، كصورة السرير.
__________________
(١) ـ سورة ص ، الآية ١٠.
أصل
العلّة الفاعلية بالقياس إلى الماهية الموجودة المعلولة ، فاعل ، وبالنسبة إلى نفس الوجود المفاض عليها منها ، مقوّم لا فاعل ؛ لأنّ هذا الوجود غير مباين له ، وأمّا بالقياس إلى نفس تلك الماهية بما هي هي فلا تكون لها سببية ، ولا تقويم أصلا ؛ لأنّ الأعيان الثابتة ما شمّت رائحة الوجود كما عرفت.
أصل
العلّة الغائية علّة فاعلية لفاعلية الفاعل بماهيّتها ، ومعلولة له في الوجود ، فهي غاية بوجه ، وعلّة غائية بوجه.
وكما أنّ العلّة الغائية ما هي متمثّلة عند الفاعل لا الواقعة عينا ، فكذلك الغاية الواقعة في العين هي ما يرجع إلى الفاعل ، فالنجّار للسرير لأجل الجلوس ، أو الباني للبيت لسكنى غيره ، أو الماشي لحاجة مؤمن ، أو لرضاء فلان ، كلهم إنّما فعلوا أفاعيلهم لأمر يرجع أخيرا إلى نفوسهم.
ومن هنا قيل : أوّل الفكر آخر العمل.
أصل
المادّة بالقياس إلى المركب علّة مادّية ، وبالقياس إلى ما ليست جزءه عنصر ، أو موضوع.
وكذا الصورة علّة صورية للمركب ، وصورة للمادّة ، وإقامتها للمادّة ليست على نحو إقامتها للمركّب ؛ لأنها مفيدة الوجود في الأوّل ، إفادة لا بالاستقلال ، بل مع شريك يوجدها أولا فتقيم بها الآخر ، فتكون واسطة وشريكا.
وفي الثاني ليست مفيدة للوجود ، بل إنّما يفيد الوجود شيء آخر ، ولكن لها ومنها.
فالصورة مبدأ فاعلي لشيء ، ومبدأ صوري لشيء آخر ، فالعلل لا يزيد عددها على أربعة.
أصل
الصورة في كلّ شيء تمام حقيقته ، سواء كانت مجرّدة عن المادّة ، أو مقترنة بها ، وإنما حاجتها إلى المادّة ليست لذاتها ، ولا لوجودها وشخصيّتها الذاتية ، بل لما يعرض لها من اللواحق اللازمة لشخصيّتها ، من الكمّ والكيف وغيرهما ، فالسرير سرير بهيئته لا بمادّته ، والعرش عرش بصورته لا بمادّته.
أصل
المادّة للشيء مادّة له بما هي مبهمة ، لا بما هي معيّنة ، وإلّا لكانت صورة لا مادّة.
فمادّة السرير إنّما هي حاملة إمكانه واستعداده ، لا بما له صورة خشبية ، بل بما له قوّة قبول أشياء كثيرة ، منها السرير ، فالمادّة منشؤها النقص والقصور.
ثم مادّة الخشب إنّما هي مادّة له بما فيه إمكان الخشبية ، لا بما فيه فعلية صور العناصر ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المادّة الأولى ، والقوّة المحضة الّتي ليست لها جهة فعلية أصلا إلّا قوّة كلّ شيء ، ولهذا تقبل الأشياء كلّها على التدريج.
أصل
الفاعل والغاية قد يتّحدان ، كما سيأتي أن فاعل الكلّ هو بعينه غاية الكل ، وجودا وعقلا ، وقد يتّحدان معا مع الصورة ، كما في الأب ، فإنّه مبدأ لتكوّن الصورة الآدمية من النطفة بصورته الآدمية ، لا شيء آخر منه ، وليس الحاصل في النطفة إلّا صورة آدمية ، وهي أيضا الغاية الّتي تتحرّك إليها النطفة ، لكنها من حيث تقوّم مع المادّة نوع الإنسان ، فهي صورة ، ومن حيث يبتدىء تركيبه منها ، فهي فاعلة ، ومن حيث تنتهي الحركة إليها ، فهي غاية.
فإذا قيست تلك الواحدة إلى المادّة كانت صورة ، وإذا قيست إلى الحركة كانت فاعلة مرة ، وغاية أخرى ، فاعلة باعتبار ابتداء الحركة ، وهي صورة الأب ، وغاية باعتبار انتهاء الحركة ، وهي صورة الابن.
وصل
بل إذا نظرت حقّ النظر إلى العلّة الغائية وجدتها في الحقيقة عين العلّة الفاعلية دائما ، ماهية ووجودا ، إنما التغاير بحسب الاعتبار المحض ، بل وجدتها عين الغاية أيضا بحسب الماهية ، فإنّ الجائع ـ مثلا ـ إذا أكل ليشبع ، فإنّما أكل
لأنّه تخيّل الشبع فحاول أن يستكمل له وجود الشبع ، فيصير من حدّ التخيل إلى حد العين ، فهو من حيث إنّه شبعان تخيّلا هو الّذي يأكل ليصير شبعانا وجودا ، فالشبعان تخيّلا هو العلّة الفاعلية بما يجعله فاعلا تاما ، وهو بعينه العلّة الغائية ، والشبعان وجودا هو الغاية المترتبة على الفعل ، فالأكل صادر من الشبع ، ومصدر للشبع ، ولكن باعتبارين مختلفين ، فهو باعتبار الوجود العلمي فاعل ، وعلّة غائية ، وباعتبار الوجود العيني غاية.
وصل
بل إذا تأمّلت في الأسباب القريبة لشيء واحد وجدتها كأنها كلّها شيء واحد ، متوجّه من حدّ نقصان إلى حدّ كمال ، فإنّ النجار بالفعل ليس ذات شخص إنساني كيف كان ، بل مع تهيئه بالآلة والوقت والمكان وغيرها ، وليس في الخشب أيضا بأي وجه كان استعداد قبول النجر ، بل مع مقارنته بيد النجّار كأنهما شيء واحد متحرّك في الأوضاع.
ثم لكلّ نجر من الفاعل ، وانفعال من القابل ، صورة خاصّة متّصلة في الاستحالات والتشكلات ، ولها غاية قريبة موصولة بها ، وهكذا اتّصلت الاستحالات ، وتواردت الصور على الانفعالات حتّى انتهت إلى صورة أخيرة هي غاية بوجه ، وصورة بوجه آخر ، والغاية أيضا فاعل من جهة ، وغرض من جهة ، وعلّة غائية من جهة.
أصل
إنّ من الأشياء ما يكون له جميع هذه الأسباب ، كالإنسان ، ومنها ما ليس له إلّا الفاعل والغاية ، كالعقل ، ومنها ما له الفاعل والغاية والصورة ، وليس له مادّة ، كالصورة الخيالية ؛ وذلك لأنّ الصورة كما تحصل من الفاعل بحسب استعداد المادّة ، كذلك قد تحصل منه من غير مشاركة المادّة ، بل على سبيل الإبداع ، يوجبها تصوّر الفاعل من غير مادّة قبل وجودها.
ومن هذا القبيل الصور الخيالية الصادرة عن النفس ، كما يأتي بيانه ، وما تجتمع فيه الأسباب تكون علّة قوامه ، غير علّة وجوده ، أعني سببه المقارن غير سببه المفارق ، وما لم يكن له إلّا الفاعل والغاية كان ما هو ، ولم هو فيه ، شيئا واحدا.
أصل
الفاعل قد يكون بالقوة ، كما هو قبل الشروع ، وقد يكون بالفعل ، كما هو بعده ، وقد يكون كليا كمطلقه ، وجزئيا كمحسوسه ، عامّا كما قيل : النجار علّة للسرير ، أو خاصا كما قيل : هذا النجار قد صنعه.
وقد يكون قريبا كالعفونة للحمّى ، وبعيدا كالاحتقان مع الامتلاء لها ، وقد يكون بالذات كالطبيب للعلاج ، وقد يكون بالعرض إمّا لأنّه مصحوب بما هو فاعل حقيقة ، كما يقال : الكاتب يعالج ، فإنّ المعالج بالذات هو من حيث إنّه طبيب ، وإما لأنّ معلوله بالذات أمر آخر يلزمه شيء نسب إلى ذلك الفاعل
بالعرض ، كالتبريد المنسوب إلى السقمونيا ؛ لأنّه يبرد بالعرض ، وفعله بالذات استفراغ الصفراء ، ويتبعه نقصان الحرارة.
ومن هذا القبيل كون الطبيب فاعلا للصحة ، وكون مزيل الدعامة علّة لسقوط الحائط ، والبنّاء علّة للبناء ، والنار للسخونة ، فإنّ معطي الصحّة مبدأ أجل من الطبيب ، ومبدأ الانحدار الثقل الطبيعي للسقف ، والبنّاء حركته علّة لحركة لبن ما ، ثمّ سكونه علّة لسكون ذلك اللبن ، وانتهاء تلك الحركة علّة لاجتماع مادّة ، وذلك الاجتماع علّة لشكل ما ، ثمّ انحفاظ ذلك ممّا يوجبه طبيعة اللبن من الثبات على نحو من الاجتماع.
وكذا النار ليست علّة للسخونة بالذات ، بل لأن تبطل البرودة المانعة لحصول السخونة ، وأمّا حصول السخونة في الماء ، واستحالته إلى النار ، فبالفاعل الّذي يكسو العناصر صورها.
وكذا الحكم في طرح البذر في الأرض ، والفكر في المقدّمات ، وسائر ما يشبه هذه الأشياء ، فإنّ هذه ليست عللا بالحقيقة.
أصل
الفاعل قد يكون بالطبع ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل ، ولا يكون من شأنه الاختيار ، ويكون فعله ملائما لطبعه الأصلي ، كالنار للإحراق ، والإنسان للصحة ، وحفظ المزاج.
وقد يكون بالقسر ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل ، ولا يكون من شأنه الاختيار ، ويكون على خلاف مقتضى طبعه الأصلي ، كالحجر المرميّ إلى فوق
للحركة إليه ، والإنسان للمرض ، والسمن والهزال.
وقد يكون بالجبر ، وهو الّذي يصدر عنه فعله بلا اختياره ، بعد أن يكون من شأنه اختيار الفعل والترك ، كالرجل الصالح للفعل القبيح المجبور عليه.
وهذه الأقسام الثلاثة مشتركة في كون كلّ منها غير مختار في فعله.
وقد يكون بالقصد ، وهو الّذي يصدر عنه الفعل مسبوقا بإرادته ، المسبوقة بعلمه المتعلّق بغرضه من ذلك الفعل ، وتكون نسبة أصل قدرته وقوّته من دون انضمام الدواعي والصوارف إلى فعله وتركه واحدة ، كالإنسان للمشي.
وقد يكون بالعناية ، وهو الّذي يتبع فعله علمه بوجه الخير فيه بحسب نفس الأمر ، ويكون علمه بوجه الخير في الفعل كافيا في صدوره عنه من غير قصد زائد على العلم ، كالإنسان لما يحصل منه بمجرّد التوهّم والتصوّر ، كالسقوط من الجدار الحاصل منه عند تخيّل السقوط ، والقبض الحاصل في جرم لسانه المعصر للرطوبة عند تصوّره للشيء الحامض.
وقد يكون بالرضا ، وهو الّذي يكون علمه بذاته الّذي هو عين ذاته سببا لوجود شيء ، ونفس معلومية الشيء له نفس وجوده عنه بلا اختلاف ، كالإنسان لتصوّراته وتوهماته.
وقد يكون بالتجلّي ، كالحقّ سبحانه للعالم عند أهل الله ، على ما سيأتي بيانه وهو قريب ممّا قبله.
وهذه الأربعة مشتركة في كون كلّ منها فاعلا بالاختيار ، وإن كان الأوّل منها مضطرا في اختياره ؛ وذلك لأنّ اختياره حادث فيه بعد العدم ، ولكلّ حادث محدث ، فيكون اختياره عن سبب مقتض وعلّة موجبة ، فإما أن يكون ذلك السبب هو أو غيره ، فإن كان غيره ، فهو مضطرّ فيه ، وإن كان نفسه ، فإما أن تكون
سببيتها لاختياره باختياره ، أو لا ، فعلى الأوّل يعود الكلام وينجرّ إلى التسلسل في الاختيارات ، وعلى الثاني يكون وجود الاختيار فيه لا بالاختيار ، فيكون مضطرّا ومحمولا على ذلك الاختيار من غيره ، فتنتهي الأسباب الخارجة عنه بالآخرة إلى الاختيار الأزلي الّذي أوجب الكلّ على ما هو عليه بمحض الاختيار ، من غير داع زائد ، ولا قصد مستأنف ، وغرض عارض ، وهذا هو معنى الاختيار الّذي هو الكمال في الحقيقة ، لا ما يفهمه العوامّ.
وهذا التقسيم ممّا استفدناه من أستاذنا سلّمه الله (١).
أصل
قد دريت أن الوجود منتهى سلسلة الإمكانات ، وأن الممكن ما لم يجب لم يوجد ، فالعلة ما لم يجب صدور المعلول عنها لم يوجد المعلول ، فكلّ علّة واجب العلّية ، وكل معلول واجب المعلولية ، فلا يجوز تخلّف أحدهما عن الآخر ، ولا انفكاكهما في الوجود ، إلّا أن المعلول مع العلّة وبها ، والعلّة مع المعلول لا به ، ونزيدك فاسمع :
وصل
العلّة إمّا أن تكون لذاتها مؤثرة في المعلول ، أو لا.
فإن لم يكن تأثيرها في المعلول لذاتها ، بل لا بدّ من اعتبار قيد آخر ، مثل
__________________
(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٣ : ١٠ ـ ١٥ ، فصل ٤.