عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وصل

وأمّا بقية المقولات فلا تقبل الحركة إلّا بالعرض.

أما الإضافة فإنها إن كانت عارضة لمقولة تقع فيها الحركة ، فهي متحرّكة بتبعيّتها ، وإلّا فلا ، فإنّ الماء إذا تحرّك في السخونة فقد انتقل من الأشدّ إلى الأضعف ، أو بالعكس ، على التدريج بالتبعية.

وكذا الانتقال من الأعلى إلى الأسفل تابع للانتقال من أين إلى أين ، والانتقال من الأكبر إلى الأصغر تابع للانتقال الكمي ، ومن الأشرف في الوضع إلى الأخسّ فيه تابع للانتقال الوضعي.

وأمّا الملك فتبدّل الحال فيه إنّما هو أولا في الأين ، فإنّ الحركة أولا في العمامة بحسب الأين ، ثمّ في التعمّم ، وفي السلاح ثمّ في التسلّح ، فالحركة فيه بالعرض ، لا بالذات.

وأمّا متى ، فإنّ وجود الحركة للجسم إنّما هو بتوسّطه ، فإنّ كلّ حركة إنّما تكون في متى ، فلو كان فيه حركة لكان لمتى متى آخر ، وهو محال.

وكذلك أن يفعل ، وأن ينفعل ، ليس فيهما حركة ؛ لأنّ الحركة خروج عن هيئة قارّة إلى هيئة قارّة ؛ لأنها لو كانت عن هيئة غير قارّة لما كان خروج عنها وترك لها ، بل إمعان في تلك الهيئة.

مثلا : إن كانت الحركة من التسخّن إلى التبرّد ، وكان الجسم في حالة تسخّنه يتبرّد ، فإنّه لم يخرج عن التسخّن حتّى يكون قد تحرك في مقولة أن ينفعل ، فإن كان قد ترك التسخين فالحركة في غير مقولة أن ينفعل.

٢٤١

وأيضا لو كان في مقولة متى حركة للزم أن يكون له في كلّ آن يفرض من زمان حركته فرد من أفراده ، كسنة أو شهر ، أو غير ذلك ، مع أن الآن طرف لأفراده.

وعلى هذا القياس حكم المقولتين الأخريين ، إذ أخذ في مفهوميهما التدرّج وعدم الاستقرار ، فإنّهما التأثير والتأثّر على نهج التجدد الاتصالي ، فالانتقال فيهما دفعي ليس على سبيل الحركة.

وأمّا ازدياد الحركة في الكيف ، أو الكم ، أو غيرهما ، شدّة وسرعة ، ازديادا تدريجيا ، فليس من الحركة في أن ينفعل في شيء حتّى يكون سلوكا من انفعال ضعيف إلى انفعال شديد على التدريج ؛ لأنّ هذا السلوك وإن كان سلوكا واحدا وانتقالا متصلا بحسب الحس ، لكنه بحسب الواقع سلوكات متعددة في سلوك توجد فيه مرتبة واحدة من السرعة ، باقية مستمرة في بعض من الزمان الّذي يقع الكلّ فيه ، فالانتقال من السرعة إلى سرعة أخرى أشدّ منها ليس شيئا فشيئا ، وإن كان أصل السلوك تدريجيا.

أصل

الحركة إمّا سريعة ، وهي الّتي تقطع مسافة أطول في الزمان المساوي ، أو الأقصر ، أو مسافة مساوية في زمان أقل. وإما بطيئة ، وهي ما يقابلها.

والبطؤ ليس لتخلل السكنات ، وإلّا لكانت نسبة السكنات المتخللة بين حركات الفرس الّذي يقطع خمسين فرسخا ـ مثلا ـ في يوم واحد إلى حركاته ، كنسبة فضل حركات الشمس في ذلك اليوم إلى حركات الفرس ، لكن فضل تلك

٢٤٢

الحركات أزيد من حركاته ، فسكنات الفرس أزيد من حركاته ، مع أنا لا نحسّ بشيء من سكناته.

وصل

الحركة لا تخلو عن حدّ ما من السرعة والبطؤ ؛ لأنّ كلّ حركة إنّما تقع في شيء ما يتحرك المتحرك فيه مسافة كانت ، أو غيرها في زمان ما ، وقد يمكن أن يتوهّم قطع تلك المسافة أو ما يجري مجراها بزمان أقل من ذلك الزمان ، فتكون الحركة أسرع من الأولى ، أو بزمان أكثر ، فتكون أبطأ منها.

والمراد من السرعة والبطؤ شيء واحد بالذات ، وهو كيفية واحدة قابلة للشدة والضعف ، وإنما تختلفان بالإضافة العارضة لهما ، فما هو سرعة بالقياس إلى شيء ، هو بعينه بطؤ بالقياس إلى آخر.

وصل

ولمّا كانت الحركة ممتنعة الانفكاك عن هذه الكيفية ، وكانت الطبيعة الّتي هي مبدأها نسبة جميع الحركات المختلفة الشدة والضعف إليها واحدة ، كان صدور حركة معيّنة منها دون ما عداها ممتنعا ؛ لعدم الأولوية ، فاقتضت أولا أمرا يشتد ويضعف بحسب اختلاف الجسم ذي الطبيعة في الكم ، أو الكيف ، أو الوضع ، أو غير ذلك ، وبحسب ما يخرج عنه، كحال ما فيه الحركة من رقّة القوام وغلظه ، ثمّ اقتضت بحسبه الحركة ، وذلك الأمر هو الميل ، وهو محسوس في الحركة الأينية ، يحسّه الممانع ، ويوجد مع عدم الحركة أيضا ، كما نجده من الزقّ

٢٤٣

المنفوخ فيه إذا حبسناه بأيدينا تحت الماء ، وكما نجده من الحجر إذا أسكنّاه في الهواء ، فلا يحتاج إثباته فيها إلى مزيد بيان.

وكذا في الحركة الكمية ؛ لأنها مستلزمة للأينية ، إذ لا بدّ للنامي والذابل من وارد يتحرك إليه ، أو خارج يتحرك منه.

وأمّا الوضعية ، فلأنّ أجزاء المتحرك بتلك الحركة تخرج عن أمكنتها ، فاستدعت ميلا ومدافعة.

وكذا الحركة الكيفية إذا كانت طبيعية ، فإنها لما كان منشأ التبدل فيها ـ حينئذ ـ هو المتحرك ، فقد أخرج نفسه من كيفية وطلب كيفية أخرى ، فله مدافعة من الكيفية الأولى إلى الكيفية الثانية ، وهو المراد بالميل فيها.

وكذا الكلام في الحركة الجوهرية.

وصل

كل ما يقبل الكون والفساد ففيه مبدأ ميل مستقيم البتّة ؛ وذلك لما سيأتي من أن كلّ جسم فله حيّز طبيعي ، ولا يكون لجسم حيّزان طبيعيّان ، فالصورة الكائنة لا تخلو إمّا أن تحصل في حيّزها الطبيعي ، أو في حيّز غريب ، وعلى الثاني يقتضي ميلا مستقيما إلى حيّزها الطبيعي ، وعلى الأوّل كانت قبل الفساد حاصلة في حيّز غريب ، فكانت تقتضي ميلا مستقيما إلى حيّزها الطبيعي.

٢٤٤

وصل

ولما كان الميل هو السبب القريب للحركة بوجه ما ، كان منقسما إلى أقسامها ، فمنه ما يحدث من طباع المتحرك ، وينقسم إلى ما تحدثه الطبيعة ، كميل الحجر عند هبوطه ، وإلى ما تحدثه النفس ، كميل النبات عند تبرّزه من الأرض ، وميل الحيوان عند اندفاعه الإرادي إلى جهة ، ومنه ما يحدث من تأثير قاسر خارج من الجسم فيه ، كميل السهم عند انفصاله عن القوس.

وإنما تختلف الأجسام في قبوله والامتناع عن ذلك بحسب الأمور الذاتية وغيرها ، والاختلاف الذاتي هو الّذي يكون بحسب قوّة الميل الطبيعي وضعفه ، وهو أن يكون الأقوى بحسب الطبع ، كالحجر العظيم أكثر امتناعا من قبول القسري ، والأضعف أقل امتناعا ، وما عدا هذا الاختلاف يكون بالأسباب الخارجة ، وذلك ككون الأضعف أكثر امتناعا ، إمّا لعدم تمكّن القاسر منه ، كالرملة الصغيرة ، أو لعدم تمكّنه من دفع الموانع ، كالتبنة ، أو لتخلخله الّذي لأجله تتطرّق إليه الموانع بسهولة ، كالريشة ، أو لغير ذلك.

وصل

ولما كان الميل هو السبب القريب للحركة ، وكان من الممتنع أن يتحرّك الجسم حركتين مختلفتين معا بالذات ؛ لأنّ الحركة الواحدة تقتضي توجها إلى مقصد ما ، ويلزمه عدم التوجه إلى غير ذلك المقصد.

والحركتان المختلفتان معا يلزمهما التوجه وعدمه إلى كلّ واحد من

٢٤٥

المقصدين معا ، ويمتنع أن يقتضي الشيء شيئا وعدمه معا ، فكان من الممتنع أن يوجد ميلان مختلفان في جسم واحد بالفعل ، سواء كانا مستقيمين ، أو مستديرين ، أو مختلفين ، إلّا أن يكون أحدهما بالعرض ، كما تجتمع حركتان كذلك.

فإذا طرأ على جسم ذي ميل طبيعي بالفعل ميل قسري تقاوم السببان ، أعني القاسر والطبيعي ، فإن غلب القاسر وصارت الطبيعة مقهورة حدث ميل قسري ، وبطل الطبيعي ، ثمّ تأخذ الموانع الخارجية والطبيعية معا في إفنائه قليلا قليلا ، وتقوى الطبيعة بحسب ذلك ، ويأخذ الميل القسري في الانتقاص ، وقوّة الطبيعة في الازدياد إلى أن تقاوم الطبيعة الباقي من الميل القسري ، فيبقى الجسم عديم الميل ، ثمّ تجدّد الطبيعة ميلها مشوبا بآثار الضعف الباقية فيها ، ويشتدّ الميل بزوال الضعف ، فيكون الأمر بين قوّة الطبيعة ، والميل القسري قريبا من الامتزاج الحادث بين الكيفيات المتضادة.

أصل

الحركة لا تكون طبيعية إلّا ويكون الجسم على حالة غير طبيعية ، كأين غير طبيعي ، أو وضع ، أو كم ، أو كيف كذلك ، وبإزاء كلّ حالة غير طبيعية منها حالة طبيعية ؛ لأنّ الجسم إذا خلّي وطباعه لم يكن له بدّ منها ، فاقتضاء الحركة والسكون من الطبيعة بالحقيقة شيء واحد تقتضيه الطبيعة الواحدة ، وهو استدعاء الحالة الطبيعية فقط ، فإن كانت غير حاصلة فذلك الاستدعاء يستلزم حركة تحصّلها ، وإن كانت حاصلة فهو بعينه يستلزم سكونا ، ومعناه أنّه لا يستلزم حركة.

٢٤٦

فالجسم إذا وصل إلى الحالة الطبيعية يجب أن يبطل ميله إليه ، ولم يكن له ميل عنه ، فإذن هو عديم الميل في هذه الحالة.

أصل

لا بدّ بين كلّ حركتين مختلفتين من سكون ؛ وذلك لأنّ المبدأ القريب لتحرك الجسم من حدّ إلى آخر في المسافة وهو الميل ، أو ما يجري مجراه ، يجب أن يكون معه ، فالموصل له إلى ذلك الحدّ يجب وجوده عند وجود الوصول ، وهو آن الوصول ، ولا امتناع في ذلك ؛ إذ الميل ونحوه ليس كالحركة غير آنيّ الوجود بالضرورة.

ثم إذا رجع الجسم من ذلك الحد ، أو انعطف ، فلذلك الرجوع أو الانعطاف ميل آخر هو علّة قريبة له ؛ لأنّ الميل للواحد لا يكون علّة للوصول إلى حدّ معين ، وللمفارقة عنه رجوعا ، أو انعطافا ، والميل حدوثه في الآن ، وليس أن حدوث الميل الثاني هو الآن الّذي صار الميل موصلا بالفعل ؛ لامتناع أن يحصل في الجسم الواحد في الآن الواحد ميلان إلى جهتين مختلفتين ، فإذن حدوث الميل الثاني في غير الآن الّذي صار فيه الميل الأوّل موصلا بالفعل ، وبينهما زمان يكون الجسم فيه ساكنا بالضرورة ، وهو المطلوب.

وصل

الحبّة المرميّة إلى فوق إذا نزلت بنزول جبل من فوقه ، فحركتها النزولية حركة عرضية ، كحركة جالس السفينة ، فلا تنافي سكونها الذاتي ، فلا يلزم منه

٢٤٧

سكون الجبل ، كذا أفاد أستاذنا ، دام ظلّه.

وبه تندفع كثير من الشبهات في هذا الباب.

أصل

قد سبق أن الجهات بالطبع ، إمّا فوق ، وهو المحيط ، وإما تحت ، وهو المركز ، فالميل الطبيعي إمّا يتوخّى الفوق ، وهو الخفّة ، وتختص بالنار والهواء وما غلبا ، أو أحدهما ، عليه من المركبات. وإما يتوخى السفل ، وهو الثقل ، ويختص بالأرض والماء ، وما غلبا ، أو أحدهما عليه ، وما تقتضيه النفوس النباتية والحيوانية يكون كحركاتها وجهات حركاتها.

وأمّا الميل الّذي في الحركة الوضعية المستديرة فلا يجوز أن يكون طبيعيا ؛ لأنّ الميل الطبيعي هرب عن حالة منافرة لطلب حالة ملائمة ، فلا جرم إذا وصل المتحرّك إلى تلك الحالة الملائمة استقرّ ، واستحال أن يعود بالطبع إلى ما فارقه ، وما من حالة في الاستدارة إلّا ويعود إليها المتحرّك ، بل توجّهه عنها هو بعينه توجّه إليها ، وهو زائد حايد ، فلا يكون ذلك بالطبع.

وأيضا فالطبيعة المحضة ليست مقاصدها وميولها إلّا بحسب ما يليق بأحوال الجسم بما هو جسم ، وهو من باب المقادير والجهات والأمكنة والأحياز ، وليس الموافق لحال الجسم المعين بما هو جسم إلّا أمر محصور في مكان أو وضع لا يتعداه ، فلا يكون مطلوبه من الأوضاع إلّا واحدا ، وكذلك من الأحياز والمقادير ، ولا يكون واحدا بالعموم ولا مختلفا بالأعداد ، فإنّ ذلك شأن الوجود العقلي ، أو النفسي ، ليس إلّا ، كذا أفاد أستاذنا ، مدّ ظلّه.

٢٤٨

وسنبيّن أن حركات الأفلاك مستديرة ، وضعية ، نفسانية ، فالحركات البسيطة ثلاثة : حركة من المركز ، وحركة إليه ، وحركة عليه ، وفي كلّ منها ميل بسيط ، اثنان مستقيمان طبيعيان ، وواحد مستدير نفساني.

٢٤٩

في الزمان والآن

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً

وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١)

أصل

الشيء إذا كان عدمه مع وجود شيء آخر ، فإذا صار موجودا كان ذلك الشيء متقدّما عليه باعتبار اقترانه مع عدم هذا الحادث ، ومعه باعتبار اقترانه مع وجوده ، فتقدم الشيء المتقدّم ليس باعتبار نفس ذاته ؛ لأنّ ذاته قد توجد مع ذات المتأخّر ، بخلاف قبليّته ، كالأب بالقياس إلى الابن ، فإنّ جوهر الأب قد يوجد مقارنا لجوهرين ، وأمّا قبليّته للابن فلا توجد مع جوهر الابن ، فإذن قبليّته زائدة على ذاته.

ولا باعتبار وصف لازم لذاته ، فإنّه ـ أيضا ـ باطل ، يظهر بطلانه بما ذكر من أن ذات المتقدّم توجد مع زوال وصف التقدّم ، وذلك عند كونه مقارنا لوجود ما تقدّم عليه ، ولا نفس عدم المتأخّر ؛ إذ قد يكون بعد وجوده أيضا ، ولا اعتبار مركب من اعتبار نفس وجود المتقدّم ، واعتبار نفس عدم المتأخّر ؛ إذ قد تتحقق هذه الهيئة التركيبية بعد ، كما إذا فرضنا وجود الأب مع العدم الحاصل لابنه بعد

__________________

(١) ـ سورة الأعراف ، الآية ٣٤.

٢٥٠

الوجود ، مع أنّه ليس بهذا الاعتبار متقدّما على ابنه ، بل متأخّر عنه ، ولا ذات الفاعل ، فإنّه قد يكون قبل ، ومع ، وبعد.

وبالجملة : لا بدّ لعروض القبلية والبعدية من أمر يكون عروضهما له لذاته ؛ إذ كلّصفة يتّصف بها شيء أو أشياء لا بالذات ، فلا بد لها أن تنتهي إلى ما يتّصف بها بالذات ؛ لاستحالة التسلسل ، ولا يجوز أن يكون المعروض بالذات للقبلية وللبعدية ، أمورا متفاصلة غير منقسمة يقتضي كلّ منها لذاته سبقا على لاحقه ، ولحوقا بسابقه ؛ إذ لو فرضنا متحرّكا نقطع بحركته مسافة تكون بين ابتداء حركته وانتهائها قبليات وبعديات متصرّمة ومتجدّدة مطابقة لأجزاء المسافة والحركة ، فإذا تحقق قبليات وبعديات متفرقة متجددة على سبيل الاتصال والانطباق لأجزاء المسافة والحركة ، فيجب أن يكون المعروض بالذات لتلك القبليات والبعديات أمرا لا يزال متصرّما ومتجدّدا على الاتصال ، بحيث يستحيل عليه انفكاك التصرّم والتجدّد عنه ، ويكون جزء منه لذاته قبل ، وجزء منه لذاته بعد ، ويمتنع لذاته صيرورة القبل منه بعدا ، والبعد منه قبلا ، وهذا هو المعني بالزمان.

وصل

وأيضا إذا فرضنا حركة في مسافة معيّنة بقدر من السرعة والبطؤ ، وأخرى في تلك المسافة بذلك القدر من السرعة ، فإن توافقتا في الأخذ والترك ، بأن ابتدأتا معا ، وانتهيتا ، فلا محالة يقطعان المسافة معا ، وإن تخالفتا في الأخذ ، فبالضرورة تقطع الثانية أقل من الأولى، وكذا إن توافقتا في الأخذ والترك وكانت إحداهما أبطأ ، فإنها تقطع أقل ، فبين أخذ السريعة الأولى ، وتركها إمكان قطع مسافة معيّنة بسرعة معيّنة ، وإمكان قطع مسافة أقلّ منها ببطؤ معيّن ، وبين

٢٥١

أخذ السريعة الثانية وتركها إمكان أقل من الإمكان الأوّل ، لكونه جزء من ذلك الإمكان ، فهناك أمر مقداري أي قابل للزيادة والنقصان بالذات ، تقع فيه الحركة ، وتتفاوت بتفاوته ؛ ضرورة أن قبول التفاوت ينتهي إلى ما يكون قبوله إياه بالذات ، وهو الّذي عبّرنا عنه بالإمكان ، وهو متّصل واحد ؛ لأنّه لو كان منقسما إلى أمور غير منقسمة لأدّى ذلك إلى تركّب المسافة من الأجزاء الّتي لا تتجزى ؛ لانطباقه على الحركة المنطبقة على المسافة ، وليس هو نفس شيء من المسافة ، والحركة والسرعة والبطؤ ؛ لأنّ كلّ واحدة منها تختلف مع الاتفاق به ، وتتّفق مع الاختلاف فيه ، وهو غير ثابت ؛ إذ لا توجد أجزاؤه معا ، وإلّا لكان إمّا مقدارا للمسافة ، أو لمادّة المتحرك ، وكل منهما باطل ؛ إذ على الأوّل يلزم كون جميع الحركات الواقعة في مسافة واحدة ، أو مسافات متساوية ، متساوية في ذلك الإمكان ، وليس كذلك.

وعلى الثاني يلزم كون زيادة المادّة بزيادته ، ونقصانها بنقصانه ، ويلزم كون الأصغر جسما أسرع حركة ، والأكبر أبطأ ، وإذا ثبت أنّه مقدار ، وأنّه متّصل واحد ، وأنّه غير مجتمع الأجزاء ، فليس هو إذن سوى الزمان ؛ إذ هو المعنيّ منه ، فهو إذن موجود.

وصل

وهو لقبوله الزيادة والنقصان مع اتصاله الغير القار ، إمّا مقدار جوهري مادي غير ثابت الذات ، بل متجدد الحقيقة ، أو مقدار تجدده وعدم قراره.

وبالجملة : إمّا مقدار حركة ، أو ذي حركة يتقدّر به من جهة اتصاله ، ويتعدد من جهة انقسامه الوهمي إلى متقدّم ومتأخّر ، فهذا النحو من الوجود له

٢٥٢

ثبات واتصال ، وله ـ أيضا ـ تجدد وانقضاء ، فكأنه شيء بين صرافة القوّة ، ومحوضة الفعل ، فمن جهة وجوده ودوامه يحتاج إلى فاعل حافظ ، ومن جهة حدوثه وتصرّمه يحتاج إلى قابل يقبل إمكانه ، وقوّة وجوده ، فلا محالة يكون جسما ، أو جسمانيا.

وأيضا له وحدة اتصالية ، وكثرة تجددية ، فمن جهة كونه أمرا واحدا يجب أن يكون له فاعل واحد ، وقابل واحد ؛ إذ الصفة الواحدة يستحيل أن تكون إلّا لموصوف واحد ، من فاعل واحد ، ومن جهة كونه ذا حدوث وتجدّد وانقضاء وتصرّم ، ففاعله القريب المباشر له يجب أن يكون له تجدد وتصرّم ، وكذا قابله يجب أن يكون ممّا يلحقه أكوان تجددية على نعت الاتصال والوحدة ، ففاعله على الإطلاق لا بدّ وأن يكون أمرا ذا اعتبارين ، وله جهتان ، جهة وحدة عقلية ، وجهة كثرة تجددية.

فبجهة وحدته يفعل الزمان بهويته الاتصالية ، ونسبته إلى أجزائه المتقدّمة والمتأخّرة نسبة واحدة ، ويفعله وما معه فعلا واحدا ، وهو علّة حدوثه وعلّة بقائه معا ؛ إذ الشيء التدريجي الغير القارّ بقاؤه عين حدوثه.

وبجهة تجدده ينفعل تارة عنه ، ويفعل أخرى ، بحسب هويات أبعاضه المخصوصة ، كذا أفاد أستاذنا (١).

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٣ : ١١٥ ، فصل ٣٠.

٢٥٣

وصل

وإذ هو شيء واحد متصل ليس فيه حدود بالفعل ، فالحركة المتقدرّة به الحافظة له يجب أن تكون مثله في الاتصال الوحداني ، فما هي بالحركات المستقيمة الأينية ، ولا الكمية ، ولا الكيفية ؛ لأنها متوجهة إلى غاية ما ، ثمّ راجعة عنها ، لتناهي الأبعاد المكانية ، واستلزام الكمية والكيفية للأينية ، فلا يتصل شيء منها بعضها ببعض ، بحيث يصير المجموع حركة واحدة ، فهي ـ لا محالة ـ متكثّرة غير وحدانية ، ويجب أيضا أن تكون أسرع الحركات وأظهرها فعلية ؛ لأنّ الزمان المستحفظة بها أظهر المقادير آنية ، وأوسعها إحاطة ؛ ولأنه كمية سائر الحركات وعددها ومقدارها ، المضبوطة هي به ، وما يكال به سائر الأشياء المكيلة ويعدّ ينبغي أن يكون أقل كمية ، وأكثر كيفية ومعنى ، وأقربها إلى الوحدة والانضباط ، وأبعدها من عروض التكثّر ، والانتشار.

فهي إذن إمّا الحركة المستديرة الوضعية الّتي لا يكون في المستديرات أسرع منها ، وهي الحركة اليومية ، الّتي بها تتقوّم الأيام والساعات والشهور والسنوات ، وبمقدار ما يقول أحد واحد يقطع المتحرك بها خمسة آلاف ومائة وستة وتسعين ميلا من محدّب الفلك الثامن ، كما ورد في الحديث.

وإما الحركة في الطبائع الجوهرية ، الّتي ليس في الوجود أسرع منها ، ومن فرط سرعتها لا ينالها الحسّ ، سيّما طبيعة الجرم الأعلى المحيط بالأجرام كلها ، من حيث إنّه موجود واحد بما فيه مجدّد للجهات والأمكنة كلها ، لكن الحركة الوضعية اليومية من توابع الحركة الجوهرية ، وفروعها ، لما تقرّر أن الحركة في العرض فرع الحركة في الجوهر ، فتعيّن الحركة الجوهرية الّتي للطبائع لذلك.

٢٥٤

وأيضا فإنا بيّنا أن الطبيعة ذات جهتين : جهة وحدة عقلية ثابتة ، وجهة كثرة تجددية زائلة ، وأنها مشتملة على مادّة شأنها القبول.

وبالجملة : لها كلّ ما لا بدّ منه في فاعل الزمان ، وقابله من الصفات الّتي ذكرناها ، فإذا ثبت أن الزمان لا بدّ له من محلّ وحافظ على الصفات المذكورة ، وثبت أن الطبائع الجوهرية كذلك ، وليس شيء آخر بهذه المثابة إلّا بتبعيّتها ، فليكن هو هي ، فالحركة الحافظة للزمان إذن هي الحركة في الطبائع الجوهرية ، الّتي ثبتت لها بالذات ، وهي الكون والفساد اللذين لها عن العدم ، وإليه.

ومن هنا قيل : الزمان هو مقدار الوجود مطلقا ، والمراد وجود الطبائع ؛ إذ هي المفتقرة إلى المقدار ، وهي وإن كانت لجميع الأجسام والأنفس ، إلّا أن القائمة منها بالجرم الأعلى المحيط من حيث اشتماله على الكلّ هي الأحرى بأن يستحفظ بها الزمان ؛ لأنّه المتقدّم على الكل ، وهو بما فيه كموجود واحد ، له نفس واحد ، وعقل واحد ، كما سيتبيّن في محله ؛ ولأن الطبائع العنصرية لا تخلو عن التضاد والتفاسد ، بسيطة كانت أو مركبة ، فليس في واحد منها دوام اتصالي ، والمجتمع من الحركات المنقطعة بوجود الأشخاص المتعاقبة على الدوام لا يكفي في تحديد الزمان ؛ لأنّه مقدار متّصل لا حدود فيه ، فمحدد الجهات والأمكنة هو بعينه محدد المدد والأزمنة ، على النحو المذكور.

وصل

فالزمان هو مقدار الطبيعة ، من جهة تقدّمها وتأخّرها الذاتيين ، كما أن الثخن مقدارها من جهة قبولها الأبعاد الثلاثة ، فللطبيعة امتدادان : أحدهما تدريجي زماني ، يقبل الانقسام الوهمي إلى متقدّم ومتأخّر زمانيين ، والآخر

٢٥٥

دفعي مكاني ، يقبل الانقسام إلى متقدّم ومتأخّر مكانيين.

وليس اتصال الزمان غير اتصال الطبيعة من جهة الانقضاء والتجدد ، أعني الحركة ، كما ليس اتصال الثخن غير اتصالها من جهة الامتداد المكاني ، أعني كونها ذات أبعاد ، بل هاهنا شيء واحد من حيث هويّته الاتصالية الغير القارّة ، يسمى حركة ، ومن حيث تعيّنه المقداري يسمى زمانا ، كما أن هناك شيئا واحدا يتعدّد بالاعتبار.

فحال الزمان مع الصورة الطبيعية ذات الامتداد الزماني ، كحال الثخن مع الصورة الجرمية ذات الامتداد المكاني.

أصل

قد دريت أن الجسم والجسماني لا يكون علّة فاعلية لشيء ، وأن علّة الشيء لا بدّ وأن تكون غير متعلّقة الذات والوجود بذلك الشيء ، ففاعل الزمان والحركة إذن منزّه عن الزمان والحركة ، فليس تقدّمه عليهما تقدّما زمانيا ، ولا هو في طرف هذه السلسلة أصلا ، بل هو خارج عنها ، نسبته إلى جميع أجزائها نسبة واحدة.

وكذلك حكم مجموع العالم ، بما هو مجموع ، فإنّه لا زمان له أصلا ؛ لأنّه إذا أخذنا في العالم من الأزمنة والزمانيات كلها بما هو شيء واحد ، مسمى باسم واحد ، فلم يبق شيء خارجا منه حتّى يكون زمانا للمجموع ، وإلّا لم يكن المجموع مجموعا على قياس ما يأتي في المكان بعينه.

وكما أن الحركة على قسمين : إحداهما متصلة ، كحركة الطبائع والأفلاك

٢٥٦

وما فيها ، والأخرى منفصلة ، كحركات العناصر وما منها الّتي لها ابتداء زماني وانتهاء زماني.

فكذلك الزمان ـ أيضا ـ على قسمين بوجه : أحدهما الزمان المتصل ، وهو مقدار حركة العالم ، من الأيام والليالي والشهور والسنين والقرون ، والثاني الزمان المنقطع ، كزمان نموّ النبات ، وبلوغ الحيوان ، أو فصول السنة.

فكما أنّ عمر الشخص ومدّة تكوّنه لا يمكن أن يكون متحققا قبله ، فكذلك عمر العالم ، ومدّة تكوّنه لا يمكن أن يكون حاصلا قبله ، وستتضح هذه المباحث مزيد اتضاح في مباحث حدوث العالم ، إن شاء الله.

فصل

وأمّا الآن ، فله معنيان :

أحدهما : ما يتفرّع على الزمان ، وهو أطرافه ، ونهاياته الغير المنقسمة ، المفروضة فيه ، وهو فاصل للزمان باعتبار ، وواصل له باعتبار آخر.

أما كونه فاصلا ؛ فلأنه يفصل الماضي عن المستقبل ، وهو بهذا الاعتبار واحد بالذات ، اثنان بالاعتبار ، فإنّ مفهوم كونه نهاية للماضي غير مفهوم كونه بداية للمستقبل.

وأمّا كونه واصلا ؛ فلأنه حدّ مشترك بين الماضي والمستقبل ، ولأجله يكون الماضي متّصلا بالمستقبل ، وهو بهذا الاعتبار واحد بالذات والاعتبار جميعا ؛ لأنّه باعتبار واحد يكون مشتركا بين القسمين ؛ لأنّه جهة اشتراكهما ، وقد مضى كيفية حدوث الآن بهذا المعنى ، وكيفيّة عدمه ، في مباحث القديم

٢٥٧

والحادث.

والمعنى الثاني : ما يتفرّع عليه الزمان ، وهو الّذي يفعل الزمان المتصل بسيلانه ، ويقال له : الآن السيّال ، وقد سبق تحقيق وجوده في مباحث الحركة ، وكذا تحقيق الفرق بينه وبين المعنى الأوّل ، وأن اعتبار الآن في ذاته غير اعتبار كونه فاعلا بحركته وسيلانه للزمان ، كالنقطة بالنسبة إلى الخط ، والحركة التوسّطية بالإضافة إلى الأكوان الدفعية والوصولات الآنية.

٢٥٨

في المكان والحيّز

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) (١)

أصل

كل جسم نسب إلى مكان بأنه فيه يكون مكانه غيره ، وغير أجزائه ، ويصحّ انتقاله منه بالكلّية ، أو بتبدّل أجزائه بالنسبة إلى أجزائه إن لم ينتقل.

ويصحّ حصول جسمين في واحد منه على سبيل البدل ، ولا ينتقل بانتقال الجسم ، ولا تحصل معه مباينة بحسب الوضع فيه ، بل هو بجملته مساو له.

فهذه أمارات المكان وخواصّه ، وهو لا يجوز أن يكون أمرا غير منقسم ، ولا أن يكون منقسما في جهة واحدة فقط ؛ لاستحالة حصول الجسم في النقطة ، أو الخط ، فهو إمّا منقسم في جهتين ، فيكون سطحا ، أو في الجهات ، فيكون بعدا ، وإذا كان سطحا لا يجوز أن يكون حالا في المتمكن ، وإلّا لانتقل بانتقاله ، بل فيما يحويه.

ولا بدّ أن يكون مماسّا للمتمكّن حاويا له من جميع الجوانب ، وإلّا لم يكن مالئا له.

__________________

(١) ـ سورة الأعراف ، الآية ١٠.

٢٥٩

وإذا كان بعدا لم يجز أن يكون عرضا ؛ لتوارد المتمكّنات عليه ، ولا ماديا ، وإلّا يلزم تداخل الجواهر المادية.

فهو إمّا السطح الباطن من الجسم الحاوي ، المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي ، وإما البعد المجرّد المنطبق على مقدار الجسم بكلّيته ، ولا استبعاد في وجود البعد المجرّد بعد التصديق بوجود الصور الخيالية والمنامية المعلومة بالضرورة ، وأن في الوجود عالما مقداريا محيطا بهذا العالم ، لا كإحاطة الحاوي للمحوي ، بل كإحاطة الطبيعة للجسم ، والروح للبدن ، كما مرّت الإشارة إليه ، وسيأتي البرهان عليه ، غاية الأمر أن ذلك ممّا ليس بقابل للإشارة الحسية ، والمكان قابل لها بتبعيّة المتمكّن ، ويتعيّن بتعيّنه ، ولا ضير في ذلك.

وأمّا حديث امتناع التداخل فقد عرفت أن ذلك مختص بالمادّيات.

وأيضا فإذا توهّمنا خروج الماء من الإناء ـ مثلا ـ وعدم دخول الهواء فيه يلزم أن يكون البعد الثابت بين أطراف الإناء موجودا.

وأيضا فإنّ كون الجسم في المكان ليس بسطحه فقط ، بل وبحجمه ، فيكون كالجسم ذا أقطار ثلاثة ، فهو إذن ليس إلّا البعد.

أصل

كل جسم فله حيّز طبيعي من ربّه ، يطلبه عند الخروج عنه بأقرب الطرق ؛ لأنا إذا لا حظنا الجسم وقطعنا النظر عن تأثيرات الأمور الخارجة عن ذاته لكان في حيّز معيّن لا محالة ، وإذ لا قاسر فهو إنّما يستوجبه لذاته وطبيعته المستفادة من ربّه.

٢٦٠