محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]
المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
وصل
ولما كان الابتهاج عبارة عن نفس الإدراك ، وإدراكه سبحانه للأشياء ، وعلمه بها ، على نحو من الترتيب على ما أشرنا إليه ، كما أن صدورها عنه كذلك ، فابتهاجه بها إذن إنّما يكون على الترتيب ، فكلّ ما هو أقرب منه وأشرف وأكمل في سلسلتي البدء والرجوع ، فهو أحبّ إليه ، وهكذا متدرّجا إلى الأحبّ فالأحب ، حتّى ينتهي إلى أخسّ الموجودات ، وأنجس العاصيات ، وهو إبليس من الأحياء ، والمادّة الجسمية من الأموات.
أصل
وكما أن الأغيار كلّها باطلات الذوات ، هالكات الحقائق ، دون وجهه الكريم ، فكذلك صفاتها كلها مستهلكة في صفاته تعالى ، مستغرقة فيها ، وكما أنّ وجوده سبحانه كلّ الوجود ، وكله الوجود ، فكذلك صفاته تعالى كلّ الصفات (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) (١) ؛ لأنّه سبحانه بسيط الحقيقة ، ليس فيه نقصان ، وما هذا شأنه يكون كلّ الشيء ، كما مرّ بيانه.
فعلمه سبحانه واحد ، ومع وحدته يكون علما بكل شيء ، وكل علم بشيء ؛ إذ لو بقي شيء ما لا يكون ذلك العلم علما به لم يكن علما حقيقيا ، بل علما بوجه ، وجهلا بوجه آخر ، وحقيقة الشيء لا يكون ممتزجا بغيره ، فلم يخرج جميعه من القوّة إلى الفعل ، وقد دريت أنّه سبحانه ليس فيه جهة فقر وقوّة
__________________
(١) ـ سورة الكهف ، الآية ٤٩.
أصلا ، ومن استصعب عليه أن يكون علمه تعالى مع وحدته علما بكل شيء فذلك لظنّه أنّه واحد وحدة عددية ، وقد سبق أن وحدته تعالى ليست كالآحاد ، فكذلك وحدة صفاته الكمالية.
وصل
بل كلّ ما يطلق عليه سبحانه وعلى غيره فإنّما يطلق عليهما بمعنيين مختلفين ، ليسا في درجة واحدة ، حتّى أن الوجود الّذي هو أعم الأشياء اشتراكا لا يشمله وغيره على نهج واحد ، بل كلّ ما سواه وجوداتها ظلال وأشباح محاكية لوجوده سبحانه.
وهكذا في سائر صفاته ، كالعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والمحبة ، والرحمة ، والغضب ، والحياء ، وغيرها ، فكلّ ذلك لا يشبه فيه الخالق الخلق ، بل هو في حقّ الخلق يصحبه نقص وشين ، بخلافه في حقّ الخالق ، فإنّه مقدّس عن القصورات والنقائص ، وإنما يطلق في حقه تعالى باعتبار غاياتها الّتي هي الكمالات دون مبادئها الّتي هي النقائص ، وواضع اللغات إنّما وضع هذه الأسامي أولا للخلق ؛ لأنّه أسبق إلى العقول والأفهام ، وفهم معانيها في حقّه تعالى عسر جدا ، وبيانها أعسر منه ، بل كلّما قيل في تقريبها إلى الأفهام فهو تبعيد له من وجه ، ولعل إلى هذا المعنى أشار من قال : «من عرف الله كلّ لسانه» (١).
__________________
(١) ـ مشكاة الأنوار : ٣٠٦ عن أبي عبد الله عليهالسلام ، والكافي : ٨ : ١٢٨ ، ضمن الحديث ٩٨ ، وفيه «من خاف الله» بدل «من عرف الله».
وصل
بل الحق أنّه كما لا يجوز لغيره سبحانه الإحاطة بمعرفة كنه ذاته تعالى ، فكذلك لا يجوز له الإحاطة بمعرفة كنه صفاته تعالى ، وكلّ ما وصفه به العقلاء ، فإنّما هو على قدر أفهامهم ، وبحسب وسعهم ، فإنهم إنّما يصفونه بالصفات الّتي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم، مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم بنوع من المقايسة ، ولو ذكر لهم من صفاته تعالى ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة لم يفهموه ، كما لم يفهموا ذاته الّتي هي وجود لا ماهية ؛ لأنّه ليس لهم ذلك ، فتوصيفهم إياه سبحانه إنّما هو على قدرهم ، لا على قدره ، وبحسبهم ليس بحسبه ، جلّ جلاله عمّا يصفون ، وتعالى شأنه عما يقولون (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (١).
كيف وقد قال سيدنا ونبيّنا ، سيّد الخلائق والنبيّين والمرسلين ، صلوات الله عليه وعليهم : «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (٢).
وما أحسن ما قال الإمام الباقر عليهالسلام : «هل سمّي عالما وقادرا إلّا لأنّه وهب العلم للعلماء ، والقدرة للقادرين ، وكل ما ميّز تموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، والباري تعالى واهب الحياة ومقدّر الموت ، ولعل النمل الصغار يتوهّم أن لله زبانيين فإنهما كمالها (٣) ، وتتصوّر أن عدمهما نقصان لمن لا يكونان له ، هكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به
__________________
(١) ـ سورة الأنعام ، الآية ٩١.
(٢) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١١٣ ، ح ١٧٦.
(٣) ـ في المصدر : كمالهما.
فيما أحسب وإلى الله المفزع». انتهى كلامه عليهالسلام (١).
وصل
وأمّا ما يوهم التشبيه ممّا ورد في الكتاب والسنّة ، فإنّما ذلك من حيث أسمائه وصفاته ومعيّته للأشياء ، لا من حيث ذاته بما هي هي ، بل الحق أنّه جل جلاله من حيث ذاته منزّه عن التنزيه ، كما أنّه منزّه عن التشبيه.
وأمّا من حيث مراتب أسمائه وصفاته ومعيّته للأشياء ، وقربه منها ، وإحاطته بها ، فيتّصف بالأمرين ، من غير فرق ؛ لأنّ له في كلّ عالم من العوالم مظاهر ومرائي ومنازل ومعالم يعرف بها ، كما قال جل اسمه في الحديث القدسي : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به ، ويده الّتي يبطش بها» (٢).
قال في الفتوحات :
فإن قلت بالتنزيه كنت مقيّدا |
|
وإن قلت بالتشبيه كنت محدّدا |
وإن قلت بالأمرين كنت مسدّدا |
|
وكنت إماما في المعارف سيّدا (٣) |
وذلك لأن التنزيه تحديد وتقييد له بما عدا ما ثبتت له تلك الأمور المنزّه عنها ، فهو تشبيه من وجه ، فالإطلاق لمن يحب له هذا الوجه تقييد له به.
__________________
(١) ـ الرواشح السماوية : ١٣٣.
(٢) ـ عوالي اللئالي : ٤ : ١٠٣.
(٣) ـ فصوص الحكم : ١ : ٧٠ ، ولم أعثر عليه في كتاب الفتوحات المكية.
ولهذا وردت الشرائع بالأمرين جميعا ؛ لئلّا يلزم التعطيل المحض ، ولا التشبيه الصرف (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١).
قال بعض العرفاء (٢) : إنّ ما لا تحويه الجهات وله أن يظهر في الأحياز فظهر فيها ، فاقتضى ذلك الظهور انضياف وصف ، أو أوصاف إليه ، ليس شيء منها يقتضيه لذاته ، فإنّه لا ينبغي أن ينفي عنه تلك الأوصاف مطلقا ، وينزّه عنها ، ويستبعد في حقّه ، ولا يثبت له أيضا مطلقا ، ويسترسل في إضافتها إليه ، بل هي ثابتة له من وجه ، ومنتفية عنه من وجه ، وهي له في الحالتين أوصاف كمال ، لا نقص لفضيلة الكمال المستوعب ، والحيطة والسعة التامّة ، مع فرط النزاهة والبساطة ، ولا يقاس غيره ممّا يوصف بتلك الأوصاف عليه ، لا في ذمّ نسبيّ ، ولا في محمدة ؛ لأن نسبتها إلى ذات شأنها ما ذكر تخالف نسبتها إلى ما يغايرها من الذوات (٣).
وقال أيضا : اعلم أنّ المعرفة الحاصلة للعقلاء توجب باتّفاقهم ، وتقتضي بإجماعهم وإطباقهم تنزيه الحق سبحانه عن صفات المحدثات والجسمانيات ،
__________________
(١) ـ سورة الشورى ، الآية ١١.
(٢) ـ هو عبد الرحمن الجامي ، كما ذكره في هامش المخطوطة. وعبد الرحمن الجامي (٨١٧ ـ ٨٩٨ ه) ، هو : عبد الرحمن بن أحمد بن محمّد الشيرازي ، المشهور بالجامي (نور الدين ، أبو البركات) ، عالم مشارك في العلوم العقلية والنقلية ، ولد بجام ـ وهي قصبة بخراسان ـ في ٢٣ شعبان ، ونشأ بهراة ، وبها عاش معظم حياته ، وتوفي بها في ١٨ المحرم.
من مؤلفاته الكثيرة : تفسير القرآن الكريم ، الدرّة الناضرة في تحقيق مذهب الصوفيين والحكماء والمتكلمين في وجود الواجب ، تاريخ هراة ، شرح الكافية لابن الحاجب في النحو ، وشرح النقاية مختصر الوقاية في الفقه الحنفي. (معجم المؤلفين : ٥ : ١٢٢ رقم ٢٥٩).
(٣) ـ أنظر : مفتاح الغيب : ١٨.
وسلب النقائص عن جنابه ، ونفي النعوت الكونية الحدوثية عنه ، فالعقول مطبقة على ذلك، ولو كان المراد الإلهيّ من معرفته هذا القدر لكان بالعقول استغناء عن إنزال الشرائع والكتب ، وإظهار المعجزات والآيات لأهل الحجب ، ولكن الحق سبحانه وتعالى غنيّ عن تنزيه العقول بمقتضى أفكارها المقيّدة بالقوى الجزئية المزاجية ، وتتعالى عن إدراكها ما لم تتّصل بالعقول الكلية ، فاحتاجت من حيث هي كذلك في معرفته الحقيقية إلى اعتناء ربّاني ، وإلقاء رحماني ، يهبها استعدادا لمعرفة ما لا تستقلّ العقول البشرية بإدراكه ، مع قطع النظر عن الفيض الإلهي ، فلما جاءت ألسنة الشرائع بالتنزيه والتشبيه والجمع بينهما كان الجنوح إلى أحدهما دون الآخر باستحسان فكري ، تقييدا أو تحديدا للحق بمقتضى الفكر والعقل من التنزيه عن شيء ، أو أشياء ، أو التشبيه بشيء أو أشياء ، بل مقتضى العقل المنصف للمتّصف بصفة نصفه أن يؤمن بكل ما وردت به الشرائع على الوجه المراد للحقّ من غير جزم بتأويل معيّن ، ولا جنوح إلى ظاهر المفهوم العام مقيّدا بذلك ، ولا عدول إلى ما يخرجه عن ظاهر المفهوم من كلّ وجه محدّدا لذلك ، فإنّ الحق منزّه في عين التشبيه ، ومطلق عن التقيّد والحصر في التشبيه والتنزيه ؛ وذلك لأنّ التنزيه عن سمات الجسمانيات وصفات المتحيّزات تشبيه استلزامي ، وتقييد تضمني بالمجرّدات العرية عن صفات الجسمانيات من العقول والنفوس الّتي هي عرية عن سمات المتحيّزات ، برية عن أحكام الظلمانيات ، والتنزيه عن الجواهر العقلية والأرواح العلية والنفوس الكلية أيضا تشبيه معنوي بالمعاني المجرّدة عن الصور العقلية ، والنسب الروحانية والنفسانية ، والتنزيه عن كلّ ذلك أيضا إلحاق للحق بالعدم ؛ إذ الموجودات المحقّقة الوجود ، والحقائق المشهودة على النحو المعهود ، منحصرة في هذه الأقسام الثلاثة ، والخارج عنها تحكّم وهمي ، وتوهّم تخيّلي ، لا علمي ؛ وذلك
أيضا تحديد عدمي بعدمات لا تتناهى.
وعلى كلّ حال فهو تحديد وتقييد ، وذلك تنزيه ليس له في التحقيق وجه سديد ، وحقيقة الحقّ المطلق تأباه وتنافيه ، ولا سيّما وقد نزلت الشرائع بحسب فهم التخاطب على العموم ، ولا يسوغ أن يخاطب الحقّ عبده بما يخرج عن ظاهر المفهوم ، فكما أمرنا أن نكلّم الناس بقدر عقولهم ، كذلك لا يخاطبهم أيضا إلّا بمقتضى مفهومهم ومعقولهم ، ولو لم يكن المفهوم العام معتبرا من كلّ وجه ، لكان ساقطا ، وكانت الإخبارات كلها مرموزة ؛ وذلك تدليس ، والحق تعالى يجلّ عن ذلك.
فيجب الإيمان بكلّ ما أخبر به من غير تحكّم عقلي ، ولا تأويل فكري ؛ إذ (ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) (١) ، وحيث أقرّت العقول بالعجز عن إدراك الحقائق فعجزها عن إدراك حقيقة الحق أحقّ ، فلا طريق لعقل عاقل ، ولا فكر مفكّر أن يتحكّم على الذات الإلهية بإثبات أمر لها ، أو سلب حكم عنها ، إلّا بإخباره عن نفسه ، فإنّ الذات المطلقة غير منضبطة في علم عقلي ، ولا مدركة بفهم فكريّ ، ولا سيّما لا وجه للحكم بأمر على أمر إلّا بإدراك المحكوم به ، والمحكوم عليه ، والحكم حقيقة ، وحقيقته النسبة بينهما ، وهذا مقروّ عقلا وكشفا وإيمانا.
فليس لأحد أن يتحكم بفكره على إخبارات الحقّ عن نفسه ، ويأوّلها على ما يوافق غرضه ، ويلائم هواه ، فإنّ الإخبارات الإلهية مهما لم يرد فيها نصّ بتعيين وجه ، وتخصيص حكم ، فهي متضمّنة جميع المفهومات المحتملة فيها ، من غير تعيين مفهوم دون مفهوم ، وهي إنّما تنزل في العموم على المفهوم الأوّل ،
__________________
(١) ـ سورة آل عمران ، الآية ٧.
وفي الخصوص على كلّ مفهوم تفهمه الخاصة من تلك العبارة ، والحقّ إنّما ذكر تلك العبارة عالما بجميع المفهومات ، محيطا بها ، وجميعها مراد له بالنسبة إلى كلّ فاهم ، ولكن بشرط الدلالة اللفظية بجميع وجوه الدلالة المذكورة على جميع الوجوه المفهومة عنها ، في الوضع العربي ، أو غيره ، أي لغة كانت تلك الإخبارات بها ؛ لأنّ للحق ظهورا في كلّ مفهوم ، ومعلوم ، وملفوظ ، ومرقوم ، وفي كلّ موجود موجود ، سواء كان من عالم الأمر ، أو من عالم الخلق ، أو من عالم الجمع ، فهو الظاهر في الكلّ بالكلّ ، وهو عين الكل ، والجزء ، وكل الكل ، فهو الظاهر في كلّ مفهوم بحسبه ، غير منحصر فيه ، ولا في غيره من المفهومات ، وهو الباطن عن كلّ فهم ، ومفهوم ، إلّا من رزقه الله فهم الأمر على ما هو عليه ، وهو أن يرى أن العالم صورة الحق ، وهويّة العالم هويّة الاسم الظاهر ، وصورة العالم هو الاسم الظاهر ، وهوية العالم هو الاسم الباطن ، وهو من حيث هو مطلق عن التقيّد بالظاهر والباطن ، والحصر في الجمع بينهما ، وهو الغير المتعيّن المطلق مطلقا في عين تعيّنه تعيّن كلّ عين من أعيان العالم ، فافهم ، والله الملهم.
في كيفية إفاضته الوجود
(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (١)
أصل
إنما يفيض الله سبحانه الوجود على هياكل الموجودات بواسطة أسمائه الحسنى.
قال عزوجل : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٢).
والاسم هو الذات من حيث تقيّده بمعنى ، أي الذات الموصوفة بصفة معيّنة ، كالرحمن، فإنّه ذات لها الرحمة ، والقهّار ذات لها القهر ، ومن هنا قال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) (٣) ، فاسمه سبحانه ليس بصوت ، فإنّه لا يسبّح ، بل يسبّح به.
وقال : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٤) ، فوصفه بذلك يدلّ على أنّه حيّ لذاته ، فالاسم هو عين المسمى ، باعتبار الهوية والوجود ، وإن كان غيره باعتبار المعنى والمفهوم ، فهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء.
__________________
(١) ـ سورة الفرقان ، الآية ٤٥.
(٢) ـ سورة الأعراف ، الآية ١٨٠.
(٣) ـ سورة الأعلى ، الآية ١.
(٤) ـ سورة الرحمن ، الآية ٧٨.
سئل الإمام الرضا عليهالسلام عن الاسم : ما هو؟ قال : صفة الموصوف (١).
وعن الصادق عليهالسلام : «من عبد الله بالتوهّم فقد كفر ، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك ، ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته الّتي وصف بها نفسه ، فعقد عليه قلبه ، ونطق به لسانه ، في سرّ أمره وعلانيته ، فأولئك هم المؤمنون حقا» (٢).
وصل
فالوجود يتجلّى بصفة من الصفات ، فيتعيّن ويمتاز عن الوجود المتجلّي بصفة أخرى ، فيصير حقيقة ما من الحقائق الأسمائية.
فالفرق بين ذاته سبحانه وبين أسمائه وصفاته ، كالفرق بين الوجود والماهية في ذوات الماهيات ، إلّا أنّه سبحانه لا ماهية له ؛ لأنّه صرف إنّية انبجست منه الإنّيات كلها ، فكما أن الوجود موجود في نفسه ، والماهية ليست موجودة في نفسها ، من حيث نفسها ، بل من حيث الوجود ، فكذلك صفات الحقّ وأسماؤه موجودات لا في أنفسها ، من حيث أنفسها ، بل من حيث الحقيقة الإلهية ، وهذا الوجود الّذي يتجلّى بالصفات هو الوجود من حيث الإلهيّة ، وهو في نفسه من حيث الإطلاق حقيقة الاسم الله المتضمّن لسائر الأسماء.
وأمّا الذات من حيث هي فلا اسم لها ؛ إذ ليست هي محلّ أثر ، ولا معلومة لأحد ، وإنما الأسماء للتعريف والتمييز ، وهو باب ممنوع لكلّ ما سوى الله
__________________
(١) ـ الكافي : ١ : ١١٣ ، ح ٣ ، وفيه «لموصوف» بدل «الموصوف».
(٢) ـ الكافي : ١ : ٨٧ ، ح ١ ، وفيه «سرائره» بدل «سر أمره».
بالقياس إليه ، فلا يعلم الله إلّا الله ، كما قيل :
تبارك الله دارت عينه حجب |
|
فليس يعلمه إلّا الله بالله |
أصل
للحقائق الأسمائية أنحاء من الوجود :
فتارة لها صور علمية ، ومظاهر عقلية ، على وجه إجمالي تظهر بحسبه صفاتها وكمالاتها وشؤونها وحيثيّاتها على صورة وحدانية مندمجة بعضها في بعض ، وهذا في علم الله المقدّم على الإيجاد ، وهي بهذا الاعتبار عين الذات الأحدية ، بنحو من الانطواء ، من غير تكثّر ، ولا تغيّر ، فهي من هذه الحيثية باقية أزلا وأبدا ، لا يتعلق الجعل والإيجاد بها ، كما لا يتطرق الفناء والعدم إليها.
وتارة لها صور عينيّة ، ومظاهر خارجية على وجه تفصيلي ، تظهر بحسبه تلك الصفات والحالات بصور متعددة متمايزة بعضها عن بعض ، وهذا له مراتب مختلفة حسب اختلاف العوالم والنشآت ، وهي بهذا الاعتبار وجودات خاصّة ، وهويّات جزئية ، هي أفعاله سبحانه ، وآثاره ، وهي من هذه الحيثية متعلّقة للجعل والإيجاد ، متّصفة بالحدوث والكثرة.
ويختلف ظهور تلك الحقائق قوّة وضعفا بحسب القرب من الحق والبعد عنه ، وقلّة الوسائط وكثرتها ، وصفاء الاستعداد وكدره ، فأقوى ظهوراتها في الحضرة العلمية ؛ لأنها هي الأصل ، وسائر العوالم منها بمنزلة الظلال والأشباح ، ثمّ في عالم الأرواح ؛ لصفائها وتقدّسها عن المواد أصلا ، ثمّ في عالم البرزخ ؛ للطافتها الإضافية ، ثمّ في عالم الحسّ.
فموجودات العالم بأسرها مظاهر لأسماء الله الحسنى ، فهو سبحانه يخلق ويدبّر كلّ نوع من الأنواع باسم من الأسماء ، وذلك الاسم هو ربّ ذلك النوع ، والله سبحانه ربّ الأرباب ، وأحسن الخالقين.
وإلى هذا أشير في كلام أهل البيت عليهمالسلام في أدعيتهم ، بقولهم : «وبالاسم الّذي خلقت به العرش ، وبالاسم الّذي خلقت به الكرسي ، وبالاسم الّذي خلقت به الأرواح» (١) ، إلى غير ذلك من هذا النمط.
والاسم الأعظم هو ربّ الإنسان الكامل ؛ لأنّه غاية الوجود ، وكما أن كلّ نوع تحته أفراد لا تحصى ، فكذلك كلّ اسم من الأسماء الكلية تحته أسامي جزئية لا تتناهى ، هي كلمات الله الّتي لا تنفد ، بها يدبّر تلك الأفراد (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) (٢) ، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) (٣).
وعن مولانا الصادق عليهالسلام : «نحن والله الأسماء الحسنى الّتي لا يقبل الله من العباد عملا إلّا بمعرفتنا» (٤).
فالأنواع البسيطة مظاهر لأسماء خاصّة معيّنة ، والمركّبة مظاهر لأسماء حاصلة من اجتماع أسامي متعدّدة ، وأشخاصها مظاهر لرقائق الأسماء الّتي تحصل من اجتماع بعضها مع بعض ، وما له صفات متعددة فهو مظهر لها كلها ، فإن كان يظهر منه في كلّ حين صفة منها ، فهو مظهر تلك الصفة في ذلك الحين.
ومن هذه الاجتماعات تحصل أسماء غير متناهية ، وكلمات لا تحصى ،
__________________
(١) ـ مصباح الكفعمي : ٣٠٢ ، وفيه «الروحانيين» بدل «الأرواح».
(٢) ـ سورة النساء ، الآية ١٧١.
(٣) ـ سورة فاطر ، الآية ١٠.
(٤) ـ الكافي : ١ : ١٤٣ ، ح ٤.
ومن هنا قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١).
وصل
ولك أن تقول : إن حقائق الموجودات هي بعينها أسماء الله وكلماته ؛ لأنها وجودات خاصة متعيّنة ، لها اتّحاد ما بتلك الجهات العقلية الّتي هي الأسماء بالحقيقة من وجه ؛ ولدلالتها على ذاته سبحانه دلالة الاسم على المسمى ، فإنّ الدلالة كما تكون بالألفاظ ، كذلك تكون بالذوات ، من غير فرق بينهما فيما يؤول إلى المعنى ، فكلّ موجود بمنزلة كلام صادر عنه تعالى دال على توحيده وتمجيده ، بل كلّ منها عند أولي البصائر لسان ناطق بوحدانيته ، يسبّح بحمده ويقدّسه عما لا يليق بجنابه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٢).
وإن شئت قلت : كلّ من الموجودات ذكر وتسبيح له تعالى ؛ إذ يفهم منه وحدانيته ، وعلمه ، واتّصافه بسائر صفات الكمال ، وتقدّسه عن صفات النقص والزوال ، فإنّ البراهين قائمة ، بل العقول السليمة قاضية بوجوب انتهاء كلّ طلب إلى مطلوب ، وكل فقر إلى غناء، وكل نقصان إلى تمام ، كما أنها قاضية بوجوب رجوع كلّ مخلوق إلى خالق ، وكل مصنوع إلى صانع ، وكل مربوب إلى ربّ ، فنقصانات الخلائق دلائل كمالات الخالق جلّ ذكره ، وكثراتها واختلافاتها
__________________
(١) ـ سورة الكهف ، الآية ١٠٩.
(٢) ـ سورة الإسراء ، الآية ٤٤.
شواهد وحدانيته ، ونفي الشريك عنه ، والضد والندّ ، جل جلاله.
كما قال مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام : «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له» ، إلى أن قال : «ففرق بين قبل وبعد ، ليعلم أن لا قبل له ولا بعد ، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها ، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها ، حجب بعضها عن بعض ؛ ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه». الحديث (١).
وقال بعض الحكماء في هذا المعنى ، وهو يصف النرجس :
عيون في جفوف في فنون |
|
بدت فأجاد صنعتها المليك |
بأبصار التغنّج طامحات |
|
كأنّ حداقها ذهب سبيك |
على غصن الزمرّد مخبرات |
|
بأن الله ليس له شريك (٢) |
فصل
لكلّ مخلوق ـ سوى الإنسان ـ حظّ من بعض الأسماء ، دون الكل ، كحظّ الملائكة من اسم السبّوح ، والقدّوس ، ولذلك قالوا : (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (٣).
__________________
(١) ـ الكافي : ١ : ١٣٨ ، ح ٤.
(٢) ـ كتاب التوحيد : ٢٠٧ و ٢٠٨ ، عن بعض الحكماء.
(٣) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٠.
وحظّ الشيطان من اسم الجبّار المتكبّر ، ولذلك عصى واستكبر ، وحظّ الحيوانات من اسم السميع والبصير والحي والقدير ، وأشباهها ، وحظّ النار من القهّار ، والهواء من اللطيف ، والماء من النافع ، والأرض من الصبور ، والأدوية السمّية من الضار ، والدنيا من الأوّل ، والآخرة من الآخر ، إلى غير ذلك.
واختصّ الإنسان بالحظّ من جميع الأسماء ؛ ولذلك أطاع تارة ، وعصى أخرى (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (١).
ومن هنا قال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٢) ، أي ركّب في فطرته من كلّ اسم من أسمائه المتقابلة المنقسمة إلى الجمالية ، والجلالية ، المعبّر عنهما باليدين في قوله تعالى: (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (٣).
ولما كانت كيفية علمه تعالى بالموجودات من جهة اشتمال أسمائه على كلّ شيء ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٤) ، كأنهم حيث لم يحصل لهم العلم بالأسماء لم يعرفوا كيفية علمه تعالى بكلّ خفي ، وجليّ ، وجزئي وكلّي.
__________________
(١) ـ سورة التوبة ، الآية ١٠٢.
(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ٣١.
(٣) ـ سورة ص ، الآية ٧٥.
(٤) ـ سورة البقرة ، الآية ٣٣.
فصل
إنّ للأسماء دولا ، بحسب ظهوراتها وظهورات أحكامها :
فمنها : ما لا ينقطع حكمه أزلا وأبدا ، كالحاكم على الأرواح ، وما لا يدخل تحت الزمان.
ومنها : ما ينقطع حكمه في الأزل دون الأبد ، كالحاكم على النشأة الأخروية.
ومنها : ما ينقطع أزلا وأبدا ، ثمّ يدخل في الغيب المطلق الإلهي ، كالحاكم على النشأة الدنياوية مطلقا ، أو يستتر ويختفي تحت الاسم الّذي حان حين دولته ، كالحاكم على أدوار الكواكب السبعة الّتي مدّة كلّ دور منها ألف سنة ، وكأنه إليه أشير في أحد معاني قوليه سبحانه : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (١) ، (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢).
فصل
أمّهات الأسماء أربعة ، هي : الأوّل ، والآخر ، والظاهر ، والباطن.
فكلّ اسم يكون مظهره أزليا وأبديا ، فأزليّته من الاسم الأوّل ، وأبديته من الاسم الآخر.
__________________
(١) ـ سورة الرحمن ، الآية ٢٩.
(٢) ـ سورة الحج ، الآية ٤٧.
وما يكون ظاهرا وباطنا ، فظهوره من الاسم الظاهر ، وبطونه من الاسم الباطن.
فالأسماء المتعلّقة بالإيجاد والإبداء داخلة في الأوّل ، والمتعلّقة بالإعادة والجزاء داخلة في الآخر ، وما يتعلّق بالظهور والبطون داخلة في الظاهر والباطن.
والأشياء لا تخلو من هذه الأربعة : الظهور ، والبطون ، والأولية ، والآخرية ، والاسم الجامع للأربعة هو الرحمن ؛ ولذا صار مقرونا بالاسم «الله» الّذي هو اسم للذات ، من حيث الإلهية ، أي من حيث له أسماء وصفات (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (١) ، الداخلة تحت حيطتهما.
والاسم الباطن من حيث إنّه ضدّ الظاهر أي من حيث وجهه الّذي لا يجتمع معه لا يمكن أن يوجد في الخارج ؛ لأنّه من هذه الحيثية طالب للبطون ، هارب عن الظهور ، فهو بهذا الاعتبار مكنون مخزون في علم الله سبحانه.
فصل
رويا في كتابي الكافي والتوحيد ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ، أنّه قال : «إنّ الله عزوجل خلق اسما بالحروف غير متصوت ، وباللفظ غير منطق ، وبالشخص غير مجسّد ، وبالتشبيه غير موصوف ، وباللون غير مصبوغ ، منفي عنه الأقطار ، مبعّد عنه الحدود ، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم ، مستتر غير مسترّ ، فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ، ليس منها واحد قبل الآخر ، فأظهر منها ثلاثة أسماء
__________________
(١) ـ سورة الإسراء ، الآية ١١٠.
لفاقة الخلق إليها ، وحجب واحدا منها وهو الاسم المكنون المخزون ، بهذه الأسماء الّتي ظهرت ، فالظاهر هو الله تعالى ، وسخّر سبحانه لكلّ اسم من هذه أربعة أركان ، فذلك اثنا عشر ركنا ، ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسما ، فعلا منسوبا إليها ، فهو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدّوس ، الخالق ، البارىء ، المصوّر ، الحيّ ، القيّوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، العليم ، الخبير ، السميع ، البصير ، الحكيم ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، العليّ ، العظيم ، المقتدر ، القادر ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، البارىء ، المنشىء ، البديع ، الرفيع، الجليل ، الكريم ، الرازق ، المحيي ، المميت ، الباعث ، الوارث ، فهذه الأسماء وما كان من الأسماء الحسنى حتّى تتم ثلاثمائة وستّين اسما ، فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة ، وهذه الأسماء الثلاثة أركان ، وحجب الاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة ، وذلك قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(١)» (٢).
فصل
لما كان كلّ اسم من الأسماء له صورة في الحضرة العلمية ، فلا بدّ أن يكون للاسم الباطن وما يختصّ به من الأسماء الغيبية من حيث إنّه ضدّ الظاهر ، أي من حيث وجهه الّذي لا يجتمع معه أيضا ، صورا في تلك الحضرة ، وهي لما كانت بذواتها طالبة للبطون ، هاربة عن الظهور ، لا يمكن أن توجد في الخارج ، فهي إذن وجودات علمية لازمة لذاته تعالى ، يمتنع اتّصافها بالوجود العيني ، فهي
__________________
(١) ـ سورة الإسراء ، الآية ١١٠.
(٢) ـ الكافي : ١ : ١١٢ ، ح ١ ؛ وكتاب التوحيد : ١٩٠ ، ح ٣ ، مع اختلاف يسير بينهما.
مفاتيح الغيب الّتي لا يعلمها إلّا هو ، وإليها أشار نبيّنا صلىاللهعليهوآله في دعائه ، بقوله : «أو استأثرت به في علم غيبك» (١).
فمفاتيح الغيب هي الممتنعات الّتي لا سبيل للعقل إليها أصلا ، وأمّا الممتنعات الّتي يفرضها العقل ، كشريك الباري ، واجتماع النقيضين ، وأمثال ذلك ، فهي أمور متوهّمة ينتجها العقل المشوب بالوهم ، وعلمه سبحانه إنّما يتعلّق بها من حيث علمه بالعقل ، والوهم ، وما يلزمهما ممّا لا وجود له ، ولا عين ، من دون أن يكون لها ذوات في العلم ، أو صور أسمائية ، وإلّا يلزم الشريك في نفس الأمر ، والوجود.
ومن هنا قيل : لم يكن ثمة شريك أصلا ، بل هو لفظ ظهر تحته العدم المحض ، فأنكرته المعرفة بتوحيد الله الوجودي ، فيسمى منكرا من القول وزورا.
أصل
كل حقيقة ممكنة الوجود وإن كانت باعتبار ثبوتها في الحضرة العلمية أزلا وأبدا ، ما شمّت رائحة الوجود ، لكن باعتبار مظاهرها الخارجية كلها موجودة وليس شيء منها باقيا في العلم ، بحيث لم توجد بعد ؛ لأنها بلسان استعداداتها طالبة للوجود العيني ، فلو لم يعط الواهب الجواد وجودها ، لم يكن الجواد جوادا ، ولو أوجد بعضها دون بعض مع أنها كلّها طالبة للوجود ، يكون ترجيحا بلا مرجّح ، وأفرادها لتوقّفها بأزمانها الّتي يعلمها الحق وقوعها فيها
__________________
(١) ـ البلد الأمين : ٣٦٥ ، دعاء قاف ، وفيه «علم الغيب عندك» بدل «غيبك».
تظهر من الغيب إلى الشهادة ظهورا غير منقطع إلى انقراض النشأة الدنياوية ، وفي الآخرة أيضا ، كما جاء في الحديث : «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنّه في ساعة ، كما يشتهي» (١) ، قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٢).
وصل
هذا الطلب وإن كان متوقّفا على الاستعداد ، ولكنّ الاستعداد أيضا من نعمه سبحانه ، ومن هنا قيل في الأدعية المأثورة : «يا مبتدىء النعم قبل استحقاقها» (٣) ، وإعطاؤه سبحانه الاستعداد دعاء منه إلى الطلب ، فالطلب بهذا الاعتبار إجابة لدعوة الحق (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (٤) ، وهو باعتبار آخر سؤال منه سبحانه ، يسأله من في السماوات والأرض.
وهذا السؤال إنّما هو بلسان الحاجة والافتقار ، وعلى وجه الذلّ والاضطرار ، وإنما هو باسم من أسمائه سبحانه ، مناسب لحاجة السائل.
فالفقير ـ مثلا ـ يدعوه بالاسم الغني ، والمريض بالاسم الشافي ، والمظلوم بالاسم المنتقم ، وعلى هذا القياس.
فكلّ ذرّة من ذرّات العالم تدعو الله اضطرارا بلسان حالها ، باسم من
__________________
(١) ـ سنن الترمذي : ٤ : ٩٩ ، ح ٢٦٨٩.
(٢) ـ سورة فصلت ، الآية ٣١ و ٣٢.
(٣) ـ مكارم الأخلاق : ٣٤٣ ، دعاء فيه اسم الله الأكبر. وفي بعض المصادر : «يا مبتدئا بالنعم ...».
(٤) ـ سورة الأحقاف ، الآية ٣١.