عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

أصل

كلّ فقير بالذات من وجه ما فهو فقير بالذات من جميع الوجوه ؛ إذ لو كان غنيا بالذات من وجه فلا يخلو إمّا أن يكون ذلك الوجه ذاته ، أو شيئا من صفاته ، لا جائز أن يكون شيئا من صفاته بعد أن يفرض فقيرا في ذاته ؛ إذ كلّ صفة فإنّما تكون بعد الذات ، فلو افتقر في ذاته افتقر في صفاته بطريق أولى.

ولا جائز أن يكون ذلك الوجه ذاته بعد أن يفرض فقيرا في شيء من صفاته إلى غيره ؛ لأنّه حينئذ إذا اعتبر ذاته من حيث هو بلا شرط ، أي مع قطع النظر عن ذلك الغير ، وجودا وعدما ، فإما أن يكون غنيا بالذات مع وجود تلك الصفة ، أو مع عدمها ، وكلاهما محال ؛ لاستلزام الأوّل وجود المسبب مع قطع النظر عن وجود سببه. والثاني عدمه مع قطع النظر عن عدمه ، مع أنّه لا يخلو في نفس الأمر عن الأمرين ، فإذا كان غناؤه في ذاته ـ مع قطع النظر عن الغير ـ محالا ، فيكون مفتقرا في ذاته إلى الغير ، فلا يكون غنيا بالذات في ذاته ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف.

أصل

كل مستغن بالغير فهو غير بسيط الحقيقة ؛ لأنّ الّذي له باعتبار ذاته غير الّذي له باعتبار غيره ، وهو حاصل الهوية منهما جميعا في الوجود.

فهو ذو جهتين : جهة بها يكون موجودا مستغنيا بالغير من حيث هو موجود مستغن بالغير ؛ وجهة بها تتعيّن هويّته الوجودية وهو اعتبار كونه في أي

١٢١

درجة من درجات الوجود ، قوّة وضعفا ، وكمالا ونقصانا ، فهو في نفسه ومن حيث طبيعته بالقوة ، ومن تلقاء سببه بالفعل ، فذاته منتظمة من مادّة وصورة متعقّلتين ، هما المسماتان بالماهية والوجود ، وكل منهما مضمن فيه الآخر ، وله بحكم الماهية الليسية الصرفة ، وبحكم جود فاعله الأيسيّة الفائضة عنه ، فإنّ القوّة والإمكان والفقر يشبه المادّة والفعلية ، والوجوب والغنا يشبه الصورة ، ففي كلّ ممكن بالذات كثرة تركيبية من أمر يشبه المادّة ، وآخر يشبه الصورة.

وصل

فاستلزام الممكن للواجب بالذات إنّما هو من جهة وجوب وجوده ، لا من جهة ماهيته ، وكذلك الشيء إذا استلزم الممتنع بالذات فإنّما يستلزمه من جهة امتناعه ، وإن كانت له جهة أخرى إمكانية.

مثلا : كون الجسم غير متناهي الأبعاد يستلزم ممتنعا بالذات ، هو كون المحصور غير محصور ، الّذي مرجعه إلى كون الشيء غير نفسه ، مع أنّه عين نفسه ، فأحدهما محال بالذات ، والآخر محال بالغير ، فلا محالة يكون ممكنا باعتبار غير اعتبار علاقته مع الممتنع بالذات.

أصل

العقل لا يقدر أن يتعقّل حقيقة الواجب بالذات ، ولا الممتنع بالذات.

أما الأوّل : فلغاية مجده ، وعلوّه ، وشدّة نوريته ، ولا تتناهي عظمته ، وكبريائه ، ولإحاطته بكل شيء ، فلا يحاط للعقل.

١٢٢

وأمّا الثاني : فلغاية نقصه ومحوضة بطلانه ، ولا شيئيته ، ولفراره من صقع الوجود ، والشيئية ، فلا حظّ له من الهوية حتّى يشار إليه ، ويحيط به العقل ، ويدركه الشعور.

فالدليل على وجود الواجب بالذات إنّما يكون بنحو من البيان الشبيه بالبرهان اللمّي.

وكذا الحكم بكون الشيء ممتنعا بالذات ، إنّما هو بضرب من البرهان على سبيل الفرض والاستتباع.

١٢٣

في الماهيات وتعيّناتها

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ

بِها مِنْ سُلْطانٍ) (١)

أصل

الماهية لما وجدت شخصية ، وعقلت كلّية ، علم أنّه ليس من شرطها أن تكون في نفسها كلية ، ولا شخصية ، ولا واحدة ، ولا كثيرة ، وليست إذا لم تخل من وحدة أو كثرة أو عموم أو خصوص ، لكانت في حدّ نفسها إمّا واحدة ، أو كثيرة ، أو عامة ، أو خاصّة. وسلب الاتّصاف من حيثية لا ينافي الاتّصاف من حيثية أخرى ، وليس نقيض اقتضاء شيء شيئا إلّا لا اقتضاؤه له لا اقتضاؤه مقابله ليلزم من عدمها اقتضاء أحد المتقابلين لزوم المقابل الآخر.

وليس إذا لم يكن للممكن في مرتبة ماهيته وجود كان له فيها العدم ، أو اللاوجود ؛ لأنّ خلوّ الشيء عن النقيضين وإن كان مستحيلا في الواقع لكنّه جائز في مرتبة ذاته ، فقد ظهر أنّ الماهية ليست من حيث هي إلّا هي.

__________________

(١) ـ سورة النجم ، الآية ٢٣.

١٢٤

أصل

الماهية قد تؤخذ وحدها ، بأن يتصوّر معناها فقط ، بحيث يكون كلّ ما يقارنه زائدا عليه ، منقسما إليه ، فإذا اعتبر المجموع من حيث المجموع كانت الماهية جزء له ، متقدّمة عليه في الوجود ، فيمتنع حملها عليه ، لانتفاء شرط الحمل ، وهو الاتحاد في الوجود ، فهي بهذا الاعتبار نوع عقلي في نفسها ، ومادّة بالقياس إلى ما يقارنها ، إن كانت متقوّمة به ، غير متحصّلة بدونه ، وهو صورة بالقياس إليها بشرط أن يؤخذ وحده ، وإن لم تكن متقوّمة به ، سواء كانت متحصّلة في نفسها ، أو غير متحصّلة ، فهي موضوع بالقياس إليه ، وهو عارض لها.

وقد تؤخذ من حيث هي هي ، من غير اشتراط قيد عدمي ، أو وجودي ، مع تجويز كونها مع قيد ، أو مع عدم قيد ، فيحتمل صدقه على المأخوذة مع قيد ، وعلى المأخوذة مع عدمه.

والماهية المأخوذة كذلك ، المحتملة للقسمين ، قد تكون غير متحصّلة في نفسها عند العقل ، بل قابلة لأن تكون مشتركة بين أشياء متخالفة المعاني ، بأن يكون عين كلّ منها ، وإنما تتحصّل ممّا ينضاف إليها ، فتخصّص به ، وتصير بعينها أحد تلك الأشياء ، فتكون بهذا الاعتبار جنسا لتلك الأشياء ، وهي أنواع لها ، والمنضاف إليها الّذي قوّمها وجعلها أحد تلك الأشياء ، فصل لها.

وقد تكون متحصّلة في ذاتها ، غير مفتقرة إلى ما يحصّلها معنى معقولا ، بل تفتقر إلى ما يجعلها موجودة في الحسّ فقط ، فهي في نفسها نوع ، سواء كان بسيطا ، أو مركّبا ، إلّا أن البسيط إنّما يفرض فيه العقل هذه الاعتبارات بالتعمّل ، وأمّا في الوجود فلا امتياز فيه.

١٢٥

أصل

الجنس في المركّبات الخارجية مأخوذ من المادّة ، والفصل من الصورة ، وكما أن المادّة ـ بما هي مادّة ـ أمر مبهم ، غير متحصّل إلّا باعتبار كونه قوّة شيء ما واستعداده ، وإنما يوجد ويتحصّل ويصير شيئا بالفعل بالصورة ، فهي مستهلكة فيها ؛ إذ نسبتها إليها نسبة النقص إلى التمام ، والضعف إلى القوّة ، وتقوّم الحقيقة ليس إلّا بالصورة ، وإنما الحاجة إليها لأجل قبول آثارها ولوازمها ، وانفعالاتها الغير المنفكّة عنها ، من الكمّ والكيف والأين وغيرها ، حتّى لو أمكن وجود تلك الصورة مجرّدة عن المادّة لكانت هي تلك الحقيقة بعينها ، فكذلك الجنس بما هو جنس ، بالنسبة إلى الفصل ، من غير فرق.

فالأجناس في المركبات بمنزلة الشروط والمعدّات باعتبار ، وهي الآلات والفروع لذات واحدة باعتبار آخر ؛ حيث إنّ وجوداتها فروع وتوابع لوجودات الفصول.

وصل

وإذ ليس افتقار الجنس إلى الفصل في معناه ومفهومه ، بل في أن يتحصّل ويوجد بالفعل ، فوجب أن يكون الفصل ـ بما هو فصل ـ متحصّلا بذاته ، وإلّا لافتقر إلى فصل آخر ، فلا يكون فصلا ما فرضناه فصلا ، بل جزءه ، بل من متمّمات الجنس إن كان ، ويكون الفصل ذلك الآخر ، ثمّ ننقل الكلام إليه ، فإما أن يتسلسل ، أو ينتهي إلى ما يتحصّل بنفس ذاته ، والأوّل باطل ، والثاني هو

١٢٦

المطلوب.

ثم ليس ما يتحصّل ويوجد بنفس ذاته سوى الوجود ؛ إذ كلّ ما هو غيره فإنّما يوجد ويتحصّل به ، ولو في العقل ، فحقائق الفصول ليست إلّا الوجودات الخاصّة للماهيات ، الّتي هي أشخاص حقيقية ، إمّا في العقل ، وإما في الخيال ، وإما في الخارج.

وصل

فما يذكر في التعاريف بإزاء الفصول ليس بفصول حقيقية ، بل هي لوازم الفصول.

كيف لا ، ولو كان الحسّاس ـ مثلا ـ فصلا للحيوان ، وليس معناه إلّا المفهوم المتألّف من ذات ما والانفعال الشعوري ، أو الإضافة الإدراكية ، لزم تقوّم الجوهر من الانفعال ، أو الإضافة ، فالفصل بالحقيقة إنما هو مبدأ هذا الفعل والانفعال ، أعني كونه ذا هوية درّاكة ، وهو لا يزيد على نفس الوجود للحيوان ، وكذلك في كلّ فصل.

وصل

فقد ظهر أنّ ما يتقوّم ويوجد به الشيء من ذوات الماهيات البسيطة والمركبة ليس إلّا الفصل الأخير الّذي هو متّحد بصورته النوعية ، وسائر الفصول والصور الّتي تؤخذ منها وتتّحد بها إنّما هي كالأجناس ، بمنزلة القوى والشرائط والآلات والأسباب المعدّة لوجود الماهية ، الّذي هو عين الفصل الأخير ، بدون

١٢٧

دخولها في تقرّر ذاته ، وقوام حقيقته ، وإن كان كلّ منها مقوّما لحقيقة أخرى غير هذه الحقيقة بحسب وجوده.

وصل

فالوجود من كلّ شيء هو نفس الوجود له ، لكن العقل ينتزع من نفس ذاته مفهومات كلية عامة ، أو خاصة ، ومن عوارضه أيضا كذلك ، فيحكم عليها بمفهومات ذاتية ، جنسية وفصلية ، أو عرضية ، عامّة وخاصّة ، فما يحصل في العقل من نفس ذاته يسمى بالذاتيات ، وما يحصل فيه من جهة أخرى يسمى بالعرضيات.

فالذاتي متّحد معه ، ومحمول عليه بالذات ، والعرضي بالعرض ، وهذا معنى وجود الكلي الطبيعي ، أي الماهية من حيث هي في الخارج ، فإنّ الوجود منسوب إليه بالذات إذا كان ذاتيا ، بمعنى أنّ ما هو الموجود الحقيقي ـ أعني نحو الوجود ـ متّحد معه في الحسّ ، لا أن ذلك شيء وهو شيء آخر متميّز عنه في الواقع.

وأمّا الكلي بمعنى ما يحتمل الشركة ، أو لا يمنعها ، فيمتنع وقوعه في الحسّ ، وإلّا لحصلت له هوية متشخّصة ، فلا تصحّ فيها الشركة ، بل وجوده في العقل أيضا متخصص بأمور شخصيّة ومميزات كتجرّده عن الأمور الحسّية ، ونحو ذلك ، فليس كلّيا صرفا ، اللهمّ إلّا بضرب من التعمّل ، ونحو من الاعتبار ، فتساوي نسبته إلى أشخاصه المختلفة في الأوضاع والخصوصيات المادية ، إنّما هو لكونه مجردا ، وتلك الأشخاص مادية ، لا أنّه كلّي بحت.

١٢٨

وصل

فالماهية الكلية ما لم تتشّخص ولم تصر جزئية ، لم توجد في الحسّ ، ولا في العقل المشوب به إلّا بنحو من الاعتبار ، والتشخّص والجزئية إنّما يكونان بنحو الوجود ؛ لأنّ الشيء إذا قطع النظر عن نحو وجوده فالعقل لا يأبى عن تجويز الشركة فيه ، وإن ضمّ إليه ألف تخصيص ، فإنّ الامتياز في الواقع غير التعيّن ؛ إذ الأوّل للشيء بالقياس إلى المشاركات، وفي أمر عام ، والثاني باعتباره في نفسه ، حتّى لو لم يكن له مشارك لا يحتاج إلى مميّز زائد ، مع أنّ له تعيّنا في نفسه.

نعم ، لا يبعد أن يكون التميّز يوجب للشيء المادي استعداد التعيّن الوجودي ، فإنّ المادّة ما لم تكن متخصّصة الاستعداد لواحد معيّن من النوع لا يفيض وجوده من المبدأ الأعلى ، وأمّا سائر الخصوصيّات من الزمان والمكان والوضع وغيرها من العوارض ، فإنّما هي من علامات التعين ، ولوازم الوجود ، لا من مقوّماته ؛ لأنّ لكلّ منها ماهية وتعيّنا ، والكلام في تعيّنه عائد ، فلا بدّ وأن ينتهي إلى ما يتعيّن بذاته ، والمتعيّن بالذات ليس إلّا أنحاء للوجودات ، كما دريت. كذا حقّق أستاذنا ـ دام ظلّه ـ هذه المباحث (١).

فصل

إذا ثبت هذا ، أعني أنّ التعيّن إنّما يكون بالوجود ، وقد ثبت أنّ أثر الفاعل

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٢ : ١٠.

١٢٩

إنّما هو الوجود كما يأتي ، وأن للوجود تقدّما على الماهية ضربا من التقدّم ، وثبت أنّ لوازم الوجود غير مجعولة ، فلا يرد السؤال عن وجه اختصاص بعض الأمور بموضع معيّن من مواضع جرم بسيط الحقيقة ، أو بفرد معيّن من أفراد ماهيته ، مع تشابه الأبعاض والأفراد في الاستحقاق ، كاختصاص المناطق والأقطاب بمواضع مخصوصة من الأفلاك ؛ وذلك لأنّ وجود كلّ شيء أمر شخصي به تتعيّن ماهية ذلك الشيء ، ويقبل الهذية ، ويصير هذا الشخص المعيّن من جملة أشخاص مفروضة ، تحتمل ماهية الشركة بينها في الذهن ، ولها العموم والكلية بالنسبة إليها ، وكل من تلك المفروضات وإن كان يحتمل قبول الوجود من حيث ماهيته الإمكانية ، إلّا أنّ هذا الوجود لما خرج بسبب فاعله من الإمكان إلى الوجوب سبق سائر تعيّنات الماهية ، وعند تحصّل الماهية بهذا الوجود وهذا التشخّص استحال حصول غيره معه ، ولا بدلا منه ابتداء أو تعاقبا ؛ لأنّ هذا الوجود لا يقبل التماثل ، ولا التضاد ، فإذا كان تعيّن الماهية بوجودها ، وكانت العوارض الشخصية لها من توابع وجودها ، ولوازم تعيّنها ، كان جعلها ووجودها تابعا لجعل الماهية ووجودها ، من غير علّة ، فالسؤال في طلب تعيين اللوازم كالسؤال في طلب تعيين الوجود ، من غير فرق.

وهذا من التحقيقات المختصّة بالأستاذ دام ظلّه (١) ، وبه يندفع بعض المعضلات الّتي أعيت الفضلاء عن حلّها.

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ١١٨ و ١١٩ ، تحت عنوان : حكمة مشرقية.

١٣٠

أصل

كل معنى نوعي لا يجوز أن يتكثّر بنفسه ، وإلّا لم يوجد منه واحد شخصي ، ولا بصفة لازمة ؛ لما ذكرنا ، فلا بدّ في كثرة الأشخاص من صفات متفارقة في الوجود ، يتفارق بها المعنى الواحد ، والصفات المتفارقة الموجودة لشيء واحد ، لا بدّ وأن ينقسم بها ذلك الشيء في الوجود ، لا في العقل فقط ، والمنقسم بأمور متساوية في الحقيقة لا بدّ وأن يكون قابلا لتلك الأمور ، والقابل لا يكون إلّا مادّة أو ما في مادّة ، فالمتكثّر بالذات بالقوّة ، والمقبول هو المادّة ، وسبب التكثّر هو حدوث القطع ، والقطع لا يحدث إلّا بالجسم ؛ لأنّ المادّة ما لم تتجسّم لم تقبل عروض القطع ، والقطوع الّتي تعرض الأجسام بسبب كثرة القواطع ، وكثرة القواطع أيضا منشؤها كثرة شيء ، وهكذا إلى أن انتهت إلى شيء يتكثّر بذاته بالفعل.

وقد ثبت أن سبب كلّ حادث حركة القابل ، فإذن المتكثّر بذاته بالفعل هي الحركة ؛ إذ ليست حقيقتها إلّا التجدد والانقضاء ، وأن يكون ماضيا ولا حقا ، كما أن الجسم وجوده أن يكون هناك وهنا ، فبوجود هذين الأمرين تنقسم المعاني بالعدد ، فبالجسم ينقسم المعنى الواحد في الوضع ، وبالحركة ينقسم في الزمان.

ومن ها هنا قيل : التعيّن من لوازم الوضع ، والزمان ؛ لأنهما لا زمان لوجود الجسم والحركة ، وبالوضع ينقسم الجسم بالقوة والإمكان ، وبالزمان تنقسم الحركة بالفعل والوجوب ، وبالأربعة ينقسم المعنى الواحد في الوجود.

وقد ظهر من هذا أن كلّ ما تجرّد عن المادّة فحقّ نوعه أن ينحصر في فرده ، وكذلك كلّ مادّي يلحق مادّته ما يمنعه من القطع والانفصال.

١٣١

وصل

فما لا سبب له أصلا يتعيّن بنفس ذاته ، وما له فاعل فقط من غير قابل يتعيّن بفاعله ، وما له قابل إن اقترن به ما يمنعه من الانفصال يتعيّن بوضعه اللازم لقابله ، وإلّا فيتعيّن بوضعه وزمانه العارضين لقابله ، والنفس تتعين بعلاقتها إلى ما هو كالقابل لها.

وهذا التفصيل لا ينافي قولنا : بأنّ تعيّن الشيء لا يكون إلّا بنحو وجوده ؛ لأن ما ذكرناه هي أنحاء الوجودات ، والوجود ممّا يتعيّن بنفسه ، ويتفاوت كمالا ونقصا ، وغناء وفقرا ، وقوّة وضعفا ، كما دريت.

١٣٢

في الواحد والكثير

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١)

أصل

الواحد : حقيقي ، وغير حقيقي.

والحقيقي : ما تكون جهة الوحدة فيه ذاته بذاته ، وهو جنسي ، كمفهوم الحيوان. ونوعي ، كمفهوم الإنسان. وشخصي ، وهو منقسم في الخارج ، وغير منقسم.

والمنقسم : واحد بالاتصال ، كالجسم الواحد البسيط ، وواحد بالتركيب ، كزيد.

وغير المنقسم : ذو وضع ، كالنقطة ، وغير ذي وضع ، وهو منقسم في الذهن ، كالعقل. وغير منقسم فيه ، كالواجب الوجود تعالى.

وغير الحقيقي : ما تكون وحدته باشتراك في الحقيقي ، وهو إمّا بالجنس ، كالإنسان والفرس. أو بالنوع ، كزيد وعمرو. أو بالمحمول ، كالقطن والثلج. أو بالموضوع ، كالكاتب والضاحك.

__________________

(١) ـ سورة يوسف ، الآية ٣٩.

١٣٣

وتتغاير أسماؤه بتغاير ما نسب إليه ، فالاتحاد في النوع مماثلة ، وفي الجنس مجانسة ، وفي الكيف مشابهة ، وفي الكم مساواة ، وفي الوضع مطابقة ، وفي الإضافة مناسبة.

وإطلاق الكثير على هذا القسم أولى ؛ لأنّ وحدته ذهنية ، وإنما له في الخارج الكثرة.

وصل

الكثير يقابل الواحد ، وينقسم بانقسامه ، وقد يتصادقان باعتبارين ، كما دريت.

ومقولتيهما على ما تحتهما بالتشكيك ، وكل وحدة خاصة تقابلها كثرة خاصة ، والوحدة المطلقة تقابلها الكثرة المطلقة ، كما أن الوجود الخاص الذهني ، أو الخارجي ، يقابله العدم الّذي بإزائه ، والعدم المطلق في مقابله الوجود المطلق.

أصل

إنما شرف كلّ موجود بغلبة الوحدة فيه ، وإن لم يخل موجود ما عن وحدة ما ، حتّى أن العشرة في عشريّته واحدة ، بل هي لنفسه واحدة ، ولغيره عشرة ، فكلّ ما هو أبعد عن الكثرة فهو أكمل ، وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل ، فالأحق بالوحدة هو الواحد الحقيقي ، وأحقّ أقسامه ما لا ينقسم أصلا ، لا في الكم ، ولا في الحد ، ولا في القوّة ، ولا في الفعل ، ولا بالتحليل إلى ماهية ووجود ، وكان الأحرى باسم الحقيقي أن يخصّ بهذا القسم ،

١٣٤

ثم ما لا ينقسم في الكم أصلا قوّة ، أو فعلا ، ثمّ الواحد بالاتصال ، ثمّ الواحد بالاجتماع الطبيعي.

والواحد الشخصي أحق بالوحدة من الواحد النوعي ، لكون وحدته ذهنية ، وهو من الواحد الجنسي ، لشدة إبهامه.

فصل

قال أستاذنا ـ دام ظلّه ـ : الوحدة تساوق الوجود في صدقها على الأشياء ، فكلّ ما يقال عليه إنه موجود ، يقال عليه إنه واحد ، وفي عدم تقوّمها للماهيات ، وكيفية عروضها لها ، فإنّ الماهية إذا أخذت بنفسها من حيث هي هي فلا تخلو عن شوب وحدة ، إلّا أن للعقل أن يجرّدها عن كافة الوحدات ، ثمّ يحكم عليها بلزوم الوحدة ، وعروضها إياها كالوجود بعينه.

وفي تقوّمها للإنّيات ومقوليتها عليها بالتشكيك ، وفي أنّ لها معنى انتزاعيا هو كون الشيء واحدا ، ومعنى حقيقيا هو ما به يكون الشيء واحدا بالذات ، والأوّل من لوازم نفي الكثرة ، والثاني من لوازمه نفي الكثرة ، والأوّل ظلّ للثاني ، ينتزع فيه من نفس ذاته بذاته ، لا يزيد عليه إلّا باعتبار العقل ، وينتزع في غيره لأجل ارتباطه وتعلّقه به ، فما أشبه حالها بحال الموجود ، بل هي عينه حقيقة ، وإن كانت غيره مفهوما ، ولهذا توافقه في القوّة والضعف ، فكلّ ما وجوده أقوى فوحدانيته أتمّ (١).

لا يقال : الكثير من حيث هو كثير موجود ، ولا شيء من الكثير من حيث

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٢ : ٨٢.

١٣٥

هو كثير بواحد ، فليس كلّ موجود بواحد ، فإذن الوحدة مغايرة للوجود.

لأنّا نقول : إن أردت بالحيثية المذكورة ما تميّز ذاتي الشيء عن غيره ، فالصغرى ممنوعة.

وإن أردت أن الشيء الكثير ، بما هو شيء كثير موجود في الواقع ، سلّمناها ، لكن الكبرى ممنوعة ؛ إذ الكثير بما هو كثير كما هو موجود ، فكذلك هو واحد بوجه ما ، وإن لم يكن واحدا وحدة تقابل كثرته ، فإنّ كلّ موجود ما له وحدة ما ، والكثير المقابل له غير موجود.

فموضوع الكثرة كالرجال العشرة من حيث كونهم عشرة ، ليس لهم وجود غير وجودات الآحاد ، إلّا بمجرد اعتبار العقل ، وكما أن للعقل أن يعتبرها موجودة ، فله أن يعتبرها واحدة.

أصل

الوحدة ليست بعدد ، بل هي مبدأ له ، وهو لا يتقوّم إلّا بها ، إذ لو تقوّم بغيرها ممّا دونه من الأعداد لزم الترجيح من غير مرجّح ، فإنّ تقوّم العشرة ـ مثلا ـ بخمسة وخمسة ، ليس بأولى من تقوّمها بستّة وأربعة ، ولا من تقوّمها بسبعة وثلاثة ، وتقوّمها بالجميع يستلزم تكرار أجزاء الماهية المستلزم لاستغناء الشيء عما هو ذاتي له ؛ لأنّ كلّ واحد منها كاف في تقويمها ، فتستغني به عما عداه ، ولو تقوّمت بالقدر المشترك بينها من دون اعتبار الخصوصيات ، فهو المطلق ؛ إذ القدر المشترك هو الوحدات لا غير.

١٣٦

وصل

إذا انضمّ إلى الوحدة مثلها حصلت الاثنينية ، وهي نوع من العدد ، وإذا انضم إليها مثلاها حصلت الثلاثية ، وهي نوع آخر ، وهكذا تحصل أنواع لا تتناهى بتزايد واحد واحد لا إلى نهاية.

وإنما علم اختلاف حقائق مراتبها باختلاف لوازمها ، من الصمم ، والمنطقية ، والتشارك ، والتباين ، وغيرها ، فإنّ اختلاف اللوازم دليل اختلاف الذوات ، هذا.

وقال أستاذنا ـ دامت إفاداته ـ : الوحدة المحضة المتقدّمة على جميع المراتب العددية بإزاء الوجود الواجبي الحق الّذي هو مبدأ كلّ وجود بلا واسطة ، ومع واسطة ، والمحمولات المنتزعة من نفس كلّ مرتبة من العدد بإزاء الماهيات المتحدة مع كلّ مرتبة من الوجود ، والاختلاف الواقع بين الأعداد بنفس ما به الاتّفاق ، كالتفاوت الحاصل بين الوجودات بنفس هويّتها المتوافقة في سنخ الموجودية ، فيمكن القول بالتخالف النوعي بين الأعداد ، نظرا إلى التخالف الواقع بين المعاني المنتزعة عن نفس ذواتها بذواتها ، وهي الّتي بإزاء الماهيات المتخالفة المنتزعة عن نفس الوجودات.

ويمكن القول بعدم تخالفها النوعي ؛ نظرا إلى أن التفاوت بين ذواتها ليس إلّا بمجرّد القلّة والكثرة في الوحدات ، ومجرّد التفاوت بحسب قلّة الأجزاء وكثرتها في شيء لا يوجب الاختلاف النوعي في أفراد ذلك الشيء.

وأمّا اختلاف اللوازم فإنّما يدلّ على القدر المشترك بين التخالف النوعي

١٣٧

والتخالف بحسب القوّة والضعف ، والكمال والنقص ، لا غير (١).

وصل

قال : ومن اللطائف أنّ العدد مع غاية تباينه عن الوحدة ، وكون كلّ مرتبة منه حقيقة برأسها ، موصوفة بخواصّ ولوازم لا توجدان في غيرها ، إذا فتشت حاله وحال مراتبه المختلفة لم تجد فيها غير الوحدة ، وإنك لا تزال تثبت في كلّ مرتبة من المراتب عين ما تنفيه ، فنقول: الواحد ليس بعدد ، والعدد ليس بواحد ، لأنه يقابله ، مع أنّه عين الواحد الّذي يتكرّر ، والواحد عين العدد الّذي يحصل بتكرره ، فلك أن تقول لكلّ مرتبة : إنها مجموع الآحاد ، وأن تقول : إنها ليست مجموع الآحاد ؛ لاتصافها بخواصّ ولوازم لا توجدان في غيرها ، ومجموع الآحاد جنس لكلّ مرتبة ، وكل مرتبة نوع برأسها ، فلا بدّ لها من أمر آخر غير جميع الآحاد ، وليس فيها شيء غير جميع الآحاد ، فلا تزال تثبت عين ما تنفي ، وتنفي عين ما تثبت ، وهذا أمر عجيب هو بعينه ، كما يقال : إن الحق المنزّه عن نقائص الحدثان ، بل عن كمالات الأكوان ، هو الخلق المشبّه ، وإن كان قد تميّز الخلق بإمكانه ونقصه عن الحق بوجوبه وشرفه (٢).

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٢ : ٩٩ و ١٠٠ ، في ذيل الفصل «٤» في بعض أحكام الوحدة والكثرة.

(٢) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٢ : ٨٨ ، تحت عنوان : تلويح.

١٣٨

فصل

ومن أحوال الوحدة الهو هو ، كما أن من أحكام الكثرة الغيرية.

والهو هو عبارة عن الاتحاد بين شيئين متغايرين في المفهوم في أحد الوجودين ، سواء كانا موجودين بالذات ، كقولنا : زيد إنسان ، أو بالعرض ، كقولنا : الكاتب متحرّك ، فإنهما إنّما يوجدان بوجود الإنسان.

أو أحدهما بالذات والآخر بالعرض ، كقولنا : الإنسان كاتب ، فجهة الاتحاد قد تكون في الطرفين ، وقد تكون في أحدهما ، خارجة عنهما.

أصل

لا يجوز اتحاد الاثنين من غير تغاير ، بمعنى صيرورة الذاتيين ذاتا واحدة ؛ لأنهما بعد الاتحاد إن كانا موجودين كانا اثنين ، لا واحدا ، وإن كان أحدهما فقط موجودا ، فقد فني أحدهما ، وبقي الآخر ، وإن لم يكن شيء منهما موجودا فقد فنيا وحدث أمر ثالث ، وعلى التقادير فلا اتحاد ، كما هو المفروض.

وأمّا ما قيل : من اتحاد النفس حين استكمالها بالعقل ، فالمراد به حالة روحانية تليق بالمعقولات ، لا أن هناك امتزاجا أو بطلانا لإحدى الهويتين ، بل على نحو آخر سيأتي ذكره في محله.

وقريب من ذلك اتحاد العقل بالمعقول ، كما مضى.

١٣٩

أصل

وحدة المعقولات ليست كوحدة المحسوسات ، وحدة عددية ؛ لأنّ المعقولات ليست محصورة في مدلول الوحدة ، ولا مقيّدة بالواحدية ؛ لأنهما يستلزمان الكثرة والكثيرية ، فليستا بحقيقيتين بالحقيقة ، ووحدة المعقولات وحدة حقيقية لا يتوقّف تعقّلها على تعقّل الكثرة ، ووحدة جمعية لا تنافيها الكثرة الوضعية.

ألا ترى إلى صورة الإنسان في العقل كيف يصدق على الكثيرين ، مع أنها في ذاتها واحدة ، ولو كانت وحدتها عددية لما صدقت على الكثيرين ، وإلّا لكان الشيء الواحد المعيّن موصوفا في حالة واحدة بالأعراض المتضادّة ، مثل كونه أبيض وأسود ، هذا خلف.

وسيأتي لهذا مزيد كشف إن شاء الله.

فصل

ومن أنحاء الغيرية التقابل ، وهو على أنواع :

منها : ما يكون بالإيجاب والسلب ، كفرس ولا فرس ، وإنما يكون بالذات بين النفي والإثبات ، وفي القضايا بالعرض ، وهو فيها مشروط بالثمان وحدات المشهورة ، مع زيادة وحدة الحمل ، فيما قد تغاير فيه الحمل ، كالقضايا الطبيعية.

مثل قولنا : الجزئي جزئي ، والجزئي ليس بجزئي.

١٤٠