عين اليقين - ج ١

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

عين اليقين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: فالح عبدالرزاق العبيدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحوراء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وصل

وأيضا لو لم يكن هو سبحانه بوحدته كلّ الأشياء لكانت ذاته متحصّلة القوام من هويّة أمر ، ولا هوية أمر ، فيكون مركّبا ، ولو في العقل ؛ وذلك لأنّ ما به الشيء هو هو ، غير ما به ، يصدق عليه أنّه ليس هو ، فإنّا إذا قلنا ـ مثلا ـ : الإنسان يسلب عنه الفرس، أو الفرسية ، فليس هو من حيث هو إنسان ، لا فرس ، وإلّا لزم من تعقّله تعقّل ذلك السلب ؛ إذ ليس سلبا بحتا ، بل سلب نحو من الوجود ، فكلما كان الشيء أبسط ، فهو أحوط للوجود ، وأشمل ، وبالعكس ، كذا أفاد أستاذنا ، دام ظلّه (١).

فهو سبحانه لما كان مجرّد الوجود ، القائم بذاته من غير شائبة كثرة أصلا ، فلا يسلب عنه شيء من الأشياء ، فهو تمام كلّ شيء وكماله ، والمسلوب عنه ليس إلّا قصورات الأشياء ، فما من ذرّة من ذرّات العالم إلّا وهو محيط بها ، قاهر عليها ، أقرب من وجودها إليها ؛ لأنّه تمامها ، وتمام الشيء أحقّ به ، وأوكد له من نفسه.

ومن هنا قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (٢) ، ونحن أقرب إليه منكم (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٣) ، (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٤).

__________________

(١) ـ أنظر : الشواهد : ٤٧ ، الإشراق العاشر ، في أنّه جلّ اسمه كلّ الوجود.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ١٨٦.

(٣) ـ سورة ق ، الآية ١٦.

(٤) ـ سورة فصلت ، الآية ٥٤.

٣٤١

وصل

كيف لا يكون الله سبحانه كلّ الأشياء ، وهو صرف الوجود الغير المتناهي شدّة وقوّة وغنى وتماما ، فلو يخرج عنه وجود لم يكن محطيا به ؛ لتناهي وجوده دون ذلك الوجود ، تعالى عن ذلك ، بل إنكم لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله (١) ، و (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢).

قال بعض السالكين : ما رأينا شيئا إلّا ورأينا الله بعده.

فلما ترقّوا عن تلك المرتبة درجة من المشاهدة والحضور قالوا : ما رأينا شيئا إلّا ورأينا الله فيه.

فلما ترقّوا قالوا : ما رأينا شيئا إلّا ورأينا الله قبله.

فلما ترقوا قالوا : ما رأينا شيئا سوى الله.

والأولى مرتبة الفكر ، والاستدلال عليه ، والثانية مرتبة الحدس ، والثالثة مرتبة الاستدلال به ، لا عليه ، والرابعة مرتبة الفناء في ساحل عزّته ، واعتبار الوحدة المطلقة محذوفا عنها كلّ لاحق.

وصل

وإذ ليست وحدته سبحانه عددية ، فليست معيّته للأشياء بممازجة ، ولا

__________________

(١) ـ هكذا ورد في الحديث. أنظر : سنن الترمذي : ٥ : ٧٧ ، ح ٣٣٥٢.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ١١٥.

٣٤٢

مداخلة ، ولا حلول ، ولا اتّحاد ، ولا معيّة في درجة الوجود ، ولا في الزمان ، ولا في الوضع، تعالى عن ذلك كله علوّا كبيرا.

فهو الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، وكل ظاهر غيره غير باطن ، وكل باطن غيره غير ظاهر ، لم يحلل في الأشياء فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ منها فيقال : هو منها بائن.

الظاهر لا يقال ممّا ، والباطن لا يقال فيما.

وصل

قد ظهر من هذه التحقيقات أن الموجودات على تباينها في الذات والصفات والأفعال، وترتّبها في القرب والبعد من الحق الأوّل ، والذات الأحدية ، تجمعها حقيقة واحدة إلهية ، جامعة لجميع حقائقها وطبقاتها ، لا بمعنى أنّ المركّب من المجموع شيء واحد هو الحق سبحانه ، حاشا الجناب الإلهي عن وصمة الكثرة والتركّب ، بل بمعنى أن تلك الحقيقة الإلهية ـ مع أنها في غاية البساطة والأحدية ـ ينفذ نورها في أقطار السماوات والأرضين ، فما من ذرّة إلّا وهو محيط بها ، قاهر عليها عن سلطانه.

وصل

في الكافي والتوحيد ، بإسنادهما عن الصادق عليه‌السلام ، أنّه قال رجل عنده : الله أكبر ، فقال عليه‌السلام : الله أكبر من أي شيء؟ فقال : من كلّ شيء ، فقال الصادق عليه‌السلام : حددته ، فقال الرجل : كيف أقول؟ قال : قل : الله أكبر أكبر من أن

٣٤٣

يوصف (١).

وفي رواية أخرى أنّه عليه‌السلام قال : «وكأنه ثمّة شيء ، فيكون أكبر منه ، فقيل : فما هو؟ قال : الله أكبر من أن يوصف» (٢).

وفي التوحيد ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه سئل عن وجه الربّ تعالى ، فدعا بنار وحطب ، فأضرمه ، فلما اشتعلت قال : أين وجه النار؟ قال السائل : هي وجه من جميع حدودها ، قال : هذه النار مدبّرة مصنوعة لا نعرف وجهها ، وخالقها لا يشبهها (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٣) ، لا يخفى على ربّنا خافية (٤).

وصل

كل ما قيل ، أو يقال في تقسيم التوحيد ومراتبه ، ثنائيا وثلاثيا ورباعيا وخماسيا ، فلا يخرج عن هذين القسمين : الألوهي والوجودي ، إلّا توحيد الحق سبحانه ذاته ، فإنّه خارج عنهما ؛ وذلك لأنّ الكلام في التوحيد المتعلّق بالسالك أو العباد ، وإلّا فالتوحيد الحقيقي ليس إلّا ذاك ، كما أشار إليه الشيخ الهروي (٥)

__________________

(١) ـ الكافي : ١ : ١١٧ ، ح ٨ ؛ وكتاب التوحيد : ٣١٢ ، ح ١.

(٢) ـ الكافي : ١ : ١١٨ ، ح ٩ ؛ وكتاب التوحيد : ٣١٣ ، ح ٢.

(٣) ـ سورة البقرة ، الآية ١١٥.

(٤) ـ كتاب التوحيد : ١٨٢ ، ح ١٦ ، باختلاف يسير في بعض الألفاظ.

(٥) ـ في شرح الأسماء الحسنى : ٢ : ١٤ نسب الأبيات إلى العارف الكامل الشيخ عبد الله الأنصاري ، وفي فتح المعين : ٤٢ ذكر محقق الكتاب أنّ الأبيات للهروي ولم يذكر المصدر ، أنظر الهامش رقم ٥٠.

٣٤٤

بقوله :

ما وحّد الواحد من واحد

إذ كلّ من وحّده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته

عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده

ونعت من ينعته لاحد

وتمام الكلام في توحيد الوجود يأتي فيما بعد ، إن شاء الله.

أصل

وإذ قد بيّنا وجوب انتهاء كلّ من جهات الفقر إلى غنيّ بالذات من تلك الجهة ، ثبت وجوب انتهاء كمالات الوجود كلها إلى كامل بالذات فيها الّذي كانت له بالفعل دائما في جميع المراتب ، وكما أن مفيض الوجود ليس مسلوب الوجود في مرتبة ، فكذلك واهب الكمال لا يجوز أن يكون ممنوعا في حدّ ذاته ؛ إذ المفيض ـ لا محالة ـ أكرم وأعلى وأمجد من المفاض عليه ، فكما أن في الوجود وجودا قائما بالذات ، غير متناه في التأكّد ، وإلّا لم يتحقّق وجود بالغير ، فكذلك يجب أن يكون في العلم علم متأكّد قائم بذاته ، وفي الاختيار اختيار قائم بذاته ، وفي القدرة قدرة قائمة بذاتها ، وفي الإرادة إرادة قائمة بذاتها ، وفي الحياة حياة قائمة بذاتها ، حتّى يصحّ أن تكون هذه الأشياء في شيء لا بذواتها ، بل بغيرها ، فإذن فوق كلّ ذي علم عليم ، وفوق كلّ ذي قدرة قدير ، وفوق كلّ ذي سمع سميع ، وفوق كلّ ذي بصر بصير ، إلى غير ذلك من صفات الكمال.

ويجب أن يكون جميع ذلك واحدا حقيقيا ؛ لامتناع تعدّد الغنيّ بالذات ، فهو سبحانه ـ كما قيل ـ وجود كلّه ، وجوب كلّه ، علم كلّه ، قدرة كلّه ، حياة كلّه ، لا

٣٤٥

أن شيئا منه علم ، وشيئا آخر قدرة ، ليلزم التركّب في ذاته ، ولا أنّ شيئا فيه علم ، وشيئا آخر فيه قدرة ، ليلزم التكّثر في صفاته الحقيقية (١).

يعني أن ذاته بذاته ، من حيث هو هو مع كمال فرديّته ، منشأ لهذه الصفات ، ومستحقّ لهذه الأسماء ، فيكون هو نفس هذه الصفات وجودا ، وعينا ، وفعلا ، وتأثيرا ، وإن كانت هي غيره بحسب المعنى والمفهوم ؛ وذلك لجواز أن توجد الأشياء المختلفة ، والحقائق المتباينة ، والمفهومات المتغايرة ، بوجود واحد ؛ لما دريت أن الوجود هو الأصل ، والماهيات تابعة ، ودريت أن ذاته سبحانه بسيطة في غاية البساطة ، ليس له جهتا قوّة وفعل ، وأنّه غير متناه في الغنا والتمامية والكمال ، فلا يجوز أن يكون في مرتبة من المراتب ، أو باعتبار من الاعتبارات ، عرية عن كمال ما.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف الله فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله» (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «هو نور لا ظلمة فيه ، وحياة لا موت فيه ، وعلم لا جهل فيه ، وحق لا باطل فيه» (٣).

وقال أيضا : «هو نور ليس فيه ظلمة ، وصدق ليس فيه كذب ، وعدل ليس

__________________

(١) ـ أنظر : الأسفار الأربعة : ٦ : ١٢١ ، وقد نقله عن الفارابي.

(٢) ـ نهج البلاغة : ٣٩ ، الخطبة رقم «١».

(٣) ـ كتاب التوحيد : ١٤٦ ، ح ١٤.

٣٤٦

فيه جور ، وحقّ ليس فيه باطل» (١).

وصل

وكذلك لا يجوز أن تلحقه سبحانه إضافات مختلفة ، توجب اختلاف حيثيّات فيه ، بل لإضافة واحدة هي المبدئية تصحّح جميع الإضافات ، كالرازقية ، والمصوّرية ، ونحوهما ، ولا سلوب كذلك ، بل له سلب واحد يتبعها جميعها ، وهو سلب الفقر ، فإنّه يدخل تحته سلب الجسمية والعرضية وغيرهما ، كما يدخل تحت سلب الجمادية في الإنسان ، سلب الحجرية والمدرية عنه.

على أنّ هذه الأمور من خواصّ الماهيات دون الوجود ، وقد بيّنا أنّه سبحانه وجود بحت ، لا ماهية له بوجه من الوجوه.

وصل

ثم إنّ نسبة ذاته سبحانه وأسمائه الحسنى إلى ما سواه من الفاقرات يمتنع أن تختلف بالمعيّة واللّامعية ، والإفاضة واللّا إفاضة ، وإلّا فيكون بالفعل مع بعض ، وبالقوة مع آخرين ، فتتركّب ذاته من جهتي فعل وقوّة ، وتتغيّر صفاته حسب تغيّر المتجددات المتعاقبات ، تعالى عن ذلك ، بل نسبة ذاته الّتي هي فعلية صرفة ، وغناء محض من جميع الوجوه إلى الجميع ، وإن كان من الحوادث الزمانية نسبة واحدة إيجابية ، ومعيّة قيّومية ثابتة غير زمانية ، ولا متغيّرة أصلا ، والكلّ عنده

__________________

(١) ـ كتاب التوحيد : ١٢٨ ، ح ٨.

٣٤٧

واجبات ، وبغنائه بقدر استعداداتها مستغنيات كلّ في وقته ومحلّه ، وعلى حسب طاقته ، وإنّما إمكانها وفقرها بالقياس إلى ذواتها وقوابل ذواتها ، وليس هناك إمكان وقوّة البتّة.

فالمكان والمكانيّات بأسرها بالنسبة إليه سبحانه كنقطة واحدة في معيّة الوجود (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (١) ، والزمان والزمانيات بآزالها وآبادها كان واحد عنده في ذلك ، جفّ القلم بما هو كائن ، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلّا وهي كائنة ، والموجودات كلّها ـ شهاديّاتها وغيبيّاتها ـ كموجود واحد في الفيضان عنه تعالى (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢) ، وإنما التقدّم والتأخّر ، والتجدد والتصرّم ، والحضور والغيبة ، في هذه كلّها بقياس بعضها إلى بعض ، وفي مدارك المحبوسين في مطمورة الزمان ، المسجونين في سجن المكان ، لا غير ، وإن كان هذا لممّا تستغربه الأوهام.

وأمّا قوله عزوجل : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٣) ، فهو كما قاله بعض العلماء : إنها شؤون يبديها ، لا شؤون يبتديها (٤) ، وسيأتي الكلام في ذلك في مباحث حدوث العالم ، إن شاء الله.

__________________

(١) ـ سورة الزمر ، الآية ٦٧.

(٢) ـ سورة لقمان ، الآية ٢٨.

(٣) ـ سورة الرحمن ، الآية ٢٩.

(٤) ـ أنظر : الكشاف : ٤ : ٤٦ و ٤٧.

٣٤٨

وصل

روى في كتاب التوحيد بإسناده الصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، أنّه سئل عن قول الله عزوجل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) ، قال : «استوى من كلّ شيء ، فليس شيء أقرب إليه من شيء ، لم يبعد منه بعيد ، ولم يقرب منه قريب ، استوى من كلّ شيء» (٢).

وفي الكافي ، بإسناده ، مثله (٣).

وفيه ، بإسناده عن مولانا الهادي النقي عليه‌السلام ، أنّه قال : «الأشياء كلها له سواء ، علما ، وقدرة ، وملكا ، وإحاطة» (٤).

وصل

قد ظهر ممّا ذكر أنّ إلهيّته تعالى ثابتة له في الأزل ، وهو تام الفاعلية فيه ، فلا يجوز أن يسنح له فيها سانح ، أو يغيّره منها مغيّر ، أو يعوّقه عنها عائق ، ولا تتعلّق فاعليته بداع خارج من ذاته ، سواء كان إرادة حادثة ، أو وقتا ، أو حالة عارضة ؛ لأنّ ذلك كله يوجب الاستحالة والحركة والافتقار إلى الغير ، وأن لا يكون أوّلا من كلّ وجه ، وأن يتركب من قوّة وفعل ، وتؤدي إلى انفعاله تعالى عن

__________________

(١) ـ سورة طه ، الآية ٥.

(٢) ـ كتاب التوحيد : ٣١٥ ، ح ٢.

(٣) ـ الكافي : ١ : ١٢٨ ، ح ٨.

(٤) ـ الكافي : ١ : ١٢٦ ، ح ٤.

٣٤٩

قاهر يقهره ، وسلطان يعجزه ، وشريك يشركه ، تعالى عن ذلك كله علوا كبيرا.

وكيف تتعلّق فاعليته بتجدد حال ، وحال ما يتجدد كحال ما يمهد له التجدّد ليتجدد ، فذاته بذاته فيّاض لم يزل ، ولا يزال ، بلا منع وتقتير ، وبخل وتقصير ، على جري مستمرّ ، وسنّة واحدة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١).

وصل

وكذلك عالميّته وسمعه وبصره ، وغير ذلك من الصفات ، فإنّه سبحانه أدرك الأشياء جميعا إدراكا تاما ، وأحاط بها إحاطة كاملة ، فهو عالم بأنّ أي حادث يوجد في أيّ زمان من الأزمنة ، وكم يكون بينه وبين الحادث الّذي بعده ، أو قبله ، من المدة ، ولا يحكم بالعدم على شيء من ذلك ، بل بدل ما نحكم بأن الماضي ليس موجودا في الحال يحكم هو بأن كلّ موجود في زمان معيّن لا يكون موجودا في غير ذلك الزمان من الأزمنة الّتي تكون قبله ، أو بعده ، وهو عالم بأنّ كلّ شخص في أي جزء يوجد من المكان ، وأي نسبة تكون بينه وبين ما عداه ممّا يقع في جميع جهاته ، وكم الأبعاد بينهما على الوجه المطابق للحكم ، ولا نحكم على شيء بأنه موجود الآن أو معدوم ، أو موجود هناك أو معدوم ، أو حاضر أو غائب ؛ لأنّه سبحانه ليس بزماني ، ولا مكاني ، بل هو بكل شيء محيط ، أزلا وأبدا (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (٢).

__________________

(١) ـ سورة الأحزاب ، الآية ٦٢ ؛ وسورة الفتح ، الآية ٢٣.

(٢) ـ سورة البقرة ، الآية ٢٥٥.

٣٥٠

وصل

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «لم تسبق له حال حالا ، فيكون أوّلا قبل أن يكون آخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا» (١).

وقال عليه‌السلام : «علمه بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين ، وعلمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى» (٢).

وعن مولانا الباقر عليه‌السلام : «كان الله ولا شيء غيره ، ولم يزل عالما بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه» (٣).

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام : «له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه ، ومعنى العالم ولا معلوم ، ومعنى الخالق ولا مخلوق ، وتأويل السمع ولا مسموع ، ليس منذ خلق استحقّ معنى الخالق ، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئية ، كيف ولا تغيّبه مذ ، ولا تدنيه قد ، ولا تحجبه لعلّ ، ولا توقّته متى ، ولا تشمله حين ، ولا تقارنه مع». الحديث (٤).

وصل

وإذ ثبت أن كمالاته سبحانه ليست بأمر زائد على ذاته ، وأنها ثابتة له في

__________________

(١) ـ نهج البلاغة : ٩٦ ، خطبة رقم «٦٥».

(٢) ـ نهج البلاغة : ٢٣٣ ، ابتداع المخلوقين.

(٣) ـ الكافي : ١ : ١٠٧ ، ح ٢.

(٤) ـ كتاب التوحيد : ٣٤ ، ح ٢ ، ضمن حديث طويل.

٣٥١

الأزل ، ظهر أن مجده وعلوه تعالى في الفاعلية والعالمية والقادرية ، ونحوها من صفات الكمال ، ليس بالمعنى الإضافي الّذي هو متأخّر عن ذاته ، وعن وجود ما أضيفت هي إليه ، على أن وجود الفعل عنه موقوف على كونه فاعلا ، فلو كانت فاعليّته موقوفة على وجود الفعل لزم الدور ، بل علوّه ومجده في هذه الصفات إنّما هو بمبادىء تلك الإضافات المتقدّمة على وجود ما تعلّقت هي به ، وهي كونه في ذاته بحيث تنشأ منه هذه الصفات ، وهو سبحانه إنّما هو كذلك بنفس ذاته ، فإذن علوّه ومجده في صفاته العليا ليس إلّا بذاته لا غير.

وهذه جملة تأتي بتفاصيلها.

أصل

وإذ هو سبحانه بسيط الحقيقة ، منزّه الذات عن الموضوع والمادّة والعوارض ، وسائر ما يجعل الذات بحال زائدة ، ويراها على غير ما هي عليه ، فلا لبس له ، فهو صراح ، وذاته غير محتجبة عن ذاته ، فهو ظاهر بذاته على ذاته ، فهو يدرك ذاته أشدّ إدراك ، ويعلمها أتمّ علم ؛ لظهورها له أشدّ ظهور ، بل لا نسبة لعلمه بذاته إلى علوم ما سواه بذواتها ، كما لا نسبة بين وجوده ووجودات الأشياء ، حيث هو وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى.

وصل

فعلمه بذاته عبارة عن كون ذاته ظاهرة لذاته ، ولا يوجب ذلك أن تكون هناك اثنينية في الذات ، ولا في الاعتبار ، فإنّه ليس إلّا اعتبار أنّ له حقيقة ظاهرة

٣٥٢

بذاتها ، هي ذاته ، وأنّه حقيقة ظاهرة ذاته له ، ففي الاعتبار تقديم وتأخير في ترتيب المعاني والغرض المحصّل شيء واحد ، ولا يجوز أن تحصل حقيقة الشيء مرتين ، فذاته سبحانه ـ مع وحدته الصرفة ـ عالم ومعلوم وعلم ، على أنك قد دريت ذلك في كلّ علم.

وصل

ولما كان ذاته تعالى فاعلا تاما لجميع ما عداه ، ومبدأ لفيضان كلّ إدراك ، حسّيا كان أو عقليا ، ومنشأ لكلّ ظهور ، عينيا كان أو ذهنيا ، إمّا بدون واسطة ، أو بواسطة هي منه ، وفاعليته عين ذاته ؛ إذ هي من الكمالات ، والعلم التام بالفاعل التام للشيء من حيث حقيقته الّتي بها فاعل يستلزم العلم بكونه فاعلا لذلك الشيء ، وهو مستلزم للعلم بذلك الشيء ، فهو سبحانه عالم بجميع الموجودات قاطبة على الترتيب الإيجادي ، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، وما تخرج من ثمرة من أكمامها ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلّا بعلمه ، وما تسقط من ورقة إلّا يعلمها ، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.

وصل

ولما كان ظهور ذاته سبحانه لذاته إنّما هو بذاته لا بغيره ، وظهور ما سواه من الفاقرات ـ أيضا ـ بذاته ؛ لاستناد الكلّ إليه ، فهو النور المطلق ، كما قال : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ؛ لما دريت أن النور هو الظاهر في نفسه ، المظهر

__________________

(١) ـ سورة النور ، الآية ٣٥.

٣٥٣

لغيره ، فله الإشراق والتسلّط المطلق ، فلا يحجبه شيء عن شيء ، فهو مستغن في علمه بالأشياء عن ارتسام صورها في ذاته تعالى ، أو في شيء آخر عنده ، ونحن إنّما احتجنا إلى الصورة في الأشياء لأنّ ذواتها كانت منفصلة عنّا ، غير مقهورة لنا ، ولو كانت مقهورة لما احتجنا إلى صورة أخرى ، كما في علمنا بأنفسنا ، وبالأشياء الّتي نتصوّرها في أذهاننا ، على ما دريت.

وأمّا الأشياء الظاهرة لأبصارنا عند عدم الحجاب فالمعلوم بالذات لنا منها ليس إلّا ما هو مقهور لنا ، حاضر عندنا من صورها الذهنية دون الصور الخارجية الغير المقهورة ، كما مرّ بيانه.

فإذن علمه تعالى وبصره واحد ، كما هما فينا.

وصل

وأيضا لما كانت فاعليّته تعالى للأشياء إنّما هي بنفس وجوده الّذي هو عين ذاته ، وهو يعلم ذاته بمجرد وجوده الّذي هو به فاعل ، فيجب أن يعلم منه كلّ ما يصدر عنه ، أي بحسب كونها موجودة ، لا بمجرّد ماهياتها من حيث هي مع قطع النظر عن خصوص وجوداتها ؛ لأنها من تلك الحيثية فقط من غير اعتبار الوجود معها ليست صادرة عنه ، كما بيّناه من قبل.

والعلم بها من حيث كونها صادرة موجودة في الخارج ليس إلّا بنفس وجوداتها الخارجية؛ لأنّ أفراد الموجودات الخارجية بما هي تلك الأفراد بعينها لا يمكن حصولها في الذهن حصولا مطابقا لها ، وإلّا يلزم أن يكون الموجود الخارجي من حيث هو موجود خارجي موجودا ذهنيا ، هذا خلف.

٣٥٤

كذا أفاد أستاذنا ، دام ظلّه (١).

ونرتقي إلى بيان أعلى :

وصل

وقد دريت أن ذاته سبحانه مع وحدته وبساطته كلّ الأشياء ، فعلمه بذاته إذن عين علمه بكل شيء ، وقد أفادوا ذلك بقولهم : تجلّي ذاته لذاته ، وذكروا أن حقيقته تعالى من حيث المبدئية عبارة عن التعيّن الكلي الجامع لجميع التعيّنات الكليّة والجزئية ، الأزلية والأبدية ، ويسمى بالتعيّن الأوّل ، فعلمه بالتعيّنات الغير المتناهية الواقعة في جميع العوالم من الأزل إلى الأبد عين علمه بذاته البسيطة ، فذاته سبحانه منطو على الموجودات كلّها انطواء أزليا في مرتبة ذاته ، محيط بها إحاطة تامة ، بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فذاته كمجلاة يرى بها ، وفيها صور الموجودات قاطبة ، من غير حلول ، ولا اتحاد؛ إذ الحلول يقتضي وجود شيئين لكلّ منهما وجود يغاير وجود صاحبه ، والاتحاد يستدعي ثبوت أمرين يشتركان في وجود واحد ، ينسب ذلك الوجود إلى كلّ منهما بالذات، وقد دريت أن هنالك ليس كذلك.

وكما أن علمه سبحانه بذاته هو عين ذاته من غير مغايرة هناك بين العلم والعالم والمعلوم بالذات ، بل ولا بالاعتبار ، فكذلك علمه سبحانه بالأشياء ـ أيضا ـ يجب أن يكون عين ذاته ، بناء على الانطواء المذكور ، من دون مغايرة بين الثلاثة بالذات ، وإنما المغايرة هنا بحسب الاعتبار من حيث إنّه سبحانه إنّما

__________________

(١) ـ أنظر : المبدأ والمعاد : ١٠٢.

٣٥٥

هو عين الأشياء في الظهور ، وليس هو عين الأشياء في ذواتها سبحانه ، بل هو هو ، والأشياء أشياء.

فإذن الأشياء غيره ، باعتبار التعيّن والتقيّد ، ومخالطة الأعدام ، والنقائص ، وإن كانت عينه من حيث الوجود والحقيقة.

ومن هنا يعلم أن الأشياء من حيث هي أشياء ، وباعتبار ذواتها ، ليست في مرتبة ذاته تعالى ، كان الله ولم يكن معه شيء ، وإن كان هو من حيث هو عين الأشياء ، والعلم بها ، والله بكل شيء محيط.

وصل

فعلمه سبحانه بالأشياء ـ من حيث إنّه عين ذاته تعالى ـ متبوع للأشياء ، ومقدّم على إيجادها ، ومن حيث إنّه عين الأشياء تابع لها ، ومقارن لإيجادها ، بل هو عين إيجادها.

ومعلومية الأشياء له تعالى بالاعتبار الأوّل عبارة عن كونها ظاهرة له في ذاته بذاته ، حيث إنها عين ذاته بحسب الحقيقة الوجودية.

وبالاعتبار الثاني عبارة عن كونها ظاهرة له في ذواتها بأنفسها ، على قدر وجودها ونوريّتها ، سواء كانت موجودات عينية قائمة بذواتها ، أو صورا إدراكية قائمة بحالها ، كلية أو جزئية ، عقلية أو حسّية ، جواهرا أو أعراضا ، وظهورها له بهذا الاعتبار هو بعينه صدورها عنه ، منكشفة عنده ، حاضرة لديه.

والأشياء بالاعتبار الأوّل علم الله ، وهي بهذا الاعتبار عند الله ، وبالاعتبار الثاني معلومات الله ، وهي بهذا الاعتبار عند أنفسها ، وما عند الله منها أحقّ ممّا

٣٥٦

عند أنفسها إذ ذاك هي الحقائق المتأصّلة الّتي نزّل الأشياء منها منزلة الصور والأشباح ، والعلم هنالك أقوى من علم الشيء بذاته وبغيره علما حضوريا ؛ لأنّه أقوى في شيئية المعلوم من المعلوم في شيئية نفسه ؛ لأنّه مذوّت الذوات ، ومحقّق الحقائق ، والشيء مع نفسه بالإمكان ، ومع مشيّئه وموجده بالوجوب والتمام ، وتمام الشيء فوق الشيء وكماله وغايته، فإذا كان ثبوت الأشياء بذواتها حضورا لله سبحانه وعلما وظهورا ، كما في العلم المقارن للإيجاد ، فثبوت ما هو أولى بها من ذواتها أولى بأن يكون حضورا وعلما وظهورا ، كما في العلم المقدّم على الإيجاد.

وصل

فالموجودات كلها ثابتة في الأزل في مرتبة الذات قبل صدور شيء عنه ، قبلية كقبلية الذات ، لكن بالعرض ، كما أنها موجودة بوجود الذات بالعرض ، ولما كان علمه سبحانه بذاته هو نفس وجوده ، وكانت تلك الأعيان موجودة بوجود ذاته ، فكانت هي أيضا معقولة بعقل واحد ، هو مثل الذات ، فهي مع كثرتها معقولة بعقل واحد ، كما أنها مع كثرتها موجودة بوجود واحد ؛ إذ العقل والوجود هناك واحد ، فإذن قد ثبت علمه سبحانه بالأشياء كلها في مرتبة ذاته قبل وجوداتها ، فعلمه تعالى بالأشياء علم فعلي سبب لوجوداتها في الخارج ؛ لأنّ علمه بذاته هو وجود ذاته ، وذلك الوجود بعينه علم بالأشياء ، وهو بعينه سبب لوجوداتها في الخارج ، الّتي هي صور عقلية تتبعها صور مثالية ، تتبعها صور طبيعية ، تتبعها المواد الخارجية ، وهي أخيرة المراتب الوجودية.

فالحق تعالى بوجود واحد تعقلها أولا قبل إيجادها ، وتعقّلها ثانيا بعد

٣٥٧

إيجادها ، فبعقل واحد كان يعقلها سابقا ولا حقا ، وبعين واحدة كان يراها في الأزل واحدة ، وبعد الأزل متكثّرة.

وصل

وكما أنّه لا يلزم من فاعليته تعالى للأشياء كون وجوداتها في ذواتها في مرتبة ذاته سبحانه ، بل كونه بحيث يتبع وجوده وإيجاده وجود الأشياء وصدورها عنه ، فكذلك لا يلزم من عالميّته بها كونها في ذواتها في مرتبة ذاته ، بل كونه بحيث يتبع انكشاف ذاته بذاته على ذاته ، انكشاف ذوات الأشياء بذواتها على ذاته ، وكما أن إيجاده للموجودات المتكثّرة لا يقدح في بساطته الحقّة ؛ لكونها صادرة عنه على الترتيب السببي والمسبّبي ، كما سيجيء بيانه ، فكذلك علمه سبحانه بالأشياء الكثيرة لا يثلم وحدته الصرفة ؛ لأنّه على ذلك الترتيب بعينه ، فتلك الكثرة ترتقي إليه وتجتمع في واحد محض ؛ إذ الترتيب يجمع الكثرة في واحد ، فله الكلّ من حيث لا كثرة فيه ، فهو من حيث هو ظاهر بذاته على ذاته ، يعلم الكلّ من ذاته ، فعلمه بالكلّ بعد ذاته ، وعلمه بذاته ، ففي علمه بالكلّ كثرة حاصلة بعد ذاته ، ومتّحد الكلّ بالنسبة إلى ذاته ، فهو الكلّ في وحدة ، وسيأتي لهذه المعاني مزيد بيان وإيضاح في مباحث الأسماء ، إن شاء الله.

٣٥٨

وصل

روى في كتاب التوحيد ، بإسناده عن مولانا الكاظم عليه‌السلام ، قال : «علم الله لا يوصف الله منه بأين ، ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حدّ» (١).

وبإسناده عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال : «لم يزل الله جل وعز ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم ، والسمع ذاته ولا مسموع ، والبصر ذاته ولا مبصر ، والقدرة ذاته ولا مقدور ، فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم ، والسمع على المسموع ، والبصر على المبصر ، والقدرة على المقدور» (٢).

أصل

وهو سبحانه أجلّ مبتهج بذاته ابتهاجا ، منزّها عن الانفعال ، متعاليا عن الحدوث ، والحدّ والمثال ؛ لأنه مدرك لذاته على ما هو عليه من البهاء والجمال ، وهو مبدأ كلّ جمال وزينة وبهاء ، ومنشأ كلّ حسن ونظام ورواء ، فهو من حيث كونه مدركا أجلّ الأشياء وأعلاها ، وأشدّها قوّة ، ومن حيث كونه إدراكا أشرفها وأكملها وأقواها ، ومن حيث كونه مدركا أحسنها وأرفعها وأبهاها ، فهو إذن أقوى مدرك لأجلّ مدرك ، بأتمّ إدراك ، بما عليه هو من الخير والكمال ، وقد دريت أن الابتهاج إنّما يكون على قدر قوّة المدرك وشرفه ، وتمامية الإدراك

__________________

(١) ـ كتاب التوحيد : ١٣٨ ، ح ١٦.

(٢) ـ كتاب التوحيد : ١٣٩ ، ح ١.

٣٥٩

وشدّته ، وخيريّة المدرك وملائمته.

ويظهر ذلك أيضا من المراجعة إلى الوجدان في اللذّات الحسّية والعقلية على اختلاف مراتبها.

وصل

وإذ ثبت ابتهاجه سبحانه بذاته ثبت ابتهاجه بلوازمه وآثاره الّتي هي موجودات العالم بأسرها ؛ إذ كلّ من أحبّ ذاتا متّصفة بالبهاء والكمال فلا محالة يحبّ ما يصدر عنه وينشأ منه بذاته من الآثار واللوازم من حيث إنها تصدر عنه وتنبع عنه ، ولما لم يكن للفاقرات حيثية أخرى سوى كونها أثرا من آثار ذاته ، ورشحا من مرشّحات فيضه وجوده فلا يمكن أن يتعلّق بها ابتهاج ومحبّة منه سبحانه ، إلّا من جهة ابتهاجه بذاته ومحبّته لها ، فابتهاجه بها منطو في ابتهاجه بذاته ، بل هو هو بعينه.

ومن هنا قال بعض أهل المعرفة عند سماع قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) : بحق يحبّهم ، فإنّه ليس يحبّ إلّا نفسه ، على معنى أنّه كلّ الوجود ، وليس في الوجود غيره ، فهو كمن لا يحب إلّا نفسه ، وأفعال نفسه ، وتصانيف نفسه ، فلا يتجاوز حبّه ذاته ، وتوابع ذاته من حيث هو متعلّق بذاته ، فهو إذن لا يحبّ إلّا نفسه. انتهى كلامه (٢).

__________________

(١) ـ سورة المائدة ، الآية ٥٤.

(٢) ـ المبدأ والمعاد : ١٥٧ ، وقد نقله عن الشيخ أبي سعيد المهنى.

٣٦٠